أول الغيث قطرة!
بدأ الشياطين الستة يُعِدُّون أشياءَهم بعد أن رشحهم «أحمد»، وهم: «بو عمير» و«إلهام» و«مصباح» و«فهد» و«قيس» ومعهم «أحمد» …
كانوا لا يزالون مستغرقين في التفكير … ومرت الساعات دون أن يشعر بها أحد منهم؛ لأن الأذهان مشغولةٌ بالتفكير … واقتربت الساعة السابعة … والصمت يسيطر على المكان … حتى إذا أعلنت الساعات كلها في وقتٍ واحدٍ إشارة الوقت …
كانت أبصارهم تتعلق بمصدر الصوت، فكان صوت وَقْع أقدام رقم «صفر» يقترب شيئًا فشيئًا، لحظات قصيرة من الهدف، وانطلق الصوت، وعندما اقترب منهم قال لهم: أهلًا بكم في الاجتماع، أعتقد أن الستة جاهزون، وقد عرفوا أنفسهم.
أضيئت خريطة الصباح مرة أخرى … وواصل رقم «صفر» حديثه: هذه هي القرية المسحورة، وهذه الأسهم تُشير إلى الدخول إلى هذه القرية.
«إلهام» و«مصباح» يحمل كلٌّ منهما كاميرا، ويدخل القرية على أنه صحفي جاء ليسجل هذه الأحداث ويتابعها. «أحمد» و«بو عمير» سيدخلان من الطريق الرئيسي … وعند مدخل القرية سيجدان حلولًا كثيرة للرموز الغامضة، مع بائع الفول الذي يقف بالعربة الخشبية على جانب الطريق، وكلمة السر «المارد وصل».
أما «فهد» و«قيس» فسيدخلان من الجهة الخلفية … وسيتوغلان في أماكن مهجورة ومقابر مسيرة ثلث الساعة، وسيجدان أنفسهما داخل القرية … وهنا ستكون بداية الطريق إلى النهاية.
قلب رقم «صفر» ورقة أمامه، ثم استطرد قائلًا: طبعًا هناك سؤال مهم يدور الآن في أذهانكم، وهو: كيف سنلتقي؟ ومتى؟
نظر الشياطين إلى بعضهم نظرة تعجب … كأن الزعيم رقم «صفر» كان يقرأ أفكارهم كلهم في وقت واحد، ثم أجاب: عند مغيب الشمس، ستتقابلون في مقهًى بوسط القرية، يسمى مقهى الشعب، وستجدون إجابة عن السؤال الذي يدور في أذهانكم الآن، وهو: أين سنبيت في هذه القرية المسحورة؟ والقرية المسحورة طريق الوصول إليها سهل … سوف تأخذون السيارة من القاهرة إلى طنطا، ومن طنطا ستجدون أمام محطة السكة الحديد الجديدة موقفًا للسيارات الأجرة … ستسألون هناك عن قرية الجن، كما هو مشهور عنها … وأرجو إنهاء المهمة بسرعة.
فليس أمامكم سوى ثلاثة أيام، من السابعة من صباح الغد … وأتمنى أن تأتيني نهاية شياطين الشر في هذه القرية، وأتمنى لكم التوفيق.
كانت آخر كلمات الزعيم رقم «صفر» كأنها جرس الإنذار للشياطين؛ فقد أخذوا يجهزون حقائبهم استعدادًا للرحيل غدًا في الصباح الباكر، فكل دقيقة تمر محسوبة عليهم، ولا بد من سباق مع الزمن … حتى لا تفوت الفرصة، ويخسر الشياطين جولة، فحين يحدد الزعيم رقم «صفر» وقتًا لمغامرة أو لإنهاء مهمة، فمعنى ذلك أن أي وقت يمر بعد ذلك ليس في صالح الشياطين … ويأتي بنتائج عكسية … لأجل هذا فإن الشياطين فعلًا قد أدركوا هذا، وأسرعوا بالاستعداد. نظر «أحمد» في ساعته … كانت تقترب من التاسعة، ثم قال: خطرت على بالي فكرة جيدة.
قال «خالد»: وما هي؟
قال «أحمد»: سنتصل بالمطار الآن … طالما نحن جاهزون ونسأل عن موعد آخر طائرة ذاهبة إلى القاهرة …
قالت «ريما»: ثم ماذا؟
رد «أحمد»: إن كانت هناك طائرةٌ الليلة … نستغل فارق الوقت لصالحنا … ولا ننتظر موعد طائرتنا في السادسة صباحًا … إنها محاولة … ولن نخسر شيئًا.
تناول «أحمد»: سماعة التليفون وضغط عدة أزرار … وانتظر لحظات … ثم رُفعت سماعة الطرف الآخر: مرحبًا في خدمتكم …
قال «أحمد»: من فضلك … هل هناك طائرة ذاهبة للقاهرة الليلة، غير طائرة السادسة صباحًا؟
رد الصوت: نعم سيدي … هناك طائرة في الواحدة صباحًا …
قال «أحمد»: شكرًا لك.
وضع «أحمد» السماعة في سرعة، ثم بادر الشياطين: هيا أسرعوا هناك طائرة ذاهبة للقاهرة في تمام الساعة الواحدة … ولا بد أن نتواجد هناك قبلها بساعتين حتى ننهي الإجراءات … استغرق ذلك حوالي نصف الساعة، ثم أخذ الشياطين الستة طريقهم للخروج من المقر، ومعهم «خالد» لينقلهم بالسيارة إلى مطار «بيروت».
لحظات قليلة وسريعة، وفتحت الأبواب الصخرية للمقر السري، وخرجت السيارة تقل الشياطين. كان الجو باردًا خارج المقر … وأضواء المصابيح كأنها دموع مختلطة بالدماء مع الضباب الذي كان يحجب الرؤية … توقفت السيارة عند الباب الخارجي للمطار، كانت الساعة العاشرة والنصف.
قال «أحمد»: لا تعُد إلى المقر حتى نعطيك إشارة … ربما يحدث شيء … وتتابعت خطواتهم سريعة إلى صالة المطار، ثم توجهوا إلى مكتب السفريات.
تقدم «أحمد» سريعًا ثم قال للموظف: نريد ستة تذاكر على الطائرة التي ستقلع إلى القاهرة في الساعة الواحدة. نظر إليه الموظف معتذرًا: آسف سيدي … ليس هناك إلَّا أربعة مقاعد خالية، انتظر طائرة السادسة صباحًا.
رد «أحمد»: لا … احجز هذه التذاكر الأربع …
استدار «أحمد» إلى بقية الشياطين هازًّا رأسه كأنه يتأسف … ثم قال: أربعة مقاعد فقط … لا مشاكل … يمكن ﻟ «إلهام» أن تعود للمقر مع «مصباح» … على أن يلحقا بنا في طائرة الصباح …
قال «أحمد»: ستذهبان إلى مقرنا السري بشارع الهرم ثم اتصلا بنا من هناك بعد الوصول.
قال «فهد»: فكرة صائبة.
ثم قال «أحمد»: عودا الآن مع «خالد» إلى المقر … واستغلوا هذه الساعات في الراحة.
خرجت «إلهام» مع «مصباح» وركبا السيارة … وهمَّ «خالد» أن يستفسر عن سبب رجوعهما، لكن «مصباح» كان قد سبقه بتوضيح ذلك … وعادت السيارة إلى المقر …
حين اقتربت الساعة الواحدة … كان الشياطين يدخلون إلى صالة الركاب ذاهبين إلى الطائرة، وحين استقروا في مقاعدهم، أسند كلٌّ منهم رأسه للخلف، وأسلم عقله للتفكير … بدأت الطائرة تتحرك، وكذلك بدأت الأفكار تتحرك في عقول الشياطين الأربعة … مال «بو عمير» ناحية «أحمد» ثم قال: أتظن أن المعلومات التي لدينا كافية؟
قال «أحمد»: إننا لسنا في حاجةٍ إلى معلومات … لكن الواقع الذي سنتعامل معه وطريقة تعاملنا هي التي ستجلب لنا المعلومات الكافية …
قال «بو عمير»: لم أفهم.
رد «أحمد»: أعني وجودنا في هذه القرية بين الناس، ومعرفة ما يدور هناك ومِنْ ألسنتهم، سنقف على حقيقة المهمة كلها.
قال «بو عمير»: معنى ذلك أننا سنندس بين الناس، لنأخذ منهم الخيوط الأولى.
رد «أحمد»: تمامًا … إنها مغامرة أشبه بتحقيق صحفي.
ثم توقف الكلام … وظل الشياطين في حالة صمت … حتى استسلموا لنوبةٍ من النعاس اللذيذ، الذي يأتي دائمًا بعد التعب …
أفاق الشياطين على صوت المُضيفة، وهي تنبه لربط الأحزمة استعدادًا للهبوط …
نظر «فهد» في ساعته، كانت تقترب من الرابعة صباحًا … ثم أطل من نافذة الطائرة، كانت القاهرة ذائبةً في غلالةٍ رقيقةٍ من الضباب … وأضواؤها تبدو خافتة كأنها قادمةٌ من كوكب بعيد … لكنها جميلة، هادئة في هذا الوقت بالذات … لكن حين تشرق شمسها … يزول هذا الهدوء ويتلاشى تمامًا، وتصبح كأنها ورشة ميكانيكية … هبطت الطائرة، وأخذ الشياطين الأربعة طريقهم إلى خارج المطار … أشار «أحمد» إلى تاكسي، وركب الشياطين، واستدار السائق وقال إلى أين؟
رد «أحمد»: إلى الهرم.
ثم التفت «أحمد» إلى زملائه وقال: ما زال الوقت مبكرًا … أمامنا ساعتان ونصف على الأقل … حتى نتحرك، ولعلكم تشعرون بالجوع مثلي.
نزل الشياطين من التاكسي أمام باب المقر السري … كانت الساعة تدق الخامسة والنصف تمامًا، وتحركوا في خفة إلى الداخل … كان المقر السري هادئًا. تقدم «أحمد» وفتح إحدى حجرات النوم وأضاء مصباحها … وأشار للشياطين الثلاثة ليستلْقوا، ثم قال: سأتصل ببقية الشياطين لأخبرهم بوصولنا إلى المقر … فهم الآن مستيقظون … لأن «مصباح» و«إلهام» في المطار الآن. أضاء «أحمد» لمبة في جهاز الإرسال … ثم بدأ يرسل الإشارة …
من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» لقد وصلنا الآن بيتنا … سننتظركم على الغداء.
كان «خالد» في هذه اللحظة تمامًا يستعد للخروج من المقر السري للشياطين؛ كي ينقل «إلهام» و«مصباح» إلى المطار … وفي لمح البصر، كان «باسم» قد أرسل إليه إشارة ضوئية على باب المقر، فتوقف بالسيارة ثم نزل يستطلع الأمر … وكان «باسم» في طريقه إليه، ثم نقل إليه رسالة الشياطين في القاهرة … وأسرع «خالد» إلى السيارة وانطلق كالريح العاصف في طريقه إلى المطار … فالطرقات خالية والوقت قليل …
كان الشياطين في القاهرة قد استرخوا على أسِرَّتهم، بينما خرج «أحمد» يشتري بعض الأطعمة وجرائد الصباح … لم يكن أمامهم سوى الانتظار حتى تسطع الشمس وتدب الحياة في الوجود، حتى ينتشروا بين الناس، ويذهبوا إلى مهمتهم التي ما زالت غامضة … وعاد «أحمد» إلى المقر وبدأ يُعِد الإفطار … ثم نادى على الشياطين الثلاثة: هيا أيها الكسالى، هيا إلى الطعام، أم آتي بالطعام وأضعه في أفواهكم؟
قال «قيس»: ليتك تفعل يا صديقي …
قال «أحمد»: انتبه أيها الشيطان الصغير … قبل أن يضحك عليك الشيطان الكبير …
نزل «قيس» من فوق السرير سريعًا وهو ينظر إلى مكانه … فضحك الشياطين ثم توجهوا تباعًا إلى الحمَّام، واستقروا بعد ذلك على مائدة الإفطار.
أشار «بو عمير» إلى كومة ورق على المقعد، ثم قال: ما هذه؟
قال «أحمد»: جرائد الصباح.
قال «بو عمير»: كل هذه؟
قال «أحمد»: ناولني بعضها.
تصفح «أحمد» بعض الجرائد سريعًا … ثم قال: عندك أخبار الحوادث … أعطها لي … وبدأ يقلبها … ثم قال: لست أدري من أين يأتون بكل هذه الحوادث؟
ثم استطرد: اسمعوا … خبر جديد … احتراق بيت بفعل الجن في إحدى القرى في محافظة الغربية. الأهالي يطفئون النار … والنار لا تنطفئ.
بو عمير: معقول هذا الكلام؟
ثم صوَّب «أحمد» نظره أسفل الصفحة: اسمعوا … الجن يسيطرون على أهل بيت … ينامون أسبوعًا كاملًا … يستيقظون ليشربوا ثم ينامون … ثم واصل «أحمد» القراءة وتوقف قائلًا: للأسف التحليلات غير مقنعة، وتفسيرات خرافية … ثم عَرْض المشكلة على بعض أساتذة علم النفس … ليس لها تحليل علمي … فهي ظاهرة غريبة، وبعض أصحاب الآراء يشير إلى الجن، ويصرُّون على ذلك، والغريب أن بعض الشباب المندفع يعرض نفسه للعلاج.
فهد: وهل يمكن ذلك؟
أحمد: طبعًا لا يمكن … لأن هؤلاء كلهم يجهلون الحقيقة … وأنتم كذلك تنسون الحقيقة في غمرة الحديث … ألم يقل الزعيم رقم «صفر» إن هناك عصابة خطيرة، تمارس نشاطها بأساليبها الشيطانية في هذه القرية؟
فهد: نعم … نعم … للأسف، لقد تأثرنا لهذه الحكايات … والحل هو أن نبادر مسرعين حتى نكون في قلب هذه الأحداث.
قيس: نعم … لقد حان وقت التحرك … الساعة الآن السابعة … وحتى يصل «مصباح» و«إلهام»، نكون نحن قد وصلنا هذه القرية المسحورة … استعَد الشياطين ووقفوا لكي يتأكد كل واحد منهم من أشيائه … ثم التفت «أحمد» إلى «قيس» وسأله: هل معك كاميرا؟
قيس: لا … ولكن «مصباح» و«إلهام» … سيكون مع كلٍّ منهما كاميرا.
أحمد: لا بد لنا من كاميرا … تكون معنا نحن …
قال «فهد»: أذكر أن هنا كاميرا في إحدى الخزائن.
دخل «فهد» إحدى الغرف، ثم خرج وفي يده كاميرا، وراح يدير ذراعها وينظر في العدسة ليتأكد من صلاحيتها … ثم ناولها ﻟ «أحمد» … ثم حملوا حقائب اليد وخرجوا من المقر، وحين وقفوا على جانب الطريق ينتظرون «تاكسي»، كانت أشعة الشمس الجميلة كأنها ذهبٌ منشور على الطريق … وكان دفء الأشعة يتسرب إلى الأجساد لذيذًا، يبعث فيها النشاط والحركة.
ثم استقل الشياطين «التاكسي»، وبادر «أحمد» السائق قائلًا: محطة «أحمد حلمي».
أسرعت السيارة، والشياطين صامتون، لكن السيارة كان ينبعث منها صوت جميل يعانق أنسام الصباح في شوارع القاهرة، وتتشابك الأنغام بالأنسام في حلقات بديعة، إنه النيل الخالد بموسيقاه وكلماته الرقيقة، وصوت جداوله الرشيقة الرقيقة: مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال، وراح «أحمد» يبتسم كأنه راضٍ، وكأن روحه قد انتشت من سحر هذا الصباح الجميل.
ثم شرد الشياطين، وحلَّقت أرواحهم مع أنسام النيل الخالد … تعجب الشياطين حين وقفت بهم السيارة على جانب الطريق … ولم ينتبهوا إلَّا وهم ينظرون إلى المكان، فأدركوا أنهم في محطة «أحمد حلمي» … نزل الشياطين، وكان الميدان يعج بالحركة … كأن الناس لم تنم … واتجهوا إلى موقف السيارات، وأخذوا يتوغلون بين صفوف السيارات …
وهمَّ «أحمد» أن يسأل بعض السائقين عن موقف سيارات طنطا، لكنَّ أذنه التقطت صوتًا قادمًا من بين السيارات ينادي: من يذهب إلى بلد «الجن» من يذهب إلى بلد «العفاريت».
فنظر «أحمد» إلى الشياطين الثلاثة، وقال: هذا أول الغيث … وأول الغيث قطرة …