العلم الهيلِّيني
إن مرحلة العلم الهيلِّيني غريبة حقًّا؛ فهي من ناحية مرحلة الإنجازات المدرسية الكبيرة في مجال العلم؛ غير أنها أيضًا مرحلة توقف تدفق الأفكار الفلسفية الخلاقة الخصبة بشكل عام. في هذه المرحلة لم تحدث تحولات ثورية جديدة في الفلسفة بشكل عام، ومع ذلك فإن العديد من الإنجازات العلمية المفصلة المؤسسة تأسيسًا كاملًا لم تُعرف إلا في هذه المرحلة، وبعض المؤرخين يعتقد أن هذا التوقف في الأفكار الفلسفية الخصبة الجديدة هو الذي ساعد على تحقيق هذه الدفعة الجديدة للعلم العملي؛ فقد تم بشكل عام الفصل بين العلم والفلسفة؛ الأمر الذي لم يكن معروفًا من قبل، وكان من شأن هذا الفصل أن يتوفر كثير من العلماء على القضايا العلمية المفصلة دون حاجة إلى شغل أنفسهم بالفلسفة. لقد دخل العالم الهيلِّيني مرحلة التخصص. فإقليدس كان رياضيًّا عظيمًا، ولكنه لم يكن فيلسوفًا. والإبيقوريون أو الشُّكَّاك كانوا فلاسفة، ولكنهم كانوا غير متوفرين على الدراسة العلمية. ولقد قنع أرشميدس أن يهتم بالرياضيات والفيزياء والميكانيكا دون أن يقحم نفسه في عالم الفلسفة. وكان لهذا التخصص نتائج إيجابية في مجال المنجزات العلمية:
ومع ذلك فلا يزال صحيحًا القول بأنه، فيما بين عصر أرسطو وعصر ديكارت وبيكون — لم تتوافر معالجة شاملة كبيرة لمشاكل الطبيعة أو المجتمع كالتي عرفت فيما قبل العصر الهيلِّيني. فلا مدرسيو القرون الوسطى ولا العرب كانوا أساتذة لليونانيين في هذا المجال.
ولا يمكن أن تكون أسباب توقُّف تدفق الأفكار العامة الخصبة في العلم، تعود إلى صفات لدنية عند اليونانيين؛ فاليونانيون المتأخرون كانوا على الأقل في نفس مهارة اليونانيين الأوائل؛ ولذا فمن الضروري البحث عن السبب في المجال الاجتماعي؛ أي في الظروف التي تعوق حركة الإبداع العام، وإن شجعت البحث المفصل في موضوعات علمية محددة ومجالات معينة، وساعدت على تطوير التطبيقات العملية.
ولقد أوضحنا من قبل كيف تم التوحيد القصري لدول المدن المستقلة المتنافسة خلال قرن من سقوط أثينا؛ وبذلك تكونت إمبراطوريات جديدة كبيرة ظلَّت رغم ذلك تأخذ ثقافتها إلى حد كبير من نفس المنبع القديم. وفي هذا تمثَّل التغير السياسي والاقتصادي الكبير.
والحقيقة أن نجاحات فيليب المقدوني وابنه الإسكندر من بعده قد أوضحت كيف أن هذا التغير جاء متأخرًا عن أوانه. فالمدن كان الصراع الطبقي الداخلي قد أنهكها، والغيرة المتبادلة كانت قد قسمت هذه المدن إلى حد جعلها عاجزة عن مقاومة الغزو الخارجي. والنموذج الحديد من الجيوش المرتزقة المدربة والمسلحة جيدًا على يد المقدونيين كان له فوائد جمة؛ فهي تستطيع الذهاب حيثما تريد، وهي في مستوى من التدريب أرقى بكثير من جيوش الإمبراطورية الفارسية القديمة المليئة بالفلاحين غير المدربين.
ومن الناحية الأخرى فإن النموذج اليوناني في الحضارة الذي ورثه المقدونيون قد أثبت أنه أسمى من الحضارات القديمة التي اكتسحها؛ ففي التكنيك والمعرفة والفن والقدرات الإدارية والتنظيمية فرضت الأساليب اليونانية نفسها بما أظهرته من تفوق، وخلف الجيوش اليونانية كان التجار والإداريون اليونانيون يمضون، وعلى الطراز اليوناني شيدت المدن وإن كان معظم سكانها من الناس المحليين. ومن أشهر هذه المدن الجديدة (ولعلها أشدها شهرة وأعظمها) مدينة الإسكندرية عاصمة البطالسة الجديدة.
وعلى الرغم من وصول الإسكندر إلى أفغانستان فإن النفوذ اليوناني لم يتوقف عند هذه الحدود؛ فقد انتشر هذا النفوذ خارج حدود إمبراطورية الإسكندر. وثمة إجماع اليوم بين المؤرخين على أن أول إمبراطورية هندية (إمبراطورية سوكا البوذي) كانت النتيجة المباشرة لغارة الإسكندر. ومع البوذية انتشر شيء من الفن اليوناني والعلم والفلسفة إلى حدود الصين. وفي نفس الوقت كانت هناك حركة مماثلة، وإن كانت مستقلة، في الصين؛ ففي ۲۲۱ق.م. أقام حاكم دول تشين النصف بربرية، بقوة السلاح، أول إمبراطورية صينية من طراز عصر الحديد؛ وأطلق على نفسه اسم الإمبراطور الأسطوري الأول هوانج تي. وعلى الرغم من أن ملكه لم يدم طويلًا، فإن وحدة الإمبراطورية لم تضِع بعد ذلك لمدة طويلة في أي عصر من العصور؛ ففي العصور التقليدية ظلَّت إمبراطورية هان المتحضرة جدًّا تجاور فارس والهند.
ومع ذلك فالكل يُجمع على أننا إذا قارنَّا تأثير الهيلِّينية على الغرب والشرق، فسنجد أن تأثيرها على الغرب كان أشد؛ فقد حلَّت الثقافة الهيلِّينية محل ثقافات بدائية بالنسبة لثقافات الشرق القديمة؛ ومن هنا كان من السهل على الحضارة الهيلِّينية أن الغرب وأن تسوده. وبسرعةٍ تحوَّل رجال العشائر اللاتينية إلى هيلِّينيين نتيجة تأثرهم جزئيًّا بثقافة الأستروخان (الذين جاءوا من آسيا)، وتأثرهم جزئيًّا باليونانيين المستعمرين للمدن الساحلية. وعندما قامت مدينة روما بطرد ملوكها الأستروخان برهنت أنها أقوى من المدن الأخرى، وشيئًا فشيئًا ومن خلال تاريخ سياسي داخلي عاصف لمع نجم مدينة روما؛ استطاعت أن تسيطر على كل المنطقة، وبذا نشأت الإمبراطورية الرومانية.
لقد تم انتشار الهيلِّينية على حساب تطورها الحضاري الداخلي. فقد تجمدت المنجزات اليونانية في الفن والدراما والأدب والسياسة. وعلى الرغم من ازدهار النقد الأدبي فإنه في الحقيقة لم يظهر شيء عظيم وجديد. أما في الفلسفة فلم يكن هناك خلفاء حقيقيون لمدارس ديموقريطس وأفلاطون وأرسطو. والحقيقة أن الفلسفة لم تكن قد انفصلت عن العلم فحسب، بل كانت قد انفصلت عن الحياة السياسية والاجتماعية أيضًا بعد موت الإسكندر، وتحولت الفلسفة إلى علم الأخلاق تقريبًا. وصحيح أنه كان في إمكان المواطن الحر الغني أن يزداد غنًى وثراء، ولكنه لم يعد قادرًا على المشاركة في حكم الدولة إلا كمنحة من القصر. وأصبح شاغل الفلسفة هو التوفيق بين الإنسان العاجز سياسيًّا وبين مفاجآت الحياة في عالم ممزق من الناحية العسكرية، ومضطرب من الناحية الاقتصادية:
في مثل هذه الظروف كان من الطبيعي أن يهزَّ الهازئون والشُّكَّاك أكتافهم. أما الرواقيون فقد أبدوا لامبالاة تقوم على أساس الإيمان بالقيمة اللدنية للفضيلة، وبعالمٍ يحكمه قدرٌ ثابت حددته النجوم. ولقد حثَّ الإبيقوريون الناس على أن يحققوا أفضل ما يمكن من الحياة، وأن يمارسوا الفضيلة كأضمن طريق إلى اللذة، وألا يشغلوا بالهم بالآلهة الذين يعيشون بعيدًا عن هذا العالم؛ عالم الذرات المتحركة. لقد كانت المدرسة الإبيقورية ومضة ضوء في ظلام المدارس الفلسفية للعصر الهيلِّيني. ومع ذلك فقد انتصرت في النهاية فلسفات الظلام واليأس والإحساس بعجز الإنسان. وشيئًا فشيئًا انتهت الفلسفة إلى الصوفية والأفلاطونية الجديدة التي يمكن أن تسمى بحقٍّ ديانة الطبقات العليا المثقفة، والتي مهدت بعد ذلك لظهور المسيحية.
لقد كان تطوُّر العلم الطبيعي، لبضعة قرون، هو الاستثناء الوحيد في التدهور الفكري العام. وهذه الظاهرة الغريبة (ظاهرة تفجُّر ملحوظ في مجال العلم) كان لها أسبابها. ومن ذلك النتائج الاقتصادية والتكنيكية التي ترتبت على غزوات الإسكندر وفتوحه. فثمة سوق جديد واسع للتجارة اليونانية، وكان من شأن هذا السوق تخفيف الأزمة المزمنة لدولة المدن اليونانية، وهي أزمة سِمتها الأساسية انخفاض استهلاك المجتمع للسلع؛ بسبب بؤس العبيد والفقراء، وهم يكوِّنون غالبية المجتمع. ولقد ظل سوق التصدير للبضاعة المصنوعة (الفضة المنقوشة والفخار، والزجاج المنفوخ، وورق البردي، والمنسوجات المنقوشة بدقة) مقصورًا على طبقات معينة، إلا أنه كان من الكبَر بحيث سمح بإنتاج هذه البضاعة بكميات كبيرة نسبيًّا لحاجة الطبقات الغنية إليها وتوزُّع هذه الطبقات جغرافيًّا. وفي مثل هذه الظروف ظهرت مدن صناعية جديدة تستخدم في معظم الأحيان عمالًا مأجورين بدلًا من العبيد. ولقد جندت المناطق الكبيرة الخاضعة لحكومة واحدة تجارة بحرية محدودة في الضروريات، مثل القمح، لتغذية السكان غير المرتبطين بالزراعة. وكان من شأن هذا تحقيق تحسينات تكنيكية في الصناعة وفي الزراعة أيضًا؛ حيث استُخدم العبيد على نطاق واسع. وحول هذه التحسينات، ونتيجة تشجيع الحكام لها، تمت التطورات العلمية الهامة. ليس هذا فحسب بل إن حالة الحرب بين الإمبراطوريات كانت من أهم دوافع تحسين التكنيك والبحث عن آلاتٍ أشدَّ تعقيدًا تُستخدم في الهجوم على أسوار المدن أو في محاصرتها وتجويعها.
لقد نشأ حكام الدول الهيلِّينية المقدونيون في جوِّ هيبة المعرفة اليونانية، على عكس الرومانيين الذين أتوا بعدهم؛ ولذا سمح المقدونيون لمستشاريهم العلميين بالبحث في كل فروع العلم، وشجعوا ذلك، وكان المستفيد الأول من هذا هو العلم اليوناني لا الأدب أو الفلسفة.
اللقيوم بعد أرسطو
عندما مات أرسطو خلَفه في رئاسة اللقيوم ثيوفراستوس، ثم ستراتو. ولقد كان الاثنان من أهم علماء عصرهما: أولهما تميز ببحثه في علوم الحياة، والثاني تميز بالبحث العلمي الخصب في الفيزياء. وبعد موت هذين العالمين الكبيرين، فقَد اللقيوم قيمته العلمية وإن لم ينتهِ إلا بعد أن أسلم الشعلة لمتحف الإسكندرية. وفي الفترة بين اللقيوم والمتحف — أي من أرسطو إلى هيبارخوس — تقدَّمت في بحر مائتي عام سلسلة من الأبحاث العلمية المنظمة في مختلف الفروع من نبات وفيزياء وتشريح وفسيولوجيا ورياضيات وميكانيكا وجغرافيا رياضية.
وعندما مات أرسطو ترك لتلاميذه مجموعة ضخمة من المعرفة في الفيزياء والميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والسياسة وعلم الأحياء، كما ترك لهم تقاليد في البحث العلمي المنظم ومكتبة ومعملًا، وتقاليد ازدهرت في آخر أيام حياته في الملاحظة المباشرة والبحث الجماعي وحرية الفكر. وبعد وفاة أرسطو ظهرت آراء مختلفة اللقيوم حول ما إذا كانت الحياة أو الفكر النظري هي المجال الواجب للدراسة. ويبدو أن الاتجاه الأول هو الذي انتصر على يد ثيوفراستوس، ثم على يد ستراتو بعد ذلك.
لقد عاش ثيوفراستوس خمسة وثلاثين عامًا رئيسًا لللقيوم بعد أرسطو. وتُعتبر هذه الفترة من أخصب فترات المدرسة الأرسططالية. فلم يكن ثيوفراستوس امتدادًا لأرسطو، وإنما علمًا مجددًا خالف أرسطو في عديد من أفكاره وتمرد عليه، وعرف عنه اهتمامه الشديد بالجانب التجريبي. كان ثيوفراستوس يميز بين دراسة المبادئ الأولية (أي الميتافيزيقا) وبين دراسة الطبيعة التي كانت تسمى الفيزيقا. وعنده أن الطبيعة متعددة وغير منتظمة، وتعتمد دراستها على الحواس. أما المبادئ الأولية فمحددة وغير متغيرة؛ لأنها تتعلق بقضايا العقل التي هي بدون حركة أو تغير. ولقد كان الأوائل يعتقدون أن الدراسات الثانية أسمى من الأولى، غير أن ثيوفراستوس تمرد على هذا الاتجاه.
هذا هو المبدأ الأرسطاطالي؛ غير أن ثيوفراستوس كان مترددًا في قبوله. وهو يبدأ بالسؤال عما إذا كان هناك مبادئ أولية غير الرياضيات، وهو يجيب على ذلك بالنفي، ثم ينتقل إلى سؤال آخر: وهل مبادئ الرياضة كافية؟ على هذا السؤال أيضًا يجيب بالنفي لسببين هامَّين: فالمبادئ الرياضية مهما بدت مجردة فهي في نهاية الأمر نتاج بشري، وهي أيضًا تبدو عاجزة عن منح الأشياء الحياة والحركة. ولهذا الاعتراض الأخير أهمية خاصة؛ إذ إنه يؤدِّي إلى تخمينات هامة تمس جذور الفلسفة المثالية. فالفلسفة المادية — فيما قبل سقراط — كانت تعتبر الحركة أسلوب وجود المادة، وأفلاطون كان يقول بأن المادة، جوهريًّا، قاصرة، وأن حركتها تحتاج إلى تفسير. ولقد حاول أبو المثالية تفسير الحركة فقام بسد ثغرة من جانب، وإن كان قد فتح ثغرة أخرى من جانب آخر؛ فقد ادعى أفلاطون أن الروح هي سبب الحركة مدخِلًا بهذا المفهوم الثنائي الذي تعتمد عليه كل فلسفة مثالية في نهاية الأمر؛ غير أن أفلاطون بمقولته هذه أثار فورًا السؤال الآتي: كيف يمكن أن تكون الروح — وهي نفسها ساكنة — مصدر الحركة في أشياء أخرى؟ لقد حاول أرسطو حل هذه العقدة قائلًا بأن الروح تجذب المادة بنفس الطريقة التي يجذب بها الشخص المعشوق عاشقه. وكل حركة ونشاط للطبيعة ليس إلا جهد المادة للاقتراب من الروح. والكواكب في السماء، بهذا المعنى، تتحرك بالعشق الإلهي.
ويأتي ثيوفراستوس مستعرضًا تفسير أرسطو رافضًا إياه، وهو يسأل بدوره عما إذا كانت ثمة حاجة إلى تفسير حركة السماوات. إنه في الواقع يعود إلى وضع ما قبل سقراط.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة المبدأ الغائي عند أرسطو ذاته مناقشة المعترض. إنه يسأل نفسه إذا كانت العلة الغائية هي المبدأ الأساسي لنشاط الطبيعة فما هو الغرض من الفيضانات والقحط؟ وما هي فائدة الثديين عند الذكر أو الشعر في بعض أجزاء الجسم؟ يقول ثيوفراستوس: «يجب أن نضع حدًّا لفكرة العلة الغائية. وهذا هو الشرط الضروري لكل بحث علمي في الكون؛ أي في شروط وجود الأشياء الحقيقية وعلاقاتها بعضها ببعض.»
ولقد ركَّز ثيوفراستوس أعماله العلمية وأبحاثه في مجال علم النبات، وكان أرسطو من قبل قد ركَّزها في علم الحيوان، وعندما كتب كتابه الأول «علل النباتات» كان متأثرًا بنظرية العلة الغائية عند أرسطو؛ ولذا فمؤرخو العلم يقولون بأن هذا الكتاب ليس له قيمة علمية كبيرة. أما كتابه الثاني «تاريخ النباتات»، فقد كتبه بعد معارضة أرسطو؛ ولذا فهو العمل الأشد قيمة.
وليس من شك في أن أكبر مساهمة لثيوفراستوس في المعرفة تكمن في الحد الحاسم الذي وضعه بين مملكة الحيوان ومملكة النبات. لقد قال أرسطو إن الحيوان يهبط من الإنسان؛ ولذا فمن الطبيعي أن يكون النبات مشتقًّا من الحيوان. ومن هنا كانت نظرية أرسطو في علم الأحياء لا تتضمَّن تفرقة حاسمة بين النبات والحيوان. ونحن نعرف اليوم أن أرسطو كان على حق في مقارنة الوظائف في عالمَي الحيوان والنبات، ولكنه كان مخطئًا في عقد مقارنة مورفولوجية بين الاثنين.
لقد أوضح ثيوفراستوس في كتاب تاريخ النباتات الفرق الحاسم بين أجزاء النبات وأجزاء الحيوان. فالأخيرة دائمة إلا إذا فُقدت بالمرض أو البتر، أما أجزاء النباتات كالورق أو الزهر أو الثمرة، فتتجدد وتموت كل سنة.
ولقد أبدى ثيوفراستوس شكه في نظرية العناصر الأربعة الشهيرة، وهي التي تقوم على أن كل عنصر من العناصر الأربعة يشترك مع كل عنصر آخر في صفة من الصفات، وهذه الفكرة كانت أساسية لتفسير تحوُّل كل عنصر إلى آخر. غير أن ثيوفراستوس رفض هذا الموقف مؤكدًا امتياز النار على العناصر الأخرى. فالنار هي العنصر الوحيد الذي يولد نفسه ويستأصل نفسه أيضًا، على عكس العناصر الأخرى العاجزة عن ذلك. والنار أيضًا، على عكس العناصر الأخرى، في حاجة إلى وسط لكي تتواجد. ومن الواضح أن ثيوفراستوس، في تقريره هذه الحقائق، كان يعتمد على الملاحظة والمشاهدة والصلة الوثيقة بالتكنيك.
بقيت كلمة أخيرة عن العالم الكبير الآخر ستراتو.
ولد ستراتو في لامبساكوس، وعاش بعض الوقت في قصر الملك بالإسكندرية قبل أن يُستدعى لرئاسة اللقيوم في أثينا، وظل في هذا المنصب من ٢٨٧ إلى ٢٦٩ق.م.
قبل أن ندخل في تفاصيل عرضنا هذا، هناك قضية عامة ينبغي مناقشتها؛ ونعني طبيعة الفراغ؛ فبعض الكتَّاب ينكرون بشدة وجوده، وآخرون يقولون بأنه في الظروف العادية ليس هناك شيء اسمه الفراغ المتصل، وإن كانت هناك فراغات صغيرة موجودة في حالة انتشار في الهواء والماء والنار والأجسام الأخرى. وهذا هو الرأي الذي نعتقده.
ويمضي ستراتو بعد ذلك في شرح بعض التجارب لتأكيد وجهة نظره، ولتوضيح — في نفس الوقت — أن الهواء مادة وليس فراغًا، وأن القول بأن الآنية الفارغة فارغة حقًّا أمر زائف؛ إذ إنها تحتوي على الهواء الذي هو مادة.
ولقد استخدم ستراتو هذه النظرية عن الفراغ لتفسير انتشار الضوء، «فإذا كان الفراغ غير موجود، فلن يستطيع الضوء أو الحرارة أو أي قوة مادية أخرى النفاذ في مادة الماء أو الهواء أو أي جسم آخر. فكيف يمكن مثلًا تفسير أن أشعة الشمس تصل إلى قاع الإناء المملوء بالماء؟»
متحف الإسكندرية
إن متحف الإسكندرية بمنجزاته العلمية، هو المساهمة الأساسية الجوهرية للعصر الهيلِّيني. ويميل كثير من المؤرخين إلى أن مساهمات العلم اليوناني الكبرى قد اشتقَّت من الأعمال التي تمت في المرحلة الهيلِّينية المبكرة؛ أي مرحلة الإسكندرية (۳۳۰–۲۰۰ق.م.). وفي هذه المرحلة كان العلم اليوناني على اتصال مباشر مشاكل وتكنيك وعلم الحضارات الآسيوية القديمة: مصر والعراق، وإلى حدٍّ ما الهند أيضًا.
وقبل متحف الإسكندرية لم تعرف البشرية أي محاولة واعية متدبرة في اتجاه تنظيم العلم وتمويله في كافة فروعه. وعلى الرغم من تقدير دور الأكاديمية ودور اللقيوم فإن المتحف هو أول مؤسسة أبحاث تحتضنها الدولة وتنفق عليها. ومن المقطوع به أن متحف الإسكندرية لم يصنع في مجال الفن والأدب شيئًا ذا بال، وانصرف همه في هذا المجال إلى المحافظة على النصوص القديمة. أما في مجال العلم فقد ساهم المتحف في تطويره أكثر من أي مؤسسة فردية قبله أو حتى بعده إلى اليوم.
وإذا قيَّمنا الإنتاج العلمي للمتحف بالإضافة إلى أعمال مراسليه في بقية العالم (مثل أرشميدس) لوجدنا أنه أكثر تخصصًا من أي شيء سبقه أو لحقه بألفَي عام. وهذا التخصص، بما أدَّى إليه من إنتاج، هو تعبير عن عزلة المواطن اليوناني واغترابه اجتماعيًّا بدرجة لم يسبق لها مثيل. لقد أصبح عالم العلم كبيرًا إلى الحد الذي سمح بظهور مجموعة ممتازة صغيرة ذات كفاءة نادرة في الرياضيات والفلك، مجموعة متخصصة إلى درجة أن المواطن العادي التعليم كان عاجزًا عن قراءة أعمالها أو فهمها. ولقد ترتب على هذا مزيد من العزلة للعلماء، وأصبحوا وكأنهم شيء مستقل في ذاته عن الطبقات وعن مشاكل المجتمع. وإلى حدٍّ ما كان لهذا الوضع فوائد مباشرة، فقد ساعد العلماء على الدخول في مناقشات دقيقة ومعقدة دون رقابة من الرأي العام أو رجال الدين. ومن خلال النقد المتبادل أمكن لهؤلاء العلماء أن يحققوا تقدُّمًا سريعًا وضخمًا. ولقد كانت الطبقات العليا تنظر إلى أعمال متحف الإسكندرية باحترام مشوب بالخوف والشك.
ومع ذلك فقد كان من المستحيل أن يكون الاستقرار هو طابع مثل هذا التقدُّم. فكل الجهود العلمية توقفت إلى حدٍّ كبير على رعاية دولة مستنيرة وملك عاقل يدرك أهمية العلم ويشجعه. وعندما انتهت هذه الرعاية انهار إلى حدٍّ كبير نظام التعلم. ولما كان العلم اليوناني يفتقد الجذور الحية خارج المدينة الكبيرة انزوى في أركان النسيان، على الرغم من الكتابات القليلة ذات الأهمية الحيوية التي أعادها عصر النهضة إلى النور من جديد.
ولقد اتبعت الاتجاهات الرئيسية لإنتاج المرحلة المبكرة من العلم الإسكندري، خطوات أرسطو ومدرسته. والحقيقة أن من الممكن اعتبار متحف الإسكندرية في أوله الفرع الرئيسي للقيوم؛ هذا الفرع الذي تفوَّق على الأصل بما مُنح من امتيازات. ولقد تولى ستراتو التدريس في أثينا والإسكندرية معًا.
على أن مدى البحث في المتحف لم يُحط من الناحية الفعلية بكل برنامج أرسطو الواسع الطموح؛ فاهتماماته النيولوجية وفي العلوم الاجتماعية لم تتطور إلى أبعد حد إلا على يد ثيوفراستوس الذي أنجز في علم النبات ما أنجزه أرسطو في علم الحيوان.
ولقد تمت الدراسة الواسعة على وجه الخصوص وتركزت في علوم الفلك والضوء والميكانيكا. وبدلًا من انشغال أرسطو بصياغة قوانين المنطق الشكلي، تم تطوُّر سريع في الرياضيات في الاتجاه الأفلاطوني. وكان شاغل هذا الاتجاه أساسًا الجمال الداخلي للأشكال المثالية وضرورة فرض هذه الأشكال على عالم المشاهدات. ومع ذلك فقد كان من الممكن استخدام هذه الرياضيات على مستوى أدنى لتقديم وصف فلكي أكثر دقة، وتحويل الميكانيكا وعلم الضغوط الهوائية واستاتيكا السوائل إلى علوم دقيقة. وهذا ما تم فعلًا.
وإذ تحسنت الأدوات العلمية واتسع مدى التجربة، كان من الطبيعي أن يتم التخلي عن الحدس الأفلاطوني الفج، وعن مبدأ العلة الغائية، بل وحتى عن النظرية الأرسططالية في الحركة التي جعلت الفراغ أمرًا مستحيلًا. وأعيد شيءٌ كثير من نظرية ديموقريطس الذَّرِّية التي كانت قد رُفضت في عناد. ولو قُدِّر لبويل أن يعرف آراء ستراتو لوجد أنه يتفق معها تمامًا، ولكنه لم يتعلمها قط. وباستثناء الرياضيات، ضاع معظم الفكر المتقدِّم للعصر الهيلِّيني. ويرجح برنال أن السبب في هذا هو عزلة علماء الإسكندرية وأثينا وسيراكوس اجتماعيًّا وإيديولوجيًّا. لقد بعد العلماء عن التيار الرئيسي لاهتمامات العصر الذي تميَّز بالأزمات والتدهور الفكري. ولم تنتشر أفكارهم المتقدِّمة بل نُسيت باستثناء الفلك؛ إذ كانت الحاجة إليه قائمة وملحَّة؛ للأغراض العملية وللتنجيم على وجه الخصوص. وفي نفس الوقت حافظ العصر على أفكار أرسطو وأفلاطون التي كانت أشد قربًا للذوق الفطري على الرغم من أنها كانت غير علمية.
الرياضيات (إقليدس)
ومن الأشياء الأشد مغزى في النهاية، التفصيل الذي قدَّمه أبولونيس (۲۲۰ق.م.) في دراسة أنماط من منحنيات الدرجة الثانية المعروفة باسم القطاعات المخروطية (القطع الناقص والقطع الزائد والقطع المكافئ). ولقد كان عمل أبولونيس من الكمال بحيث أخذه كبلر ونيوتن دون تغيير بعد ذلك مما يقرب من ألفَي عام، وطبقاها على مسارات الكواكب في السماء. ويهمنا هنا أن نشير بإيجاز إلى أن نقطة البدء في تعريف أبولونيس للقطاعات المخروطية هو المخروط ذاته؛ ففي تعريف أبولونيس للمخروط قدَّم فكرة أنه يتولد من حركة خط مستقيم حول نقطة ثابتة عليه بحيث يدور طرفاه في دائرتين. وتتحدد القطاعات المخروطية على اعتبار أنها مقاطع مستويات مختلفة للمخروط. وهذا التعريف للقطاعات المخروطية يختلف عن التعريف التقليدي القائم على أساس دوران مثلث حول أحد أضلاعه. ويمتاز تعريف أبولونيس بأنه يعطي فرعَي القطع الزائد لا فرعًا واحدًا كما هو الحال في التعريف الأول؛ إذ وفق تعريف أبولونيس يكون لدينا مخروطان لا مخروط واحد.
على أن أهم منجزات الرياضيات تتحدَّد في تنظيم وتقنين الهندسة على يد إقليدس. لقد كان الفكر والربط المنطقي معروفًا من قبل. والحقيقة أن منطق أرسطو هو نسخة مكتوبة بالكلمات للطريقة الهندسية في البرهان، ومع ذلك فإن ربط جزء كبير من المعرفة الرياضية في بناء واحد من الاستنباط الذي يبدأ من الفروض لم يُعرف قبل إقليدس. ولقد كانت قيمة هذا بالنسبة للرياضة كبيرة جدًّا، كما يتضح من حقيقة أن إقليدس ما زال بصورة أو بأخرى أساس تعليم الهندسة حتى يومنا هذا.
لقد تضمَّن كتاب إقليدس «الأصول» تعريفات وفروضًا، ثم مصادرات تنبني على أساسها نظريات الهندسة. وقد بدت هذه المصادرات من الوجهة العملية غير قابلة للمناقشة؛ ولذا كان على البشرية أن تنتظر إلى القرن التاسع عشر حتى يظهر رجال هندسة جدد يتشككون في هذه المصادرات ويستغنوا عن المصادرة الخامسة الخاصة بالخطين المتوازيين.
وينقسم مبحث إقليدس إلى عدة كتب؛ الأربعة الأولى منها مخصصة للهندسة المستوية، والكتب ٧، ٨، ٩ تتعلق بالحساب وتختص كلها بالأعداد النسبية، وتتعلق الكتب ١١، ١٢، ١٣ بهندسة الفراغ. أما الكتب ٥، ٦ فيُعتقد أن إقليدس بذل جهدًا خاصًّا فيها، وهي خاصة بنظرية التناسب، وإن كانت تتضمَّن عدة قضايا هي عبارة عن تطبيقات على المساحات، وهي في الواقع الحل الهندسي لمعادلات جبرية من الدرجة الثانية في شكلها العام. ويُعتبر الكتاب العاشر أكمل الكتب، وهو مؤسَّس على طريقة الاستغراق، وكان هذا بدءًا للطريقة التي اتبعها أرشميدس. وهذا الكتاب مكرس كاملًا للأعداد غير العقلية، وكان له بالذات تأثير في تاريخ الرياضة وخصوصًا على الرياضيين الإيطاليين في عصر النهضة. وإذا كان ثمة عيب في هذه الطريقة فهو أنها هندسية، ولا تؤدِّي إلى سبيل عملي لحساب الأرقام اللاعقلية.
على أن القضية الخطيرة التي أثارها ديوفانتس هي قضية المعادلة:
والمسألة الهامة المطروحة هنا هي إذا كانت ع، س، ص أعدادًا صحيحة موجبة فهل يمكن أن تتحقق هذه المعادلة على أساس أن تكون عددًا صحيحًا موجبًا؟
الفلك الهيلِّيني
لقد وقفت دراسة الفلك في موقفٍ وسط بين الدراسة النظرية والعملية. فوفقًا لأفلاطون كان الفلك هو دراسة عالم مثالي في السماء، عالم يناسب كرامة الآلهة التي تعيش هناك. وإذا لاحظ الإنسان انحرافات فعلية في السماء الحقيقية عن الأوضاع المثالية، فعليه أن يتجاهلها، أو أن يفسرها بما يتفق مع هذه النظرة. ومن ناحية أخرى فقد اقتضت أهمية السماء وما ارتبط بها من أعمال التنجيم (التي انتشرت بشكل واسع في مجتمع متدهور من الناحية الفكرية) معرفة مواقع النجوم وأوضاع الكواكب بدقة أملًا في أن يفر الإنسان من القدر الذي تفرضه عليه نجوم السماء. ونتيجة هذه النزعة انشغل الفلك الهيلِّيني إلى حدٍّ كبير في محاولة وضع أفكار فلكية معقدة توائم بين المشاهدات وبين البساطة والجمال. ولقد شجع هذا الاتجاه التوفيقي تطوُّر كلٍّ من الرياضيات والمشاهدات الطبيعية.
ولقد كانت كرات إيدوكسس هي الأساس الرياضي لعلم الفلك. ولكن في العمل الفعلي كان من الأسهل اعتبار حركة الكواكب في مستوًى بدلًا من كرة. ويلاحظ على مثل هذا الفلك أنه هندسي لا ديناميكي. فلم يكن لدى اليونانيين القوة بالمعنى النيوتوني. وبظهور نيوتن وفكرة الجاذبية دخلت في الفلك وجهة نظر أقل هندسية وأكثر ديناميكية. ومن الغريب أن نلاحظ اليوم عودة إلى وجهة النظر الهندسية في الفلك إثر انتصار النظرية النسبية العامة لأينشتين الذي استبعد منها مفهوم القوة بالمعنى النيوتوني.
لقد تمت التطورات اليونانية الفلكية المشار إليها على يد أعظم فلكيي المشاهدة القدماء هيبارخوس (۱۹۰–۱۲۰ق.م.) الذي اخترع معظم الأجهزة الفلكية المستخدمة بعد ذلك لمدة ألفَي عام، وهو أيضًا أول من جمع كتالوجًا للنجوم. وعلى الرغم من أن نظامه الفلكي كان أكثر دقة من إيدوكسس، فإنه كان أكثر تعقيدًا. وقد أزال بهذا النظام آخر خيط من خيوط التفسير الميكانيكي. وأصبح الفلك في الصورة التي قدمها بطليموس بعد ذلك بمائتي عام (٩٠–١٦٨ب.م.) هو الفلك القياسي، حتى لقد كان مقبولًا لأنه حوَّل ببساطة كل الصعوبات من الأرض إلى السماء، حيث لا يوجد شيء يلزمنا بتوقع انطباق قوانين الميكانيكا هناك. أما الاتجاه المغاير — وهو أن الأرض هي التي تدور — فلم يضِع أبدًا. لقد أيده بقوة هيراقليطس، ثم أخذ أرستارخوس (۳۱۰–۲۳۰ق.م.) الخطوة المنطقية الأخيرة عندما تجرأ ووضع الشمس، لا الأرض، في مركز الكون. وعلى الرغم من شهرة هذا الرجل وسمعته العلمية الضخمة فإن اليونانيين لم يتقبلوا نظامه قبولًا حسنًا؛ إذ ظُن أنه كفرٌ وسخيف فلسفيًّا، ومخالف للخبرة اليومية. ومع ذلك فقد ظل نظام أرستارخوس هرطقة عنيدة، انتقلت إلى العرب، وأحياها كوبرنيكس، ثم فسَّرها جاليليو وكبلر ونيوتن دنياميكيًّا.
الجغرافيا العلمية
لقد وسعت غزوات الإسكندرية حدود العالم المعروف لليونانيين. ولكنهم توقفوا عند هذه الحدود؛ إذ لم يكن هناك دافع اقتصادي لاكتشافات أوسع إلى الشرق أو إلى الغرب، إذا استثنينا رحالة قلائل معزولين مثل بيتياس (من مارسيليا ۳۳۰ق.م.) وظل هذا هو الوضع حتى عصر النهضة. ولقد جعل ضعف الاهتمام برحلات المحيط من الفلك البحري الدقيق أمرًا غير ضروري؛ فرحلات الشاطئ يمكن إنجازها جيدًا بمعلومات بسيطة عن النجوم.
ولقد ظل علم الضوء نتاجًا بسيطًا للفلك، فلم يصنع القدماء عدسة أبدًا؛ إذ كان زجاجهم مليئًا بالشوائب أكثر من اللازم، كما كانت مادة الكريستال نادرة جدًّا. ولقد تطورت دراسة الانعكاس في المرايا إلى حد تحضير المرايا الوهمية والحارقة، ولكنها لم تكن ذات نفع جادٍّ. ومن ناحية أخرى استخدم فن قياس الزوايا بالرؤية في علم المساحة. وعلى الرغم من ذلك لم يدرك اليونانيون الإمكانيات الضخمة لهذه العلوم التي كان عليها أن تنتظر حتى النهضة لكي تأخذ دفعة جديدة.
الميكانيكا الهيلِّينية (أرشميدس)
لقد تمثلت أكبر مساهمة في العلوم الطبيعية في علم الميكانيكا، وربما جاء الدافع الأول من الجانب التطبيقي. لقد وصلت المهارة اليدوية وخصوصًا في التعدين إلى مستوًى عالٍ قبل الإسكندر، منتقلة من بلاد كمصر وسوريا إلى أرض اليونان. وإذ توفرت موارد خامات ضخمة لدى اليونانيين أمكن استخدام هذه المهارة لعمل تحسينات جوهرية في كل الآلات، ولا سيما آلات الري وقياس الأوزان وبناء السفن وماكينات الحرب. ونحن نعلم أن حصادًا كبيرًا من التصميمات الجديدة للآلات قد ظهرت حوالي القرن الثالث قبل الميلاد. أما مصدره فما زال غامضًا. وربما جاء اكتشاف الغزاة لآلات مطورة تقليديًّا على يد الحرفيين المحليين، ثم ازداد تطويرها بعد ذلك إلى حدود أبعد على يد الفنيين اليونانيين المتعلمين. وقد لوحظ مرة أخرى هذا التأثير المتبادل بين المهارة التقليدية الصحيحة والمفيدة عمليًّا وبين الحساب الدقيق والفكر العلمي في عصر النهضة. ويرجِّح برنال أن خبرة البكرة المركبة والتروس إنما جاءت من أعمال الري القديمة، أما المسمار القلاووظ فيبدو أنه اختراع أشد مهارة وتعقيدًا، وربما كان لأحد الرياضيين يد فيه. وبالتأكيد لا بد أن لكل الأساطير عن آلات أرشميدس الحربية التي ابتكرها للدفاع عن مدينة سيراكوس بعض الأساس، على الرغم من أن بلوتارخ قال عنه: «لقد كان أرشميدس ينظر إلى عمل المهندس وكل شيء يتعلق بضرورات الحياة كشيء غير نبيل وهمجي.»
إن أرشميدس هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ الرياضيات اليونانية والميكانيكا، وهو آخر العلماء اليونانيين الخلاقين حقًّا. وما زال بعض كبار الرياضيين في العالم اليوم يعتبرونه واحدًا من أعظم أربعة عرفهم تاريخ البشرية في العلوم الرياضية.
وُلد أرشميدس في عام ۲۸۷ق.م. في سيراكوس (صقلية)، وذهب وهو صغير إلى الإسكندرية، وكان إقليدس قد مات. واتصل بعديد من العلماء بقسم الرياضة بالمتحف، وبعد رجوعه إلى سيراكوس ظل على صلة وثيقة بالمتحف. ولقد كان أرشميدس قريبًا لهيرو الثاني (آخر طغاة سيراكوس)، وساهم مساهمة كبيرة في الدفاع عن هذه المدينة ضد الغزو الروماني. وبينما كان يحل مسألة رياضية على الرمال قتله جندي روماني لم يكن يعرف (أو لم يكن يعنيه أن يعرف) ماذا يفعل أرشميدس.
إن معظم أعمال أرشميدس العبقرية لم تطوَّر في العصور الكلاسيكية، ولم يتم تقديرها إلا في عصر النهضة. ولقد ظهرت الطبعة الأولى لأعمال أرشميدس في عام ١٥٤٣م. ومع أن ذكراه مرتبطة بمبتكراته الميكانيكية فإن مكشفاته الميكانيكية العملية لم تلعب أبدًا إلا دورًا ثانويًّا في حياته العلمية. والأمر المؤكد أن أرشميدس لم تكن له عقلية المهندس بقدر ما كانت له عقلية الرياضي والفيزيائي العبقري. وفي هذا المجال لا بد من أن نورد باختصارٍ القصة الشهيرة التي توضح عبقريته في الفيزياء؛ فقد أراد ملك سيراكوس أن يقدم تاجًا ذهبيًّا إلى الآلهة في المعبد، فاتفق مع أحد الصناع الممتازين على إنجاز هذا العمل وأعطاه الذهب المطلوب موزونًا، وفي الموعد المطلوب سلَّم الصانع التاج للملك، ولما وزن التاج وجد أنه يساوي تقريبًا وزن الذهب الذي أعطاه الملك للصانع. ولكن عندما اختبر التاج وجد أن الصانع احتفظ بجزء من الذهب ووضع فضة بدلًا منه. واستاء الملك، وبحث عن طريقة يثبت بها غش هذا الصانع. ومن هنا طلب الملك من أرشميدس أن يقدم له دليلًا حاسمًا على هذا الغش. واحتار أرشميدس وظل يفكر في هذه المسألة حتى كان يوم من الأيام؛ إذ لاحظ أرشميدس وهو يستحم أنه كلما غاص في الماء، فاض الماء على الجوانب؛ ولذا عمد أرشميدس إلى عمل كتلتين من نفس الوزن: إحداهما من الذهب والثانية من الفضة. وبحث أرشميدس كمية الماء المُزاح عندما يضع كلًّا من الكتلتين في الماء فوجد أن كمية الماء المُزاح في الحالة الأولى تختلف عن كمية الماء المُزاح في الحالة الثانية. وبهذه الفكرة استطاع أرشميدس قياس كمية الفضة المضافة على التاج.
ومن الأعمال الهامة والاكتشافات العبقرية لأرشميدس، اكتشافه الخاص بالعلاقة بين حجم الكرة وحجم الأسطوانة. ويقال إن اعتزاز أرشميدس بهذا الاكتشاف وصل إلى حد أنه أوصى بأن يُرسم على قبره كرة داخل أسطوانة. وقد أثبت أرشميدس أن النسبة بين حجم الأسطوانة والكرة المرسومة بداخلها هي ٣: ٢، كما بحث قضية الحجوم الدورانية لمعادلات الدرجة الثانية. وفي الهندسة المستوية أنجز بحثًا آخر اسمه «حول قياس الدائرة»، وآخر عن المنحنى الحلزوني، ويقوم جوهريًّا على دراسة المنحنيات التي تتحدد بالمحل الهندسي لنقطة تتحرك بشكل منتظم على خط مستقيم يدور حول نقطة ثابتة. كذلك بحث أرشميدس مشكلة تربيع القطع المكافئ، ويقال إنه استخدم من أجل ذلك طريقة ميكانيكية توصَّل إليها من خلال أبحاثه في الاستاتيكا. وهذا يبين وحدة المنهج عند أرشميدس في الجمع بين الهندسة والميكانيكا.
في مطلع القرن العشرين، وعلى وجه التحديد عام ١٩٠٦م اكتُشفت في القسطنطينية إحدى رسائل أرشميدس الهامة وعنوانها «نظريات ميكانيكية موجهة إلى إيراتوستن»، ويقول فيها:
غالبًا ما اكتشفت عن طريق الميكانيكا قضايا أثبتها فيما بعد عن طريق الهندسة.
والطريقة ذاتها لا تمثِّل برهانًا محكمًا حقيقيًّا بقدر ما تمثِّل محاولة أخذ فكرة قبل التعرض للبرهان. وقد تنبأ أرشميدس في رسالته أنه بهذا المنهج سنكون قادرين على اكتشاف نظريات لم يستطع اكتشافها هو. وبهذا وضع أرشميدس في الحقيقة جوهر التكامل وقام بحلها.
ونظرًا للأهمية الخطيرة التي ترتبت في تاريخ الرياضيات على اكتشاف أرشميدس ومنهجه، ونظرًا للدور الذي لعبه علم التكامل في التحليل الرياضي الحديث، وفي تفجير أزمة المنطق الشكلي، ونظرًا للأهمية التي نعلِّقها على هذا الموضوع عند تعرُّضنا للمنطق الجدلي في الرياضيات؛ وجدنا أنه من الضروري أن ستعرض جوهر برهان أرشميدس في مشكلة الكرة والأسطوانة.
نظرية رقم ٢ لأرشميدس

نفرض أن قطر الكرة هو ا ﺟ.
مستوى الشكل المرسوم هو مستوًى قطري يمر بالخط ا ﺟ. ويشكل ب ص د قطرًا عموديًّا على القطر ا ﺟ.
في المثلث ا ن ﺟ زاوية قائمة عند ن.


وبما أن: ا ع / ا س = ا ﺟ / ا ص = ٢
وواضح من هذا البرهان أنه يقوم على فكرة تقسيم الكرة (أو المخروط أو الأسطوانة) إلى عدد لانهائي من المقاطع الدائرية؛ أي إن أرشميدس قد اخترق حدود الفيثاغوريين الذين افترضوا أن المستقيم يتكون من عدد محدود من النقط. وافترض هو عددًا لانهائيًّا من المقاطع في الكرة؛ أي إن أرشميدس قد رأى في الكرة المحدود واللامحدود معًا، وتلك بالدقة الفكرة الأصيلة في علم التكامل؛ وبذلك يكون أرشميدس قد تخطى الفيثاغوريين، بل تخطى ببراهينه الرياضية قواعد المنطق الشكلي.
ولقد تعرَّض أرشميدس في كتابه عناصر الميكانيكا لعمل الآلات البسيطة، ووضع بذلك أسُس علم الاستاتيكا؛ وهو العلم الذي يبحث تحليل الظروف التي تتوازن فيها القوى تمامًا. كذلك وصلت إلينا بقايا من كتابه «حول التوازن المستوي» يتضمَّن معالجة هندسية للاستاتيكا، وفيه يضع أرشميدس القاعدة العامة للروافع. ولقد أوضحنا من قبل كيف أن أرشميدس هو مؤسس علم الهيدروستاتيكا، وهو علم قوانين الأجسام الطافية والمغمورة الذي كان له تطبيقان هامان؛ أحدهما أشرنا إليه بخصوص مسألة التاج. أما التطبيق الآخر (وهو تقدير حمولة السفن) فقد كان معروفًا تقليديًّا لبناة السفن بالممارسة والخبرة، ولم يتم حسابه إلا في أواخر القرن السابع عشر.
الكيمياء
إن الطابع الرياضي الميكانيكي لعلم اليونانيين، مع عدم استعدادهم لشغل أنفسهم بأي شيء يمكن أن يلوث أيديهم، قد منعهم من إنجاز أي تقدُّم جدِّي في الكيمياء. هذا على الرغم من أن بدء السيمياء والعمليات الكيميائية الأساسية في التقطير قد تعود إلى تاريخ عهد الإسكندر المبكر. وحتى اليوم ما زلنا نجهل ما إذا كانت السيمياء ومعها الكيمياء العلمية قد نشأت في الإسكندرية أم لا. فأول كتابات معتمدة في السيمياء تأتي متأخرة جدًّا في العصر الرابع أو الخامس بعد الميلاد.
أما المنجزات التكنيكية للكيمياء اليونانية التي تأسست عليها كل الكيمياء الحديثة، فقد جاءت نتيجة تحسينات في نفخ الزجاج وفي تحضير المواد النقية.
الطب الهيلِّيني (جالينوس)
كان جالينوس شهيرًا عند العرب، وكان طبه هو المعتمد عندهم، وبه ضربت الأمثال حتى قال أبو الطيب المتنبي:
لقد وُلد جالينوس في بيرجاموم في آسيا الصغرى، (١٣٠-۲۰۰ب.م.) ولكنه بعد أن تدرب هناك وفي الإسكندرية انتهى إلى ممارسة عمله في روما. وفي جالينوس يتمثل جوهر الإنجازات الرائعة لمرحلة الإسكندرية الذي استطاع أن يستوعب بإنتاجه الضخم أعظم تقاليد هذه المدرسة.
لقد شجعت الظروف الاجتماعية للعصور الهيلِّينية والرومانية، استمرار التقاليد الطبية وإنجاز تقدُّم محدود كذلك. فالحكام والمواطنون الأغنياء لا يمكنهم الاستغناء عن الأطباء. والحقيقة أن المدن غير الصحية قد جعلتهم يعتمدون أكثر فأكثر على الأطباء. ولقد شجع متحف الإسكندرية البحث الواسع في التشريح.
ويُعتبر هيروفيلس (۳۰۰ق.م.) نموذجًا من هذا الطراز؛ فقد كان مشرحًا وفسيولوجيًّا عظيمًا أسَّس بحثه على المشاهدة والتجربة وكان أول من فهِم عمل الأعصاب والاستخدام الإكلينيكي للنبض، وميز بين وظائف أعصاب الإحساس وأعصاب الحركة. ثم جاء من بعده بُحَّاث آخرون مضوا إلى أبعد من هذا ولاحظوا مثلًا مغزى تلافيف المخ الإنساني. وعلى الرغم من ضياع أصل معظم أعمال متحف الإسكندرية في الطب، فإن جوهرها قد انتقل شفاهة إلى روما وتم استيعابه في إنتاج آخر الأطباء الكلاسيكيين الكبار: جالينوس.
إن جالينوس ينبوع الطب العربي والطب الوسيط ومنبع المعرفة التشريحية، كسب في ميدان الطب سلطة واحترامًا لا تقل سلطة عن أرسطو في مجال الفلسفة والعلم. ولما كان الأطباء في العصور التالية شديدي التأثر بمهارة جالينوس التجريبية واتساع معرفته، كان من الطبيعي أن يترددوا في وضع مشاهداتهم الخاصة ضد مشاهداته. ويرى برنال أن النظام الجالينوسي في الطب كان تطعيمًا ماهرًا لأفكار فلسفية قديمة (مثل مذهب الأرواح الثلاثة) بملاحظات تشريحية جادة، وإن كانت مقتصرة غالبًا على تشريح الحيوانات.
أما فسيولوجيا جالينوس القائمة على أساس ارتفاع وهبوط الأرواح والدم في الشرايين والأعصاب. وعلى اعتبار القلب مصدرًا للحرارة، والرئتين كمروحة للتبريد، فما تزال تعيش في اللغات الشعبية حتى اليوم. وهذه الصورة ظلَّت أساس العقيدة الإنسانية عن عالم الإنسان الصغير حوالي ألفَي سنة. ولم يتخلَّ العالم عن أفكار جالينوس إلا في عصر النهضة، الذي سبقته كمية ضخمة من المشاهدات فضلًا عن أن هذا العصر كان مدعمًا بفلسفة ميكانيكية أفضل بكثير. ويتضح مغزى هذا من حقيقة أن أول طبعة إنجليزية كاملة مترجمة لأعمال جالينوس لم تُنشر إلا حديثًا.