الطفولة والصبا
رأيت القرن التاسع عشر بعين الطفولة، ورأيته وهو خلو من الغش لم يلابسْه شيء من مخترعات القرن العشرين. وهذا ما لا يستطيع أن يقوله أوروبي؛ لأن إيماءات القرن العشرين كانت تبدو واضحة في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا. أما في مصر فقد حدث العكس، وهو أن تراث القرن التاسع عشر بل بعض القرون التي سبقته بقيت عالقة ببداية قرننا هذا. وما زلنا في ١٩٤٧ نرى هذا التراث على أثقله في طبقاتنا الفقيرة. وليس هذا من ناحية الوسط فقط حيث الفقر المُذل، بل من ناحية النفس أيضًا، حيث الرضا بالحَظِّ المقسوم والإيمان بالخرافات والتسليم بالنُّظُمِ الإقطاعية كأنها الشيء الطبيعي لمجتمعنا.
أجل! لقد ركبت الحمار من محطة القاهرة إلى عابدين، ورأيت الجاموسة تحضر كل يوم من العزبة إلى منزلنا بالزقازيق كي تُحلب ثم تعود. وضُربتُ من أختي لأني ناديتها باسمها من الشارع؛ إذ كان يُعَدُّ من الشعائر الاجتماعية العامة ألا تُعرف أسماء الفتيات. وعشت في الزقازيق حين لم تكن تُعرف المصابيح؛ حتى إننا كنا — حين نزور بعض أقاربنا — نحمل معنا «فانوسًا» نسترشد به في ظلام الشوارع. ورأيت أحد المجرمين يُشْنَقُ في ميدان الزقازيق، وبقيت نحو عام وأنا أفزع من اسمه، وكان يدعى «سيد أهله». ولم أكن أستطيع النوم إلا وأنا متعلق بعنق أمي، ولم أكن أستطيع الدخول في المرحاض إلا بمرافقة الخادم؛ لأن رسم المشنقة بقي حيًّا في مخيلتي الصغيرة. وكان من المألوف الذي كنا لا نحس فيه وخزًا أو عيبًا أن يجري خلفنا الفلاح نحو ساعة ونحن على الحمير وهو يلهث كأنَّه والحمار سواء.
وكانت لنا دار «قوراء» في الزقازيق تتسع لحمار أو بغل في فنائها الذي يستقبل السماء وتفرش أرضه أشعة الشمس. وكانت هذه المطايا أتومبيلات العائلة وفقًا لشعائر القرن التاسع عشر. ولعل إرماد عيني في صباي كان يعود إلى روث هذه البهائم.
والزقازيق بلدة جديدة لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين عامًا، وجميع عائلاتها لهذا السبب ينتمون إلى بلدان أخرى. وكذلك كانت أسرتي فإنها ترجع إلى البياضية في مديرية أسيوط، وقد تركنا البياضية منذ نحو ١٤٠ سنة؛ أي في نهاية الحكم الفرنسي وبداية حكم محمد علي، وأسرتنا في مديرية الشرقية تُعرَف بلقب «العفي» ولا يزال هذا اللقب في البياضية على الرغم من فرقة تُقارِب قرنًا ونصف قرن. والأصل والفرع يعيشان في يسر. ولكن ليس هناك أي تعارف بين أعفياء البياضية وأعفياء الشرقية. ولم نَزُرْ هذه القرية منذ ١٤٠ سنة.
أما لماذا هجر فرعنا الحاضر في مديرية الشرقية هذه القرية الصعيدية، فإننا نجهل تفاصيله، ولكني أرجح هذا التفسير التالي: «لما غزا نابليون مصر في أواخر القرن الثامن عشر انتعش الأقباط. ولم يكن الشعب المصري — مسلمين ومسيحيين — يحس الوجدان «الوعي» الوطني الذي نحسه في عصرنا؛ وذلك لأن الوجدان الديني كان يقوم مقامه. وفرح الأقباط بدخول نابليون واستطاعوا أن يجرءوا على تغيير ملابسهم، وأن يرحلوا عن قراهم في الصعيد إلى القاهرة، وبلدان الوجه البحري. وكانوا إلى ذلك الوقت يتعمَّمون بالعمائم السود مع أزياء أخرى يختصون بها ويتخذونها مضطرين منذ القرون المظلمة. وكانت هذه الأزياء الخاصة تمنع تنقُّلهم وارتيادهم مدن القطر. فلما جاء نابليون نزعوا هذا الزي واتخذوا الزي المصري العام الذي كان ينفرد به إخوانهم المسلمون. وبذلك أتيح لهم التنقُّل. وأنا أَعُدُّ هذا السبب الأصل لنزوح أبي جدي من البياضية إلى القاهرة، ثم إلى القراقرة في مركز منيا القمح ثم إلى الزقازيق.»
فيه نُودي على طائفة من المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود ولا يلبسون العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء. ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن. ويركبون الرهوانات والبغال والخيول، وأمامهم وخلفهم الخدم يطردون الناس عن طريقهم. ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة. ويلبسون الأسلحة وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء ويعملون لهم نشانًا يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك. فما أحسن هذا النهي لو دام.
ولكنه لم يَدُمْ كما اشتهى هذا العالم الأزهري الجبرتي. ويبدو أن الأقباط والأروام عادوا فتوسلوا بالقناصل الفرنسيين والإيطاليين إلى محمد علي فألغى هذا التمييز، فاستطاع الأقباط أن يختلطوا بسائر الشعب وأن يرتحلوا وينتقلوا كما شاءوا. وواضح أن الأزياء السابقة التي كانوا يتخذونها منذ الحاكم بأمر الله كانت تجمدهم في قراهم؛ لأنهم كانوا إذا انتقلوا إلى مدينة غريبة صاروا عرضة — على الأقل — للتهزئة والتعيير، إن لم يكن لأكثر من هذا.
وهجر أبو جدي قرية البياضية حوالي ١٨٠٠ أو ١٨١٠ في عمامة بيضاء، وكان هذا من الانتصارات الخطيرة للقرن التاسع عشر على القرون السابقة.
وجميع أفراد عائلتنا يُعَدَّون — بحسب الترتيب المزاجي لكرتشمر — انطوائيين، يتسمون بالوجه الطويل والقامة النحيفة، والاعتكاف أو كراهة الاختلاط. وأحيانًا يبدو هذا المزاج في مبالغة شاذة، حتى إني أعرف أشخاصًا في أسرة العفي عاشوا كأنهم كانوا رهبانًا يَتَوَقَّوْنَ المجتمع ولا يحضر أحدهم عرسًا أو جنازة إلا بضغط. وقد لا يجدي الضغط، ولكن هذا الشذوذ كان بالطبع نادرًا.
ومات أبي ولمَّا يبلغ عمري السنتين. ونشأت لذلك في بيت لا يزوره ضيف، إلا إذا كان من الأعمام أو الأخوال، فزادني هذا الظَّرف انزواءً على ما ورثت من المزاج الانطوائي. وقد صار هذا الانزواء بعد ذلك فضيلتي ورذيلتي معًا؛ فقد كانت تمضي عليَّ السنة والسنتان لا أعرف فيها القعود على القهوة، كما أني إلى الآن أجهل ألعاب الحظ الاجتماعية البسيطة بالورق أو غيره ممَّا يتسلى به غيري، كما أجهل التدخين. وما زلت أفر من المجتمعات في استحياء أو كراهة، ومع أني أُحسِن الكتابة فإني أُسِيءُ الخطابة؛ لأن الأولى تُؤدَّى في انفراد، والثانية تحتاج إلى مجتمع. وقد عانيت كثيرًا من هذا النقص الاجتماعي في حياتي بعد ذلك. ولكني أعزو إلى انطوائيتي هذا الاعتكاف في مكتبتي، وهو الذي بسط لي آفاقًا واسعة من الحكمة وأمتعني بجناتٍ نضرة وغَرَسَ في نفسي ديانة بشرية سامية.
وأولى الذكريات التي تمثُل في ذهني من أيام الطفولة: صورة أمي وهي قاعدة إلى فراشي تُصَلِّي من أجلي وأنا مريض. ولا أعرف كُنْهَ هذا المرض الذي ألزمني الفراش نحو عام أو عامين. والأغلب أني مرضت به وأنا في الخامسة أو السادسة، ولعله كان حُمَّى الملاريا؛ لأن الزقازيق كانت في ذلك الوقت حافلة بالبِرَكِ الآسِنة. ولما قاربتُ الشفاء كان خادمنا عطية يحملني إلى ضريح ولي مسلم يُدعى أبا عامر. ولا يزال ضريحه قائمًا بقرب الزقازيق. وكان يشتري الشمع ويتصدق بقروش، ويدور بي حول الضريح ويتمسح به ويقرأ الفاتحة جملة مرات وأنا على عاتقه. وكان عطية متعلقًا بي يُهمل شئون البيت كي يقعد بجواري ويلاعبني وأنا مريض. وبقى أكثر من عشر سنوات بعد ذلك بمنزلنا. وكان حبه لي ساذجًا يطغى، فكان يلقمني الطعام حتى أعجز عن البلع، وكان هذا العجز علامة الشبع عنده، ولم يتركنا إلا بعد أن اشترى فدانًا وآثر الفِلاحة على الخدمة المنزلية.
ومما أذكره من تلك السنوات؛ أي بين ١٨٩٥ و١٨٩٨، أن وباء الكوليرا فشا في الزقازيق، فكانت النعوش تخرُج متوالية وليس وراءها سوى شخصين أو ثلاثة، وعمَّ الذعر بين السكان ولكنَّ تَوَالِي الموت كان أيضًا مجالًا للفكاهات. وكنا نحن الصبيان أكثر السكان فكاهات، فكنا نسير جماعات صغيرة فإذا سمعنا فزعة الموت بصراخ النسوة قابلناها ﺑ «هيه …» ثم نجتمع أمام البيت كي نرى الشعائر الأخيرة. وكانت هذه الشعائر تجري في سرعة واقتضاب.
وكان ممَّا يحدث أن بعض الصبيان الذين كانوا في جماعتنا يقع هذا الوباء في بيوتهم، فيتركونا. ولكنَّا لم نكن نضن عليهم بهذه المظاهرات. ولم يكونوا هم على وجدان بالمأساة إذ سرعان ما كانوا يعودون إلينا قبل أن ينفضَّ المأتم، وأعني بالمأتم صراخ النسوة يجتمعن في البيت. أما إقامة السرادقات للعزاء فلم يكن الوقت يتسع له لوفرة الوفيات.
وأُدخلتُ الكُتَّاب، ولم تكن بدعة المدارس قد ظهرت في الزقازيق. وقضيت من السنين ما لا أذكره وأنا أجهل القراءة. وكانت غاية العريف أن يعلمني عن ظهر قلب بعض الصلوات، فلما حفظت «نعظمك يا أم النور»، وهو دعاء إلى العذراء، رافقني إلى البيت وقعد هو أمام أمي وانطلقت أنا أسرد الدعاء. وناولته أمي على أثر ذلك جنيهًا.
وتألَّفتْ في الزقازيق جمعية خيرية من الأقباط، وكان أول نشاطها أن أنشأت مدرسة «عصرية»؛ أي إنه كان بها مقاعد من الخشب ومعلمون في زي أوروبي. وانتقلنا من الكُتَّاب إليها. وشرعنا نتعلم وندرس في جِدٍّ، ثم ظهرت المدرسة «الأميرية» فدخلناها. وكان التلاميذ يلبسون الجلابيب إلى أن زار الخديوي عباس هذه المدرسة حوالي ١٨٩٩ فطالبونا باتخاذ الزي الأوروبي. وحصلت المدرسة من كل تلميذ على ٢٥ أو ٣٠ قرشًا ثمن بذلة بيضاء لكل مِنَّا. وزارنا الخديوي ونحن في هذا الزي الأبيض الناصع. ولم نعد بعد ذلك إلى الجلابيب.
ولا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية فيما بين ١٩٠٠ و١٩٢٠ أن يقول إنه كان هنيئًا بالحياة المدرسية؛ فقد كانت هذه المدارس ثكنات، وكان كل ما يستحق الاهتمام فيها هو النظام؛ أي الطاعة. ولم نكن نعرف ذلك الروح الديمقراطي الذي يَعُمُّ المعاهد التعليمية في هذه السنين. وكذلك لم تكن هناك أية ألفة بين المدرِّس والتلميذ. وكانت هذه الصفات أبرز في المدارس الثانوية منها في المدارس الابتدائية، حتى كان العام يمر والتلاميذ لا يعرفون اسم المعلم الإنجليزي الذي كان ينطق صمته قبل حديثه بالغطرسة. وكان المعلم يسرع إلى العقوبة لأقل إيماءة مخالفة من التلميذ. وكانت العقوبة المألوفة أن يُحرَم التلميذ من الغداء ويُعطى رغيفًا يأكله وهو واقف إلى جنب زملائه القاعدين إلى المائدة. ولست أظن أنه كان يقصد بهذه العقوبة سوى تعميم الذلة والهوان بيننا.
وكان التعليم في المدارس الابتدائية أقل ذلة؛ لأن المعلمين كانوا مصريين، ولكن حتى هنا كان القرن التاسع عشر يَثِبُ علينا بأساليب في الضغط والعربدة. فكان المعلم أحيانًا يعمد إلى أسلوب في العقاب يُفشي بيننا الكراهة والوقيعة؛ ذلك أنه إذا أخطأ أحدنا ورده تلميذ آخر إلى الصواب عمد هذا الثاني إلى لطم الأول على خده. فإذا تعطف هذا الضارب وأدى العقوبة تأدية شكلية استعاده المعلم وطالبه بالضرب الجِدِّي. فإذا انطلقنا بعد ذلك من الفصل إلى الفسحة أمسك المضروب بخناق الضارب وانتقم منه.
ولكننا كنا نهنأ بالإجازات المدرسية التي كنا نقضيها في الريف. وهي لا تزال تَبرُز في ذهني كأجمل وأنصع ذكرياتي. وفي هذا الريف اكتسبت كثيرًا من الاختبارات التي لا تتحقق لأطفال المدن. وكانت قريتنا تبعُد عن الزقازيق نحو ساعة على الحمار. وكُنَّا نلعب مع صبيان المزارعين إلى الساعات الأولى من الصباح. وأحيانًا كنا ندبر السرقات في الحقول للخيار أو البطيخ. ولا يزال عالقًا بذاكرتي بعض الاقتحامات والصبوات؛ فقد تسلقت ذات مرة شجرة كان في أطرافها العليا عش. فلما بلغته وجدت فيه فرخَيْ غراب، فأمسكتهما بيدي وشرعت أهبط. ولكني ما كدت أترك العش حتى وجدت ثورة من اللطم المؤلم والعض الشنيع تغمر رأسي ووجهي، وطار عقلي وأنا في هذا الاضطراب. فلم أتنبه إلى أن هذه الثورة هي أم الفرخين يساعدها أبٌ أو عَمٌّ. ولو كنت أدركت لخليت عن الفرخين ونزلت في سلام. ولكني لفرط الألم والرعب بقيت في غشية مغمض العينين وأنا ممسك الفرخين أتحسس طريقي الخطرة على فروع الشجرة إلى أن مسست الأرض. وهنا أفقت وفتحت عيني فوجدت ثلاثة أو أربعة من الغربان تصرخ بي وتسب وتهاتر بعد أن أثخنتني وضرجت رأسي ووجهي بالدماء.
ومرة أخرى في إحدى جولاتي سمعت خشخشة في ديس عند حرف القناة، فلما اقتربت وجدت جحرًا وظننت أني قد هبطت على عش سأخرج منه بغنيمة. فلما أدخلت يدي قبضت على جسم طري، فجررته فإذا به ثعبان.
ولكن الريف لم يكن كله على غرار هذه المَفازِع؛ فإن مباهجه والأنسة الديمقراطية التي كانت تنعقد بيني وبين الصبيان الذين كانوا في سني، والليالي التي كنا نحييها في السمر أو اللعب، والاستحمام في القناة، وركوب الفرس، والجولة إلى السوق الأسبوعية، ثم إلى ذلك معيشة الريف الساذجة؛ كل هذا كانت تحفل به حياتنا في الصبا. وكنا نجد اهتمامات تشغلنا، ولم تكن كلها صبيانية؛ فإني أذكر أن ولادة الجاموسة حركت عقلي وقلبي جملة أيام، وما زالت صورتها إلى الآن ترتسم في مخيلتي وهي في حرج الولادة تئن وتلهث وتتلفت، وجميعنا حولها في عطف نتألم لها، وكان بعضنا يدعو لها بالسلامة كأنها صديق من البشر، حتى خرج المولود بعينيه الواسعتين وهو يترنح ونحن نسنده وأمه تحنو عليه وتلحسه.
وحصلت على الشهادة الابتدائية في سنة ١٩٠٣، ولا أعرف بالضبط كم كان عمري؛ لأن إثبات الميلاد لم يكن في أيامنا من القواعد الصارمة ولكن أغلب الظن أني وُلِدْتُ حوالي ١٨٨٧، ودخلت السنة الأولى في المدرسة الأميرية وأنا في الحادية عشرة، وهي السن التي نال فيها ابني بعد ذاك هذه الشهادة … ومع ذلك كنت أُعَدُّ من صغار السن في الفصول؛ إذ كان بيننا من بلغوا العشرين.
وعندما أقارن بين ما تعلمتُه بالمدرسة الابتدائية بالضرب وسائر العقوبات بما تعلمته عفوًا في الريف من اختبارات في الحياة، أجد أن الريف قد علمني أكثر وأكسبني من المعارف الذهنية والروحية ما يُعَدُّ تربية حقة ما زلت أنتفع بها إلى الآن. فقد اكتسبت من الريف هذا الحب للطبيعة الذي جعلني أحس سائر حياتي أن الأرض هي الأم. وأكاد وأنا في الريف أحس مثلما أحس ذلك الراهب في قصة «الإخوة كرامازوف» لدستوئفسكي، حين انبطح على الأرض يُقبِّلها، مثل هذه العاطفة المقدسة. وظني أن هذه العاطفة هي المبعث الذي انبعث منه بعد ذلك وجداني الديني البشري واستطلاعي الدائم لعالَمَي النبات والحيوان واهتمامي بشئون العمال.
وكانت حياتنا بالريف سليمة من الناحية الصحية؛ فإنه على الرغم من أننا كنا ندوس الحقول ونخوض القنوات بلا حذاء ونستحم في القناة، فإننا لم نعرف البلهارسيا أو الأنكلستوما؛ وذلك لأن التربة لم تكن قد استشبعت بالماء كما هي الحال الآن، بعد أن عمت مشروعات الري التي أحالت أرض القطر المصري كلها تقريبًا إلى عزبة لإنتاج القطن دون أي اعتبار لصحة الفلاحين. وأذكر أن التربة كانت أيام الجفاف تتشقق، وكان عرض الشق يزيد على عشرة سنتِمترات ويغور نحو نصف متر. وفي مثل هذا الوسط لم تكن الديدان تستطيع الحياة. وكانت صحة الفلاحين سليمة وأجسامهم قوية. ولكن الإنجليز المتسلطين على بلادنا وقتئذٍ رأوا أن إنتاج القطن خير لهم من صحة الفلاحين.
وكانت الحياة الدينية أبرز من الحياة الاجتماعية أو المدنية في العائلات القبطية. وهذا على عكس ما نرى الآن، فإني أذكر أنه كان لعيد الميلاد ضجة عظيمة تمتاز بمقدمات ولواحق. وكنا نعد له الأيام ونتهيَّأ بالملابس والنُّقل والذبائح. وكانت تفد إلى بيتنا عجوز تقضي في كل عيد نحو شهر، لا أعرف أصلها ولكني أذكر اسمها خريستا، وكانت تقص علينا الأساطير البديعة كما تصنع لنا أنواعًا من الكعك المزخرف.
وقد ورث الأقباط التعاليم الكنسية كما كانت حين تجمدت في الدولة البيزنطية فيما بين القرن الرابع والقرن السادس؛ ولذلك كانت «العذراء» بارزة بروزًا يبرِّر وصف الأوروبيين للعقيدة المسيحية في مصر في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر بأنها «ماريلوجية». ولكن انتشار المذهب البروتستنتي في مصر استفزَّ الكنيسة القبطية وأثارها إلى الوجدان المسيحي. وكثير من الأقباط يأسَفون على انتشار المذهب البروتستنتي في مصر، ويجدون فيه شقاقًا لم يكن ضروريًّا. ولكني أظن أنه لولا هذا المذهب لما تنبهت كنيستنا الأرثوذكسية ولما استيقظت من نعاس القرون الماضية.
وكانت المرأة — مسلمة أو قبطية — تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال. وكان هؤلاء يزورون أو يُزارون في «منظرة» لا تشترك في لقائهم المرأة. وكان البرقع عامًّا لا تخرج امرأة إلا ووجهُها مُقَنَّعٌ. وأذكر أن أمي وإخوتي المتزوجات التزمن البرقع إلى حوالي سنة ١٩٠٧ أو ١٩٠٨ حين تركنه. وظني أن هذا الترك كان من أثر البروتستنت أيضًا؛ لأنهم كانوا ألصق بالغربيين وأكثر أخذًا بطرقهم مِنَّا نحن الأقباط الأرثوذكس.