الرياضة
- أولًا: فكرة التجريد المترتبة على القياس؛ فنحن إذ نقيس طول قطعة الخشب إنما نمارس نوعًا من التجريد بالتركيز على البحث عن الطول دون أن نهتم بلون قطعة الخشب أو نوعها أو نسيجها. وينطبق هذا أيضًا على الوزن. وفي النهاية لا بد أن ينتهي بنا هذا إلى مفهوم الكمية البحتة Pure Quantalya والفضاء الإقليدي. وهكذا ينفصل العدد في تاريخ الفكر البشري عن الشيء المعدود أو المقيس أو الموزون ويصبح ذا قيمة قائمة بذاتها. وتلك أولى خطوات علم الحساب كعلم نظري.
- ثانيًا: إن وجود وحدات مختلفة في القياس كانت تعني بالضرورة نشوء قضية الكسور. فسيَّان أن نقول إن الذراع ضعف السبان أو أن السبان نصف الذراع. وسيَّان أن نقول إن الرطل اثنتا عشرة أوقية أو أن الأوقية تساوي ١ / ١٢ من الرطل … وهكذا. وهذا المفهوم عن الكسور الناشئ من خلال القياس العملي أدَّى إلى تجريد جديد أشد تعقيدًا ودفعة جديدة في علم الحساب، وإن كنا سنرى أن هذا المفهوم الأكثر رقيًّا قد أحيط تطوره منذ اليوم الأول بصعوبات عديدة.
والآن نعود إلى نظام الترقيم العددي في الحضارة القديمة. من الثابت تاريخيًّا أن هذا النظام قد تطوَّر في العراق تطورًا مختلفًا عنه في مصر. وحتى في القطر الواحد تمت تطورات مختلفة في هذا النظام على مرور الوقت. وقد يبدو الاتجاه متقاربًا أحيانًا في كلا القطرين وحتى في الهند؛ غير أن العراق اتجه في التعبير عن الأعداد الكبيرة إلى ما عُرف باسم النظام السداسي، وهو نظام لا يتخذ من العشرة ومضاعفاتها أساسًا بل يقبل المتسلسلة ١، ٦، ٦٠، ٦٠٠ … إلخ أساسًا. وليس من المحسوم حتى اليوم معرفة الأسباب التي دعت إلى هذا في بابل بينما تبنَّى المصريون نظام العشرة ومضاعفاتها منذ مبدأ الأمر، وهو النظام الذي يبدو طبيعيًّا في العدِّ إذا وضعنا في الاعتبار أن عدد أصابع اليد عشرة؛ غير أن بعض المؤرخين يعتقدون أن هذا النظام في بابل مرتبط بتقويم السنة القمرية وعدَّتها ٣٦٠ يومًا.
والأرقام الصغيرة من ١ إلى ٩٠ كانت تُمثَّل في مبدأ الأمر بعدد مكافئ من العلامات. واستُخدم رمز مختلف للتعبير عن العشرة ومضاعفاتها. ومنذ الأسرة الأولى في مصر استُخدمت الرموز الآتية:

أما في العراق فقد اتجه نظام الترقيم في اتجاهات أخرى. فعلى أقدم ألواح العد التي اكتُشفت في العراق وجد علماء الآثار الرموز الآتية:

ثم حدث التطور إلى النظام السداسي في مرحلة متأخرة وأصبح للترقيم المعاني التالية:






تعني ٢ × ٦٠ + ٣ × ١٠ + ١ = ١٥١، وفق رموزنا الحالية.
ولقد كان هذا التطور الأخير انقلابًا خطيرًا في حساب البابليين؛ إذ معنى هذا أنهم كانوا يستخدمون نظام «الخانات» كما نستخدمه نحن اليوم، وإن كان لنظامهم عيب واحد يُعتبر نقطة الضعف الأساسية التي عاقت تطوُّر علم الحساب عند البابليين؛ ونعني بذلك عدم وجود رمز يعبِّر عن الصفر. ولقد أُصلح هذا النقص على يد الهنود بعد ذلك بأكثر من ألف عام (حوالي ١٠٠ق.م.).
والمؤرخون يُجمعون على فجاجة هذا النظام في التعبير عن الأعداد الكبيرة عند المصريين والبابليين؛ إذ يكفي أن نعلم أنه للتعبير عن رقم مثل ۸۷۹ بالنظام المصري القديم فإننا نحتاج إلى أربع وعشرين علامة مختلفة. ولهذا كان من المستحيل أن يتقدَّم علم الحساب خارج حدود معينة في مصر القديمة. أما في بابل، فحتى مع نظام الخانات لعب افتقاد الصفر عندهم (وحتى عند اليونانيين بعدهم) دورًا أساسيًّا في إعاقة تقدُّم علم الجبر ونظرية الأعداد. وربما ساعدنا هذا على أن نفهم لماذا قال لابلاس لنابليون إنه يعتبر اكتشاف الصفر من أضخم الانتصارات البشرية التي تحققت حتى اليوم.







وكما أسلفنا ظهرت قضية الكسور من خلال نشأة المقاييس والموازين:
الرياضة والتجارة
لقد كان من الطبيعي أن يؤدِّي البدء في علم الحساب وما تلاه من تعقيدات اجتماعية إلى تطوير نظري أكبر في هذا العلم، كما كان من الطبيعي أن تؤدِّي الأهمية المتزايدة للتبادل (أي للتجارة) إلى تبسيط العمليات الحسابية بقدر الإمكان. ومن المؤكد أن علم الحساب قد تقدَّم عند البابليين أكثر مما تقدَّم في مصر. ويعزو بعض المؤرخين هذا إلى أن العراق كان أكثر اعتمادًا على التجارة الخارجية في عصور ما قبل التاريخ، وظل كذلك بعدها. فموقعه الجغرافي يجعل منه همزة وصل لطُرق التجارة الطبيعية آنذاك، بينما كانت مصر معزولة نسبيًّا. ومن ثم كان لا بد أن يتطوَّر علم الحساب وأن يظهر ما يمكن أن نسميه «جهاز الحساب». ولا شك أن هذا الجهاز الجديد قد سهل الصفقات الخارجية ويقوم هذا الجهاز الحسابي على إنشاء نظام للرموز كما أسلفنا، ثم تحسين تكنيك العمليات الحسابية ببحث أقصر الطرق الممكنة لإجراء عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة، ثم أخيرًا تبويب جداول للضرب والقسمة تغني الإنسان عن إجراء العمليات كلما احتاج الأمر إلى ذلك.
وفيما يتعلق بمنهج الضرب، تُثبت ورقة بردي رايند الرياضية أن المصريين لجئوا إلى طريق المضاعفة كأسلوب في الضرب. فإذا احتاجوا إلى ضرب ١٤ في ٨٠ مثلًا، بدءوا بتقسيم اﻟ ١٤ إلى عناصرها ۱۰، ٤ مثلًا، ويبدءون بمضاعفة الرقم ٨٠ فيحصلون على ١٦٠، ثم يضاعفون الرقم ١٦٠ فيحصلون على ٣٢٠، ثم يضربون ۱۰ في ٨٠ وهو أسهل نوع من الضرب لارتباطه بالعدد ۱۰ فيحصلون على ۸۰۰. ويجمعون بعد ذلك ۳۲۰ + ۸۰۰ وتجرى العملية على الوجه التالي:
١ | ٨٠ |
٢ | ١٦٠ |
٤ | ٣٢٠ |
١٠ | ٨٠٠ |
١١٢٠م |
وفيما يتعلق بالقسمة فقد كان الموقف أكثر تعقيدًا إذ تعكس العملية على طول الخط؛ ففي قسمة ١٩ على ٨ مثلًا كان المصريون يعبرون عن العملية بالتعبير التالي «التعرف على ٨ لإيجاد ۱۹»، وتجرى العملية كما يلي:
١ | ٨ | |
٢ | ١٦ | |
٤ | ||
٢ | ||
١ | ||
النتيجة | ۲+ + |
غير أن البابليين كانوا أكثر تقدُّمًا من ذلك، واستطاعوا أن من يسلحوا أنفسهم بأجهزة معدَّة للحساب؛ ومن هنا أسرعوا إلى درجة كبيرة بالعمل الحسابي. لقد اكتُشفت في بابل جداول للضرب تعطي الناتج للأعداد الصحيحة من ١ إلى ٢٠، ثم ٣٠، ٤٠، ٥٠، وهي جداول مرتبة مثل جداولنا تمامًا. وعلينا أن نلاحظ أن جداول الضرب هذه هي في نفس الوقت وإلى حدٍّ كبير جداول قسمة كذلك. كما وُضعت جداول لمقلوبات الأعداد من ١ إلى ٦٠. (مقلوب الرقم ٢ هو ١ / ٢ والرقم ٧ هو ١ / ٧ وهكذا)؛ غير أن هذه المقلوبات كانت تُنسب إلى النظام السداسي؛ فالمقلوب ١ / ٥ كان يرمز إليه بالرمز ۱۲ ز (أضفنا نحن العلامة لنمثل النقطة التي كانت تنقص البابليين)؛ أي بنسبة الكسر إلى ٦٠ بدلًا من نسبتها إلى المائة كما نفعل نحن في النظام العشري. وعلى هذا تصبح جداول المقلوبات كالآتي:
١ | ٦٠ |
٢ | ٣٠ |
٣ | ٢٠ |
٤ | ١٥ |
أما ماذا يحدث عندما يكون المقلوب عددًا غير محدود مثل ٦٠ / ٧ فأمر غير معروف.
بقي أن نعرف أن هذا الجهاز الحسابي كله قد أنشئ وطوِّر في مدارس المعابد، وأنه استُخدم في حساب رأس المال والفوائد، كما طبِّق في حل مشاكل الفلك والمعمار والهندسة الحربية.
إلا أن علم الحساب، لكي يتحول إلى علمٍ بمعناه الكامل كان لا بد أن يتبنى لغةً اصطلاحية خاصة به، ومن الطبيعي أن نسأل عما إذا كانت هذه اللغة قد بدأت في الظهور واستقرت؟
الرياضة والعمل
لقد كان من الطبيعي أن يؤدِّي تعقيد الحياة الاجتماعية والاتجاه إلى الإنشاءات الكبيرة؛ كبناء الجسور والآبار وصوامع الغلال الأسطوانية أو الهرمية الشكل والأهرامات، ومشاكل تقسيم الأراضي الزراعية والزراعة عمومًا … إلخ، كل ذلك كان لا بد أن يؤدِّي إلى طرح قضايا حسابية وهندسية معقدة تتعلق بالمساحات والحجوم. فثمة جيوش غفيرة من العمال تُجمع للقيام بأعمال ضخمة، ولا بد من تدبير مؤن لهم جميعًا وحساب المواد الخام اللازمة وتقدير الحجوم المكعبة المطلوبة من مواد البناء؛ فبناء بئر أسطواني كان يعني حساب عدد الطوب اللازم لبناء جدرانه، وتلك قضية مساحة الوجه الدائري للأسطوانة. وخزن الحبوب في صومعة مخروطية كان يعني بحث قضية حجم المخروط، وهكذا.
وفي إحدى أوراق البردي المتأخرة (۱۲۰۰ق.م.) يعنِّف أحد الكتَّاب المصريين منافسه لجهله ويعيِّره بأنه يطلب دائمًا منه حل المشاكل الرياضية التي تواجهه في حفر الآبار، ويتحداه بمسألة من هذا النوع، وإن كانت المسألة بالطريقة الواردة تبدو غير قابلة للحل.
يقول الكاتب المصري: «إنك تقول إنك الكاتب الذي يصدر الأوامر إلى جامعي الضرائب. ولقد كُلِّفتَ بحفر خزان، ولكنك تأتي إليَّ للسؤال عن كمية المؤن اللازمة للجنود، وتقول: احسبها لي.» إنك تهجر مكتبك؛ ولهذا يقع عبء تعليمك هذا على كتفي. أنت الكاتب الماهر على رأس جامعي الضرائب. ومطلوب حفر جسر طوله ۷۳۰ ذراعًا، وعرضه ٥٥ ذراعًا محتويًا على ۱۲۰ عينًا مليئة بعروق الخشب والمعدن. ويطلب القادة العسكريون تحديد مقدار الطوب اللازم، ويجتمع الكتَّاب معًا دون أن يعرف الواحد منهم شيئًا. إنهم يضعون ثقتهم فيك قائلين: «أنت الكاتب الماهر يا صديقنا، أجبنا، كم عدد الطوب اللازم؟»
فإذا عنَّ لأحد منا أن يتصور أن مثل هذه المسائل تافهة لأنها موجودة في كتب الصِّبية اليوم، وجب أن نتذكر أن هؤلاء الذين تولَّوا الإجابة عن هذا النوع من المسائل كانوا يرتادون عالمًا جديدًا لم يطرُقه أحدٌ قبلهم؛ عالمًا فتحته أحداث الحياة الحضارية، وهو عالم مليء بالصخور والأشواك والعجائب والمتع الذهنية دون شك؛ ولذا فهذه الأعمال لا تقلُّ في مغزاها آنذاك عن دلالة أدق البحوث الرياضية التي يقوم بها كبار العلماء اليوم. ومن العسف وعدم الإنصاف أن نقيس جهود أجدادنا منذ أربعة آلاف عام بمقاييسنا الحاضرة.
لقد بزغت شمس علم الهندسة على يد هؤلاء الذين تولَّوا تحديد مساحات الحقول لتقسيمها من ناحية، وتقدير الحَب اللازم لبذرها والإيجار والضريبة المتوقعة من ناحية أخرى. ولقد أمكن بسهولةٍ نسبية معرفة القانون الخاص بمساحة المستطيل (الطول × العرض)؛ غير أن الظروف واجهتهم بأشكال رباعية غير منتظمة، وأشكال مثلثية، بل وأشكال تقرب من الدوائر. وفي كل هذه الأحوال لم توجد قوانين المساحات ذات الرموز كما نعرفها اليوم؛ غير أنه بملاحظة الطرق التي اتبعوها في الحساب نجد أنهم قد وصلوا من الناحية الفعلية في حساب المثلثات والأشكال الرباعية إلى قوانين تقريبية. أما الغريب حقًّا فهو ما توصلوا إليه في حساب مساحة الدائرة. وتوضح ورقة البردي رايند أن القانون الذي استُخدم في حساب الدائرة هو (د − ١ / ٩ د)۲ حيث د هي طول القطر. وهذا القانون يعطي العدد غير النسبي ط القيمة ٣,١٦. وهو رقم قريب بشكل مذهل من القيمة الحقيقية المستخدمة اليوم. أما في بابل فقد اكتفوا بتقدير تقريبي جدًّا للعدد ط (ط = ۳).
وثمة أدلة توضح أن البابليين كانوا يدركون خواص المثلثات المتشابهة وإن لم يلجئوا إلى البرهان بالمعنى الإقليدي. فالطريقة التي اتبعوها في حساب ارتفاع القوس إذا عُلم طول الوتر وقطر الدائرة دقيقة تمامًا؛ فقد استخدم البابليون القانون:

وهو القانون الذي نستخدمه حاليًّا لمواجهة مثل هذه المشاكل.
وليس معنى هذا أننا ندَّعي هنا أنه كانت هنالك نظرية الخط هندسية بالمعنى الإقليدي. وإذا عرَّفنا الهندسة البحتة بأنها علم استنتاج خواص الأشكال — قبليًّا — من خواص الفضاء المجرد على أساس مسلَّمات معينة مثل (أقصر مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم) كان من المؤكد الجزم بأنه لم توجد في العلم القديم هندسة بحتة؛ غير أن ألفة العالم القديم التجريبية بكثير من خواص الأشكال الهندسية كانت في الحقيقة هي البذرة الأولى في نشأة علم الهندسة بالمعنى اليوناني التقليدي، وبدون هذا كان من الصعب نشأة تصور علم الهندسة. وينطبق هذا بالمناسبة على النتائج النظرية الأساسية التي ضمَّنها أرشميدس في كتابه المسمى «بحث في التوازن المستوي» لقد كان الناس يزنون من آلاف السنين ويستخدمون الروافع؛ وبهذا كانت لديهم المعرفة الحدسية للمبادئ المتضمَّنة في كل التكنيك القديم. وما فعله أرشميدس لم يكن أكثر من عزل النتائج النظرية لهذه المعرفة العملية وتقديم المجموعة الناتجة من هذه المعرفة في نظام منطقي محكَم في الكتاب السالف الذكر. ولا يعني هذا إنكار جهد أرشميدس العبقري، إنما يعني أن العلم القديم في الميكانيكا هو الخطوة الضرورية التي كان يستحيل على أرشميدس أن يقدم نظريته بدونها.
إن الحقائق الرياضية تُكتشف عادةً عند دراسة مسائل خاصة تبرهَن فيما بعد. ولعل أصدق ما قيل عن براهين النظريات المختلفة هو قول الأستاذ هاردي أستاذ الرياضة بجامعة كامبردج، عندما تحدث عن أحد فروع الرياضة فقال: إن نظريات الأعداد بأجمعها نشأت بطريق المشاهدة. لقد خُمنت جميع النظريات قبل أن تبرهَن بمائة عام أو أكثر. وقد خُمنت جميعها بعد القيام بأعمال حسابية ضخمة.
أما في مسألة الحجوم، فقد توصَّل المصريون القدماء إلى قوانين تقريبية أحيانًا، وقوانين دقيقة أحيانًا أخرى. ومن أشهر المسائل المعروفة اكتشاف الكتَّاب المصريين لحجم الهرم الناقص. وقد وردت في ورقة بردي موسكو المسألة التالية التي أوردها تشايلد في كتاب «الإنسان يصنع نفسه»:
مثال في حساب الهرم الناقص: إذا قال لك أحدهم: احسب حجم الهرم الناقص الذي ارتفاعه ٦ أذرع وطول ضلعه الأسفل ٤ وضلعه الأعلى ٢:
احسب مربع الرقم ٤ تحصل على ١٦.
ضاعف الرقم ٤ تحصل على ٨.
احسب مربع الرقم ٢ تحصل على ٤.
أضف ١٦ إلى ٨ إلى ٤ تحصل على ٢٨.
خذ ١ / ٣ اﻟ ٦ تحصل على ٢.
اضرب ۲۸ × ۲ تحصل على ٥٦.
انظر: النتيجة ٥٦. لقد حصلت على الجواب.
ويمكن التعبير عن العملية المشروحة هنا بالقانون التالي:
وهو القانون الصحيح للهرم الناقص. وقد يبدو هذا غريبًا، ولكن الحقيقة أن الدقة المتناهية في بناء الأهرام كانت ذات مغزى ديني واجتماعي خطير؛ ولذا فليس غريبًا أن يجهد الباحثون أنفسهم للوصول إلى نتائج دقيقة تنفع المعماريين والهندسيين.
أما عن مسألة الحجوم في بابل، فيكفينا هنا أن نشير إلى لوح موجود بالمتحف البريطاني يتضمَّن ٣٢ مسألة من بينها مسائل حساب كتل الأرض المزاحة، وعدد قوالب الطوب اللازمة لبناء بئر أسطوانية، وتقدير المحاصيل عن حقول مختلفة المساحات، كما تتضمَّن مسائل أخرى غير مسائل الحجوم والمساحات كالزمن اللازم في عمليات النسيج، وتقسيم الساعة المائية وارتفاع قوس الدائرة … إلخ.
إجهاض علم الجبر
ثمة أدلة تاريخية على أن بذرة علم الجبر كانت في طريقها إلى الظهور؛ ففي ورقة بردي رايند تتناول المسألة رقم ٣٤ ما يمكن أن نسميه بمعادلات الدرجة الأولى. والمسألة هي:
مقدار إذا أضيف إليه نصفه وربعه كان الناتج عشرة فما هو هذا المقدار؟
وتعطي الورقة الإجابة ٤٠ / ٧؛ تمامًا كما لو عبَّرنا عن المسألة جبريًّا اليوم بالصورة التالية:
س + ١ / ٢ س + ١ / ٤ س = ١٠.
أي ٧ / ٤ س = ١٠.
أي س = ٤٠ / ٧
أما البابليون فقد حققوا في هذا المجال، فيما يبدو تقدُّمًا أكبر.
ومع ذلك فلم يتقدَّم علم الجبر أيَّ تقدُّم ملحوظ، لا في الحضارات القديمة قبل اليونان، ولا في أوج عظمة الحضارة اليونانية ذاتها.
والحقيقة أن التقدُّم في علم الجبر كان مرهونًا بضرورتين أساسيتين هما من ضرورات هذا العلم الداخلية، لم تتوفرا في العالم القديم.
- أولًا: إيجاد لغة اصطلاحية بسيطة خاصة بالتعبيرات الرياضية يمكن بها تبسيط العمليات وتركيزها.
- ثانيًا: اكتشاف الصفر؛ الأمر الذي لم يتم إلا على يد الهنود وحوالي ۱۰۰ق.م.
ويعترف العلماء اليوم بالأهمية البالغة لهذا الاكتشاف، ويعتبرونه حدثًا تاريخيًّا على جانب كبير من الأهمية. كتب العالم الرياضي الفرنسي الكبير لابلاس إلى نابليون قائلًا:
إن الهند هي التي أمدَّتنا بالطريقة الماهرة للتعبير عن الأعداد بواسطة عشرة رموز؛ بحيث تكون لكل رمزٍ قيمة موضعية إلى جانب قيمته المطلقة. وهي فكرة عميقة وهامة حتى ولو ظهرت لنا بسيطة بدرجة لا تمكِّننا من تقديرها حق قدرها. وهذه البساطة وسهولة العد إلى نشأت عنها هي التي ترتفع بعلم الحساب إلى أعلى المراتب النافعة. وسنقدِّر عظمة هذه الخطوة عندما نذكر أنها غابت عن بال كلٍّ من أرشميدس وأبولونيوس، وهما اثنان من أعظم الرجال القدماء.
لم يحدث في تاريخ الرياضة أن أخذت خطوة انقلابية أجرأ من تلك التي اتخذها الهنود عندما اخترعوا رمز الصفر دلالةً على العامود الخالي في عداد الحساب.
والحقيقة أننا لو أنعمنا النظر لأدركنا مسألتين أساسيتين تتعلقان بهذا الموضوع؛ الأولى: هي أن اكتشاف الصفر قد مكَّننا أن نعبِّر عن أيِّ عدد مهما كان كبيرًا بتسعة أرقام فحسب، وعلى ذلك لم تعد قدرتنا على التعبير عن الأعداد مرتبطةً بالحروف الأبجدية. والثانية هي أن اكتشاف الصفر قد مكَّننا لأول مرة بأن نُجري على الورق كل عمليات الجمع التي كان القدماء يقومون بها على العدَّاد. وبدون هذا كان من المستحيل أن يتقدَّم علم الحساب، وبدون تقدُّم علم الحساب استحال على علم الجبر أن يتقدَّم خطوةً هامة. والحقيقة أن فشل علم الحساب خارج حدود معينة هو الذي أجهض في نهاية الأمر علم الجبر، حتى وُلد من جديد على يد العرب وبفضل الخوارزمي خصوصًا في القرن الخامس الهجري.