تكنيك الحضارة
إن معرفتنا عن تكنيك الحضارة — وحتى ما سبقها — لا يعتمد أبدًا على نصوص مكتوبة تتناول هذه المسألة؛ إذ إن الذين تولَّوا ابتكار وتطوير هذه التكنيكات لم يعرفوا القراءة والكتابة، والذين يعرفون القراءة والكتابة كانوا معزولين عن العمل اليدوي. ومن هنا تختلف المسألة إلى حدٍّ كبير عن معلوماتنا عما سُمِّي بالعلوم النبيلة أحيانًا؛ ونعني بها الرياضة والفلك والطب.
والحقيقة أن كل ما نعرفه عن التكنيك القديم إنما يرجع إلى ما نعثر عليه من مخلفات هذه الحضارات، من أدوات ورسوم وبقايا حفائر؛ ومن هنا تنشأ صعوبات عديدة حول معرفة الفترة الزمنية لكلِّ ابتكار واختراع. ويبدو أحيانًا أنه لا مفرَّ من ترجيح افتراضٍ على آخر دون أن يكون لدينا الدليل الحاسم دائمًا على وجهة نظرنا. ليس هذا فحسب، بل تنشأ صعوبة أخرى من إدراكنا أن وراء كل اختراع وتكنيك قدرًا معيَّنًا من الإدراك والفهم النظري أيًّا كانت حدوده، وبصرف النظر عن الوعي الكامل به، فضلًا على التعبير عنه في وثيقة مكتوبة. أما حدود هذا الفهم، فلا سبيل أحيانًا أمامنا إلا التخمين مرة والاستقراء والمقارنة بمجتمعات شبيهة معاصرة مرة أخرى.
غير أن من المؤكد أن ما حقَّقته الحضارات القديمة في هذا المجال أكبر من كل ما يمكن أن تشير به حفريات رجال الآثار. وإن المستوى العالي من الإنجازات التكنيكية الذي حققته الحضارات الأولى يبدو لنا على حقيقته إذا تذكَّرنا ما نميل دائمًا لنسيانه؛ وهو أننا ما زلنا إلى اليوم محاطين من كل ناحية في حياتنا المنزلية وغيرها بكل منجزات هذه الحضارات القديمة التكنيكية، والتي ظلَّت غالبًا كما هي ودون أدنى تغيير منذ خمسة آلاف عام؛ فمقاعدنا ومناضدنا لم تتغير أبدًا منذ حلَّ النجارون المصريون القدماء مشاكل النجارة الأساسية، وما زلنا حتى اليوم نعيش في منازل من الطوب والحجارة والجير، نأكل الأسماك، ونلبس جوهريًّا نفس أنواع الملابس، وما زال الكثيرون يعتمدون في النقل على القارب الشراعي والعربة التي يجرها الحصان كما كان يفعل أجدادنا منذ آلاف الأعوام.
اكتشاف المعادن
لقد كان التنظيم الزراعي هو العامل الاقتصادي الحاسم في نشأة المدن. ويُعتبر اكتشاف واستخدام المعادن (ولا سيما النحاس وسبيكته البرونز) التقدُّم التكنيكي الأساسي الذي صاحب نشأة المدن. وليس من السليم أن نغالي في دور المعادن عند بدء اكتشافها؛ فالحقيقة أنها كانت نادرة إلى درجة استعمالها لأدوات كمالية فحسب، بينما استمرت الزراعة زمنا طويلًا معتمدة على الآلات الحجرية.
غير أن هذا الموقف تغيَّر بعد ذلك. ولسنا نعرف على وجه الدقة متى بدأ الاهتمام الأول بالمعادن، وإن كان بعض المؤرخين يرجِّح أنها ارتبطت باهتمام الإنسان الأول بالحلي الغريبة الألوان والأشكال للزينة. ثم تطوَّر الأمر بعد ذلك فاستُخدمت المعادن في أدوات الحضارة.
لقد كان الذهب من أوائل هذه المعادن النافعة للزينة، ثم بدأ اكتشاف النحاس الذي أمكن تكسيره إلى أجزاء صلبة بالدرجة التي يمكن استخدامها في صناعة الأدوات، ثم اكتُشف بعد ذلك أن هذه العملية تكون أسهل إذا سُخن المعدن قبل طرقه. وهذه الصلة بين المعادن والنار هي التي أدَّت فيما بعد إلى اختزال خام كربونات النحاس وصهره ثم تشكيله. ويحتاج إنجاز هذه العملية الأخيرة إلى درجة عالية من الحرارة لا تتوافر في النار العادية، ولا بد لها من توفير الفرن المزوَّد بمجرًى هوائي لإعطاء درجة الحرارة المرتفعة نسبيًّا واللازمة لإذابة المعادن؛ وذلك عن طريق دفع الهواء بالفم إلى مواسير تتصل مباشرة بالنار (صورة في مقبرة تي بسقارة من الأسرة الخامسة). ولقد كان هذا الجهاز تمهيدًا لاختراع المنفاخ فيما بعدُ، والذي يذكر تشايلد في كتابه «ماذا حدث في التاريخ» أنه لا يوجد برهان مباشر بخصوص استعماله قبل ١٥٠٠ق.م. في مصر.
ولقد أدَّى إنتاج الأدوات المعدنية إلى تغيُّر كيفيٍّ جديد في سيطرة الإنسان على محيطه وبيئته. فالأدوات المعدنية أشد تحملًا من الأدوات الحجرية، والأسلحة المعدنية أكثر فعاليةً من غيرها عند مواجهة الحيوان أو العدو البشري. ومن مزايا الأواني المعدنية أنها تستطيع تحمُّل النار دون أن تتحطم. وفي مقابل هذا ينبغي أن نلاحظ أن هذه المعادن كانت غالية؛ إذ إن خامات النحاس والقصدير كانت موزعة في أماكن متباعدة يصعب الوصول إليها ويتطلب نقلها تكاليف باهظة. وكلتا المادتين ضروريتان في صناعة البرونز بكل مميزاته التي يتفوق بها على النحاس (البرونز أصلب من النحاس ونقطة انصهاره أقل؛ ولذا يسهل صهره وإعادة تشكيله). ومن هنا كان من الطبيعي أن يبدأ باستخدام المعادن أولًا في صناعة ما يرضي الملوك والنبلاء والعسكريين من أدوات الزينة والأواني والتماثيل. ثم تطورت الأمور بعد ذلك إلى صناعة السكين والإزميل والمنشار؛ الأمر الذي أفاد صناعة النجارة كثيرًا. وبعد ذلك عربة العجلة الدائرية والعجلة المائية (وكل منهما كان مستحيلًا بدون المعادن) والمحراث ذو السلاح المعدني.
المواصلات
وقد كان من الضروري أن يكون للاختراعات الميكانيكية آثار مباشرة وأخرى طويلة المدى. ولقد توقف وجود المدن الأولى على القدرة على تنظيم نقل المواد بالجملة. ومن أمثلتها نقل المواد الغذائية من الريف إلى سكان المدن الذين يُعدُّون بالألوف، ونقل المعادن والأخشاب والأحجار من موطنها الأصلي إلى المدينة، ونقل السلع التجارية بين المدن. ومن الطبيعي أن يؤدِّي كل هذا إلى تحسينات عظيمة وابتكارات أساسية في وسائل المواصلات كان لها أبعد النتائج على تطوُّر العلوم عمومًا وعلم الميكانيكا خصوصًا.
وفي مبدأ الأمر استُخدم المجداف في تحريك القارب (وهذا من إنجازات العصر الحجري القديم)، وفي أوائل عصر الحضارة بدأ اكتشافٌ جوهري جديد؛ ونعني بذلك الشراع. وقد أدَّى هذا الاكتشاف إلى زيادة مدى الملاحة؛ غير أن أهمية هذا الاكتشاف الأولى تكمن في أنه أول تطبيق لاستخدام القوى الطبيعية الجامحة للاحتياجات البشرية. وهو بهذا كان النموذج الأول الذي سبق طواحين الماء والهواء والآلة البخارية والطائرة وتطبيقات الطاقة الذَّرِّية. لقد كانت الأنهار والبحيرات هي الميدان الأول لأول مخاطرات في ارتياد البحار. وكان من الطبيعي أن يؤدِّي ارتياد البحار إلى صناعة سفن أقوى وأكثر تماسكًا كما أسلفنا في الأمثلة، كما كان طبيعيًّا أن يؤدِّي ذلك إلى اهتمام أكبر بحركة النجوم لضمان توجيه السفن في البحار. وهكذا بدأ عامل هام جديد في تطوير علم الفلك.
لقد كان لهذا الاختراع نتائج علمية ومادية كبيرة. فالعربة والمحراث معًا قد مكَّنا الزراعة من الانتشار في سهول جديدة، وهذا أدَّى بدوره إلى زيادة فائض الإنتاج الزراعي كما سهَّل استيراد المواد من الخارج بالجملة.
لقد وضعت الرافعة والمستوى المائل (وهما اللذان استُخدما في بناء الأهرامات والمعابد) أساس علم الميكانيكا، ثم جاءت العجلة لتُرسي على هذا الأساس مبادئ نظرية جديدة انتهت بالإنسان إلى التحليق في السماء في عصرنا.
وفي نفس الوقت أدَّت هذه الإمكانيات الجديدة لوسائل المواصلات، بالعربة والسفينة إلى تسهيل البحث عن المعادن النفيسة الأمر الذي أدَّى بدوره إلى ارتياد مناطق برِّية وبحرية جديدة. وهكذا وُضعت اللبنات الأولى في علم الجغرافيا.
مشاريع البناء والري
كان من البديهي أن تقوم حضارة المدن والزراعة على الاهتمام بمحاولة توفير الماء اللازم للزراعة من ناحية والاهتمام بمشاريع البناء اللازمة للمدن من ناحية أخرى. وليس في هذا غرابة؛ فالمدينة في حاجة إلى تنظيم، وبناء المساكن والمعابد، وفي حاجة إلى حدٍّ من الإتقان لفن البناء والمعمار، وإلى زيادة الإنتاج الزراعي لإعالة أهل المدن الذين تكاثروا باستمرار ولم يكونوا عاملين في الزراعة. وقد كان هذا دافعًا إلى بذل كل محاولة لتوفير الماء عن طريق تخزينه في أيام الكثرة لأيام القلة غير أن وجه الغرابة هو هذا المستوى المتقدِّم جدًّا (والملحوظ في مصر على وجه الخصوص) في تكنيك البناء والمعمار والري الصناعي، وهو يصل في مصر القديمة إلى حدٍّ قد يبدو مذهلًا أحيانًا.
وفي كثير من كتب مصر القديمة توجد أمثلة حية على هذه الظاهرة.
وحسبنا أن نشير إلى كتاب «الديانة المصرية القديمة» (للأثري الألماني استندرف)، وإلى كتاب «مصر ومجدها الغابر» لمؤلفته الإنجليزية ميس موري؛ ففي الكتابين دراسة مفصلة عن كيفية بناء أهرامات مصر والمبادئ الهندسية المعمارية والجيولوجية التي روعيت عند بنائها، وهي تعطي فكرة واضحة عن مستوًى رفيع من الخبرة الفنية.
ويذكر التاريخ عملًا هندسيًّا رائعًا آخر تم في عهد آمنحات الثالث (الأسرة الثانية عشرة ٢٧٧٨–٢٥٦٥ق.م.) وهو تحويل بحيرة الفيوم إلى خزان يحجز مياه الفيضان السنوية ويحتفظ بها لموسم الجفاف حيث يفرج عنها لأغراض الري. ولقد تم هذا العمل الكبير بعد تسجيل دقيق لارتفاع نهر النيل بهدف عمل دراسة وافية لظروف الرشح التي ساهمت تاريخيًّا في تكوين هذه البحيرة الطبيعية. وقيل إن أنباء أول ارتفاع للنيل كل عام كانت ترسَل عن طريق إرسال عدَّائين إلى محطات تسجيل خاصة ثم يتتابع العدَّاءون بعد ذلك يحملون أنباء مدى تقدُّم الارتفاع، وهكذا أمكن تجميع مادة كافية من المعلومات.
أما عن الخزان نفسه فقد بنى آمنحات سدًّا ضخمًا طوله عشرون ميلًا يحجز الماء خلفه. ويصل الماء من النيل إلى الخزان عن طريق قناة صناعية «فيتدفق إلى البحيرة مدة ستة شهور، ثم يخرج منها مرة أخرى إلى النيل مدى ستة شهور أخرى» كما يقول هير ودت. ومن الطبيعي أن خزن الماء وإعادة صرفه قد احتاجا إلى قدر كبير من الدقة في عمل القنوات والفتحات اللازمة وبناء السدود وإن كانت لا توجد لدينا الآن تفاصيل كثيرة في هذا الشأن. ولقد ظلَّت طريقة آمنحات الثالث هذه مستخدمة حتى الاحتلال الروماني لمصر.
هذا ومن المعروف تاريخيًّا أنه قد تم أيضًا في عهد الأسرة الثانية عشرة تمهيد بعض الأجزاء الجنوبية لتسهيل مرور السفن الحربية وهي في طريقها إلى غزو بلاد النوبة، كما شق المصريون طريقًا مائيًّا من النيل إلى البحر الأحمر وبنوا قناة كبيرة على حدود مصر وفلسطين.
ومنذ الأسرة الثالثة أصبح استعمال الحجر في البناء عامًّا في الأهرامات والمعابد. وفي عصر الأسرة الرابعة كان المهندس المصري قادرًا على بناء معابد من الجرانيت؛ فقد بنى معبد خفرع الجرانيتي من كتل ضخمة، كل واحدة منها هُذِّبت ونُحتت بأقصى دقة. وإن الجهود التي كانت تبذل لانتزاع الأحجار الجيرية والرملية أو أحجار البازلت من موطنها لتدل على مستوًى راقٍ جدًّا من الخبرة الفنية.