الكتابة والحضارة

قد يستحيل أن نفصل بين العدِّ والكتابة في منشئهما. فالعمليات الواسعة النطاق، والمقادير الضخمة من المواد الزراعية وغيرها الداخلة في نطاق إدارة المدينة الجديدة (المسمَّاة أحيانًا مدينة المعبد) كانت بمثابة نقطة تحوُّل في خلق ما يمكن أن يسمى العلم الواعي بمعناه الحقيقي. ولقد استحال على الكهنة أن يعتمدوا على ذاكرتهم في تسجيل كميات المواد الداخلة إلى المعبد أو الخارجة منه. ومن هنا نشأت الحاجة إلى التسجيل. وقد تضمَّن هذا بالطبع الحاجة إلى نوع من المقياس الاصطلاحي (زكيبة الغلال، زلعة البيرة، قطعة القماش). ولكن نشأت بعد ذلك الحاجة إلى نوع من القياسية Standarization حتى يمكن أن تتم المقارنة بين الأشياء بعضها وبعض. وهكذا تم تبنِّي سلسلة من المقاييس «الملكية»، وتم بالتدريج تنسيقها جزئيًّا لصالح التجارة مع المدن الأخرى. ويرجِّح المؤرخون أن فكرة قياس الوزن التي تعني في الحقيقة ظهور الميزان قد ظهرت متأخرة نوعًا. وهي على وجه التحديد لا بد أن تكون نتاجًا لحياة المدينة. ففي القرية لا يوجد ما يدعو إلى استخدام الميزان، وبساطة الحياة فيها تكفيها المقاييس التقريبية (فخذة الخروف، وزنة الخشب). ويرى برنال١ أن الحاجة إلى الميزان إنما نشأت في المحل الأول من الحاجة إلى وزن المعادن الثمينة حيث لا ينفع القياس ولا تفلح التقديرات البشرية المباشرة. وعنده أن الميزان — وهو الوسيلة الوحيدة لمقارنة الأوزان — يحمل كل علامات الاختراع العلمي بالمعنى الدقيق.
غير أنه قبل أن تنشأ قياسية المقاييس كان من الضروري تسجيل عدد الأشياء سواء أكانت رءوسًا من المواشي أو سلالًا من الغلال. وفي الأول تم هذا بطريقة عمل علامات على العصي، ثم تحولت العملية إلى استخدام إشارات على ألواح الطين للتعبير عن العدد. وفي كثير من الأحيان يوضع بجانب هذه الإشارات على اللوح نفسه رسمٌ بسيط للشيء الذي يتم عدُّه وحصره. وشيئًا فشيئًا أصبح لكل عددٍ رمزٌ خاص به، وتلك كانت خطوة هامَّةً في سبيل التجريد. ثم اتسع نطاق هذه الرموز فأصبحت تعبِّر عن الأفعال جنبًا إلى جنب مع التعبير عن الأشياء. ثم أصبحت تعبِّر عن كلمات إما بالفكرة التي يوحي بها الرمز من ناحية شكله فحسب كما هو الحال في الكتابة الصينية، أو بتركيبات صوتية جزئية مع الاحتفاظ الجزئي بالفكرة الشكلية كما هو الحال في الكتابة المسمارية القديمة في العراق أو الكتابة المصرية الهيروغليفية التي يظن بعض المؤرخين أنها تأثرت بالكتابة المسمارية. أما التبسيط النهائي للأبجدية الحقيقية حيث تعبِّر الرموز عن أصوات فحسب لا عن كلمات فلم يتم إلا في عصر الحديد، وعلى يد الفينيقيين بالذات.
تلك هي الخطوط العريضة لنشأة الكتابة. ومنها نرى أن الكتابة قد نشأت تدريجيًّا من العدد، وأنها في نشأتها ارتبطت ارتباطًا عضويًّا بالملكية الخاصة. وفي هذا المعنى يقول سبيرز:٢ إن الكتابة لم تكن اختراعًا متعمدًا إنما كانت نتاجًا ثانويًّا لإحساسٍ قوي بالملكية الفردية.

ومن عجائب هذا العالم أن يلعب هذا الاختراع الذي ظهر في مبدأ الأمر كنتاجٍ ثانوي متواضعٍ هذا الدورَ الخالد في تاريخ البشرية، وأن يكون هو الطريق الذي يخلد به الإنسان تجربته فوق حدود الزمان والمكان.

لقد نشأ العدد والكتابة في داخل المعابد؛ تلك الوحدات الاقتصادية والعلمية والدينية الأساسية في المدن. وفي أحد معابد إيريخ (العراق) التي ميزت عهد الانتقال من القرية إلى المدينة عثر على لوح حساب بدئي. وتدل الرموز الموجودة على هذا اللوح على الأقل على وجود نظام للترقيم العددي، وربما كانت نظامًا للكتابة كما يقول البعض. وفي وقت متأخر عن ذلك (ليس بعد ٣٠٠٠ق.م. على أي حال) ظهرت ألواح الصلصال الأخرى التي تحتوي على حسابات، وعثر عليها لا في إيريخ فحسب بل في جمدة نصر وأماكن أخرى في العراق. وعلى الصلصال رسم الكاهن أشكالًا وترقيمات. وهذه الأشكال في الأغلب عبارة عن صور مختصرة (زلعة، رأس ثور، وهكذا) ولهذا سُمي هذا المخطوط تصويريًّا. ويمكننا بالطبع تخمين ماذا تعني هذه الأشكال بمجرد النظر إليها. وقد يبدو أن مثل هذا النوع من الأشكال ليس اصطلاحيًّا ولكن الحقيقة أن هذه الصور تُعتبر اصطلاحية إلى حدٍّ ما. فثمة طرق عدَّة للتعبير بإيجاز عن الثور مثلًا. وكان على المجتمع أن يختار ويقرَّ طريقًا واحدًا من هذه الطرق المختلفة. ليس هذا فحسب، بل إن بعض هذه العلامات تعني في الحقيقة أكبر مما يمكن أن يوضحه مظهر الصورة البسيطة؛ فالصورة الزلعة تعني في الحقيقة زلعة تحتوي على كمية معينة من الحبوب، وهي في الحقيقة وحدة قياس.

غير أن الأمور أخذت تتعقد شيئًا فشيئًا؛ إذ كيف يمكن للكاهن مثلًا أن يميِّز في علاماته بين الأنواع المختلفة من الخراف مثلًا كالخراف البرية والكباش والنعاج؟ لقد كان من الطبيعي أن ييئس الكاهن من أن يميز بخطوط قليلة بين الأنواع المختلفة من الخراف. وبدلًا من ذلك بدأ الكاهن يبيِّن علاماتٍ اصطلاحية مختلفة لترمز إلى أنواع الخراف المختلفة. ولم يكن من الممكن إلا أن تكون هذه العلامات مخترعات اختيارية من جانب أفراد الكهنة، ولكن لكي تكون هذه العلامات مفيدة، فمن الضروري أن يتقبلها كهنة المعبد؛ أي أن يقرَّها المجتمع. ومن هنا نشأت قاعدة للعلامات؛ أي نشأ قانون للكتابة معتمد اجتماعيًّا. وحين تنتهي الأمور إلى وجود القانون الكتابي يكون من الطبيعي أن يدفع الكهان الجدد وموظفو المعابد إلى قبول المصطلح ومعرفة كيفية استخدامه، وهذا ما نسميه بعملية القراءة والكتابة. وهكذا ظهرت مدارس الكتاب في المعابد، وحلَّت ألواح الصلصال التي تضم قوائم كاملة بالعلامات ومعناها محل الكتاب المدرسي. وفي الواقع عثر علماء الآثار على كثير من هذه الألواح في العراق على وجه الخصوص. وأكثر من ذلك، أوضح جوردون تشايلد، في كتابه «الإنسان يصنع نفسه»، أنه قد تبيَّن من الحفائر أن نفس هذه القوائم قد عُثر عليها في مدن مختلفة، ومن هذا استنتج تشايلد بالضرورة وجود تبادل في الطلبة والمدرسين بين المدن المختلفة في الحضارة العراقية القديمة، وأن نظام الكتابة لم يكن اصطلاحًا خاصًّا بمعبد أو مدينة واحدة، وإنما كان أمرًا معترفًا به لدى المجتمع السومري.

لقد أصبحت العلامات على درجةٍ عالية من الاصطلاحية، وبسطت الرسوم واختصرت بحيث أصبح من الصعب تمامًا التعرف من الصورة على الشيء المقصود. وشيئًا فشيئًا استُخدمت العلامات للتعبير عن الأصوات فضلًا على الأشياء. لقد أصبحت العلامات رسومًا صوتية (فوتوجرام) بدلًا من الرسم التصويري (إيديوجرام) وأحيانًا توجد العلامة الصوتية وبجانبها العلامة التصويرية. ويضرب تشايلد أمثلة كثيرة على هذا؛ فالعلامة تعني الرأس ذا اللحية كما كانت تعني كلمة «كا» السومرية (أي الوجه)، وبمضي الوقت أصبح من الممكن استخدام «كا» دون أي إشارة إلى الرءوس أو الوجوه. ولقد مكَّن اختيار العلامات ذات القيمة الصوتية من التعبير عن مفاهيم الفعل التي يستحيل التعبير عنها بالصور.

ومع ذلك فحتى عندما كانت الكلمة تُتهجى صوتيًّا كان يضاف إليها غالبًا إيديوجرام ليوضح للقارئ نوع الكلمة المقصود؛ ولذا أطلق على هذه الإيديوجرامات تعبير «الوصفيات».

لقد مرت عملية الكتابة بتطورات معقَّدة كثيرة — ليس هنا محل بحثها — منذ هذه الفترة حتى انتهت إلى الأبجدية المبسطة التي تعتمد على عدد محدود من الأصوات التي يرمز لها بالحروف في عصر الحديد كما أسلفنا الذكر؛ غير أن من الضروري أن نذكر أنه منذ ٣٠٠٠ق.م. بدأت وثائق أخرى في الظهور، غير الحسابات والعقود والقوائم؛ وثائق تتضمَّن أسماء وألقاب الملوك بشكلٍ أساسي ثم معاهدات ونصوص أدبية وتاريخية وتعاويذ وأجزاء من نصوص قانونية وتشريعات ومناسيب الأنهار وقواعد الحساب البسيط … إلخ. وأصبحت المخطوطة أكثر بساطة، فبدلًا من أن تُرسم العناصر المختلفة للعلامة ضُغطت على الصلصال الناعم على هيئة أوتاد؛ ولذا سُمِّيت الكتابة البابلية القديمة بالكتابة المسمارية.

لقد أسلفنا فيما مضى كيف أن الكتابة قد أصبحت مهنة حياة كاملة تحمل الإنسان إلى المركز الاجتماعي والثروة والارتباط بالطبقة السائدة التي تعيش على فائض الإنتاج الزراعي؛ ولذا فمن الطبيعي عندما يدخل التلميذ المدرسة أن يدير ظهره للمحراث والورشة. ولعل هذا كان أول انفصال بين الكتابة والعلم النظري من ناحية وبين العمل اليدوي والخبرة التكنيكية من ناحية أخرى. فالذي يعمل في الحرف أو الزراعة لا يتعلم الكتابة، والذي يتعلم الكتابة لا يعرف الطريق إلى الأرض أو الدكان. والعمل في المزرعة أو الورشة عملٌ شاقٌّ قاتل وجزاؤه بسيط، أما العمل في الكتابة فهو مُجزٍ ويمثِّل مهنة محترمة.

كتب أبٌ٣ مصري قديم ينصح ابنه (وهذه الوثيقة من عهد الدولة الحديثة بمصر) ويقول:

ضع الكتاب في قلبك حتى تحمي نفسك من العمل الشاق من أي نوع، وحتى تكون موظفًا له سمعة عالية. إن الكاتب يُعفى من الواجبات اليدوية. إنه هو الذي يأمر. ألست تحمل لوح الكاتب؟ هذا هو ما يجعل فارقًا بينك وبين الذي يشتغل في المعادن.

لقد رأيت بنفسي صانع المعادن، وهو يعمل عند فوهة فرنه بأصابع كأصابع التماسيح، ورائحته تفوح بنتنٍ كنتن الأسماك. وكلُّ حطَّاب يحمل فأسًا يعاني أكثر مما يعانيه فالح الأرض. وقاطع الأحجار يبحث عن العمل في كل صخرة صلبة، وعندما ينجز الجزء الأكبر من عمله يكلُّ ذراعاه ويصبح متعبًا. وعامل النسيج في الورشة أسوأ حالًا من النساء. فهو يقبع وركبتاه إلى بطنه ولا يستنشق الهواء النقي، فإذا أراد الخروج من الباب فعليه رشوة البواب.

وهذه الرسالة من أبٍ إلى ابنه توضح كيف أن الثورة الصناعية التي أدَّت إلى الانقسام الطبقي قد أدَّت فيما أدَّت إلى انتماء الكاتب إلى الطبقة السائدة، طبقة الملوك والنبلاء والكهنة والقادة والعسكريين؛ غير أن هذه الظروف الاجتماعية الجديدة كانت تعني الفصل بين العلوم المستقاة عن طريق الفكر أساسًا ولا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بعمليات الإنتاج، وبين العلوم التي هي ثمرة التكنيك والحرفة والعمل المباشر في الزراعة أو الصناعة. وقد يبدو غريبًا أن نكتشف أنه لا توجد وثائق مكتوبة تتعلق بعلوم مثل الكيمياء والميكانيكا والنبات والجيولوجيا في حضارة الأودية الثلاثة، بينما نجد عشرات الوثائق المكتوبة في الرياضة والفلك. والحقيقة أن هذا هو الوضع الطبيعي للأمور. فالمجموعة الأولى من العلوم ترتبط ارتباطًا كاملًا بالعاملين في الإنتاج اليومي وهؤلاء لا يعرفون القراءة والكتابة. والكتَّاب معزولون عن الحرف والزراعة عزلة كاملة. ومن هنا لم ترْقَ الخبرة الحرفية إلى مستوى الصياغة المكتوبة ولا ضُمِّنت في شكل كتاب أبدًا. أما المجموعة الأخرى من العلوم فتستطيع الطبقة الحاكمة أن تتفرغ للبحث فيها. ولقد ساعد تفرُّغ الكتَّاب والكهان على أن يوفروا الوقت لتطوير هذه المجموعة الثانية من العلوم وتسجيل نتائجهم في وثائق مكتوبة، وكان هذا وقفًا على من يعرفون القراءة والكتابة فحسب. أما تطوُّر التكنيك والعلم التطبيقي فقد اعتمد على النقل الشفاهي والتقاليد.

ومن سوء حظ البشرية أن يتم هذا الانقسام بين العلوم «الرفيعة» وبين العلوم التطبيقية كمظهر من مظاهر الانقسام الاجتماعي. فحتى لو سلَّمنا أن تفرُّغ الكتَّاب والكهان قد سهَّل التقدُّم بهذه الأبحاث النظرية فترة ما، إلا أن هذا الانفصال قد ولَّد قدسية خاصة للكلمة المكتوبة والفكرة النظرية المسجَّلة قامت على أساس احتقار الخبرة العملية والتطبيق في الواقع؛ ولذا فليس بالغريب أن تركد ثقافة حضارة الوديان الثلاثة العظيمة بعد فترة، وأن تتدهور بعد ذلك، وأن تعكس هذه الظاهرة تأثيرها حتى على الثقافة اليونانية الكلاسيكية التي مجدت في غالب الأحيان الفكر النظري العقلي على حساب التجربة الحية في الواقع.

١  برنال: «العلم في التاريخ»، الجزء الأول.
٢  سبيرز: مقال بعنوان بدء الحضارة في العراق، مجلة الدراسات الشرقية الأمريكية (١٩٣٩م).
٣  راجع جوردون تشايلد: «الإنسان يصنع نفسه»، الفصل الثامن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥