الكتابة والحضارة
ومن عجائب هذا العالم أن يلعب هذا الاختراع الذي ظهر في مبدأ الأمر كنتاجٍ ثانوي متواضعٍ هذا الدورَ الخالد في تاريخ البشرية، وأن يكون هو الطريق الذي يخلد به الإنسان تجربته فوق حدود الزمان والمكان.
غير أن الأمور أخذت تتعقد شيئًا فشيئًا؛ إذ كيف يمكن للكاهن مثلًا أن يميِّز في علاماته بين الأنواع المختلفة من الخراف مثلًا كالخراف البرية والكباش والنعاج؟ لقد كان من الطبيعي أن ييئس الكاهن من أن يميز بخطوط قليلة بين الأنواع المختلفة من الخراف. وبدلًا من ذلك بدأ الكاهن يبيِّن علاماتٍ اصطلاحية مختلفة لترمز إلى أنواع الخراف المختلفة. ولم يكن من الممكن إلا أن تكون هذه العلامات مخترعات اختيارية من جانب أفراد الكهنة، ولكن لكي تكون هذه العلامات مفيدة، فمن الضروري أن يتقبلها كهنة المعبد؛ أي أن يقرَّها المجتمع. ومن هنا نشأت قاعدة للعلامات؛ أي نشأ قانون للكتابة معتمد اجتماعيًّا. وحين تنتهي الأمور إلى وجود القانون الكتابي يكون من الطبيعي أن يدفع الكهان الجدد وموظفو المعابد إلى قبول المصطلح ومعرفة كيفية استخدامه، وهذا ما نسميه بعملية القراءة والكتابة. وهكذا ظهرت مدارس الكتاب في المعابد، وحلَّت ألواح الصلصال التي تضم قوائم كاملة بالعلامات ومعناها محل الكتاب المدرسي. وفي الواقع عثر علماء الآثار على كثير من هذه الألواح في العراق على وجه الخصوص. وأكثر من ذلك، أوضح جوردون تشايلد، في كتابه «الإنسان يصنع نفسه»، أنه قد تبيَّن من الحفائر أن نفس هذه القوائم قد عُثر عليها في مدن مختلفة، ومن هذا استنتج تشايلد بالضرورة وجود تبادل في الطلبة والمدرسين بين المدن المختلفة في الحضارة العراقية القديمة، وأن نظام الكتابة لم يكن اصطلاحًا خاصًّا بمعبد أو مدينة واحدة، وإنما كان أمرًا معترفًا به لدى المجتمع السومري.

ومع ذلك فحتى عندما كانت الكلمة تُتهجى صوتيًّا كان يضاف إليها غالبًا إيديوجرام ليوضح للقارئ نوع الكلمة المقصود؛ ولذا أطلق على هذه الإيديوجرامات تعبير «الوصفيات».
لقد مرت عملية الكتابة بتطورات معقَّدة كثيرة — ليس هنا محل بحثها — منذ هذه الفترة حتى انتهت إلى الأبجدية المبسطة التي تعتمد على عدد محدود من الأصوات التي يرمز لها بالحروف في عصر الحديد كما أسلفنا الذكر؛ غير أن من الضروري أن نذكر أنه منذ ٣٠٠٠ق.م. بدأت وثائق أخرى في الظهور، غير الحسابات والعقود والقوائم؛ وثائق تتضمَّن أسماء وألقاب الملوك بشكلٍ أساسي ثم معاهدات ونصوص أدبية وتاريخية وتعاويذ وأجزاء من نصوص قانونية وتشريعات ومناسيب الأنهار وقواعد الحساب البسيط … إلخ. وأصبحت المخطوطة أكثر بساطة، فبدلًا من أن تُرسم العناصر المختلفة للعلامة ضُغطت على الصلصال الناعم على هيئة أوتاد؛ ولذا سُمِّيت الكتابة البابلية القديمة بالكتابة المسمارية.
لقد أسلفنا فيما مضى كيف أن الكتابة قد أصبحت مهنة حياة كاملة تحمل الإنسان إلى المركز الاجتماعي والثروة والارتباط بالطبقة السائدة التي تعيش على فائض الإنتاج الزراعي؛ ولذا فمن الطبيعي عندما يدخل التلميذ المدرسة أن يدير ظهره للمحراث والورشة. ولعل هذا كان أول انفصال بين الكتابة والعلم النظري من ناحية وبين العمل اليدوي والخبرة التكنيكية من ناحية أخرى. فالذي يعمل في الحرف أو الزراعة لا يتعلم الكتابة، والذي يتعلم الكتابة لا يعرف الطريق إلى الأرض أو الدكان. والعمل في المزرعة أو الورشة عملٌ شاقٌّ قاتل وجزاؤه بسيط، أما العمل في الكتابة فهو مُجزٍ ويمثِّل مهنة محترمة.
ضع الكتاب في قلبك حتى تحمي نفسك من العمل الشاق من أي نوع، وحتى تكون موظفًا له سمعة عالية. إن الكاتب يُعفى من الواجبات اليدوية. إنه هو الذي يأمر. ألست تحمل لوح الكاتب؟ هذا هو ما يجعل فارقًا بينك وبين الذي يشتغل في المعادن.
لقد رأيت بنفسي صانع المعادن، وهو يعمل عند فوهة فرنه بأصابع كأصابع التماسيح، ورائحته تفوح بنتنٍ كنتن الأسماك. وكلُّ حطَّاب يحمل فأسًا يعاني أكثر مما يعانيه فالح الأرض. وقاطع الأحجار يبحث عن العمل في كل صخرة صلبة، وعندما ينجز الجزء الأكبر من عمله يكلُّ ذراعاه ويصبح متعبًا. وعامل النسيج في الورشة أسوأ حالًا من النساء. فهو يقبع وركبتاه إلى بطنه ولا يستنشق الهواء النقي، فإذا أراد الخروج من الباب فعليه رشوة البواب.
وهذه الرسالة من أبٍ إلى ابنه توضح كيف أن الثورة الصناعية التي أدَّت إلى الانقسام الطبقي قد أدَّت فيما أدَّت إلى انتماء الكاتب إلى الطبقة السائدة، طبقة الملوك والنبلاء والكهنة والقادة والعسكريين؛ غير أن هذه الظروف الاجتماعية الجديدة كانت تعني الفصل بين العلوم المستقاة عن طريق الفكر أساسًا ولا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بعمليات الإنتاج، وبين العلوم التي هي ثمرة التكنيك والحرفة والعمل المباشر في الزراعة أو الصناعة. وقد يبدو غريبًا أن نكتشف أنه لا توجد وثائق مكتوبة تتعلق بعلوم مثل الكيمياء والميكانيكا والنبات والجيولوجيا في حضارة الأودية الثلاثة، بينما نجد عشرات الوثائق المكتوبة في الرياضة والفلك. والحقيقة أن هذا هو الوضع الطبيعي للأمور. فالمجموعة الأولى من العلوم ترتبط ارتباطًا كاملًا بالعاملين في الإنتاج اليومي وهؤلاء لا يعرفون القراءة والكتابة. والكتَّاب معزولون عن الحرف والزراعة عزلة كاملة. ومن هنا لم ترْقَ الخبرة الحرفية إلى مستوى الصياغة المكتوبة ولا ضُمِّنت في شكل كتاب أبدًا. أما المجموعة الأخرى من العلوم فتستطيع الطبقة الحاكمة أن تتفرغ للبحث فيها. ولقد ساعد تفرُّغ الكتَّاب والكهان على أن يوفروا الوقت لتطوير هذه المجموعة الثانية من العلوم وتسجيل نتائجهم في وثائق مكتوبة، وكان هذا وقفًا على من يعرفون القراءة والكتابة فحسب. أما تطوُّر التكنيك والعلم التطبيقي فقد اعتمد على النقل الشفاهي والتقاليد.
ومن سوء حظ البشرية أن يتم هذا الانقسام بين العلوم «الرفيعة» وبين العلوم التطبيقية كمظهر من مظاهر الانقسام الاجتماعي. فحتى لو سلَّمنا أن تفرُّغ الكتَّاب والكهان قد سهَّل التقدُّم بهذه الأبحاث النظرية فترة ما، إلا أن هذا الانفصال قد ولَّد قدسية خاصة للكلمة المكتوبة والفكرة النظرية المسجَّلة قامت على أساس احتقار الخبرة العملية والتطبيق في الواقع؛ ولذا فليس بالغريب أن تركد ثقافة حضارة الوديان الثلاثة العظيمة بعد فترة، وأن تتدهور بعد ذلك، وأن تعكس هذه الظاهرة تأثيرها حتى على الثقافة اليونانية الكلاسيكية التي مجدت في غالب الأحيان الفكر النظري العقلي على حساب التجربة الحية في الواقع.