المدرسة الذَّرِّية

ديموقريطس

مما يثير الدهشة دائمًا درجة التشابه بين نظرية ديموقريطس الذَّرِّية وبين نظرية دالتون في القرن التاسع عشر الميلادي. وليس معنى هذا أن دالتون كان على علم بهذه النظرية القديمة؛ فالأرجح أنه لم يكن يعلم بها. ولقد كان من الممكن أن تظل هذه النظرية في طي النسيان، لولا أن اكتشافات عديدة في الكيمياء والفيزياء في القرن التاسع عشر الميلادي قد أدَّت إلى إحياء هذه النظرية العلمية.

كان ديموقريطس عالمًا رياضيًّا ومنظِّرًا طبيعيًّا بكل معنى الكلمة. ويشير برتراند رسِل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» إلى أن ديموقريطس كتب بحثًا هامًّا عن الأعداد اللاعقلية، وإن كان هذا البحث قد ضاع مع الأسف ولم يصل إلى أيدينا. وثمة أدلة أخرى تشير إلى أن ديموقريطس كان على اطلاع واسع بهندسة عصره. ومن ناحية أخرى كان ديموقريطس على معرفة واسعة بالأعمال الطبيعية التجريبية التي جرت في عصره، ومنجزات التكنيك والحرف. ولذا ففي هذا الرجل العظيم تجمَّعت صفتان لا غنى عنهما للعالم الذي يضع النظريات: المعرفة الوثيقة بالكم، والمعرفة الوثيقة بالتجربة والحرف والفنون وظواهر الطبيعة وعملياتها.

إن عظمة ذَرِّية ديموقريطس تكمن في أنها كانت أفضل من أي نظرية أخرى في الإجابة على مشاكل عصره العلمية. إنها قمة حركة الافتراضات العقلية عن طبيعة الكون، التي بدأت على يد طاليس. ويمكن البحث عن أساس هذه النظرية الواقعي في أعمال من سبقوا ديموقريطس؛ أمثال إيمبدوقليس وأنكساجورس، الذين أثبتوا أن ثمة عمليات طبيعية عديدة غير منظورة، وفي المشاهدات الحسية المباشرة للكثير من العمليات الطبيعية والتكنيكية. وفضلًا عن ذلك فلا يمكن إنكار تأثر النظرية الذَّرِّية بالعلم الرياضي للفيثاغوريين (ولاسيما في الإصرار على أهمية الشكل الهندسي للذرة)، كما لا يمكن إنكار تأثر ذَرِّية ديموقريطس ببارمنيدس عندما تؤكد عدم قابلية الذرة الواحدة للانقسام؛ أي عدم قابليتها للتغير.

وتقوم نظرية ديموقريطس على أساس أن الكون مصنوع من شيئين: الذرات، والفراغ Void. والفراغ لانهائي في حدوده، والذرات لانهائية في عددها. وعلى الرغم من أن الذرات كلها متماثلة في المادة، فإنها تختلف في الحجم والشكل الهندسي. وذرة ديموقريطس — ككرة بارمنيدس الأحادية — خالدة، غير مخلوقة، صلبة، منتظمة في المادة. وهي في ذاتها غير قابلة للتغير، فإنها بحركتها الدائمة في الفراغ تنسج عن طريق ترابطاتها وانفصالاتها المختلفة كل ما يحدث في عالمنا المتغير.

وبهذا أرضت نظرية ديموقريطس باتجاهها التوفيقي نزعتين: نزعة بارمنيدس في السكون الدائم، ويتمثل في عدم قابلية الذرة الواحدة للتغير أو الانقسام؛ ونزعة هيرقليطس القائمة على التغير الدائم، وهي تتمثل في التداخلات والانفصالات بين الذرات؛ تلك العمليات التي تفسر كل ما يجري في الكون؛ غير أنه لا ينبغي أن يُظن أن جوهر النظرية الذَّرِّية يرضي بارمنيدس أو يقترب من منطقه وحججه. وعلى العكس من ذلك فإن قبول النظرية الذَّرِّية كان يعني في حقيقة الأمر قبول الفراغ على قدم المساواة مع قبول المادة، وهذا ما رفضه بارمنيدس تمامًا. ولقد أدرك ديموقريطس أن الخبرة تُلزمنا بقبول فكرة أن «اللاموجود» موجود تمامًا كالموجود! ولقد كان هذا أمرًا غريبًا على الفلسفة القديمة. فكون الفلاسفة القدماء هو كون الحواس المادية، كون مليء، هو الملاء. أما فكرة الفراغ فقد كانت مرفوضة عندهم، وامتد هذا الرفض إلى الفيزياء ذاتها. فكثير من الإنجازات العلمية الكبيرة لفيزياء عصر النهضة، مثل ديناميكا جاليليو، والتطورات العلمية والتكنيكية التالية — كالآلة البخارية وقوانين الغازات — قد نشأت في حقيقة الأمر خلال المحاولات المتعددة لرفض هذه الفكرة.

إن أصالة النظرية الذَّرِّية لا تكمن في تأكيد وجود الفراغ فحسب، وإنما في مفهوم الذرة ذاتها. فالفيثاغوريون حاولوا بناء الكون من نقط ذات حيز، وعندما اكتشفوا أن المكان قابل للتقسيم اللانهائي، عجزوا عن تقديم تعريف واضح للنقطة ذات الحيز. ولقد أراد الرياضيون بعد ذلك تجنُّب مأزق الفيثاغوريين فقالوا بأن النقطة تحدد موقعًا ولا تشغل مكانًا، وبمثل هذه النقطة الرياضية لا يمكن بناء شي.

أما ذرة ديموقريطس فهي فريدة في وضعها، إنها قابلة للتقسيم مكانيًّا، وغير قابلة للتقسيم طبيعيًّا. وبهذا المفهوم قدم ديموقريطس للفيثاغوريين «طوبة» صغيرة جامدة منتظمة لبناء عالمهم الرياضي.

وبهذا المفهوم أجاب ديموقريطس على عديد من المشاكل التي لم تكن قابلة للتفسير. ومن بينها المسألة التي حيَّرت أنكساجورس حول تفسير مشكلة هضم وامتصاص الغذاء في الجسم. وبعد النظرية الذَّرِّية لم تكن ثمة صعوبة في افتراض أن أي ترتيب جديد للذرات يحول المادة إلى مادة أخرى؛ أي يحول الخبز إلى لحم وعظم مثلًا؛ بالضبط كما لو أن ترتيبًا جديدًا للحروف الأبجدية يمكن أن يحول المأساة إلى ملهاة.

وبهذا ساهم ديموقريطس مساهمة هامة في حل مشكلة الإدراك الحسي. فعنده أن كل شي مدرك ليس سوى ترتيب للذرات، التي تختلف فقط في أشكالها الهندسية. والصفات التي ننسبها إلى هذا الترتيب للذرات — مثل اللون والرائحة والتذوق — ليست صفات للأجسام ذاتها، وإنما هي تأثيرات لهذه الأجسام على أجهزة حواسنا.

أما كوزمولوجيا ديموقريطس فهي نفسها التي نادت بها المدرسة الأيونية، وإن كانت المبادئ التي قام عليها هذا الرأي، ذات وضوح خاص، فقد أكد ديموقريطس أن «لا شيء يخلق من اللاشيء» معلنًا بذلك لأول مرة قانون ثبوت المادة.

ومن الخطأ الخلط بين ذَرِّية ديموقريطس وبين النظرية الذَّرِّية العلمية الحديثة في الفيزياء. فبالنظر إلى تخلُّف الرياضيات آنذاك لم يكن من الممكن استخلاص نتائج عملية محددة من النظرية الذَّرِّية اليونانية. والفيزياء الحديثة، بينما تعتبر المادة بشكل ما ذَرِّية، إلا أنها لا تؤمن بالمكان الفارغ. فحيثما لا توجد مادة، يوجد أي شيء آخر مثل الموجات الكهربائية المغناطيسية. ومع ذلك فذَرِّية ديموقريطس هي السلف الشرعي لكل النظريات الذَّرِّية الحديثة؛ فجاسندي، وهو أول الذريين المحدثين، أخذ أفكاره مباشرة من ديموقريطس وإبيقور. ونيوتن كان بدوره ذريًّا متحمسًا، وقد كانت أعماله هي التي ألهمت دالتون تفكيره في النظرية الذَّرِّية في الكيمياء. وما زالت التفسيرات العميقة للفيزياء الذَّرِّية تتضمَّن نفس التقاليد الذَّرِّية القديمة.

بقيت نقطتان أخيرتان: إحداهما خاصة بقضية العلة الغائية Final Cause وصلتها بذَرِّية ديموقريطس؛ والأخرى خاصة بتطور مفهوم الفراغ الذي قدمته نظرية ديموقريطس.

لقد كان الذريون يؤمنون بأن كل شيء يحدث وفق قانون طبيعي، ولهذا قيل عنهم إنهم أول من أعلن عصر القانون العام في الفيزياء. ولقد تقدَّم الذريون في تفسيرهم للعالم خطوة على المدرسة الأيونية. فلم يكتفوا باستثناء الآلهة اليونانيين من الكون فحسب، بل تجنبوا فكرة الغرض أو العلة الغائية. والحقيقة أن تاريخ الفلسفة قد أثبت — كما أوضح رسِل في كتابه السالف الذكر — أننا عندما نضع السؤال «لماذا» فيما يتعلق بأي حدث فقد نعني: ما هو الغرض الذي يخدمه هذا الحدث؟ أو قد نعني: ما هي الظروف السالفة التي سبَّبت هذا الحدث. والإجابة عن السؤال الأول لها طابع التفسير الغائي، والإجابة عن السؤال الثاني لها طابع التفسير الميكانيكي. ولقد أجاب الذريون عن السؤال الثاني، وأجاب أرسطو عن السؤال الأول.

ولقد دلت خبرة العالم إلى اليوم أن الإجابة عن السؤال الثاني تؤدِّي إلى المعرفة العلمية، بينما لا يؤدِّي السؤال الغائي إلى ذلك. والذريون سألوا السؤال الميكانيكي، وأعطوا إجابة ميكانيكية. أما خلفاؤهم فقد تورطوا في المضيِّ خلف أرسطو؛ إذ ظلوا مهتمين بالسؤال الغائي. وبذا أدوا بالعلم إلى متاهة عمياء. وهذا بالدقة هو الدور الذي لعبه فكر أرسطو في الفيزياء، والذي أثر في العلم وعاق تطوره طيلة ألفَي عام تقريبًا.

والنقطة الثانية التي نريد الإشارة إليها هنا هي تطوُّر مفهوم الفراغ بعد الذريين. ولقد ألجأ الذريين إلى فكرة الفراغ الاعتقاد السائد آنذاك أنه لا توجد حركة إلا في الفراغ. ولقد أثبت العلم الحديث خطأ هذه الفكرة؛ فمن الممكن وجود حركة دورية في الملاء بشرط أنها كانت موجودة دائمًا. ولقد فجرت قضية الفراغ — التي أثارتها مدرسة بارمنيدس الإيطالية لأول مرة — قضايا هامة في تاريخ علم الفيزياء. والذريون قدموا حلًّا وإن لم يردُّوا على منطق المدرسة الإيطالية. ولقد جاءت أول محاولة في الرد على يد أرسطو عندما حاول أن يميز بين المادة والمكان. أما ديكارت فقد قال بأن الامتداد Extension هو جوهر المادة، وأما ليبنتز فقد اعتقد أيضًا في الملاء وإن قال بأن المكان هو مجرد نظام من العلاقات. والتاريخ يذكر لنا أنه قد جرت بينه وبين نيوتن مجادلات هامة في هذا المجال، لم يحسمها إلا وقوف النظرية النسبية الحديثة في صف ليبنتز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥