هل كان ثمة علم قبل الحضارة؟

يطرح علماء الحضارات القديمة هذا السؤال، ويتجه بعضهم إلى إنكار وجود العلم قبل الحضارة؛ أي قبل بدء الثورة الصناعية في العصر الحجري الحديث وما تلاه من انقسام المجتمع إلى طبقتين وظهور حضارة المدن. وعند هؤلاء أن العلم يرتبط بوجود الكتابة والتسجيل للنظرية العلمية التي يفصلون بينها وبين التكنولوجيا فصلًا كاملًا، والتي هي خلاصة التعميم والتجريد الإنساني لخبرات علمية مختلفة. وبمعنًى آخر فهؤلاء العلماء ينكرون تمامًا وجود شيء اسمه العلم قبل الكتابة والقانون. ومنذ حوالي نصف مليون عام عاش الإنسان يسعى على الأرض كما يقدِّر أكثر العلماء المتخصصين اليوم؛ غير أنه لم يتحضر إلا منذ حوالي خمسة آلاف عام على وجه التقريب (في مصر حوالي ٧٠٠٠ عام) ولو قبلنا وجهة نظر هؤلاء العلماء لكان معنى ذلك أن تاريخ العلم يبدأ منذ حوالي خمسة آلاف عام لا قبل ذلك.

والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف بالدرجة الأولى على تعريف كل عالم من علماء الحضارات القديمة للعلم نفسه. فإن كان المقصود بالعلم الجانب النظري فيه، كان لهذا المنطق وجاهته؛ غير أننا نفضل — على الأقل حاليًّا حتى نتعرض بالتفصيل لقضية «تعريف العلم ومناهجه» — أن نحذو حذو ﺟ. كراوثر في كتابه «العلاقات الاجتماعية للعلم» الذي عرَّف فيه العلم بأنه نظام السلوك الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يحقق سيطرته على بيئته؛ إذ إن هذا التعريف لا يقوم على تجاهل وإنكار انتصارات العلم العملية والتكنيكية. ومثل هذا الفهم الجاد لقضية التكنولوجيا كفيلٌ بتأكيد الأصل الاجتماعي للعلم والصلة الوثيقة بين الفكر النظري والنتائج العملية. وفضلًا على ذلك فهذا التعريف يقوم على إدراك أنه مهما كانت التطورات النهائية للعلم، وأيًّا كانت الصيغ النظرية التي ينتهي إليها والتي قد تبدو — شكلًا — مفرغةً من الدلالة الاجتماعية، إلا أن الحقيقة تظل رغم ذلك وهي أن العلم ينبع من التكنيك؛ من الفنون والحرف وألوان النشاط المختلفة التي يمارسها الإنسان وتمكنه من المحافظة على جسده وروحه معًا.

يقول فارنجتون:١

إن منبع العلم هو التجربة؛ هو أهدافه العملية. وهذه التجربة هي محكُّ نجاحه. والعلم ينشأ من خلال الاتصال بالأشياء وهو يعتمد على أدلة الحواس. ومهما بدا العلم متباعدًا في حركته عن هذه الحواس إلا أنه لا بد أن يعود دائمًا إليها. إن العلم يحتاج إلى منطق ووضع نظرية مفصلة، ولكن المنطق الدقيق للعلم وأشد نظرياته طواعية ينبغي أن تجد برهانها في التطبيق. إن العلم بمعناه العملي هو الأساس الضروري للعلم التجريدي والافتراضي.

ولا يتنافى العلم العملي والتكنيك مع القدرة على التفكير بصرف النظر عن القدرة على التعبير؛ إذ تثبت التجربة من حولنا أن ثمة أناسًا كثيرين قادرين على التفكير بأيديهم واختراع وابتكار أدوات كثيرة نافعة؛ غير أن ثمة فارقًا واضحًا بين هذه القدرة عند الإنسان وبين قدرته على التعبير عن أفكاره في صورة سليمة واضحة. فالاختراع في التكنيك قدرة بشرية ذهنية لا جدال فيها تعبِّر عن تآزُر معين بين المخ واليد؛ غير أن هذا يختلف عن قدرات إنسانية أخرى (نشأت في وقت متأخر نسبيًّا) تعبِّر عن التآزر بين المخ واللسان. وتقدِّم الدراسات الحديثة للمجتمعات المتوحشة المعاصرة في أستراليا وغيرها دليلًا جديدًا على وجود العلم قبل الحضارة كما ينعكس في سلوك المتوحشين المعاصرين. فعند هؤلاء نجد مشروعات واضحة لضمان مياه نقية للشرب. وهم يخزنون مياه الآبار ويمارسون الري ويحفظون لحم الحيوان ويستفيدون من الغابات لأغراض متعددة. ومن ألوان هذا النشاط الإنساني تنبع الحرف والفنون التي تتأسس عليها الحضارة.

والخلاصة أننا — وفق هذا التفسير والفهم للعلم — ملزمون بقبول فكرة وجود العلم قبل الحضارة. ومن المحقق أن الثورة الصناعية التي ختمت العصر الحجري الحديث وآتت أُكُلها في العصر البرونزي تمثِّل ثورة علمية بالقياس إلى ما سبقها؛ غير أن هذا لا يقوم مبررًا لإنكار وجود العلم قبل ذلك. فإن كان البعض يحتج بعدم وجود الوثيقة التي تعبِّر عن فكر بشري واضح — فقد يكفينا أن ننبه إلى مقالة العالم البريطاني الكبير هالدين٢ الذي أوضح حقيقة تاريخية على جانب كبير من الأهمية: وهي أن كثيرًا من الأفكار الأكثر أهمية تاريخيًّا لم توضع في مبدأ الأمر في كلمات. لقد كانت ثمة مخترعات تكنيكية عُرفت في مبدأ الأمر عن طريق التقليد ثم استطاعت بعد ذلك أن تتطور إلى نظرية منطوقة. وعندما نُطقت كانت بشكل عام عديمة المعنى، ولكن التطبيق العملي كان صحيحًا. ويقرر هالدين نفسه أنه حتى فترة قريبة جدًّا كان هذا هو الحال في حالة استخلاص المعادن من خاماتها.

إن أقدم الأدوات الموجودة التي استخدمها الإنسان للسيطرة على بيئته هي الأدوات الحجرية. وفي استطاعتنا أن ندلل تمامًا على القدرة الفكرية والتقدُّم البطيء للإنسان حتى في العصر الحجري القديم. ولسنا نستطيع أن ننكر أن نمو المهارة اليدوية هي صورة من صور الذكاء الإنساني. وقد انعكست هذه المهارة اليدوية في تحسُّن عمل الأدوات الحجرية. كما يتضح التقدُّم الفكري في قدرة الإنسان المتطورة على التمييز بين مختلف أنواع الأحجار. ويقدم لنا تشايلد في كتابَيه السالفَي الذكر شواهد على تزايد الوضوح في الهدف وبُعد النظر؛ فقد نقَّب الإنسان عن حجر الصوَّان قبل أن ينقِّب عن المعادن. وفي إحدى مراحل تقدُّمه لا يفعل الإنسان أكثر من اختيار الأحجار المناسبة لعمله وتسويتها. وفي مرحلة ثانية صنع الإنسان من الكتل الكبيرة أحجارًا أصغر وبالشكل المرغوب فيه. ووفق معرفتنا الحالية قد يبدو لنا هذا أمرًا تافهًا؛ غير أننا نرتكب حماقة كبرى إذا انسقنا وراء إغراء هذا الرأي، وإن لم ندرك أن هذا التقدُّم الفكري كان آنذاك يمثِّل ثورةً في التكنيك. وبعد ذلك أخذ الإنسان يصنع أدواته لأغراض أشد تخصصًا، كالقادوم والإزميل والمقص … إلخ.

على أن معرفة الإنسان لم تكن قاصرة على المواد كالحجارة والأخشاب. فثمة أدلة واضحة على تقدير الإنسان القديم — فيما قبل الحضارة — لمبادئ الميكانيكا؛ فقد أدرك مبكرًا فائدة استخدام الوتد، ثم أحرز تقدُّمًا أكبر عندما جمع في أداة واحدة بين وظيفة الوتد ووظيفة الرافعة. وما من شك في أن استخدام الرمح والقوس والسهم ليس إلا علامات عديدة في طريق تقدُّم الإنسان من زاوية مبادئ الميكانيكا. وعلى الرغم طبعًا من أن تقديره للمبادئ المتضمَّنة كان في مبدأ الأمر عمليًّا وحسِّيًّا ومختلطًا بالنشاط العملي دون تنظير؛ غير أن هذه المعرفة العملية هي الأساس الضروري للنظرية الميكانيكية.

وهذا الاستعراض الموجز جدًّا لتكنيكات وأفكار الإنسان البدائي كافٍ ليوضح لنا ماذا أنجز في نهاية العصر الحجري القديم باستخدام الذكاء البشري للسيطرة على الطبيعة عن طريق استخدام الأدوات والأجهزة المختلفة، جنبًا إلى جنب مع تقدُّم التقاليد والطقوس التي قامت بهدف أن يحافظ الإنسان على المكاسب التي حققها. ولقد وضعت اللبنات الأولى لعلمَي الميكانيكا والطبيعة من خلال صنع الإنسان واستخدامه للوتد والرمح والقوس والرافعة … إلخ، وكان استخدام النار هو الأساس الأول في علم الكيمياء وتطوره، كما تأسَّس علم الأحياء على المعرفة التي تجمعت وانتشرت عن الحيوانات والنباتات. أما المعرفة الاجتماعية فقد كانت متضمَّنة في اللغة والفنون البدائية.

وليس من شك أن هذا المجتمع المشاعي القائم على أساس الصيد وجمع الغذاء لم يعرف أي نوع حاسم من التخصص كما لا يعرف الفوارق الطبقية؛ غير أن المنجزات التكنيكية والاجتماعية لهذا العصر كانت على درجة من التقدُّم والرفعة تجعل كثيرًا من المؤرخين اليوم يتساءلون لماذا عجز أهل ذلك العصر عن البقاء في حالتهم هذه دائمًا! وفات هؤلاء المؤرخين أن نقطة الضعف الأساسية في مثل هذا المجتمع هي أنه بالدقة كان يعتمد على الحيوانات التي يصطادها رجاله. وقد يستطيع هذا المجتمع أن يستفيد أكبر استفادة من الحيوانات الموجودة ولكنه لا يستطيع السيطرة عليها. وبمعنًى آخر فقد استطاع هذا المجتمع أن يقتل الحيوان ويأكل لحمه وينتفع من جلده، إلا أنه كان عاجزًا عن أن يطعم هذه الحيوانات ويربيها ويستأنسها.

١  فارنجتون: «العلم عند اليونان»، نفس الفصل الأول.
٢  هالدين: راجع ما نقله عنه فارنجتون في الفصل الأول من كتاب «العلم عند اليونان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥