تكنيك الحضارة

إن معرفتنا عن تكنيك الحضارة — وحتى ما سبقها — لا يعتمد أبدًا على نصوص مكتوبة تتناول هذه المسألة؛ إذ إن الذين تولَّوا ابتكار وتطوير هذه التكنيكات لم يعرفوا القراءة والكتابة، والذين يعرفون القراءة والكتابة كانوا معزولين عن العمل اليدوي. ومن هنا تختلف المسألة إلى حدٍّ كبير عن معلوماتنا عما سُمِّي بالعلوم النبيلة أحيانًا؛ ونعني بها الرياضة والفلك والطب.

والحقيقة أن كل ما نعرفه عن التكنيك القديم إنما يرجع إلى ما نعثر عليه من مخلفات هذه الحضارات، من أدوات ورسوم وبقايا حفائر؛ ومن هنا تنشأ صعوبات عديدة حول معرفة الفترة الزمنية لكلِّ ابتكار واختراع. ويبدو أحيانًا أنه لا مفرَّ من ترجيح افتراضٍ على آخر دون أن يكون لدينا الدليل الحاسم دائمًا على وجهة نظرنا. ليس هذا فحسب، بل تنشأ صعوبة أخرى من إدراكنا أن وراء كل اختراع وتكنيك قدرًا معيَّنًا من الإدراك والفهم النظري أيًّا كانت حدوده، وبصرف النظر عن الوعي الكامل به، فضلًا على التعبير عنه في وثيقة مكتوبة. أما حدود هذا الفهم، فلا سبيل أحيانًا أمامنا إلا التخمين مرة والاستقراء والمقارنة بمجتمعات شبيهة معاصرة مرة أخرى.

غير أن من المؤكد أن ما حقَّقته الحضارات القديمة في هذا المجال أكبر من كل ما يمكن أن تشير به حفريات رجال الآثار. وإن المستوى العالي من الإنجازات التكنيكية الذي حققته الحضارات الأولى يبدو لنا على حقيقته إذا تذكَّرنا ما نميل دائمًا لنسيانه؛ وهو أننا ما زلنا إلى اليوم محاطين من كل ناحية في حياتنا المنزلية وغيرها بكل منجزات هذه الحضارات القديمة التكنيكية، والتي ظلَّت غالبًا كما هي ودون أدنى تغيير منذ خمسة آلاف عام؛ فمقاعدنا ومناضدنا لم تتغير أبدًا منذ حلَّ النجارون المصريون القدماء مشاكل النجارة الأساسية، وما زلنا حتى اليوم نعيش في منازل من الطوب والحجارة والجير، نأكل الأسماك، ونلبس جوهريًّا نفس أنواع الملابس، وما زال الكثيرون يعتمدون في النقل على القارب الشراعي والعربة التي يجرها الحصان كما كان يفعل أجدادنا منذ آلاف الأعوام.

ولسنا هنا في مجال التعرض أساسًا للعصر الحجري القديم؛ فقد أسلفنا في هذا الفصل كلمة عن تكنيكات هذا العصر قد تكون كافية لأغراض هذا البحث. على أن من المهم أن نوضح هنا أن إمكانية الفكر العقلي عند الإنسان قد نشأت — فيما قبل الحضارة — أولًا من علاقة الإنسان ببيئته الطبيعية، وعلى وجه التحديد فيما يمكن أن نسميه بالعلاقة الحسية الحركية Sensory Motor Mechanism التي خلقها وجود الحيوان خلال مئات الملايين من السنين، والتي تعتمد على تآزر العين واليد عند الإنسان. فالإنسان يستطيع — وهو يمتلك ابتكارًا بسيطًا — كالرافعة من النوع الأول — أن يعرف مقدمًا ما سيحدث عند أحد طرفَي الرافعة إذا حرك الطرف الآخر. وعلى هذا الأساس من التآزر البصري اليدوي نشأ علم الميكانيكا كعلمٍ عقلي. في هذا المجال أولًا كان من الممكن أن يرى الإنسان وأن يحس كيف تجري الأمور، وهو أمر يختلف عن فنون الكمياء التي تجري فيها العمليات الكيميائية بعيدًا عن الحواس المباشرة، والحقيقة أن جذور علمَي الاستاتيكا والديناميكا (وهما علمَا السكون وحركة الأجسام) تكمن في تشكيل واستخدام الأدوات التي صنعها الإنسان. وعندما تقدَّم العلم كان هذا الجانب «الطبيعي» منه هو الذي ظل في مجال العلوم العقلية محتفظًا بتفوقه وقيادته.

اكتشاف المعادن

لقد كان التنظيم الزراعي هو العامل الاقتصادي الحاسم في نشأة المدن. ويُعتبر اكتشاف واستخدام المعادن (ولا سيما النحاس وسبيكته البرونز) التقدُّم التكنيكي الأساسي الذي صاحب نشأة المدن. وليس من السليم أن نغالي في دور المعادن عند بدء اكتشافها؛ فالحقيقة أنها كانت نادرة إلى درجة استعمالها لأدوات كمالية فحسب، بينما استمرت الزراعة زمنا طويلًا معتمدة على الآلات الحجرية.

غير أن هذا الموقف تغيَّر بعد ذلك. ولسنا نعرف على وجه الدقة متى بدأ الاهتمام الأول بالمعادن، وإن كان بعض المؤرخين يرجِّح أنها ارتبطت باهتمام الإنسان الأول بالحلي الغريبة الألوان والأشكال للزينة. ثم تطوَّر الأمر بعد ذلك فاستُخدمت المعادن في أدوات الحضارة.

لقد كان الذهب من أوائل هذه المعادن النافعة للزينة، ثم بدأ اكتشاف النحاس الذي أمكن تكسيره إلى أجزاء صلبة بالدرجة التي يمكن استخدامها في صناعة الأدوات، ثم اكتُشف بعد ذلك أن هذه العملية تكون أسهل إذا سُخن المعدن قبل طرقه. وهذه الصلة بين المعادن والنار هي التي أدَّت فيما بعد إلى اختزال خام كربونات النحاس وصهره ثم تشكيله. ويحتاج إنجاز هذه العملية الأخيرة إلى درجة عالية من الحرارة لا تتوافر في النار العادية، ولا بد لها من توفير الفرن المزوَّد بمجرًى هوائي لإعطاء درجة الحرارة المرتفعة نسبيًّا واللازمة لإذابة المعادن؛ وذلك عن طريق دفع الهواء بالفم إلى مواسير تتصل مباشرة بالنار (صورة في مقبرة تي بسقارة من الأسرة الخامسة). ولقد كان هذا الجهاز تمهيدًا لاختراع المنفاخ فيما بعدُ، والذي يذكر تشايلد في كتابه «ماذا حدث في التاريخ» أنه لا يوجد برهان مباشر بخصوص استعماله قبل ١٥٠٠ق.م. في مصر.

ولقد أدَّى إنتاج الأدوات المعدنية إلى تغيُّر كيفيٍّ جديد في سيطرة الإنسان على محيطه وبيئته. فالأدوات المعدنية أشد تحملًا من الأدوات الحجرية، والأسلحة المعدنية أكثر فعاليةً من غيرها عند مواجهة الحيوان أو العدو البشري. ومن مزايا الأواني المعدنية أنها تستطيع تحمُّل النار دون أن تتحطم. وفي مقابل هذا ينبغي أن نلاحظ أن هذه المعادن كانت غالية؛ إذ إن خامات النحاس والقصدير كانت موزعة في أماكن متباعدة يصعب الوصول إليها ويتطلب نقلها تكاليف باهظة. وكلتا المادتين ضروريتان في صناعة البرونز بكل مميزاته التي يتفوق بها على النحاس (البرونز أصلب من النحاس ونقطة انصهاره أقل؛ ولذا يسهل صهره وإعادة تشكيله). ومن هنا كان من الطبيعي أن يبدأ باستخدام المعادن أولًا في صناعة ما يرضي الملوك والنبلاء والعسكريين من أدوات الزينة والأواني والتماثيل. ثم تطورت الأمور بعد ذلك إلى صناعة السكين والإزميل والمنشار؛ الأمر الذي أفاد صناعة النجارة كثيرًا. وبعد ذلك عربة العجلة الدائرية والعجلة المائية (وكل منهما كان مستحيلًا بدون المعادن) والمحراث ذو السلاح المعدني.

ومن المهم أن نوضح أخيرًا أن صناعة المعادن كانت في الحقيقة منشأ علم الكيمياء الحديث. لقد كانت هذه الصناعة كفيلةً بتنمية معلومات الحرفيين عن الخواص الطبيعية والكيميائية للمواد. ويذكر برنال١ أن الحرفيين في هذا المجال كانوا على معرفة بتسعة عناصر كيميائية على الأقل — الذهب والنحاس والقصدير والرصاص والزئبق والحديد والكبريت والكربون — وكانوا يستخدمون ويميزون بين عديد من المركبات كمركبات الزنك والأنتيمون والزرنيخ، وكانوا على علم بعديد من الكشافات Reagents الجافة والسائلة بما في ذلك القلويات مثل البوتاس والنشادر والكحول (على صورة جعة ونبيذ). كما يؤكد برنال أن إنتاجهم يدل على ألفة واضحة بالتحليل الكيميائي وعمليات الأكسدة والاختزال حتى وإن لم يعبِّروا عن ذلك في وثيقة مكتوبة.
ويذكر تشايلد٢ أن الصناع المصريين اكتشفوا في عهد الدولة الحديثة (۱۷۰۰–۱۱۰۰ق.م.) طريقةً لصنع الزجاج الذي يمكن أن يذوَّب ويصبَّ كالمعدن بتعريض الرمل والنترون للحرارة، واخترعوا وسائل لتلوين ما ينتج عنه. ولقد صب الزجاج في شكل قضبان يمكن صياغتها وفق الحاجة وهي ساخنة. بل أمكن صنع أوانٍ منها على قالب رملي، واستُخدمت هذه الطريقة في إنتاج الحلي الزائفة والأساور والأواني. وقد انتقل هذا الفن بسرعة من مصر إلى فينيقيا حيث أخذ البوتاس مكان النطرون.

المواصلات

وقد كان من الضروري أن يكون للاختراعات الميكانيكية آثار مباشرة وأخرى طويلة المدى. ولقد توقف وجود المدن الأولى على القدرة على تنظيم نقل المواد بالجملة. ومن أمثلتها نقل المواد الغذائية من الريف إلى سكان المدن الذين يُعدُّون بالألوف، ونقل المعادن والأخشاب والأحجار من موطنها الأصلي إلى المدينة، ونقل السلع التجارية بين المدن. ومن الطبيعي أن يؤدِّي كل هذا إلى تحسينات عظيمة وابتكارات أساسية في وسائل المواصلات كان لها أبعد النتائج على تطوُّر العلوم عمومًا وعلم الميكانيكا خصوصًا.

لقد تركزت وسائل المواصلات في مبدأ الأمر في الملاحة النهرية ولا سيما في مصر، وهكذا نشأ القارب الصغير الذي تطوَّر إلى السفينة الكبيرة والقادرة على حمل البضاعة بالجملة. ويذكر تشايلد٣ إنه في نهاية الأسرة الثالثة بمصر كان بإمكان السفن أن تبلغ في الطول ۱۷۰ قدمًا؛ غير أن متوسط الطول العام كان بين ۷۰، ۱۰۰ قدم. وتذكر ميس موري٤ أن سينفرو بنى أسطولًا من ستين سفينة على طراز واحد، وكان هذا الأسطول يُستخدم للتجارة مع بلاد البحر الأبيض والبحر الأحمر. ومن المؤكد أن أسطول السفن المصرية قد تجاوز حدود البحر الأحمر وربما وصل إلى الهند.

وفي مبدأ الأمر استُخدم المجداف في تحريك القارب (وهذا من إنجازات العصر الحجري القديم)، وفي أوائل عصر الحضارة بدأ اكتشافٌ جوهري جديد؛ ونعني بذلك الشراع. وقد أدَّى هذا الاكتشاف إلى زيادة مدى الملاحة؛ غير أن أهمية هذا الاكتشاف الأولى تكمن في أنه أول تطبيق لاستخدام القوى الطبيعية الجامحة للاحتياجات البشرية. وهو بهذا كان النموذج الأول الذي سبق طواحين الماء والهواء والآلة البخارية والطائرة وتطبيقات الطاقة الذَّرِّية. لقد كانت الأنهار والبحيرات هي الميدان الأول لأول مخاطرات في ارتياد البحار. وكان من الطبيعي أن يؤدِّي ارتياد البحار إلى صناعة سفن أقوى وأكثر تماسكًا كما أسلفنا في الأمثلة، كما كان طبيعيًّا أن يؤدِّي ذلك إلى اهتمام أكبر بحركة النجوم لضمان توجيه السفن في البحار. وهكذا بدأ عامل هام جديد في تطوير علم الفلك.

أما في البر فمن أهم التكنيكات تطوُّر المواصلات البرية الذي جمع بين فكرتين هامَّتين جدًّا: استخدام قوة الحيوان، والعجلة الدائرية. لقد استُخدمت الحيوانات أولًا ليركبها الإنسان، وتم اكتشاف اللجام بعد ذلك لضمان توجيه الحيوان. ولقد كان استخدام العربة متوقفًا على اكتشاف المحور المعدني الذي يصل بين العجلتين بحيث يضمن الإنسان الحركة دون انفصام العجلة. وتلك بالدقة كانت الخطوة الحاسمة في استخدام العربة التي يجرها الحيوان لنقل المواد الثقيلة. وهكذا فاكتشاف العربة الدائرية هو في الحقيقة اكتشاف حضاري أصيل دعت إليه الحاجة الماسة لإيجاد وسيلة سريعة نسبيًّا في نقل المواد الثقيلة إلى المدن ومنها. ويعتقد بعض المؤرخين أن العربة الدائرية ظهرت أولًا عند السومريين قبل أن ينتقلوا إلى العراق. أما في مصر فقد كانت الملاحة النهرية هي الأساس لزمن طويل؛ إذ كانت كل المدن المصرية قريبة من النيل، ولم تدخل العربة الدائرية في مصر إلا في وقت متأخر تمامًا. ويذكر تشايلد٥ أن العربة الدائرية لم يتم استعمالها في مصر قبل ١٦٠٠ق.م.

لقد كان لهذا الاختراع نتائج علمية ومادية كبيرة. فالعربة والمحراث معًا قد مكَّنا الزراعة من الانتشار في سهول جديدة، وهذا أدَّى بدوره إلى زيادة فائض الإنتاج الزراعي كما سهَّل استيراد المواد من الخارج بالجملة.

لقد وضعت الرافعة والمستوى المائل (وهما اللذان استُخدما في بناء الأهرامات والمعابد) أساس علم الميكانيكا، ثم جاءت العجلة لتُرسي على هذا الأساس مبادئ نظرية جديدة انتهت بالإنسان إلى التحليق في السماء في عصرنا.

وفي نفس الوقت أدَّت هذه الإمكانيات الجديدة لوسائل المواصلات، بالعربة والسفينة إلى تسهيل البحث عن المعادن النفيسة الأمر الذي أدَّى بدوره إلى ارتياد مناطق برِّية وبحرية جديدة. وهكذا وُضعت اللبنات الأولى في علم الجغرافيا.

مشاريع البناء والري

كان من البديهي أن تقوم حضارة المدن والزراعة على الاهتمام بمحاولة توفير الماء اللازم للزراعة من ناحية والاهتمام بمشاريع البناء اللازمة للمدن من ناحية أخرى. وليس في هذا غرابة؛ فالمدينة في حاجة إلى تنظيم، وبناء المساكن والمعابد، وفي حاجة إلى حدٍّ من الإتقان لفن البناء والمعمار، وإلى زيادة الإنتاج الزراعي لإعالة أهل المدن الذين تكاثروا باستمرار ولم يكونوا عاملين في الزراعة. وقد كان هذا دافعًا إلى بذل كل محاولة لتوفير الماء عن طريق تخزينه في أيام الكثرة لأيام القلة غير أن وجه الغرابة هو هذا المستوى المتقدِّم جدًّا (والملحوظ في مصر على وجه الخصوص) في تكنيك البناء والمعمار والري الصناعي، وهو يصل في مصر القديمة إلى حدٍّ قد يبدو مذهلًا أحيانًا.

وفي كثير من كتب مصر القديمة توجد أمثلة حية على هذه الظاهرة.

وحسبنا أن نشير إلى كتاب «الديانة المصرية القديمة» (للأثري الألماني استندرف)، وإلى كتاب «مصر ومجدها الغابر» لمؤلفته الإنجليزية ميس موري؛ ففي الكتابين دراسة مفصلة عن كيفية بناء أهرامات مصر والمبادئ الهندسية المعمارية والجيولوجية التي روعيت عند بنائها، وهي تعطي فكرة واضحة عن مستوًى رفيع من الخبرة الفنية.

إن من المعروف أن الملك مينا هو الذي وحد شطرَي مصر وكان أول حاكم عليها عرفه التاريخ؛ غير أن الكثيرين ينسَون فيما يبدو أهم عمل من أعمال مينا الذي لا يقل في أهميته عن توحيد شطرَي مصر؛ ونعني بذلك تحويل مجرى نهر النيل. وهذا العمل الهندسي الكبير تبدو أهميته إذا علمنا أنه تم في عهد الأسرات (٤٧٧٧–۳۹۹۸ق.م.)؛ أي في وقت مبكر جدًّا. ويذكر هيرودت٦ أن الملك مينا — بادئًا من أعلى — كوَّن بواسطة السدود الحنية التي تقع إلى الجنوب من منف بمقدار مائة ستاد (ستاد = ٦٠٠ قدم؛ أي ١٨٥ مترًا). وهكذا جفَّف الملك مينا المجرى القديم، وحوَّل النهر عن طريق قناة؛ حتى يجعله يفيض بين الجبال. وبعد أن تهيأت لمينا هذه الرقعة التي جفَّت بعد حبس الماء عنها، أنشأ فيها المدينة التي تدعى الآن منف. وحفر — بادئًا من النهر — بحيرةً خارج المدينة متجهة إلى الشمال والغرب؛ لأن النيل نفسة يحدها من الشرق.

ويذكر التاريخ عملًا هندسيًّا رائعًا آخر تم في عهد آمنحات الثالث (الأسرة الثانية عشرة ٢٧٧٨–٢٥٦٥ق.م.) وهو تحويل بحيرة الفيوم إلى خزان يحجز مياه الفيضان السنوية ويحتفظ بها لموسم الجفاف حيث يفرج عنها لأغراض الري. ولقد تم هذا العمل الكبير بعد تسجيل دقيق لارتفاع نهر النيل بهدف عمل دراسة وافية لظروف الرشح التي ساهمت تاريخيًّا في تكوين هذه البحيرة الطبيعية. وقيل إن أنباء أول ارتفاع للنيل كل عام كانت ترسَل عن طريق إرسال عدَّائين إلى محطات تسجيل خاصة ثم يتتابع العدَّاءون بعد ذلك يحملون أنباء مدى تقدُّم الارتفاع، وهكذا أمكن تجميع مادة كافية من المعلومات.

أما عن الخزان نفسه فقد بنى آمنحات سدًّا ضخمًا طوله عشرون ميلًا يحجز الماء خلفه. ويصل الماء من النيل إلى الخزان عن طريق قناة صناعية «فيتدفق إلى البحيرة مدة ستة شهور، ثم يخرج منها مرة أخرى إلى النيل مدى ستة شهور أخرى» كما يقول هير ودت. ومن الطبيعي أن خزن الماء وإعادة صرفه قد احتاجا إلى قدر كبير من الدقة في عمل القنوات والفتحات اللازمة وبناء السدود وإن كانت لا توجد لدينا الآن تفاصيل كثيرة في هذا الشأن. ولقد ظلَّت طريقة آمنحات الثالث هذه مستخدمة حتى الاحتلال الروماني لمصر.

هذا ومن المعروف تاريخيًّا أنه قد تم أيضًا في عهد الأسرة الثانية عشرة تمهيد بعض الأجزاء الجنوبية لتسهيل مرور السفن الحربية وهي في طريقها إلى غزو بلاد النوبة، كما شق المصريون طريقًا مائيًّا من النيل إلى البحر الأحمر وبنوا قناة كبيرة على حدود مصر وفلسطين.

أما هندسة المدن فلدينا معلومات مفصلة عما فعله المصريون القدماء في هذا المجال. وتقدِّم ميس موري٧ وصفًا تفصيليًّا لمثلٍ مفصَّل وهو مدينة العمال في كاهون التي ترجع إلى الأسرة الثانية عشرة (٢٧٧٨–٢٥٦٥ق.م.) وهو يعطي فكرة غريبة عن تخطيط متقدِّم في هذا المضمار.
فإذا تعرَّضنا للمعمار المصري القديم في عصر الحضارة وجدنا فنًّا له أسُسه ومشاكله العديدة التي وُوجهت بذكاء كبير. وحسبنا أن نشير هنا إلى إحدى صعوبات المعمار الأساسية في مصر؛ ونعني بها التحرك السنوي للأرض نتيجة الفيضان، وهي مشكلة لا تزال قائمة حتى اليوم في مصر. لقد كان من الطبيعي أن يحاول المهندسون القدماء تجنُّب هذه المشكلة بإقامة المباني في الصحراء على مقربة من سفح الصخور منعًا لتسرب الماء. ولكن ليس هذا ممكنًا دائمًا فعندما تفرض الظروف بناء معبد قريب من النهر أو على ضفته مباشرة (كما هو الحال بالنسبة لمعبد الكرنك) يكون من الضروري أن يواجه المهندسون هذه المشكلة. وتشهد الدراسة لمصر القديمة أن المهندسين المصريين قد قدروا مقدار ارتفاع الأرض وانخفاضها، وفقًا لاندفاع الفيضان وانحساره، ووضعوا هذا في اعتبارهم وهم يشيدون المباني. وتشهد المعابد التي قاومت ضغط الفيضان أكثر من ثلاثة آلاف عام بأن وسائل المهندسين المصريين قد صادفها توفيق رائع. وإذا تعرَّضنا للتفصيلات نجد أن قوالب اللبِن في عهد الأسرة الأولى كانت تُصنع بحجم واحد، وكان الطوب يوضع بنفس الاستواء والدقة التي يلتزم بها البناءون حاليًّا. وعندما كان المصريون يبنون الحوائط لاحظوا أن يتم البناء بميلٍ إلى أعلى في جانب وأن تكون عمودية في جانب آخر. وكان هدفهم من ذلك ضمان أن تكون القاعدة أوسع بدرجة محسوسة من أعلى الحائط، وذلك بقصد مقاومة فعل حركة الأرض. وثمة طرق أخرى اتُّبعت لنفس الغرض، مثل بناء الحائط على أجزاء دون أن تربط هذه الأجزاء بعضها مع بعض. ومثل هذا الحائط الذي يبدو كأنه قطعة واحدة يتحمل بسهولةٍ الارتفاع والانخفاض غير المتعادل للأرض. ولقد توصل المعماري المصري القديم إلى القبوة المستديرة في البناء Arch منذ عهد الأسرة الثالثة، وإن اقتصدوا في استعمالها ولم يلجئوا إليها إلا في الأماكن التي لا يمكن أن تُرى فيها من الخارج.

ومنذ الأسرة الثالثة أصبح استعمال الحجر في البناء عامًّا في الأهرامات والمعابد. وفي عصر الأسرة الرابعة كان المهندس المصري قادرًا على بناء معابد من الجرانيت؛ فقد بنى معبد خفرع الجرانيتي من كتل ضخمة، كل واحدة منها هُذِّبت ونُحتت بأقصى دقة. وإن الجهود التي كانت تبذل لانتزاع الأحجار الجيرية والرملية أو أحجار البازلت من موطنها لتدل على مستوًى راقٍ جدًّا من الخبرة الفنية.

وليس لدينا اليوم معلومات واضحة عما إذا كان المعماريون المصريون يضعون الرسوم التصميمية في بناء المعابد قبل بدء العمل. فإما أن تكون هذه الرسوم قد ضاعت أو أنها لم توجد أبدًا، ولو صح الاحتمال الأخير لكان أمرًا مدهشًا حقًّا؛ إذ معنى هذا أن المهندسين كانوا يعتمدون على ذاكرتهم في حفظ قائمة ضخمة من المقاييس والمواصفات.٨
١  برنال: «العلم في التاريخ»، ص٨٥.
٢  تشايلد: «ماذا حدث في التاريخ»، ص١٨١.
٣  جوردون تشايلد: «ماذا حدث في التاريخ»، ص ١١٦.
٤  ميس موري: «مصر ومجدها الغابر»، ص١٥١.
٥  جوردون تشايلد: «ماذا حدث في التاريخ»، ص ٨١.
٦  هذا النص لهيرودت مأخوذ من كتاب ميس موري «مصر ومجدها الغابر».
٧  ميس موري: «مصر ومجدها الغابر»، ص۱۷۸.
٨  اعتمدنا في كتابة الجزء الأخير الخاص بالمعمار على معلوماتنا عن مصر؛ إذ لا تتوافر لدينا المراجع عن البناء والري في بابل والهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥