الفلك والتنجيم

لقد أثبتت الظروف أن القدرة على العد والحساب ليست ضرورية في أعمال إدارة المعابد فحسب، بل هي ضرورية كذلك في عمل التقويم الذي أدَّى تعقُّد الحياة الاجتماعية إلى إبراز أهميته القصوى؛ ولذا كان طبيعيًّا أن يؤدِّي كل ذلك إلى تطوُّر علم الفلك.

لقد كان الإنسان الأول يولي بالطبع اهتمامًا خاصًّا بالشمس والقمر والنجوم، ويرى في صفحة السماء نوعًا من الساعة المفيدة له في حياته الاجتماعية؛ غير أنه رأى في العواصف والبرق والرعد والسيول والفيضانات الأولى أخطارًا على حياته وإنذارًا بفنائه، وكما يقول هوجبن:١

في صفحة السماء المتغيرة رأى الإنسان الأول الموت والتوالد واليقظة والتتابع الأساسي للإخصاب والفناء. وكان شروق كوكبات نجمية جديدة، واختلاف ظل الشمس بين الطول والقصر ينبئ عن وقت ولادة الحملان أو جفاف أعواد القمح أو بذر الحبوب. وقد انطبق تتابُع أوجه القمر على تتابع الحياة المخصبة للمرأة. وكان غروب الشمس وشروقها علامتين للنوم والتوتر البدني لليقظة. ولم يكن في استطاعة الإنسان الأول أن يفهم أن هذه الساعة التقريبية التي تدل على مواقيت بذر الحبوب ومواقيت العناية بالدواب لا يمكن استمالتها أو اتِّقاء شرها بالرشوة كما يفعل مع رؤساء قبيلته. وعلى هذا الأساس اكتسب فريق الكهنة مكانة سلطان ممتازة، فقاموا بمهمة ضابط الاتصال بسكان السماء القادرين، يرشونهم ويستعطفونهم. ووجد الكهان هذا العمل مربحًا لهم؛ فالرعاة المزارعون يُحضرون الهدايا للآلهة فيستفيد بها الكهنة وتنمو عليها أجسادهم.

كان الإنسان الأول إذن في حاجة لاتقاء شرور الطبيعة واستعطافها من ناحية، كما كان في حاجة إلى تقويمٍ يفيده في الزراعة وتربية الحيوان من ناحية أخرى. ولقد تكفَّل القمر بتقديم أول تقويم معقول للإنسان. وحوله نشأ لدى الإنسان الأول كثير من الطقوس والخرافات؛ غير أن القمر كتقويم لم يكن في حاجة إلى الرياضة أو الفلك لكي يفهمه الإنسان.

وإذ تقدَّم الإنسان نحو حضارة الزراعة أصبحت السنة أكثر أهمية من الشهر؛ إذ كانت الشمس أكثر أهمية من القمر؛ لارتباطها بمواسم الزراعة. وقد لا يكون الإنسان في حاجة قصوى إلى التقويم الشمسي لتحديد مواسم الزراعة؛ فالطبيعة عادةً تقدِّم قبل كل موسم زراعي من التمهيد الكافي (ظهور الطيور في الربيع، الحرارة، الريح … إلخ) ما يكفي الزارع دقيق الملاحظة دون حاجة إلى عد الأيام على مدار السنة؛ غير أن هذا كله لم يكن مفيدًا لمواجهة ظاهرة أساسية في حياة الزارعين المصريين؛ ونعني بذلك فيضان النيل. كان المصريون ملزمين بالاستعداد لمواجهة الفيضان قبل أن يحدث؛ لتقوية الجسور، وإعداد الحقل، ومنع الأرض من الغرق. ولعل هذا الجانب بالذات هو الذي دفع المصريين أكثر من غيرهم للعمل بجدٍّ من أجل «التقويم الشمسي»؛ هذا التقويم الذي وصفه بعض المؤرخين بأنه أذكى الأعمال التي أنجزها المصريون القدماء، والذي ما زال في الجوهر هو التقويم الذي يستخدمه العالم حتى اليوم، بعد أن نقله يوليوس قيصر من مصر إلى العالم الروماني ببعض التعديلات، ثم طوَّره البابا جريجور الثالث عشر في القرن السادس عشر الميلادي وأصبح هو التقويم العالمي.

إن عظمة هذا العمل الكبير لا يمكن تقديرها إلا متى أدركنا أن الطول الحقيقي للسنة الشمسية (٣٦٥,٢٤٢٢م يومًا) ليس أمرًا سهلًا حسابه. فهو يتطلب مشاهدات طويلة ودقيقة للشمس والنجوم ومقارنتها بعضها ببعض. ولقد تكفَّل الكهان المصريون بإنجاز هذا العمل العلمي الكبير، فلم يكد عام ۲۷۰۰ق.م. يُقبِل حتى كان لدى مصر تقويم شمسي انتفع به العالم ألوف السنين.

ومن الواجب أن نقف بُرهةً هنا لنتفهَّم بعض تفاصيل هذا العمل. كان المصريون في حاجة إلى تحديد موعد فيضان النيل، ولاحظوا أن ثمة علاقة بين ارتفاع النيل وبين ظهور النجم «الشعرى» في الأفق عند شروق الشمس. ومن هنا اصطلحوا على أن الصباح الذي يظهر فيه هذا النجم عند الأفق في نفس وقت شروق الشمس (وهو يوم ١٩ يوليو في التقويم القيصري) هو يوم بدء الفيضان. ولقد قدَّر المصريون من مشاهداتهم وأرصادهم أن دورة ٣٦٥ يومًا تفصل بين ظهور نجم «الشعرى» مرتين متتاليتين. ومن هنا تبنَّوا نظام السنة باعتباره ٣٦٥ يومًا. ولقد قسَّموا هذه السنة (اختياريًّا طبعًا) إلى اثني عشر شهرًا، كل منها ثلاثون يومًا، أضافوا إليها خمسة أيام تكميلية في أول العام. وقُسِّم كل شهر إلى ثلاثة أسابيع، كل أسبوع منها عشرة أيام، كما جُمعت هذه الشهور نفسها في مجموعات رباعية أو فصول؛ هي: الفيضان، الإخصاب، الفصل الحار. وعلى ذلك فإن تاريخًا ما كان يحدَّد عادةً بالفصل ورقم الشهر ورقم اليوم.

والحقيقة أن نقطة الضعف الهامة في هذه السنة المصرية هي أنها أقصر من السنة الحقيقية بمقدار ربع يوم؛ ولذا فبعد كل أربع سنوات كانت سنة التقويم تبدو متأخرة يومًا عن السنة المحصورة بين ظهورين متتاليين للنجم «الشعرى». وربما لا يؤثِّر هذا الفارق كثيرًا في حياة جيل أو جيلين، إلا أنه بمرور عشرات الأجيال بدأت البلبلة والارتباك في التقويم. ويقدِّم دريتون٢ أمثلة على هذا الارتباك الذي أدَّى بعد سنين عديدة إلى عدم تطابق فصول التقويم مع الفصول الحقيقية. فالأعياد الصيفية تقع في الشتاء، وقد أدَّى هذا إلى نوع من الارتباك الديني على وجه الخصوص. ونأخذ، كمثالٍ على ذلك، العمل الأدبي المحفوظ في كراسة تلميذ من الأسرة التاسعة عشرة: «تعالَ إليَّ يا آمون، أنقذني من السنة المضطربة. إن الشمس لم تعد تسطع. ويأتي الشتاء مكان الصيف، والشهور تسير إلى الخلف.»

على أن هذا الارتباك لم يغيِّر شيئًا من حياة المصريين الزراعية المرتبطة بتعاقب الظواهر الطبيعية، وبعد مرور ١٤٦٠ عامًا من إنشاء التقويم، عندما بلغ التأخير سنةً كاملة، وُجد أن الأمور قد قد عادت من تلقاء نفسها إلى نظامها الأول، كما انتظمت من جديدٍ أقسام التقويم الرسمي لمدة أربع سنوات من السنوات العادية. وقد سُمِّيت الدورة اللازمة لهذه «العودة» بالفترة «الشعرية». وفي بعض المخطوطات التي كُتبت حوالي ۲۰۰۰ق.م. يجري الحديث عن «العام الكبير». ويرجِّح تشايلد في كتابه «الإنسان يصنع نفسه» أن المقصود بالعام الكبير هو دورة نجم الشعرى المكونة من ١٤٦٠ عامًا عاديًّا.

أما السومريون وخلفاؤهم في العراق فقد كانوا مرتبطين بالقمر بشكلٍ لم يسمح لهم بقبول هذا الحل المصري البسيط؛ ولذا حاولوا مهمة أشق، هي مهمة التوفيق بين التقويم الشمسي، والتقويم القمري. وتلك المهمة كانت في حاجة إلى مشاهدات وأرصاد تجمع على مدى أجيال من الزمان. ولقد اعترف البابليون بسنة قمرية عدَّتها ٣٥٤ يومًا. وحتى بدء الشهور كان بطريقة تجريبية. ويتعرض تشايلد٣ لمراسلات الملك حمورابي (حوالي ۱۸۰۰ق.م.) التي ترد فيها تقريرات الموظفين الذين كان منوطًا بهم مراجعة ظهور القمر الجديد. ولا يبدأ الشهر رسميًّا إلا بعد أن يُبلغ هؤلاء الموظفون الملك بنبأ ظهور القمر الجديد. وقد أوضح تاريخ بابل أن التقويم القمري كان يصحَّح بإضافة منتظمة لشهر زائد، وإن لم يعترف بنظام عام لهذه الإضافة؛ إذ كان متروكًا للملك وحده أن يأمر بإضافة هذا الشهر. ومن المتوقع بالطبع أن الملك كان يتصرف بناء على نصيحة من فلكيِّيه.

ولقد كان من الطبيعي أن يؤدِّي انتظام العمل في الحقول والحرف الاهتمام بالزمن لتحديد ساعات النهار والليل. والواقع أن التقسيم المتساوي لليل والنهار أشد فائدةً في تنظيم العمل بالمزارع والورش. وثمة أدلة على أن المصريين القدماء كانوا يدركون هذه الحقيقة.

أما في تحديد الساعات المختلفة للنهار فقد استخدم المصريون والبابليون فكرة اللجوء إلى قياس طول ظل الجسم الرأسي، واستخدموا الساعات المائية لتقسيم الليل. وكانت فترات الزمن تقاس بكميات الماء التي تخرج من أوانٍ مدرَّجة تدريجًا قياسيًّا. ولقد استخدم المصريون أواني مخروطية الشكل، وتلك لم تعطِ نتائج دقيقة أبدًا. فنحن نعرف اليوم أن الأواني الوحيدة التي يمكن أن ينخفض الماء فيها مسافات متساوية في الأزمنة المتساوية هي الأواني التي تأخذ جدرانها شكل القطع المكافئ. وقبل ۲۰۰۰ق.م. كان المصريون يقومون بتجارب على الساعات الشمسية أو التقويمات المبنية على أساس المبدأ القطري. ونحن لم نستقِ معلوماتنا عن هذا إلا من التوابيت (والحقيقة أن آثار المقابر والمعابد: مثل معبد رمسيس الثالث بمدينة حابو بالأقصر، هي المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن الفلك المصري؛ إذ لم توجد أي نصوص فلكية) التي رُسم عليها من الداخل نوعٌ من ميناء الساعة حتى يمكن للميت أن يعرف الوقت وهو في قبره عندما يصحو من غفوته. وقد قُسمت هذه الميناء إلى أقسام مختلفة ووُضعت العلامات التي تعبِّر عن الانقلاب الصيفي والاعتدالين الربيعي والخريفي ووقت منتصف الليل، وهكذا. وحتى ولو سلَّمنا أن مزيِّني التوابيت غير الفلكيين قد جعلوا من هذا النظام الزمني كاريكاتيرًا إلا أن هذا الاهتمام بمعرفة الميت الزمن في قبره دليل حاسم على مدى اهتمام المصريين بعلم الفلك. هذا وتوضح الآثار أن المصريين والبابليين قد صنعوا خرائط دقيقة للنجوم متخذين من خط الزوال محورًا للإسناد. ورغم أن بعض المؤرخين قد ادَّعى أن الكهنة المصريين قد تنبئوا بموعد الكسوف الكلي للشمس، فإن تشايلد٤ يؤكد أنه لا توجد أي سجلات عن كسوف كلي للشمس في مصر.

هذا عن الجانب العلمي في الفلك بإيجاز؛ غير أن الاهتمام بالسماء كان يتعدى طبعًا حدود قضية التقويم ومواسم الفيضان والزراعة. فالشمس التي تنظِّم العام وتهبُ المحصول قد انتهت إلى أن تُعبد كإلهٍ في مصر، والقمر والنجوم والكواكب أصبح منظورًا إليها من الزاوية الإلهية كذلك. وحتى الاهتمام بالتقويم لم يكن كله ذا مصدر اقتصادي فحسب، بل كان ضروريًّا لتحديد أعياد دينية هامة. ولقد ارتبطت دراسة الفلك منذ البداية بالدين على يد الكهنة. وفي نهاية الأمر ينبغي أن نتذكر أن مجال علم الفلك هو السماء حيث تحيا أرواح الفراعنة المقدَّسة بعد الموت وحيث تقوم الشمس برحلتها كل يوم في مركبها المقدس.

لقد تصوَّر المصريون السماء باعتبارها غطاءً مسطَّحًا يرتكز على الجبال ويجري بها نيل سماوي آخر هو الذي تسبح فيه الشمس، وتصوَّرها البابليون خيمة رباعية كبيرة تتدلَّى منها النجوم، وبعد اختراع العجلة الدائرية في بابل ظهرت فكرة دوران السماء حول محورها القطبي.

ولقد أدَّت فكرة الحركة المنتظمة للسماء إلى اهتمام كبير بحركة الأجسام السماوية. وبدأ الاعتقاد بأنه إذا كانت حركة الأجسام السماوية تؤثِّر في الطبيعة وتحدِّد مصير الفصول فلا شك أنها تؤثِّر أيضًا في الإنسان وتحدِّد مصيره. وتلك بالدقَّة البذرة الأولى في التنجيم الذي قام على أساس محاولة التنبؤ بمصير الإنسان ومستقبله، بالفيضان والحروب والأمراض والمجاعات … إلخ؛ غير أن هذا الامتياز (أي حق الاتصال بالسماء) كان وقفًا على الملوك ثم الكهنة ولم يتيسَّر للأفراد العاديين؛ ولذا فمن الواجب التمييز بين هذا النوع من التنجيم وبين التنجيم الذي يتحدَّد في مراقبة النجوم لمعرفة مصير كل طفل يوم ميلاده (وهو ما نعنيه حقًّا بالتنجيم اليوم). فالنوع الأول من التنجيم البدائي والساذج الذي نشأ في حضارات العصر البرونزي استهدف التنبؤ أو التحذير من أحداث تتعلق بمصالح البلاد كلها (كالفيضانات، والمجاعات، والأمراض، والحروب) ولا تتعلق بمصائر الأفراد العاديين. أما النوع الثاني من التنجيم — وهو ما نعنيه حقًّا بالتنجيم اليوم — فالثابت تاريخيًّا أنه كان نتاجًا للعلم في الإسكندرية ولم يكن معروفًا في مصر قبل أن يحكم اليونانيون المقدونيون البلاد.

وهذه التفرقة ضرورية للتنبيه إلى بطلان الأفكار الزائفة لدى الأوروبيين عن تاريخ التنجيم في الشرق القديم. وثمة صورة كاذبة لا تزال تقدَّم حتى اليوم توحي بأن الشرق كان مجتمعًا خرافيًّا يعيش على التنجيم. ولقد لعبت هذه الفكرة أكثر من أيِّ اعتبار آخر دورها في تغذية التعارض المزعوم بين حضارة الشرق الخرافي وحضارة اليونانيين العقلانيين.

١  هوجبن: «الرياضة للمليون»، ص٣٠.
٢  دريتون: «تاريخ مصر»، ص ٤٨–٥١.
٣  جوردون تشايلد: «الإنسان يصنع نفسه»، الفصل الثامن.
٤  جوردون تشايلد: «الإنسان يصنع نفسه»، الفصل الثامن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥