الطب والسحر

إن المحاولات التي بُذلت لعلاج الأمراض قد بدأت قبل الثورة الحضرية بعدَّة قرون. ومن الطبيعي في مجتمع كهذا أن يختلط الطب والسحر خصوصًا إذا كان الكهنة هم المشرفون على الأمرين معًا. وليس ما نقوله أمرًا افتراضيًّا؛ إذ إن حفائر العصر الحجري القديم تعطي تأكيدًا لهذه الحقيقة. وفضلًا على ذلك فنحن نجد نفس هذا الواقع في الجماعات المتوحشة المعاصرة.

لقد ارتبطت الممارسة الطبية ارتباطًا وثيقًا بالطقوس الدينية. وشيئًا فشيئًا تكاملت نظرية مؤدَّاها أن المرض ليس إلا روحًا شريرة تسكن الجسد. وعلى هذا فمهمة الطب الأولى هي البحث عن الطرق التي تؤدِّي إلى طرد الأرواح الشريرة من الجسد، وفي مقدمة هذه الطرق استخدام الجرع القوية من الأشربة المستخلَصة من نباتات معيَّنة لطرد هذه الأرواح. وبقدر ما تكون الجرعة سيئة المذاق، بقدر ما تطرد الأرواح الشريرة من الجسد بسرعة. ويعتقد تشايلد أنه إذا كانت علوم الطب لا تزال تُعتبر عند الكثيرين مثيرة للاشمئزاز، فمردُّ ذلك إلى نظرية الأرواح عن الأمراض التي يمكن تتبُّع آثارها إلى أقدم النصوص الطبية. ولا تتناقض هذه النظرية مع اكتشاف الكهان من خلال التجربة والمصادفة لنفع بعض النباتات في علاج بعض الأمراض، كما حدث عندما اكتشف هنود أمريكا الجنوبية فائدة الكنين في علاج الملاريا.

غير أنه من الطبيعي ألا تكون لدى الكهنة المصريين والبابليين دوافع لدراسة الأسباب الموضوعية لأي مرض أو لبحث وظائف الأعضاء بطريقة منهجية. فلقد ظلَّت النظرية مرتبطة بالكهان وامتيازاتهم بحيث كان أيُّ تحدٍّ لها لا بد أن ينتهي إلى الاتهام بالخيانة أو الهرطقة؛ ولذا فليس بالغريب أن تنحصر قيمة الطب الشرقي القديم في عدد معين من الأدوية المفيدة وعدد بسيط من الحقائق الفسيولوجية الواضحة.

وقد يبدو هذا غريبًا في بلدٍ كمصر بالذات حيث حقق المصريون إنجازات كبيرة في فن التحنيط؛ غير أن الواقع أن الطب لم يتأثر كثيرًا بالمعرفة التي تجمعت لدى المحنطين؛ إذ إن هؤلاء كانوا يمثِّلون حرفة متميزة ومتخصصة ومنفصلة تمامًا عن طب الكهنة. وليس معنى هذا أن فن التحنيط نفسه لم يؤدِّ إلى معلومات علمية مفيدة في علم التشريح؛ غير أن هذه المعلومات ظلَّت بعيدة عن إفادة الطب الباطني. وفضلًا على هذا فقد انحصر التحنيط في الطبقة الحاكمة، وارتبط ببواعث دينية واضحة وأساطير جعلت من الصعب تداول المعلومات التي لدى المحنطين.

وإذ كان الطب في يد الكهنة، كان من الطبيعي أن نعثر على وثائق طبية عديدة في الحفريات القديمة؛ ففي مصر يرِد ذكر الكتب الطبية منذ عهد الأسرة الثالثة، كما عُثر على كتب أخرى من نفس النوع بعد ۲۰۰۰ق.م. بوقت قصير. وفي العراق كُتبت النصوص الباقية في أيدينا بعد ۱۰۰۰ق.م. وإن كان البعض يظن أن بعضها نُسِخ من ألواح كُتبت قبل ذلك بألف عام. وفي كلا القطرين تأخذ النصوص الطبية شكل دراسة حالات مرضى، ولا توجد أي أبحاث باقية في علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء.

أما بالنسبة للجراحة، فلدينا في مصر بحثٌ هام يُعرف باسم ورقة بردي إدوين سميث. وهي في شكلها الحالي ترجع إلى الفترة الزمنية (٢٠٠٠–١٥٠٠ق.م.) وإن كان بعض المؤرخين مثل برستيد يظن أنها تعود إلى عصر الأهرام (حوالي ٢٥٠٠ق.م.).

لقد كان من المفهوم أن تتقدَّم الجراحة عن الطب؛ إذ كان منظورًا إليها كحرفة منفصلة عن الدين تمامًا؛ حرفة تقوم على مواجهة أسباب طبيعية مفهومة واضحة للعيان؛ ونعني بذلك الحوادث التي تؤدِّي إلى الجروح؛ ولذا فمن الطبيعي أن يكون الجرَّاح أكثر تحررًا من الطبيب.

إن ورقة بردي إدوين سميث، ككل النصوص الطبية، لا تخرج عن مجموعة من الحالات تحت العلاج؛ غير أن الحالات مرتبة وفق منهج واضح. وهو البدء بجروح الرأس حتى جروح القدم. وهذا هو نفس النظام الذي ظل متبعًا حتى القرون الوسطى. وتتضمَّن كل حالة نوع الإصابة والتنبؤ بمستقبل المصاب وقواعد للعلاج في النهاية. وقد انقسمت حالات المصابين إلى نوعين: حالات قابلة للشفاء ولذا تعالَج، وحالات لا تعالج لأنها في ظن الجرَّاح غير قابلة للشفاء. ولقد كان على الجراحين أن يكونوا على غاية من الحذر والدقة في التمييز بين هذين النوعين. فعلى الرغم من أن أجور الجراحين كانت عالية بالنسبة لأجور الحرف الأخرى (وفق قانون حامورابي يتقاضى الجرَّاح من ٢ إلى ١٠ شيكلات في الحالة الواحدة بينما كان أجر الميكانيكي في السنة ٨ شيكلات). إلا أن عقوبتهم باهظة إذا مات المصاب أو انتهى العلاج بالعجز الدائم. وإن مما يثير الإعجاب أن نجد في ورقة إدوين سميث هذه أربع عشرة حالة موصوفة بالتفصيل رغم أنه حُكم عليها باستحالة الشفاء وصُنفت تحت عنوان «حالات لا تعالج». ومعنى هذا أن الجراحين المصريين كانوا يتحلَّون بروحٍ علمية منزَّهة عن الأغراض العاجلة وأنهم لم يكونوا يستبعدون إمكانية شفاء مثل هذه الحالات في المستقبل إثر اكتشافات جديدة، وإلا لما عُنوا بتسجيل هذه الحالات بمثل هذه الدقة.

ويورد تشايلد في كتاب «الإنسان يصنع نفسه» أمثلة من الحالات الواردة في ورقة إدوين سميث، ومن بينها حالة كسر في الجمجمة. وفي هذا النص وصف دقيق للمخ وللإصابة، وهو لا بد أن يكون نتيجة دراسة ذكية أجريت على جندي أو عامل مجروح.

ولا توجد أي وثائق طبية في مصر بعد ورقة إدوين سميث. ولو صح تقدير بريستد من بريستد من أنها تعود إلى عصر الأهرام لكان معنى ذلك أن علم الطب والجراحة لم يحرز أي تقدُّم جديد منذ ذلك الوقت وأنه واجه نفس أزمة العلوم الأخرى.

بقيت كلمة لا بد منها عن التحنيط: لقد تعرَّضت كتب كثيرة عن هذا الموضوع؛ ولذا فإن وصفًا موجزًا له هنا فيه الكفاية؛ فالموميات القديمة (أقدم مومياء معروفة يرجع عهدها إلى الأسرة الثالثة) كانت تُزال عنها كل الأعضاء الداخلية، إذا استثنينا المخ، ويُملأ التجويف بالتوابل والراتنج، ثم يُلف الجسد في كتان دقيق، وأحيانًا يوضع قناع من الجبس مُذهب فوق الوجه، وتوضع في تابوت خشبي على هيئة صندوق. أما في الدولة الوسطى فقد كانت طرق التحنيط للأفراد غير المنتمين للطبقة العليا غير متقنة. إذ كانت تُزال الأعضاء الداخلية بما في ذلك المخ ثم تُحفظ هي والجسد في الجير الحي أو في الملح. أما بالنسبة للطبقات العليا فقد اتبعت طرقًا في التحنيط أغلى ثمنًا تقوم على استخدام الصموغ والتوابل والراتنج. وقد حققت الدولة الحديثة (١۷۰۰ إلى ١١٠٠ق.م.) تقدُّمًا كبيرًا في طرق التحنيط فشاعت طرق جديدة في محاولة جعل المومياء تظهر بمظهر الشخص الحي؛ وذلك عن طريق حشو الوجنات وغيرها من أجزاء الوجه والجسم بالطمي يُدفع إلى داخل عن طريق فتحات تعمل في الجلد، وبعد ذلك يطلى وجه الميت بالألوان. ولقد ذكر هيرودت أن المدة التي تستغرقها عملية التحنيط هي سبعون يومًا. ويُظن أن التحنيط نفسه كان يستغرق أربعين يومًا، وأن الثلاثين يومًا الأخرى كانت لازمة للفِّ المومياء باللفائف وربطها؛ إذ إن كل رباط يلفُّ كانت تُتلى خلاله صلوات وطقوس معينة. ولقد تأيَّد هذا الظن عن طريق أثر تذكاري لرمسيس الرابع.١
١  راجع موري: الفصل الرابع، الجزء الخاص بعادات الدفن، كتاب «مصر ومجدها الغابر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥