أرسطو
إن ما نعرفه اليوم عن أرسطو مستقًى بأكمله من مادة محاضراته التي أعطاها في «اللقيوم»، وهي تُعتبر أبحاثًا فنية بالمعنى الدقيق. أما محاورات أرسطو التي كتبها ونشرها عندما كان عضوًا في أكاديمية أفلاطون، فقد فقدت مع الأسف. ومن هنا فالمادة التي لدينا عن أرسطو أقل مما لدينا عن أفلاطون.
في مبدأ حياته الفكرية كان أرسطو تلميذًا لأفلاطون، انشق على الأكاديمية بعد موت أستاذه، شاكيًا من إسراف الأكاديمية في تحويل الفلسفة إلى رياضة. وفي عام ٣٣٥ أسَّس أرسطو مدرسة فلسفية منافسة تُعرف باسم «اللقيوم».
ولقد احتل أرسطو مركزًا رئيسيًّا في تاريخ العلم؛ وذلك لأسباب عديدة، من أهمها أن أرسطو قد عاش في قمة مرحلة من مراحل تاريخ اليونان السياسي (مرحلة دولة المدن اليونانية)، وفي بدء مرحلة أخرى (مرحلة إمبراطورية الإسكندرية)؛ ولذا كان أرسطو في وضع يسمح له بجمع كل معرفة المرحلة الأولى ونقلها كي تُستخدم في المرحلة الثانية.
ومن ناحية أخرى كان لأرسطو ظروف عائلية ممتازة؛ إذ كان أبوه رجلًا ثريًّا اشتغل طبيبًا للملك فيليب والد الإسكندر؛ ولذا تمتَّع أرسطو معظم حياته بمعاملة خاصة من جانب الملوك والأمراء، واستفاد بالكامل من الفرص التي أتيحت له، ولم يكن بعيدًا عن جو التجربة العلمية في علوم الأحياء نظرًا لمهنة أبيه واشتغاله معه. ومن هنا كان إنتاجه العلمي أكبر وأوسع مدًى من إنتاج أي رجل آخر قبله.
والنظرة الحديثة لأرسطو تقدِّمه منطقيًّا وعالمًا أكثر منه فيلسوفًا أخلاقيًّا؛ فقد كان ينقصه الحماس الذهني للإصلاح؛ الأمر الذي ميز سقراط وأفلاطون، وإن كانت هذه النظرة الإصلاحية عندهما تتجه اتجاهًا خاطئًا بتركيزها على الأخلاق. وثمة أدلة تبيِّن أن أرسطو كان يدرك أن أفكار أفلاطون الاجتماعية لم تعد تناسب العصر؛ ولذا فعندما تولَّى تعليم الإسكندر (من ٣٤٣ إلى ٣٤٠ق.م.) لم يفكر في الهندسة كما فعل أفلاطون مع أمير سيراكوز، وإنما اتجه إلى تربيته من أجل قيادة إمبراطورية مقدونية واسعة بأساليب مرنة.
التصنيف والمنطق الشكلي
إن مساهمات أرسطو تكمن في مجال المنطق والطبيعة وعلم الأحياء والإنسانيات. والواقع أن أرسطو هو الذي أسَّس كل هذه العلوم على قاعدة المنهج الشكلي، ثم أضاف الميتافيزيقا إلى كل ما لا يتلاءم مع هذه العلوم. وصحيح أن المنطق الشكلي ظهر قبل أرسطو، إلا أنه بلا جدال كان الأستاذ الذي استطاع أن يصوغ من هذا المنطق نظرية عامة، وساعده على هذا ذكاؤه الحاد وقوة فكره.
ولقد ظل أرسطو هو السلطة المطلقة في المنطق طول العهود القديمة والوسطى، ولا يزال كثيرون حتى اليوم يرفضون اكتشافات المنطق الحديث ويتمسكون بالمنطق الأرسططالي على الرغم من العيوب الواضحة فيه.
ومع ذلك فمنطق أرسطو في حينه كان خطوة كبرى باعتباره الصياغة الشكلية لقوانين الفكر في عصره، وبدونه كان يستحيل تقدُّم الرياضيات اليونانية ولا سيما الهندسة.
كل الرجال فانون | (مقدمة كبرى) | |
سقراط رجل | (مقدمة صغرى) | |
وإذن | سقراط فانٍ | (نتيجة) |
أو مثل: كل الرجال فانون، وكل اليونانيين رجال.
إذن فكل اليونانيين فانون.
(وأرسطو لا يميز بين هذين النوعين، وإن كان هذا خطأً.)
وهناك أربعة أشكال للأقيسة، ابتكر أرسطو ثلاثًا منها وأضاف المدرسيون الشكل الرابع. وكل شكل يتفرَّع منه صور عدة مثل اللتين أشرنا إليهما في السطور السابقة.
ولقد اعتقد أرسطو وأتباعه أن كل الاستدلال الاستنباطي، عندما يحدَّد بدقة، هو قياس؛ ولذا فبوضع كل الأقيسة. الصحيحة، ووضع كل حجة مقترحة في الشكل القياسي، يمكن دائمًا تجنُّب المغالطات.
لقد كان هذا النظام هو بدء المنطق الشكلي. وإذا نظرنا إليه باعتباره بداية، لا نهاية، المنطق الشكلي، نجد أنه معرَّض لثلاثة أنواع من النقد حلَّلها برتراند رسِل في كتابه السالف بعناية:
- أولًا: عيوب شكلية في داخل النظام ذاته.
- ثانيًا: مبالغة في تقدير أهمية القياس إذا قورن بالأشكال الأخرى للحجة الاستنباطية.
- ثالثًا: المبالغة في قيمة الاستنباط كشكل من أشكال الحجة. والنقدان الأولان يدوران على أرضية المنطق الشكلي نفسه. أما النقد الثالث فيمس قضية خطيرة؛ ذلك أننا في الواقع وفي الحياة لا نعرف العام قبل أن نعرف الخاص. بل على العكس نحن في العادة نعرف الخاص ونريد أن نصل إلى العام. ولما كان الاستنباط يقوم على أساس البدء بالعام والانتهاء إلى الخاص كما هو واضح في الأقيسة أمكننا أن نقدِّر قصور المنطق الشكلي كوسيلة وأداة في العلوم الطبيعية. والآن فلنتعرض بشيء من التفصيل لأوجه النقد الثلاثة.
-
أولًا: لنبدأ بالنصَّين: سقراط رجل،
كل اليونانيين رجال. وهذان النصان
هما المقدمتان الصغيرتان في
القياسين اللذين وردا هنا. إن من
الضروري التمييز بين هاتين
القضيتين، وهذا ما لا يفعله أرسطو.
فالقضية «كل اليونانيين رجال»
تفسَّر عادة على أنه يعني أن هناك
يونانيين. وبدون هذا تصبح بعض
أقيسة أرسطو غير صحيحة. مثلًا «كل
اليونانيين رجال، كل اليونانيين
بيض، وإذن بعض الرجال بيض»، إن هذا
القياس صحيح إذا وُجد اليونانيون،
وهو غير صحيح إن لم يوجد هؤلاء؛
ولذا يلزم — إذا أردنا الوضوح —
تقسيم القضية إلى قسمين: أحدهما
«يوجد يونانيون»، والثاني هو: «إذا
وُجد يوناني فهو رجل»، والمسألة
الأخيرة افتراضية بحتة، لا تعني أن
هناك يونانيين.
ومن أمثلة هذه العيوب الشكلية الخاصة بالنظام نفسه المسألة الشهيرة باسم «كذاب كريت»، وهي كالآتي: قال إيمينين الكريتي:
كل أهل كريت كذَبة، وإذن فهو كذاب أيضًا، وإذن فليس كل أهل كريت كذَبة.
كيف يمكن صياغة هذه القضية في الصورة القياسية؟
-
ثانيًا: القياس هو نوع واحد من أنواع
الحجة الاستنباطية. وفي الرياضة —
التي هي استنباطية غالبًا — نادرًا
ما توجد أقيسة، اللهم إلا في هندسة
إقليدس. وبالطبع يمكن إعادة كتابة
الحجج الرياضية في الشكل القياسي؛
غير أن هذا سيكون أمرًا مصطنعًا
وشديد التعقيد.
ومن ناحية أخرى فهناك في داخل المنطق استدلالات غير قياسية؛ مثل «الحصان حيوان، وإذن فرأس الحصان هي رأس حيوان». والواقع أن الأقيسة الصحيحة ليست إلا بعض الاستنباطات الصحيحة وليس لها أسبقية منطقية على الأخرى.
- ثالثًا: لقد علَّق اليونانيون بشكل عام أهمية كبرى على الاستنباط كمصدر من مصادر المعرفة أكثر مما نفعل اليوم. وينبغي الاعتراف أن أرسطو كان أقل خطأ من أفلاطون في هذا المجال؛ فقد اعترف مرارًا بأهمية الاستقراء inducion. ومع ذلك فقد بالغ، في نظرية المعرفة، في أهمية الاستنباط.
نحن مثلًا نوافق على أن «محمدًا فانٍ» ويمكن تجاوزًا أن نقول إننا نعرف أن كل الرجال فانون. أما الذي نعرفه في الحقيقة فهو أن «كل الرجال الذين وُلدوا منذ مائة وخمسين عامًا، ومعظم الذين وُلدوا منذ مائة عام» قد فنوا فعلًا، وهذا هو السبب في اعتقادنا أن محمدًا سيموت. ولكن هذه الحجة استقرائية وليست استنباطية. إنها أقل إحكامًا من الاستنباط؛ ولذا فهي تعطي احتمالًا لا تأكيدًا.
والحقيقة أن كل الاستدلالات — خارج المنطق والرياضة — هي استقرائية وليست استنباطية. والحجة الاستقرائية هي التي تعطي معرفة جديدة. ومع ذلك فحتى في بعض فروع الرياضيات (مثل الإحصاء) نلجأ إلى الحجة الاستقرائية أكثر مما نلجأ إلى الحجة الاستنباطية. كما أننا نعترف اليوم بمنهج رياضي يُعتبر من أقوى مناهجنا العلمية، ويُعرف باسم «الاستقراء الرياضي»، وفيه تلعب الحجة الاستقرائية الدور الأساسي؛ لأننا نبدأ من الخاص وننتهي إلى العام.
ومن هنا ينبغي أن نفهم دور منطق أرسطو في عصرنا الحالي في حدوده؛ فأقيسة أرسطو لم تعد مهمة، وهي ذات قيمة تاريخية أكثر مما هي ذات قيمة فعالة اليوم.
فيزياء أرسطو
وفق أرسطو، تُعتبر الفيزياء مفتاح فهم العالم. وما عناه أرسطو بالفيزياء ليس ما نعنيه اليوم (قوانين حركة المادة غير الحية)، بل على العكس؛ ففيزياء (أو طبيعة) أيِّ كائن هي اتجاه نمو هذا الكائن وكيف يتصرف عادة.
وقد يبدو هذا غريبًا لنا اليوم؛ غير أن من الضروري أن تدرك أن أرضية أرسطو التصورية تختلف عن أرضية المفكر المعاصر. ونحن اليوم نبدأ بدراسة الميكانيكا التي توحي طبيعة اسمها بالماكينات. والطالب اليوم يألف السيارات والطيارات، وهو لا يعتقد — حتى في أضيق حيز من تصوُّره الباطني — أن السيارة مثلًا تحتوي على حصان بداخلها، أو أن الطائرة تطير لأن بها أجنحة طائر سحري. والخلاصة أن الحيوانات اليوم فقدت أهميتها في صورنا التخيلية عن هذا العالم الفيزيائي الذي يقف فيه الإنسان وحيدًا في بيئة مادية عديمة الحياة أساسًا. أما بالنسبة لليونانيين فقد كان من الصعب، وهم يحاولون تكوين صورة علمية عن الحركة، أن تبدو لهم النظرية الميكانيكية البحتة إذا استثنينا رجالًا عباقرة أمثال ديموقريطس وأرشميدس.
ولقد بدت لليونانيين أهمية مجموعتين من الظواهر: حركة الحيوانات، وحركة الأجسام السماوية. وعند رجل العلم الحديث، يُعتبر جسم الإنسان في حكم ماكينة مفصلة ودقيقة جدًّا، ذات تركيب فيزيائي وكيميائي معقَّد. أما بالنسبة لليونانيين، فقد بدا أكثر طبيعية أن يؤالفوا بين الحركات التي لا حياة فيها وبين حركة الحيوانات. وما زال الطفل حتى اليوم يميز الحيوانات الحية عن الأشياء الأخرى بحقيقة أنها تتحرك من تلقاء نفسها. وقد كانت هذه الخاصية نفسها هي أساس النظرية العامة للفيزياء عند أرسطو. ومع الأسف شجعته على هذا أبحاثه في علم الحيوان.
ولكن ماذا عن الأجرام السماوية؟ إنها تختلف عن الحيوانات بانتظام حركاتها، وربما كان ذلك نتيجة كمالها الأعلى. ولقد كان كل فيلسوف يوناني يتعلم في طفولته أن ينظر إلى الشمس والقمر كإلهين، وقد أدين أنكساجورس بتهمة الكفر لأنه اعتقد أن الأجرام السماوية ليست حية. وعندما ينظر الفيلسوف إلى الأجسام السماوية كأجسام مقدسة، يكون من الطبيعي أن يعتقد أنها تتحرك بإرادة مقدسة لها ولع بالنظام والبساطة الهندسية. وهكذا فالمنبع النهائي لكل حركة هو الإرادة: إرادة الكائنات البشرية والحيوانات على الأرض، وإرادة الخالق الأعلى بالتصور اليوناني التي لا تتغير.
ولسنا ندَّعي أن هذا ينطبق تفصيلًا على ما قاله أرسطو، إلا أنه يعطي الأرضية لفكر أرسطو، وهو يعبِّر عن نوع الشيء الذي يتوقع هو صحته عندما يتوفر على أبحاثه.
ولذا فالطبيعة هي في الشكل أكثر منها في المادة، وما هو بشكل كامن لحم أو عظم لم يحصل بعد على طبيعته. ووجهة النظر هذه تبدو وكان علم الأحياء يوحي بها. فالثمرة هي بشكل كامن شجرة بلوط.
إن الطبيعة تنتمي إلى فئة من العلل التي تعمل من أجل شيء، وهذا يؤدِّي بدوره إلى مناقشة وجهة النظر التي تقول إن الطبيعة تعمل بالضرورة دون غرض، وهو الأمر الذي يرفضه أرسطو. وهو يقول إن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأن الأشياء تحدث بطريقة ثابتة، وعندما تصل السلسلة إلى نهايتها فإن كل الخطوات السابقة عليها هي من أجل هذه النهاية. والأشياء «الطبيعية» هي التي، بالحركة المستمرة النابعة من مبدأ داخلي، تصل إلى نوع من الاكتمال.
وعلى الرغم من أن هذا المفهوم الكامل عن الطبيعة يبدو في الظاهر مناسبًا لتفسير نمو الحيوانات والنباتات، إلا أنه أصبح في النهاية عقبة كأْداء في نمو العلم، بل ومنبع كثير مما هو ضار في الأخلاق. والحقيقة أنه على الرغم من الخدمات الجليلة التي أداها أرسطو للبشرية في حقل المنطق الشكلي وفي علم الحيوان، فإن موقفه من الفيزياء الذي ذاع صيته قد عاق تقدُّم هذا العلم حوالي ألفَي عام، حتى قال البعض إن بعض دم برونو وجاليليو في عنق أرسطو!
وأولًا ينبغي أن نقول مباشرة إن وجهة نظر أرسطو هذه تتناقض مع نسبية الحركة بالمعنى الحديث. ونحن اليوم نقول إنه عندما تتحرك ا بالنسبة إلى ب، فإن ب تتحرك نسبيًّا إلى ا، ولا معنى إذن لأن نقول إن إحداهما تتحرك بينما الأخرى ساكنة. وعندما يمسك كلب بعظمة يبدو للذوق الفطري أن الكلب يتحرك بينما العظمة ساكنة، وأن للحركة هدفًا؛ ونعني تحقيق طبيعة الكلب؛ غير أنه اتضح اليوم أن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها على المادة الميتة، وأنه لأغراض الفيزياء العلمية فإن مفهوم «الغاية» ليس مفيدًا، فضلًا على أنه من ناحية الدقة العلمية لا يجوز اعتبار أي حركة إلا نسبية.
لقد أنشأ أرسطو عالمه الفيزيائي في صورة عالم اجتماعي مثالي يكون فيه الخضوع هو الحالة الطبيعية. وفي هذا العالم عرف كل شيء مكانه، وفي معظم الأحيان يلتزم به. فالحركة الطبيعية تحدث فقط عندما يكون الشيء في غير مكانه ويميل إلى العودة إليه مرة أخرى، كالحجر عندما يسقط إلى الأرض، أو الشرارة عندما تنطلق إلى أعلى لتنضم إلى النيران الثانوية. وهذا ينطبق فقط على الأشياء التي ليس لها حركة خاصة بها. فمن طبيعة الطير أن تطير في الهواء، ومن طبيعة السمكة أن تسبح في الماء. إن هذا في الواقع هو ما خلقت الطيور والأسماك من أجله. وفي هذا نرى إحدى أفكاره القائدة: فكرة العلل الغائية التي بها وهبته الكائنات الدقيقة، بل وحتى المادة، هدف الوصول إلى غايات مناسبة. وقد اعترف أرسطو بأسباب أخرى (مثل العلة المادية والعلة الفعالة) اللتين تقدِّمان الدعامة المادية وتجعلان الأشياء تعمل، ولكنه اعتبرهما، أسبابًا أدنأ من العلل الغائية. ولقد كان هذا المبدأ لعنةً على العلم؛ إذ إنه يقدم وسيلة كاذبة لتفسير أي ظاهرة بالتسليم بوجود غاية مناسبة لها، دون أن نكلف أنفسنا بحث كيف تعمل هذه الظاهرة.
لقد كان النضال ضد العلل الغائية في العلم طويلًا، وما زال النصر حتى اليوم غير كامل. ووفق أرسطو فالحركة الطبيعية غائية، وكل حركة أخرى تحتاج إلى محرك كالحصان عندما يجر العربة، والعبيد عندما يجرُّون سفن الحرب، أو كالمحرك غير المتحرك عندما يحرك الكرات الخارجية للسماء.
ومع ذلك فماذا يمكن أن يقال عن الحركة العنيفة، كحركة السهم عندما ينطلق من القوس؟ منذ زمن طويل كانت هذه المسألة صعبة لدى الفيزياء اليونانية. ولقد أثبت زينون بالمنطق أن السهم لا يتحرك أبدًا؛ غير أن هذا الحل لم يكن من الممكن أن يقبله أرسطو؛ ولذا كان لا بد من البحث عن حل آخر. ولقد وجد أرسطو هذا الحل الآخر عندما ادعى بأن الهواء هو الذي يحرك السهم؛ «فالهواء يفتح أمامه ويقفل خلفه».
وغني عن البيان أن هذا التفسير خاطئ. ولقد أدَّى هذا الخطأ إلى خطأ آخر تبيَّن أنه كان حجر عثرة أمام علم الفيزياء فيما بعد. فإذا كان الهواء ضروريًّا للحركة، والحركة العنيفة موجودة في عالم ما تحت القمر، فلا بد إذن أن هذا العالم مليء بالهواء، والفراغ إذن مستحيل. وأحيانًا يستخدم أرسطو حجة أخرى ضد الفراغ، وهي تبدو متناقضة مع الأولى. فهو يقول: «لما كان الهواء يقاوم الحركة، فإنه إذا سُحب الهواء فإن الجسم إما أن يقف ساكنًا بسبب أنه لا يجد مكانًا يذهب إليه، أو أنه إذا تحرك، فإنه يستمر في الحركة بنفس السرعة إلى الأبد. ولما كان هذا سخيفًا فلا بد من التسليم بأنه لا يوجد فراغ.»
وسنلاحظ هنا أن أرسطو في الواقع يقرر كل كلمة من كلمات قانون نيوتن الأول في الحركة، ويستخدم رفضه قبليًّا لإثبات استحالة شيء هو من بديهيات حياتنا اليوم. إن الفراغ مرفوض عند أرسطو؛ لأن الاعتراف به يؤدِّي مباشرة إلى الذَّرِّية. ومن الطبيعي أن نسلم أن لمبدأ «الطبيعة ترفض الفراغ» أصله في خبرات مص السوائل التي أدَّت إلى المضخات الماصة، غير أن قصور المضخة الماصة هو الذي أدَّى في النهاية بتورشيلِّي إلى إيجاد الفراغ.
الفلك عند أرسطو
يقدم أرسطو في كتابه «حول السماوات» نظرية بسيطة وطريفة في الفلك. الأشياء أسفل القمر تخضع للتوالد والتحلل، أما ابتداءً من القمر فما فوق فكل شيء غير قابل للتوالد أو الهدم. والأرض في مركز الكون، وفيما تحت القمر يتكون كل شيء من أربعة عناصر (الهواء والماء والتراب والنار)، ولكن هناك عنصر خامس تتكون منه الأجسام السماوية ويسمى الأثير.
والحركة الطبيعية للعناصر الأرضية الأربعة هي خطِّية، بينما حركة العنصر الخامس دائرية. والسماوات عند أرسطو كرات كاملة، والأجزاء العليا أكثر قداسة من الأجزاء السفلى، وعنده أيضًا أن النجوم والكواكب لا تتكون من النار بها من العنصر الخامس. وما حركة هذه النجوم والكواكب إلا نتيجة حركة كرات ربطت بها هذه الأجرام السماوية.
لقد قدمت هذه النظرية صعوبات عديدة في الأجيال التالية. فالشهب — التي عُرف أنها تتحطم — نُسبت إلى كرة «ما تحت القمر». ولكن في القرن السابع عشر وجد أنها ترسم مسارات حول الشمس، ونادرًا ما تكون قريبة إلينا قرب القمر.
ومن الصعوبات أيضًا أنه لما كانت الحركة الطبيعية للأجسام الأرضية خطِّية، فقد ظُن أن القذيفة التي تطلَق بشكل أفقي تتحرك أفقيًّا لفترة ثم تبدأ فجأة في السقوط رأسيًّا. ولذا كان اكتشاف جاليليو بأن القذيفة تتحرك في قطع مكافئ، صدمة قاسية للعلماء المؤمنين بأرسطو.
ولقد كان على كوبرنيكس وكبلر وجاليليو أن يقفوا ضد أرسطو، عندما أكدوا أن الأرض ليست مركز الكون، ولكنها تدور حول نفسها مرة في اليوم، وتدور حول الشمس مرة كل سنة.
لقد كان من الضروري التخلي عن النظرة القائلة بأن الأجسام السماوية خالدة وغير قابلة للفساد. فللشمس والنجوم حياة طويلة، ولكنها لا تعيش للأبد. لقد ولدت من سديم وهي في النهاية إما تنفجر أو تموت من البرودة. وليس هنالك في العالم المنظور شيء معفى من التغير والانحلال. وعقيدة أرسطو المقابلة هي في الحقيقة نتاج العبادة الوثنية للشمس والقمر والكواكب، على الرغم من أنها قُبلت من المسيحيين في القرون الوسطى.
علم الحياة
كان أرسطو في هذا الميدان أقرب إلى روح العلم بالمعنى الحقيقي، فقد ألَّف سلسلة من الكتب الهامة في علم الحيوان، وترك لتلاميذه مهمة البحث في علم النبات. وهذه الكتب مؤسسة جزئيًّا على معلومات حصل عليها من الآخرين، وجزئيًّا على أبحاثه الخاصة التي هي ثمرة ملاحظته وتشريحه. وفي هذه الكتب يدرس أرسطو ۵۰۰ نوع من الحيوان تولى هو شخصيًّا تشريح خمسين منها.
وتؤكد كل نصوص أرسطو أن أعماله البيولوجية جاءت متأخرة عن أعماله الفيزيائية، وأنها نتيجة موقف جديد من الطبيعة والملاحظة. وعلى الرغم من أن المعلومات التي تضمَّنتها أبحاثه البيولوجية لم تعد ذات فائدة تذكر اليوم، فإن هذا لا يقلل من أهمية مساهمته القيمة في تصنيف وتشريح الحيوان.
وفي علم الأحياء كانت فكرة العلة الغائية أكثر معقولية؛ إذ إنها التعبير عن تكيف الكائنات الدقيقة في البيئة.
ومع ذلك فإن نظرية العلل الغائية كان لها في علم الأحياء تأثير مضلل. فكل ما يطلبه هذا المبدأ هو تخمين الغرض من عضو معين أو كائنات دقيقة معينة. والفكرة الموجهة لكل أحياء أرسطو هي أن كل شيء في الطبيعة يحاول تحقيق الكمال الممكن، والطبيعة تحقق هذا بدرجات متفاوتة. ولقد أدَّى هذا بأرسطو إلى عمل مقياس تدريجي للطبيعة يبدأ بالمواد المعدنية في أسفله، ثم الخضروات، ثم يصعد أكثر فأكثر إلى الحيوان الكامل، وأخيرًا يأتي الإنسان في القمة. وقد يُظن أن هذا المقياس يعني التطور؛ غير أن هذا وهم كامل. فأرسطو كان يؤكد دائمًا أنه لا يتغير شيء في هذا العالم، وأن الأنواع يجب أن تكون علامات ثابتة أبدية للكمال أو عدم الكمال. لقد عرقلت سلطة أرسطو الضخمة فكرة التطور لأكثر من ألفَي عام.
ومع ذلك فقد كانت فكرة التدرجات المختلفة للكمال سلبية من زاوية أخرى؛ إذ إنها بررت العقيدة بأن بعض الرجال بطبيعتهم سادة، وآخرين بطبيعتهم عبيد. وإذا لم يدرك هؤلاء هذه الحقيقة بشكل طبيعي فلا محالة من الحرب معهم وأسرهم واستعبادهم لكي يدركوا ذلك!
كلمة أخيرة
كيف يمكن أن نقيِّم أرسطو فلسفيًّا وعلميًّا؟
يمكننا أن نقول بشكل عام إنه إذا استبعدنا دور أرسطو في المنطق وعلم الحيوان، فإن نظام أرسطو الفلسفي هو ترشيد كامل رائع لخبرة وموقف المواطن المستريح ماديًّا، في مجتمع تحجرت فيه علاقات الإنتاج واتجه إلى التوسع لتهدئة أزماته. ولا يصنع مثل هذه الفلسفة إلا عقل يجمع بين الإنتاج الضخم والرضا الدائم. وعبقرية هذا النظام ليست في أي جزء منه على حدة؛ فالحقيقة أنه باستثناء مباحث بيولوجية قليلة لا توجد في أي جزء منه أصالة الخالق. ولكن أرسطو استعار ما أخذ من أجود الناس، وعبقريته الخاصة تكمن في كمال نظامه، في اتساقه وترتيبه، وفي الوحدة التي منحها منطقه لكل هذا النظام.
ولتحقيق الشمول قدَّم أرسطو ابتكارًا جديدًا فتح الباب لإمكانيات ضخمة في الحاضر والمستقبل. فبدلًا من أن يؤدِّي كل العمل بنفسه أو يناقشه مع زملائه (كما كان الحال في الأكاديمية) قام أرسطو بتنظيم البحث. وفي اللقيوم جمع تلاميذ أرسطو الشبان المعلومات عن كل شيء تقريبًا: من الأدب إلى دساتير المدن، ومن الحيوانات والنباتات إلى الأحجار، وباشروا البحث عمليًّا بشكل جماعي؛ ولذا قيل إنه إذا كانت الأكاديمية هي أصل الجامعات فإن اللقيوم هو أصل معهد الأبحاث.
لقد كان لأرسطو نفوذ كبير على العالم بعد موته. ويرجع هذا إلى أن أعمال أرسطو — على الرغم من قوة منطقها — لم تكن تحتاج إلى أي شيء لفهمها إلا الذوق الفطري. والواقع أن أرسطو لم يقم بعمل ثورة فكرية في عقول الناس، لم يقل لهم شيئًا لم يكونوا يعتقدونه. ولم يكن الناس في حاجة إلى التجربة أو الأجهزة لمراجعة مشاهدات أرسطو، ولا إلى رياضيات مرهقة لاستخلاص نتائج منها، ولا إلى حدس صوفي لفهم أي مغزى داخلي. لقد فسر أرسطو للناس العالم كما عرفوه بأنه بالدقة العالم كما يعرفونه. وطالما ظل العالم كما هو، وطالما ظل المجتمع كما هو، فإن أرسطو يكفي.
غير أن العالم لم يبقَ كما هو.
يمكننا أن نقول إن الفلاسفة الكبار الثلاثة: سقراط، أفلاطون، أرسطو، يمثِّلون توقفًا أكيدًا لحركة الأفكار التي بدأت بالفلاسفة الأيونيين. ولقد رفضت فكرة تغير الطبيعة وتطورها بسبب أن النظام الاجتماعي كان عاجزًا عن التقدُّم. لم تعد الفلسفة تقدُّمية، وكجزء من رد الفعل لم تعد مادية. فالمثالية في شكلها الصوفي عند سقراط وأفلاطون، أو في شكلها الالتزامي عند أرسطو حلَّت محل المادية. وعلَّمت الفلسفة الناس قبول الحياة كما هي، ولم يعد لديها شيء تقدِّمه لهؤلاء الذين وجدوها غير محتملة، إلا أن تقول لهم بأن آلامهم حتمية، وهي جزء من نظام الطبيعة الكبير. ومثل هذه الفلسفة كانت على وشك أن تصبح عقيدة، ولكنها عقيدة لصالح الطبقات العليا فحسب.