منجزات عصر بريكليس
ونحن نستطيع أن ندرك أهمية هذه الفترة في تاريخ العلم اليوناني متى لاحظنا أنها همزة الوصل بين التأملات الشاعرية للأيونيين وبين الحسابات المحددة لمتحف الإسكندرية. في هذه الفترة بالذات لا نستطيع الادعاء أن الحلول المختلفة للمشاكل الأساسية في العلوم الطبيعية قد حُلَّت أو حتى اقتُرح حلها. وإنما يكفي هذه المرحلة فخرًا أن هذه المشاكل الأساسية قد طُرحت خلالها وإن اقتُرحت الحلول المختلفة في قرون تالية. وحسبنا أن أصبح للعلم اليوناني في هذا العصر استقلاله الخاص، وأنه استطاع أن يطور سماته الخاصة بكل ما في هذه السمات من قصور. وقد كان من الطبيعي أن يتم التركيز على الرياضة والفلك؛ فهذا ليس إلا استمرارًا لتقليد الفيثاغوريين، فضلًا عن أن الفلك بالذات يقدم اختبارًا سهلًا نسبيًّا لصحة الأبحاث العلمية. ولما كانت الطبقة الحاكمة مهتمة بالمحافظة على صحتها وجمال أجسام أبنائها كان من الطبيعي أن يكون هنالك اهتمام بالطب الذي انعكس في ارتياد الأغنياء للجمنيزيا. ومع ذلك فلا ينبغي أبدًا المبالغة في قيمة هذا المصدر وتأثيره على الطب.
ومن هنا كان لا بد من عرض موجز لتطور هذه العلوم الثلاثة خلال هذه الفترة.
الرياضة
أما مشكلة مضاعفة المكعب فيقال: إنها نشأت تاريخيًّا من كهان أحد المعابد الذين قيل لأحدهم في المنام إن الله يريد تمثالًا ضعف التمثال القائم بمعبدهم. وفي مبدأ الأمر اتجهوا ببساطة إلى مضاعفة كل أبعاد التمثال، ثم تبيَّنوا بعد ذلك أن النتيجة ستكون ثمانية أمثال الحجم الأصلي، وهذا يعني تكاليف مالية باهظة؛ ولذا أوفدوا رسولًا إلى أكاديمية أفلاطون يسألونه إن كان هناك رجل في هذه الأكاديمية يستطيع حل مشكلتهم. وبدأ رجال الهندسة يشتغلون في حل هذه المشكلة، لا من الزاوية الجبرية بل من الناحية الهندسية، واستمروا في ذلك عدة قرون منتجين بالصدفة أعمالًا رياضية أشد روعة. ولقد كان أبقراط على رأس من درسوا هذه المشكلة هندسيًّا وإن فشلوا في حلها.
وبأخذ الحزر التكعيبي للطرفين نجد أن:
أما المشكلة الثالثة؛ ونعني بها مشكلة تثليث الزاوية، فمن المهم أن نوضح أن المقصود بهذا هو تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية باستخدام الفرجار والمسطرة. ولقد أغرى اليونانيين ببحث هذه المشكلة أنهم استطاعوا تنصيف الزاوية بهذا الطريق. ولكن ثبت تاريخيًّا أن تثليث الزاوية بالمسطرة والفرجار أمر مستحيل.
أما إيدوكسس فيعتبره بعض مؤرخي العلم أنه أعظم الرياضيين اليونانيين قاطبة؛ فهو الذي أسس نظرية التناسب المطبَّقة على كل المقادير العقلية واللاعقلية، وقبل إيدوكسس لم يكن هنالك غير النظرية الحسابية عن النسب والتناسب. ووفق هذه النظرية تكون النسبة ا / ب تساوي النسبة ﺟ / د إذا كان:
ا د = ب ﺟ
غير أن هذا التعريف لا ينطبق إلا على الأعداد النسبية، ثم جاء إيدوكسس فأعطى تعريفًا جديدًا غير خاضع لهذا القيد، وهو مصوغ بشكل يوحي بطرق التحليل الرياضي الحديث. ولقد طور إقليدس في مدرسة الإسكندرية هذه النظرية، وأصبح لها جمال منطقي عظيم.

تستطيع أن أن ترسم مضلعًا سداسيًّا منتظمًا داخل الدائرة بحيث تقع رءوس المسدس على الدائرة، وأن ترسم مضلعًا سداسيًّا منتظمًا خارج الدائرة بحيث تمس أضلاعه الدائرة.
من الواضح أن مساحة الدائرة تقع بين مساحة المضلع الأول ومساحة المضلع الثاني، فهي أكبر من الأولى وأصغر من الثانية. ومساحة المضلعات بالطبع معروفة.
ولو زدنا عدد أضلاع المضلع المنتظم الداخلي مثلًا إلى ٨ أو ١٢ أو ١٦ أو ۱۰۰۰ أو مليون ضلع، فيمكن إثبات أنه مهما كان عدد أضلاعه فإن مساحته سوف تتناسب مع مربع قطر الدائرة، وكلما زاد عدد الأضلاع كانت مساحة المضلع أقرب إلى مساحة الدائرة، فهي دائمًا أصغر منها وإن كانت تقترب منها. ونفس الشيء ينطبق على المضلعات الخارجية، فكلما زاد عدد الأضلاع، تكون مساحة المضلع الخارجي أقرب إلى مساحة الدائرة. إنها دائمًا أكبر منها وإن كانت تقترب منها.
وهكذا بزيادة عدد أضلاع المضلعين الداخلي والخارجي فإننا في الحقيقة نقترب من مساحة الدائرة من الجانبين: من أعلى ومن أسفل. وهذا هو معنى الاستغراق هنا.
ولقد تمكَّن أرشميدس بعد ذلك من إثبات أن مساحة أيٍّ من المضلعين تختلف عن مساحة الدائرة بأقل من كمية محددة سلفًا، مهما كانت هذه الكمية صغيرة. ولبرهان ذلك استخدم أرشميدس بديهيته الشهيرة والتي تنص — عندما تبسَّط — على أنه إذا كان أي مقدار ا أكبر من مقدار آخر مقدار آخر ب فإن هناك دائمًا رقمًا صحيحًا موجبًا ن يحقق اللامتساوية التالية:
ويشير رسِل في كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» إلى أن إيدوكسس استخدم طريقة المضلعات الداخلية والخارجية فحسب لبحث مساحة الدائرة. أما استخدام طريقة المضلعات الداخلية والخارجية فتعود أولًا — على ما يقال — إلى أنتيفون الذي كان معاصرًا لسقراط.
وأخيرًا ينبغي أن نشير إلى أبحاث فيلالاوس وأبحاث ثيتيس في المجسمات المستوية السطوح؛ فقد عرف فيلالاوس أنه لا يوجد غير خمسة مجسمات من هذا النوع؛ ولذا ظن أنه لا بد من وجود خمسة عناصر أساسية لا أربعة. أما ثيتيس فقد أثبت أنه لا يوجد أكثر من خمسة مجسمات، وقدم برهانًا محكمًا لمشكلة وضع هذه المجسمات داخل الكرة.
الطب اليوناني
لقد كان الطب اليوناني مساهمة أخرى في تشكيل صورة علمية متسقة هذا عن العالم. ولقد جمعت في داخلها بين اتجاهين: الاتجاه التجريبي والاتجاه الفلسفي. ومنذ ذلك الحين ظل هذان الاتجاهان في تأرجحهما يحددان مجرى الطب. فالطب اليوناني، كالرياضيات اليونانية، هو امتداد لطب الحضارات القديمة. ويبدو أن الأطباء اليونانيين كانوا في الأصل ينتمون إلى عشيرة واحدة. والحقيقة أنه ما زال لدينا في قسَم أبقراط آثار باقية لاحتفالات التبني في العشيرة، وهذا القسم يتضمَّن التزامات معينة قبل أبناء العشيرة وعائلاتهم. فمثلًا نجد في هذا القسَم العبارة التالية:
أتعهد بنشر علمي عن طريق التكليف أو الانتداب أو المحاضرة وبكل طرق التدريس، لا إلى أبنائي فحسب، ولكن إلى أبناء هذا الذي علمني أيضًا، وإلى التلاميذ الملتزمين بالقسم وفقًا لقانون الأطباء، على ألا أنشر علمي على الآخرين.
وفي اليونان كما في الحضارات القديمة، كان الطبيب إلى درجة كبيرة أرستقراطيًّا يعالج أساسًا السادة الأغنياء، وظل علاج عامة الشعب في يد السيدات المسنات والأدعياء الذين كانوا يستخدمون السحر وطرق العلاج التقليدية.
ولقد نشأ أول اتجاه علمي في الطب من خلال الصراع بين مدرسة أبقراط (من جزيرة كوس القرن الخامس ق.م.) التي كانت تدرك أن الطب نبع من التكنيك وكانت روحها الأساسية إكلينيكية تمامًا، وبين المدارس الطبية التي نشأت في الغرب والتي حاولت أن تستخلص سلفًا قواعد للممارسة الطبية من آراء مسبقة لها في علم الكون، وهذا ما عُرف باسم الطب الفلسفي؛ فقد ورد في كتابات مدرسة أبقراط هجوم عنيف على كل الذين يحاولون مناقشة فن الشفاء على أساس إحدى المصادرات كالحرارة أو الرطوبة أو الجفاف أو أي شيء آخر. إن هؤلاء — عند مدرسة أبقراط — ليسوا مخطئين فحسب، بل هم لا يفهمون أبدًا ماذا يعني الفن أو التكنيك، وخصوصًا إذا كان تكنيكًا يستخدمه الناس في أزمات حياتهم كالطب. وعلى الرغم من أن كل الكتب اليونانية قبل سقراط، قد دُمِّرت جميعها ولم تصل إلى أيدينا؛ فإن الموسوعة الطبية الأبقراطية هي الاستثناء الوحيد، ويعود إلى مكتبة الإسكندرية الفضل في حفظها. ويُعتبر كتاب «حول الطب القديم» أهم جزء في هذه الموسوعة وإن لم يُعرف مؤلفه بالضبط. وهذا الكتاب يقدم الاعتراضات الأساسية على منهج مدرسة الغرب، وهي المدرسة الفلسفية في الطب. ويمكن للقارئ أن يراجع هذه الاعتراضات بالتفصيل في كتاب فاونجتون «العلم عند اليونان». ويمكننا أن نلخص بعض هذه الاعتراضات على الوجه التالي:
- أولًا: ليس من حق أحدٍ أن يقيم الطب على أساس مصادرات. ومؤلف الكتاب يطالب بفصل الطب المؤسس على المشاهدة والتجريب عن العلوم الكونية التي لم يكن من الممكن إجراء أي تجريب فيها قديمًا.
- ثانيًا: يحتج مؤلف الكتاب بأن الأطباء الفلاسفة، بإقحامهم الكونيات في الطب، إنما يضيقون من أسباب المرض والموت.
- ثالثًا: لا يغفر مؤلف الكتاب لهؤلاء الفلاسفة الأطباء أنهم معزولون عن العمل اليدوي، عن الفنون والتكنيك. فالجهل هذا لا يُغتفر أبدًا؛ إذ لا توجد معرفة تستحق هذا الاسم ما لم تكن نابعة من التكنيك.
- رابعًا: إن الطبيب الفيلسوف ليس شاغله الأساسي المريض نفسه، وإنما هو المعرفة ذاتها، مع أن المريض هو الذي يعاني. وهذا الاهتمام البالغ بالمريض سمة أساسية من سمات مدرسة أبقراط.
ويمكننا أن نكوِّن فكرةً عن مدارس الغرب الفلسفية في الطب من المدرسة التي نشأت في كروتون، والتي يرجَّح أن مؤسسها هو ألكامون الفيثاغوري الذي تعرَّضنا لأبحاثه في علم وظائف الأعضاء من قبل؛ غير أن مستوى البحث العلمي في هذه المدرسة الفيثاغورية هبط بعد موت ألكامون، واختفى عنصر المشاهدة من عملها وازداد التخمين الغيبي. وكان فيلالاوس، الرياضي والفلكي الشهير، هو المعبِّر عن هذا الاتجاه الجديد.
ولما كان الفيثاغوريون يعلقون أهمية خاصة على العدد أربعة، قرر فيلالاوس أن هناك أربعة أجهزة أساسية في الجسم: الأجهزة التناسلية وهي أجهزة التوالد، والصرة مركز الحياة الحضرية؛ وبذا يرتبط الإنسان بالنبات، والقلب، وهو عندهم مركز الإحساس؛ وبذا يرتبط الإنسان بالحيوان، والمخ مركز العقل؛ وبذا يصبح الإنسان فوق الجميع.
ومن مدارس الغرب أيضًا مدرسة إيمبدوقليس التي أدَّى استخدامها للكونيات إلى أسوأ النتائج في الطب. فالحمى تفسَّر عند هذه المدرسة على أنها زيادة في العنصر الساخن؛ ولذا فالإنسان في حاجة إلى البرودة، والإنفلونزا زيادة في العنصر البارد، وما يحتاجه المريض هو المزيد من الحرارة، وهكذا … إلخ. ولقد كان إيمبدوقليس يعتقد أن الإنسان بمثابة كونٍ صغير على طراز الكون الكبير؛ ولذا يقدِّم نظرية السوائل الأربعة في الجسم (الدم، المادة الصفراء، المخاط، المادة السوداء) على غرار العناصر الأربعة الأساسية في الكون. وعند إيمبدوقليس أن الإنسان إما أن يكون دمويًّا أو صفراويًّا أو مخاطيًّا أو سوداويًّا. ولقد ظلَّت هذه النظرية تطارد الطب لعدة قرون، وتحرم الناس من استخدام أدلة حواسهم حتى جاء هارفي فواراها التراب.
في جو هذا الصراع بين المدرستين نشأت وتبلورت مدرسة أبقراط؛ ذلك الطبيب شبه الأسطوري. ولقد كان من رأيها بحث كل حالة طبية على حدة بظروفها الخاصة على أن تتدعم الفكرة عن هذه الحالة مشاهدة حالات مماثلة. ثم تمضي المدرسة إلى أبعد من ذلك حين ترفض أي أسباب سحرية للمرض؛ ففي الفقرة الخاصة بالمرض «المقدس»، وهو المعروف اليوم بالصرع، تقول الموسوعة.
يبدو أن المرض الذي يدعى مقدَّسًا ليس أكثر قدسية من أي مرض آخر. فله أسبابه الطبيعية ككل الأمراض الأخرى. والناس يظنونه مقدسًا لأنهم لا يفهمونه؛ ففي الطبيعة تتشابه كل الأشياء من حيث إنه يمكن تتبُّع آثارها إلى الأسباب السابقة.
ولقد كانت مدرسة أبقراط تؤمن بأن على الطبيب أن يختبر نظرياته دائمًا في الواقع؛ أي بتأثيرها على المريض. ولهذا فقد كانت المدرسة العلمية دون نزاع. ولا يمكن أن نجد الفوارق بين هذه المدرسة وبين مدارس الطب الحديث في الوعي بأهمية التجربة، وإنما الفارق الجوهري يكمن في غياب أدوات القياس الدقيق آنذاك وفي توفرها اليوم، كما يكمن في عدم وجود أي تكنيك للتحليل الكيميائي وهو الأمر الذي لا غنى عنه في أي تقدُّم طبي. لقد كانت مدرسة أبقراط علمية بقدر ما سمحت ظروف المجتمع اليوناني المادية؛ فهي تضع في اعتبارها تأثير الطعام الذي يأكله الإنسان ونوع الماء الذي يشربه، والمناخ الذي يعيش فيه، بل حتى تأثير الحرية أو الطغيان عليه. أما تأثير المهنة على صحة الإنسان فهو أمر لم يتعرض الطبيب الأبقراطي له. والحقيقة أنه لم تبدأ دراسة أمراض المهنة إلا حديثًا على يد رامازيني في القرن السابع عشر بعد الميلاد.
وأخيرًا ينبغي أن نشير إلى مصدر أخير للطب اليوناني ونعني به الجمينيزيا. لقد كانت لدى مديري هذه المؤسسات معلومات صحيحة عن علم التشريح، وكان من الطبيعي أن يطوروا فنونًا عديدة صحيحة لمعالجة انتقال العظام من مكانها، وأن يهتموا بفن التدليك والتغذية ونظام التمرينات الرياضية.
ومع ذلك فلا ينبغي أبدًا المبالغة في قيمة هذا المصدر على صحة الناس؛ إذ إن الأغنياء وحدهم كانوا قادرين على ارتياد الجمينيزيا. ويمكننا الحكم على صحة العمال مما قاله إكسنافون: «إن ما يسمى بالفنون الميكانيكية لا يحمل معه إلا الخزي، وهي تستهجن بحق في مدننا. فهذه الفنون تدمر أجسام هؤلاء الذين يعملون بها أو يشرفون عليها؛ وهي تضطر هؤلاء أحيانًا إلى قضاء اليوم كله بجانب النار.»