المثلث الرجعي العظيم

سقراط، أفلاطون، أرسطو

نستطيع الآن أن نطوي الصفحة الأخيرة من كتاب الفترة الأولى للعلم اليوناني — الفترة البطولية كما يسمونها — والتي بدأت بطاليس وانتهت بديموقريطس. وتسمى هذه الفترة التاريخية الهامة أحيانًا بفترة ما قبل سقراط.

يقول بعض المؤرخين في معرض الهجوم على هذه الفترة والإشادة بسقراط؛ لقد هبط سقراط بالفلسفة من السماء إلى الأرض! بسقراط تخلَّت الفلسفة عن محاولاتها المغرورة لفهم الكون وتحولت إلى المهمة الأكثر تواضعًا، وهي فهم الأرض. لقد حوَّل سقراط الاهتمام من الفيزياء إلى الأخلاق.

وبمثل هذا الكلام بذل بعض المؤرخين جهودهم لتحقير الأيونيين وتمجيد سقراط ومن جاء بعده.

فهل هناك حقيقةً ما يبرِّر هذا الهجوم؟ وإن لم يكن هذا الهجوم صحيحًا فماذا يخفي وراءه؟

أسئلة هامة، وخصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار أن ظروف موت سقراط والهالة الأسطورية التي أحيط بها، قد أفلحت في خلق جو من العطف العام في أوساط المثقفين عليه.

أما أن سقراط كان رجلًا شجاعًا، فأمرٌ ليس محل شك؛ غير أننا لا نناقش صفاته الخلقية، إنما نناقش حقيقة آرائه الفلسفية ودلالتها الاجتماعية. تلك هي القضية على وجهها الصحيح.

ونحن يكفينا ما سقناه من قبل عن الظروف الاجتماعية، والاقتصادية المزدهرة لتوضيح الظروف التي نشأت فيها المدرسة الأيونية، وما أوضحناه من اتصال رجل الفلسفة آنذاك برجل التكنيك الذي كان عضوًا محترمًا في المجتمع اليوناني في ذلك الزمان. ويكفينا أيضًا ما أوضحناه عن الابتكارات التكنيكية في المجالات المختلفة في عهد المدرسة الأيونية. وكل هذا يوضح أن الفلاسفة الأيونيين لم يكونوا أهل تأمل سلبي بل كانوا وثيقي الصلة بالأرض.

أما التحول من الفيزياء إلى الأخلاق فشيء يُحسب ضد سقراط، وهو دليل يأس الإنسان وعجز طموحه عن أن يغزو بالمعرفة الكون الذي حوله. إن تاريخ العالم يثبت بشكل حاسم أنه ما من فترة تاريخية تركَّز فيها اهتمام الفلسفة على الأخلاق إلا وكانت فترة تدهور اجتماعي واضح.

أما من ناحية الوقائع الخاصة بسقراط، فنحن نعرف أنه كان شديد الاحتقار للديمقراطية، لم يخفِ أبدًا خوفه العميق منها. وفي سنينه الأخيرة كان شديد الاختلاط بالشبان الأغنياء الأرستقراطيين، ومعظمهم ممن انقلب على أثينا في حربها ضد إسبرطة، بينما اشترك آخرون في الحكومة الرجعية التي تكونت بعد الهزيمة. ولقد أزيحت هذه الحكومة عن السلطة عن طريق تمرد شعبي تم في ٤٠٣ق.م. وحلَّت الديمقراطية مؤقتًا محل النظام القديم، وإن كانت قد عاهدت الإسبرطيين على ألا تتخذ سياسية انتقامية. وفي ظل هذه الحكومة اتُّهم سقراط بعدم الإخلاص وإفساد الشباب، وإن كانت الأسباب الحقيقية لمحاكمته سياسية. والمعروف تاريخيًّا أن خصومه السياسيين أرادوا نفيه فقط؛ غير أن طابع التحدي في دفاعه قد دفعهم إلى الحكم عليه بالإعدام؛ وبذلك جعلوا منه أول شهداء الفلسفة وأوسعهم شهرة.

والآن ماذا عن سقراط من الناحية الفكرية والفلسفية؟

لقد أعطت السياسة الأثينية، في مرحلتها الديمقراطية، للمناقشة والخطابة دورًا أشد أهمية من دورها في معظم المدن اليونانية الأخرى؛ إذ كانت وسائل مقبولة للشهرة والثروة في أثينا. ولقد أدَّى هذا إلى اهتمام جديد بالكلمات ومعانيها. فالسيطرة على الناس، عن طريق الكلمة، أصبحت مجزية أكثر من السيطرة على الأشياء عن طريق العمل.

في هذه الظروف برز السوفسطائيون الذين كانوا يرحلون من مدينة إلى أخرى يحاضرون وينشرون أفكارهم الجديدة. ولقد تخصصوا في التاريخ والسياسة، وكانوا يبشرون الناس بقدرتهم على تعليمهم فن الحكم والإدارة. وفي هذا المجال كان للسوفسطائيين. موقف يقوم على الإيمان بالتطور، والاعتقاد بأن الإنسان ليس حيوانًا سياسيًّا بالغريزة، بل هو يصبح كذلك بالتطور التدريجي للخبرة. والقدرة على الحديث ليست هبةً إلهية للإنسان، وإنما يصبح متكلمًا عن طريق عملية تطوُّر التاريخ. ولهذا دعا السوفسطائيون إلى محاولة فهم معاني الكلمات بدراسة التاريخ الاجتماعي والاعتراف بأهمية التكنيك في تاريخ الحضارة البشرية.

ويُنسب إلى زعيم السوفسطائيين، بروتاجورس، أنه قال: «الإنسان مقياس كل شيء.» وبسبب هذه الكلمة بالذات يصوَّر بروتاجورس في تاريخ الفلسفة كممثل لمبدأ الذاتية في أعنف صورها. ومن المشكوك فيه تمامًا أن يكون ما عناه بروتاجورس بهذه الكلمة هو المعنى السوقي المنسوب إليه؛ فقد كان بروتاجورس مشرعًا، وضع دستور مدينة ثوري في جنوب إيطاليا بناء على طلب بركليس؛ ولذا كان من الطبيعي ألا ينظر بروتاجورس إلى القانون بأي نظرة قدسية، بل باعتباره شيئًا يخلقه البشر. ومن هنا يمكن أن نفهم المعنى الحقيقي لكلمته باعتبارها دعوةً لتكييف المؤسسات البشرية (كالقوانين والدساتير) وفق مطالب البشر.

ولقد كان سقراط خصمًا للسوفسطائيين، واستطاع أن يطور منهجًا للجدل يقدم فيه سلسلة من الأسئلة موجهة بهدف أن يعرف خصمه نفسه؛ ولذا يستطيع في فترة وجيزة أن يوضح للجمهور أن خصمه لا يفهم شيئًا مما يتكلم عنه. وعند سقراط أن الغاية الأساسية للإنسان هي الوصول إلى الخير الفردي أو الفضيلة التي هي نتيجة مباشرة للمعرفة. أما ما يعنيه سقراط بهذه المعرفة التي تؤدِّي إلى الخير، فهو بالطبع ليس المعرفة الفيزيائية، ولا أي شيء يمكن تعلُّمه، وإنما هو المعرفة القائمة على رفض كل الآراء، والاعتماد على الحدس الداخلي. ولهذا كان سقراط يقول: «اعرف نفسك بنفسك.»

ومن الطبيعي إذن ألا يشجع سقراط البحث في الطبيعة، وألا يقدم أي مساهمة إيجابية في العلم، بل قدم، بديلًا للعلم الإيجابي، نظرية المثل المرتبطة تمامًا بعقيدة في الروح ككائن خالد يسكن مؤقتًا بيتًا من الطين (وهو جسم الإنسان). ولقد حاول سقراط إقناع الناس بأن يعيشوا على الأرض بالطريقة التي تسمح بعودة أرواحهم للسماء عندما يموتون.

سقراط إذن فيلسوف مثالي، استقى منابعه من فيثاغورس وبارمنيدس؛ ولذا فسر الطبيعة غائيًّا، والتاريخ البشري غيبيًّا، واعتبر العدل فكرة خالدة مستقلة عن الزمان والمكان والظروف.

إن سقراط لم يهبط بالفلسفة من السماء إلى الأرض، وإنما هبط بالإنسان من حالة طموحه إلى توسيع دائرة العقل كي تشمل الطبيعة كلها بما في ذلك الحياة والإنسان، إلى حالة القناعة بالواقع المر كما هو؛ أملًا في أن تصعد روح الإنسان للسماء عندما يموت.

ويبقى بعد ذلك أن نتساءل إن كان لسقراط مساهمة في المنطق؟ لسنا نعرف هذا بشكل حاسم، وإن كان أرسطو يُنسب إليه أحيانًا إدخال الاستنباط والتعريف في هذا الحقل. ولو كان هذا صحيحًا فمن المؤكد أن قوته في هذه الفنون لم تُستخدم إلا في دائرة الأخلاق السياسية، وهي فضلًا عن ذلك، استُخدمت بطريقة ميتافيزيقية، لا تاريخية.

أفلاطون وروح الفرد

لماذا نُعنى بأفلاطون في بحث من هذا النوع عن العلم؟

إن أفلاطون لم يقدم للعلم التجريبي أي مساهمة على الإطلاق بل فعل الكثير لتثبيطه. وأفلاطون لم يقدم أي إنتاج خاص في الرياضيات كما يرجح المؤرخون، وإن كان مطلعًا فحسب على آخر مكتشفات عصره في الرياضيات. صحيح أنه كتب على باب أكاديميته: «لا تستطيع الدخول هنا إلا إذا عرفت الهندسة»، وأنه عندما دُعي في لحظات حاسمة من حياته إلى مساعدة حكومة سيراكوس (وهي أقوى المدن اليونانية آنذاك) بدأ بتعليم أميرها الهندسة؛ غير أنه ثابت أيضًا من كتاب القوانين — كما يقول رسِل — إنه كان على جهل بالرياضيات إلى وقت متأخر نسبيًّا من حياته، وأفلاطون هو الذي بذل جهدًا خارقًا في أعماله لإعادة العنصر الغيبي إلى الفلك. ولم يترك فرصة للتعبير عن احتقاره للتكنيك والحرف إلا واستغلها. وفي برنامجه السياسي الذي عبَّر عنه في كتابيه «الجمهورية»، «القوانين» كان شاغل أفلاطون هو مشكلة إصلاح الإنسان بمعزل عن مسألة سيطرته على بيئته الطبيعية. وهو صاحب الكلمة الشهيرة التي ترد في كتاب «الجمهورية»، والتي تدَّعي أن الذي يستعمل الشيء، لا الذي يصنعه، هو الذي يملك المعرفة الصحيحة عنه. وهو موقف — على سخافته الواضحة — إنما يعني الدفاع عن الأغنياء الذين يستعملون الأشياء ضد العبيد الذين يصنعونها!

ومع ذلك فنحن نهتم بأفلاطون هنا ونُفرد له دراسة خاصة؛ لماذا؟

الحقيقة أن أفلاطون — كمفكر وفيلسوف بارز — كان له تأثير بارز جدًّا على كل المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين أتوا بعده. ولقد كانت آراؤه شديدة التأثير وقوية الإقناع الظاهري إلى درجة أن علماء العصر الوسيط وعصر النهضة (بل حتى عديد من العلماء المحدثين) لم يستطيعوا الفكاك منها. ولقد قيل أحيانًا إن جمال تعبير أفلاطون قد أخفى قبح آرائه؛ ولذا فكل محاولة لفهم جهود هؤلاء — كما سنعرض في الأجزاء الأخرى — لا بد أن تضع في اعتبارها تأثير أفلاطون، ومن بعده أرسطو. وفي العصر الوسيط كان هنالك نوع من التأليه لفكر أفلاطون وأرسطو. وتأسَّس الفكر المسيحي على الأفلاطونية الحديثة، ثم على أرسطو عندما حدثت أولى محاولات ترشيدها على يد توماس الإكويني، وعندما أصبحت الأفلاطونية أو الأرسطية جزءًا لا يتجزأ من الديانة المسيحية، لم يكن من السهل على أحدٍ الهجوم عليها إذ إن سلطة الكنيسة كانت من القوة بحيث كان درس جاليليو كافيًا لردع الكثيرين.

والسبب الثاني في اهتمامنا بأفلاطون يكمن في أنه باهتمامه الخاص بالرياضيات (وهي عنصر ضروري في العلم الحديث) استطاع أفلاطون أن يدفع دراسة المنطق خطوات إلى الأمام أكثر من كل المفكرين الذين سبقوه.

وفوق ذلك فإن نظريته في العلاقة بين الإدراك الحسي والفكري قد أدَّت إلى نتائج كلاسيكية هامة أفادت مستقبل العلم فائدة ضخمة. ولو تابع أفلاطون خيط تفكيره في هذا المجال إلى نهايته، لانتهى إلى نتائج خطيرة فيما يتعلق بالصلة بين التطبيق البشري والمعرفة البشرية. وهي نتائج تناقض الآراء التي عبَّر عنها صر احة في هذا المجال.

وما كان لأفلاطون أن يفعل هذا، وقد نشأ شابًّا غنيًّا أرستقراطيًّا في أثينا، خاضعًا لتأثير سقراط، في وقت بدت فيه آماله السياسية وكأنها تحطمت إلى الأبد بعودة الديمقراطية. وصمم أفلاطون على أن يكرس حياته للفلسفة بهدف قيادة الناس إلى حياة أفضل من خلال وضع مبادئ المدينة الفاضلة.

ولقد كان الهدف النهائي لأفلاطون — كما عبَّر عنه في كتابيه «الجمهورية» و«القوانين» هو تأسيس نظام دولة يحافظ فيها على الامتيازات القديمة للأرستقراطية دائمًا، وفي نفس الوقت يكون هذا النظام مقبولًا من الطبقات الدنيا. وفي بحثه عن إلهام له تحول أفلاطون إلى إسبرطة حيث كان يظن أن حياة الثكنات العسكرية التي يعيش فيها المواطنون بشكل مشترك تحفظهم من التآمر السياسي وتكبح جماح العبيد. غير أن التاريخ أثبت أن إسبرطة فشلت في المحافظة على امتيازات الأرستقراطية، كما فشلت في جعل نظامها مقبولًا لدى الطبقات الدنيا.

ولقد قسَّم أفلاطون مواطني جمهوريته إلى أربع درجات: الأوصياء، والفلاسفة الذين يحكمون، والجنود الذين يدافعون، والشعب الذي يؤدِّي العمل. ويحتفظ الأوصياء بكل شيء مشترك بينهم. مستغنين حتى عن الحياة العائلية، وليس للناس العاديين أي سلطة على الإطلاق. ومن المفروض أن تظل هذه التقسيمات الطبقية قائمة دائمًا، وأن تبرر بخرافة أن الله خلق الناس من أربعة أنواع: الذهب، والفضة، والنحاس، والحديد. وهذه هي نفس الألوان الأربعة (الأصفر والأبيض والأحمر والأسود) التي ظهرت في نظرية السوائل المعروفة في مدرسة إيمبدوقليس الطبية.

ومن خلال هذا النظام الطبقي الجامد كان أمل أفلاطون أن يكوِّن حكومة مستقرة فاضلة. فليس للأوصياء أي مسئولية قبل عائلاتهم، وإنما قبل الدولة فقط. وليس لهم اهتمامات أو تطلعات خاصة، وهم يخضعون لتدريب طويل في الفلسفة والرياضيات والموسيقى وكلها تؤدِّي إلى الخير الأسمى.

ولتبرير حياة هؤلاء الأوصياء والفلاسفة الذين يحكمون، أخذ أفلاطون أفكار فيثاغورس وبارمنيدس التي مجدت إدراك الحقائق المطلعة الثابتة المنطقية الرياضية. ولقد أضفى التأكيد على مناقشة الكلمات ومعناها الحقيقي واقعًا مستقلًّا عن الأفعال والأشياء التي تشير إليها. فما دامت هناك كلمة للجمال، فلا بد أن يكون الجمال حقيقة واقعة، وينبغي أن يكون هذا الجمال أكثر واقعية من أي شيء جميل. وسبب هذا أن الشيء الجميل ليس جميلًا كلية؛ ولذا فمسألة جماله وجهة نظر، بينما لا يحتوي الجمال إلا على نفسه؛ ولذا يجب أن يوجد مستقلًّا عن أي شيء آخر في هذا العالم المادي الناقص. ونفس المنطق ينطبق على الأشياء الملموسة؛ فالحجر بشكل عام ينبغي أن يكون أكثر واقعية من أي حجر محدد.

وهكذا نشأ عالم المُثل الخيالى. والعالم المادي — إذا قورن بعالم المُثل — لا يخرج عن كونه شبحًا مهتزًّا على جدران الكهف الذي نحن مسجونون فيه في هذه الحياة.

ولقد أغرى أفلاطون بهذا الموقف تأثره العميق بالرياضيات، فما أذهل أفلاطون هو معنى هذه الحقائق الهندسية التي تبدو مستقلة عن الخبرة. يقول أفلاطون في كتاب «الجمهورية» متحدثًا الهندسيين (أي المشتغلين بعلم الهندسة): «أنت تعرف أنهم يستخدمون الأشكال المنظورة ويتناقشون حولها. ولكنهم، وهم يفعلون هذا، لا يفكرون في هذه الأشكال وإنما في الأشياء التي تمثلها. وهكذا فإن موضوع مناقشتهم في الحقيقة هو المربع المطلق والقطر المطلق، لا القطر الذي يرسمونه.»

هناك إذن عالم المُثل، وعالمنا المادي ليس إلا شبحًا له.

وأفلاطون لم يكن يعنيه في الواقع تقديم تفسير لهذا الشبح؛ فما بدا هامًّا لديه هو أن يثبت أن بعض المفاهيم المجردة (كالحق والخير والجمال) مطلقة وخالدة ومستقلة عن الحواس، ولا يمكن إدراكها عن طريق عين الجسد وإنما بعين الروح.

إن مثلث القيم المطلقة (الحق، الخير، الحمال) يكون جزءًا أساسيًّا من فلسفة أفلاطون. وهو مدين بالقيمة الأولى ليارمنيدس والثانية لسقراط. أما القيمة الثالثة فهي مساهمته الخاصة. وما زالت هذه القيم تعيش بيننا حتى اليوم، وما زال الادعاء بأن هذه القيم سابقة على كل معرفة حسية، يُستخدم لوضع قيد على البحث العلمي ولتدعيم الأفكار الرجعية.

يقول برنال في كتابه «العلم في التاريخ»، الجزء الخاص بأفلاطون:

يبدو أن أفلاطون نفسه لم يساهم مساهمة تُذكر في الرياضيات؛ غير أن تأثيره أعطى الرياضيات دون شك احترامًا وتقديرًا جذب إليها عقولًا جيدة فيما بعد. ولما كان هذا التأثير تجريديًّا وتأمليًّا فقد أبعد الرياضيات عن أصلها في الخبرة العملية بلا ريب وفي التطبيق؛ وبذلك عاق تطوُّرَ علمَي الجبر والديناميكا.

لقد أكد أفلاطون في أكثر من مناسبة أن فهم القيم الخالدة يكمن في الرياضيات والجدل. وهذا الفهم للقيم الثلاث الخالدة هو سبيل الخلاص الفردي، هذا الخلاص الذي لن يتحقق بسياسات عامة تغذيها دراسة التاريخ كما تؤمن المدرسة المادية. ولا يزال بعض المؤرخين حتى اليوم يرون في كتاب أفلاطون «الجمهورية» معنى أدق من مسألة بحث أفضل شكل للحكومات. وعندهم أن موضوعه الأساسي في الحقيقة هو: كيف يكسب الإنسان أو يخسر خلاصه الأبدي؟

وجوهر فكر أفلاطون الذي يشارك فيه الفيثاغوريين هو خلود الروح، وهي عنده حقل للصراع بين الخير والشر. وفي نفس الوقت تأخذ المعركة مغزى متعاليًا؛ إذ إن روح الإنسان ليست جزءًا من طبيعته البشرية بل هي زائر من عالم السماء

وقد تأثر ابن سينا بهذه النظرة الأفلاطونية وعبَّر عنها في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:

هبطتْ عليك من المحلِّ الأرفعِ
ورقاءُ ذات تدلُّلٍ وتمنُّعِ

ومن الناحية العلمية يمكننا أن نفهم أفلاطون فهمًا دقيقًا إذا تعرَّضنا بإيجاز لموقفه من ثلاث قضايا له كان للمدرسة الأيونية منها موقف حاسم وحققت فيها تقدُّمًا واضحًا.

  • الأولى: محاولة تفسير الطبيعة — بما في ذلك الطبيعة البشرية — من الداخل وعلى أساس قوانينها.
  • الثانية: استكشاف الطبيعة عن طريق التجريب.
  • الثالثة: الصلة الحيوية بين الفلسفة والتكنيك.

ويمكننا الحكم على موقف أفلاطون من المسألة الأولى بالتعرض لنظريته في الفلك. لقد زاوج أفلاطون بين الفلك والرياضة، ولكنه كان نوعًا غريبًا من الفلك: الفلك كما ينبغي لا كما هو موجود فعلًا. ولقد كانت الفكرة الشعبية القديمة هي أن الأجسام السماوية كائنات مقدسة. ومن أجل هذا رفض التقليديون مقولة الأيونيين بأن هذه الأجسام هي عوالم من النار تجوب السماء. ولقد أنقذ أفلاطون الموقف وإن كان بثمن باهظ؛ فقد جمع بين الرياضيات والغيبيات حينما ادعى — على عكس كل الدلائل القائمة آنذاك — أن الانتظام الدائم في حركة الكواكب الدائرية هو دليل قدسيتها. وبهذا استبعد أفلاطون أي تغير في أجرام السماء كما أراد أن يستبعده من شئون البشر على الأرض. وهكذا أيضًا خنق أفلاطون الأفكار التي عبَّر عنها الفيثاغوريون بأن الأرض هي نفسها التي تدور. وليس غريبًا بعد ذلك أن يُجمع فارنجتون وبرنال ورسِل على أن تأثير أفلاطون (ومن بعده أرسطو) كان فعالًا في إعاقة تقدُّم علم الفلك والفيزياء لمدة ألفَي عام.

ولا يعني هذا أن فلك الفيثاغوريين قد خلا من العنصر اللاعقلي، ولكن ما نعنيه هو أن أفلاطون قلَّل من نصيب العلم في الفلك.

أما فيما يتعلق بالقضية الثانية: قضية استكشاف الطبيعة عن طريق التجويد، فيكفينا هنا أن نورد نصًّا لأفلاطون لتوضيح موقفه. يقول على لسان سقراط:

إذا كان مقدَّرًا لنا أن نعرف أي شيء بشكل مطلق، فلا بد أن نتحرر من الجسد، وأن نرى الواقع الفعلي بعين الروح فحسب. وبينما نحن على قيد الحياة سنكون أقرب ما يمكن إلى المعرفة عندما نتجنب بقدر الإمكان الاتصال بالجسد، وعندما لا نكون متأثرين بطبيعته؛ أي عندما نحفظ أنفسنا متحررين منه حتى يحررها الله بنفسه.

وهذه الكلمة توضح لماذا قبض أفلاطون على نبض البحث الفيزيائي، وحوَّل الاهتمام إلى الرياضيات المجردة.

أما في المسألة الثالثة (العلاقة بين الفلسفة والتكنيك) فلا نجد من أفلاطون إلا العداء الصريح؛ فلم يفهم أبدًا أفلاطون العلاقة بين الفكر اليوناني والتطبيق اليوناني، التي كانت واضحة عند من سبقوه. فالفلك لم يدرس لمجرد إشباع الفضول الذاتي، بل لحل ذات المشاكل التي تجاهلها أفلاطون؛ ونعني العلاقة الدقيقة بين طول الليل والنهار، وعلاقة كل منهما بالشهر، والشهر بالسنة. وعلى أساس هذه الدراسة يمكن تحسين التقويم الذي يتوقف عليه تقدُّم الزراعة وسير السفن في البحار والتصرف في الشئون العامة. وخارج الأكاديمية لم تدرس حتى الهندسة لمجرد الفضول، بل درست في ارتباط بمشاكل مساحة الأراضي والبحرية والمعمار.

ولذا يبدو غريبًا أن رجلًا في ذكاء أفلاطون لم يرَ هذه العلاقة بين التكنيك والفكر. ولعل السبب يعود إلى موقفه الاجتماعي المرتبط بالطبقات الغنية. ولقد كان أفلاطون (ومن بعده أرسطو) يأسف على أنه ما زال هناك عمال أحرار في المجتمع اليوناني، وهو أن العلاقة بين العبد وسيده أوثق وأفضل من العلاقة بين الحرفي ورئيسه.

بقيت كلمة هامة عن نظرية أفلاطون في الإدراك الحسي والفكر. ولقد أشرنا من قبل إلى المناقشة التي استعرت حول ما إذا كانت الحواس أم العقل هي الطريق الصحيح للمعرفة. وقد انضم أفلاطون بقوة إلى جانب العقل كما هو متوقع.

غير أن أفلاطون — في بعض محاوراته المتأخرة — يتخلى عن هذا الموقف، ويعترف بأن بيانات الإحساس هي مادة المعرفة، ولكنه يصر على أن الإحساس في حدِّ ذاته ليس معرفة. وهنا يقدم أفلاطون تحليلًا أدق من تحليل من سبقوه. فهو يميز بشكل واضح بين الإدراك الحسي والفكر، ويقول إن المعرفة هي نتيجة فعل الثاني على الأول. وتلك فكرة قيِّمة كان لأفلاطون فضل الوضوح فيها. ولو تابع خيط تفكيره في هذا المجال لأدرك أيضًا أن الوعي الإنساني مشروط خارجيًّا بالطبيعة والمجتمع، وهذا معناه الاعتراف بالعلاقة بين التطبيق البشري والمعرفة البشرية.

وثمة فكرة هامة أخرى قدمها أفلاطون في مبحثه هذا؛ «فنحن لا نرى بالعينين ولكن خلالهما، ولا نسمع بالأذنين ولكن خلالهما. ولا يمكن لأي حاسة بذاتها أن تميز بين نشاطها الخاص وبين نشاط أي حاسة أخرى»؛ ولذا فلا بد من وجود شيء متصل بين الحاستين به نتصور تصورًا صحيحًا كل ما ينقل إلينا من خلال الأجهزة الحسية، وهو ما يسميه أفلاطون «الروح أو النفس» Psyche.

وأكثر من ذلك، يوضح أفلاطون أن هناك نشاطات نفسية أخرى أقل اعتمادًا بشكل مباشر على الحواس؛ مثل التذكر، والتوقع، والتصور، وكل عمليات الذهن التي بها ندرك الحجج المنطقية أو الرياضية. وليس من الضروري أن نقبل أفكار أفلاطون لكي نعترف أن أفلاطون في الحقيقة قد ارتفع بكل مشكلة الوعي، بهذا المبحث، إلى مستوى أعلى.

تعريف موجز بأكاديمية أفلاطون

عندما تبخرت آمال أفلاطون في أمير سيراكوس الفيلسوف، عاد إلى أثينا بعد أن أُسِر وهو في طريق العودة، وكان على وشك أن يباع كعبد. وفي أثينا أسَّس أفلاطون الأكاديمية، وظل يدرِّس مبادئه فيها للطلبة الممتازين مدة أربعين عامًا (٣٨٧–٣٤٧ق.م.) ولم يتوقف التدريس في الأكاديمية بوفاة أفلاطون. وعلى الرغم أن الأكاديمية لم تطوِّر أفكار أفلاطون بعد وفاته تطورًا هامًّا، فإنها حفظتها، وعاشت الأكاديمية — مدعمة بسمعة أفلاطون وأثينا خلفه — طيلة ألف عام تقريبًا حتى أغلقها جوستانتين في ٥٢٥ بعد الميلاد. وأفلاطون نفسه هو الذي حدَّد طبيعة واتجاه الأكاديمية. ولقد كانت أكاديمية بالمعنى الحديث؛ فالمعرفة البحتة التي تقتصر غالبًا على الرياضيات والفلك والموسيقى يتم الحصول عليها بقراءة النصوص، لا بمشاهدة الطبيعة المليئة بالخداع؛ غير أن إصرار أفلاطون على الرياضيات كمادة للدراسة قد ضمن وجود منهج علمي واحد على الأقل. وبدون هذا كان يمكن أن يسمى التعليم بالأكاديمية تعليمًا أدبيًّا.

وبعد موت أفلاطون أصبح الالتحاق بالأكاديمية تقليدًا من تقاليد شبان الأرستقراطية اليونانيين يتبعونه بهدف الحصول على المراكز الإدارية الممتازة في الدولة. ولقد قلَّد الرومانيون الأثرياء اليونانيين في ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥