ذكريات الحرب الكبرى الأولى
كانت الحرب الكبرى في ١٩١٤ متوقَّعة، وكان أساسها المباراة العظيمة بين الإنجليز والألمان؛ فإنهما كانا على تقدُّم صناعي عظيم يحتاج إلى المستعمرات والمواد الخامة والأسواق. وكان الإنجليز حاصلين على كل هذا، ولم يكُن الألمان حاصلين على شيء يؤبه به. فكانت الصناعات الإنجليزية تمتاز بالمواد الخامة الرخيصة التي تحصل عليها من الهند وجاوة ومصر وغيرها، فتستطيع بيع مصنوعاتها بأثمانٍ منخفضة. ثم في الوقت نفسه كانت تجد التفضيل في الأسواق في هذه الأقطار وغيرها. وإذا لم يكن هذا التفضيل بالامتياز الجمركي الصريح الذي يجعل مصنوعاتها تدخل هذه الأقطار بسهولة، فإنه يكون بألاعيب أخرى تؤدي إلى التفضيل، ويقوم بها موظفو المستعمرات لخدمة طبقة الصناعيين والتجاريين في بريطانيا.
ولم يُطِقِ الألمان هذه الحال؛ أي أن يثرى الإنجليز بأوضاعٍ غير عادلة، ويبقوا هم في تخلُّف اقتصادي، وشيء من هذه الحال كان أيضًا بارزًا في مقدمات الحرب الكبرى الثانية التي دعت اليابان فيها إلى «الرخاء المشترك».
وكانت الشرارة الأولى للحرب قَتْلُ أحد الأمراء من أسرة الإمبراطور فرانز جوزيف، وكان إمبراطورًا هرمًا على إمبراطورية هرمة ركيكة. ولم تمضِ إلا أيام حتى كان العالم كله مشتعلًا، وأخذ الجمهور في مصر على دهشة.
وكنت أصدرت مجلة «المستقبل» في القاهرة، فدُعِيتُ إلى تعطيلها في إدارة المطبوعات. ثم شرع الإنجليز في اعتقال من يتوجَّسون في اتجاهاته. ولبثت بعض الشهور وأنا أعمل مع مي في جريدتها؛ أي جريدة والدها «المحروسة». ولكني سئمت الرقابة التي لم تكن تسمح بنشر خبر صحيح إلا بعد أن تُزَيِّفَهُ حتى تخرج الهزيمة التي كانت تقع بالحلفاء كأنها انتصار رائع لهم.
ورَحلت إلى الريف، ورأيت كيف كان يسلط الإنجليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا. وكانت الجِمال والحمير بل الرجال يُخطفون أيضًا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخَّاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر يهين النفس كما يفتت القلب. فكان الرجل يُربط بالحبل الغليط من وسطه، وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفًّا إلى أن يبلغوا «المركز» فيُحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحَّلون إلى فلسطين. وكنت أنجح أحيانًا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين. وذات مرة وأنا بالمنزل سمعت صراخًا ودخلت على نسوة في فزع ونحيب، وعرفت أن ثلاثة ممن يزرعون أرضنا أُلقي القبض عليهم وهم يحرثون في الحقل. فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة أحد الشرطة. أما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية أخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة أن أحصل على الإفراج عنهم. ولكني لم أكن أنجح كل مرة، ففي ذات يوم قصدت إلى المأمور في الزقازيق أطلب منه إطلاق اثنين من الفلاحين، فتأملني ثم قال: أنا عايز أرحَّلك أنت لفلسطين. فتركته إذ لم تكن الظروف وقتئذٍ تأذن بالتحدي.
وفي تلك السنوات السود أثري كثير من العمد ثراءً فاحشًا؛ فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين كل على مقدار ما يملك. فهذا يؤدي خمسة جنيهات، وذاك عشرة جنيهات، حتى يُعفيهم من الاعتقال وبَعثهم إلى فلسطين. وعرفت عمدة كان يملك ستة أفدنة فقط جمَع نحو خمسة آلاف جنيه بهذه الطرق. وكان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها.
وقد استمتعت بعد ذلك بالشماتة عندما رأيت هذا العمدة وقد قبَض عليه الإنجليز بعيدًا عن قريته وأجبروه على النزول في ترعة يبحث عن أحد قضبان الخط الحديدي لشركة الدلتا. فقد فوجئ وهو على حمار قاصدًا إلى قرية مجاورة فأنزلوه وضربوه وأجبروه على العمل في ترميم الخط الحديدي الذي كان الفلاحون قد نزعوه في ١٩١٩. وعرفت بعد ذلك أنه تورط في معاكسات ومشاجرات بينه وبين الأهلين فضاع كل ما جمعه. فقد تعقبوه بالشكايات جملة سنوات وتمسكوا عليه بمخالفات خطيرة جعلته يُنفق في الرشوة وأجور المحامين كل ما كان قد جمعه من هؤلاء الفلاحين المساكين.
وكان معظم النقل في الحرب الكبرى الأولى على الخيول الأسترالية. وكانت ضخمة يُعلف الحصان منها بضعف ما يُعلف به حصان من خيولنا؛ ولذلك كان التبن والشعير يُخطفان من الريف. وقد قام عمالنا المصريون — وهم من الفلاحين — بخدمة الحملة الإنجليزية في فلسطين. وكانوا يعدون بعشرات الألوف مات أكثرهم وعمي بعضهم. ومع ذلك عندما انتهت الحرب واشتعلت الثورة في مصر في سنة ١٩١٩ وقف السفير البريطاني في واشنطون ينتقص من قيمة خدمتنا في الحرب كي يحول دون العطف الأمريكي على قضية استقلالنا، فقال: إن جميع من قُتلوا في الحرب من المصريين لا يزيدون على ثلاثة أشخاص. ثلاثة فقط.
وكثير من الفلاحين يتركون الأرض إلى المدن لما يلاقون من قسوة المالكين الذين يعصرونهم بالإيجارات والمحاسبات. ولكن الريف لا يزال معمورًا بل مزدحمًا بالفلاحين على الرغم من جميع ما يلقى هؤلاء فيه من مصاعب. وظَنِّي أن بعض السبب لذلك أن في الأرض فتنة تسحر الفلاح وتربطه بها مهما قَلَّ كسبه منها؛ فإنه يستيقظ قبل الشروق، ويخرج إلى حقله ترافقه بقرته وحماره وعنزته أو نعجته. وهو يحس برفقة هذه الحيوانات ويجد في هذه الرفقة لذة تسمو على الاعتبارات المالية. وهو يتشمم الأرض عقب حرثها حين تنفح التربة الهواء بروائحها التي توحي الرخاء والبركة. بل هو يُبَكِّرُ أحيانًا كي يتحقق من النمو الجديد في الذرة أو القمح. وفي الشتاء حين يكسو الندى البرسيم تبدو الدنيا في بهاء لا يعدل الإنسان به أي جَمال آخر.
وقد وجدت هذه الفتنة في السنوات التي قضيتها في الريف مدة الحرب. وكنت كثيرًا ما أتأمل الفلاحين وهم يكدون من الفجر إلى الغروب، ثم يعودون مرحين يتغنون بالمواويل خلف البهائم إلى بيوتهم. وهذا الحب للأرض وللنبات وللحيوان يلصق الفلاح بالريف ويجعله يرضى بالمعيشة الضنينة من حيث الطعام واللباس والمسكن. بل هو يرضى بقسوة الإيجارات والمحاسبات، بل إن الفلاحة أيضًا تجد من الاهتمامات بتربية الدجاج والبط والحمام ما يجعلها مفتونة بهذه الطيور فتغني لها كما لو كانت تؤدي هواية لذيذة. وكثيرًا ما رأيت إحدى الفلاحات تخاطب البقرة التي عزفت لسببٍ ما عن الطعام بقولها: «يا حبيبتي، يا أختي.» ثم تمسحها بيديها كما لو كانت طفلًا تُدَﻟﻠﻪ.
ثم يجب أن لا ننسى القمر في الريف؛ فإنه يسكب سحره على كل شيء، وأبناء المدن الذين يرون القمر من خلال المباني لا يعرفون فتنة هذا الكوكب في الريف.
وغيري يَعُدُّ الريف منفى، ولكني أعتقد أن أحسن سِنِي حياتي هي التي قضيتها في الريف. فقد أتاح لي الدراسة الجدية كما أتاح لي الاستمتاع بالطبيعة. ولم يكن يمر عليَّ يوم دون أن أستيقظ في الساعة الرابعة أو الخامسة من الصباح وأسير في الحقول وهي مُبلَّلة بالندى في هدوء الطبيعة الرخيم أنتظر بزوغ الشمس فأحييها وأتأملها كأني في صلاة. وهناك آلاف من الناس لم يعرفوا قط هذه الصلاة ولم يُحِسُّوا هذا الإحساس الديني في الاتصال بالطبيعة في خلوة الحقول التي تنمو كل نهار بحياة جديدة. والسائر في الحقول في هذه الساعات الأولى من النهار تغمره نشوة حقيقية حتى ليجد خفة في نفسه لا تختلف من تلك التي يحدثها الكئول، ولكن دون تخدير للوجدان.
والريف يُوهِم التجزؤ والانفصال: هذا نبات، وهذا حيوان، وهذا مسكن، وهذا حقل، بل هذا إنسان وهذا بهيم. ولكن المتأمل يجد الترابط والتكافل، كأن كل هؤلاء وحدة حية.
وقد كان داروين يقول على سبيل الفكاهة إنه يستطيع أن يقدر عدد العوانس في قرية (في إنجلترا) بملاحظة حقول البرسيم المحيطة. فإذا كان البرسيم مزدهرًا ناجحًا فإنه يدل على أن العرائس كثيرات في القرية؛ ذلك لأنهن يربين القطط، والقطط تأكل الفئران، والفئران تأكل النحل، والنحل هو الذي ينقل إلى البرسيم لقاحه من زهرة إلى زهرة … فإذا قلَّت العوانس قلت القطط وزادت الفئران، وقلَّ النحل ثم قلَّ ازدهار البرسيم.
ونحن نرى هنا بالطبع فكاهة، ولكن لها مغزاها، وهو أن النبات والحيوان يعيشان في تضامن سمبيوزي أي إن كلًّا منهما يخدم الآخر. فحياة هذا تتوقف على حياة ذاك. وقد كنت أبتهج بالتأمل في الريف لهذه الروابط بين النبات والحيوان. وكثيرًا ما كنت آسف وأنصح بشأن البومة؛ فإن الفلاحين قد ورثوا عقائد غيبية عنها؛ إذ يقتلونها لأنهم يتشاءمون منها، مع أنها تأكل الفئران التي تقتات بذراهم وخبزهم. ثم إن تكاثر الفئران يؤدي إلى تكاثر الثعابين التي تقتات بها. بل إن للذئاب والثعالب في ريفنا قيمتها السمبيوزية في حياتنا الريفية أيضًا لأنها تنظف القنوات من الرمم.
وقد كنت — وما زلت إلى الآن — أجد لذة واهتمامًا في أن أتابع فراشة بل أجري وراءها كالصبي حتى أمسكها وأتأملها وأبحث عن أعضائها، ثم أطلقها. وسلوكي هذا كثيرًا ما كان يبعث الابتسامات بين الفلاحين الذين يعتقدون أن مثل هذا العبث لا يتفق والوقار … وما زلت إلى الآن مُتعلقًا بالريف أخطف إليه الزيارات بل ما زلت أحلم بأن أقضي السنة الأخيرة من عمري في الريف.
وريفنا الذي صنعته الطبيعة، ريف الحقول والزهر والشجر والطير والفراش، هذا الريف يتلألأ بالجمال ويبعث الحياة تنبض في عروقنا حين نشرب من هوائه ونشَم منه خضرة البرسيم أو الذرة التي تغمر نفوسنا. ولكن الريف الذي صنعه المجتمع المصري، ريف المساكن الكالحة المبنية من الطين المجفَّف، ريف الإيجارات والمحاسبات والحرمان للفلاحين، هذا الريف لا يوحي إلينا الصلاة بل يوحي الغضب واللعنة وكراهة الحياة في مصر؛ فإن المالك يعامل أحيانًا الفلاحين بروح تجاري لا يبالي هل هو يجوع أو يمرض بسبب الإيجارات العالية التي يفرضها عليه.
وأذكر أن أحد الفلاحين في عزبة غير بعيدة قدِم إليَّ ذات صباح في ١٩١٥ وعرض عليَّ أن ينتقل إلى عزبتنا، فقبلت. وقبيل الغروب حضر هو وزوجته التي كانت تحمل ابنتها على صدرها، وكان هو يحمل جرة بها «مخلل». وكانت هذه الجرة كل ما يملك من متاع في الدنيا؛ فقد حاسبه صاحب الأرض وأخرجه خالصًا لا عليه ولا له. وفاحت رائحة كريهة من الجرة، فكشف عنها أحد الحاضرين وصب منها على الأرض، وما زال يصب حتى فرغت، وكان هذا «المخلل» الذي ذكره هذا المسكين لا يتجاوز هذا السائل الكريه يبلل به هو وزوجته خبز الذرة ثم يبلعانه. وكان الهزال واضحًا في الثلاثة، وكان أوضح في الطفلة التي كانت تتعلق بصدر أمها كأنها خرقة بالية معلقة في ترهُّل، وقد ماتت هذه الطفلة بعد نحو أسبوعين.
وقص عليَّ عليٌّ — وهذا اسمه — مأساته؛ فقد دخل تلك العزبة قبل ست سنوات ومعه بقرة وحمار، وكان لزوجته صندوق ولحاف وحصيرة ومخدة، ولكن المالك كان «يحاسبه» كل عام، فيخرج مدينًا. وباع بقرته وحماره في تسديد الدين، ثم باعت زوجته كل أمتعة البيت كي تشتري الذرة.
وذات مساء أقبلتُ على العزبة فوجدت عليًّا مبطوحًا على بطنه وهو يصرخ صرخات عالية، وفزعت عندما رأيته على هذه الحال، وظننت أنه قد تسمم أو أن وباء الكوليرا قد نقل إلى مصر مع بعض الجنود الهنود، ولكن المسكين سكت خجلًا عندما رآني. وذهبت به اليوم التالي إلى الزقازيق لأحد الأطباء، فقال إنه مريض بالبلاجرا وهو مرض ينشأ من النقص الغذائي، فذكرت الجرة التي جاء بها وصببنا منها المخلل على الأرض …
وتفاقمت حاله، وظهرت عليه أمارات البلاهة. وتركته زوجته وتزوجت غيره. ثم حدث حريق في بهنباي بعد ذلك بسنين، وكان هو في أحد أزقتها، فخانه ذكاؤه الذي تقهقر من البلاجرا فعجز عن التخلص من النار ومات بالحريق.
وفي الريف المصري الجميل آلاف من هذه المآسي التي تعود إلى الروح التجاري في محاسبة الفلاحين وزيادة الإيجارات حتى يموتوا في بطء لقلة الطعام. وأغلب المسئولين عن هذه القسوة هم من المالكين الذين يعيشون في المدن ويستغلونها — غيابيًّا — أرضهم، فلا يستطيع وكلاؤهم التسامح — ولا نقول الرحمة — مع المأزومين والفقراء، بل أحيانًا يبرهن هؤلاء الوكلاء على إخلاصهم واجتهادهم للمالكين بزيادة الإيجارات على هؤلاء المساكين.
جاء في التلغراف أن هزيمة الألمان عند فردان كانت فادحة؛ إذ تقدموا بعد جهدٍ كبير عشرة كيلومترات، ولكن ارتد عليهم الجنود الإنجليز والفرنسيون فانتزعوا منهم طاحونًا، وقد أحدث هذا المنظر فرحًا عامًّا في قيادة الحلفاء.
وكان الرقيب ينخدع بهذه البهجة وينسى المعاني الواضحة.
وكان إعجاب الجمهور بألمانيا يفوق الوصف. وبعض هذا كان يعود بالطبع إلى الشماتة بالإنجليز المحتلِّين لوطننا. وكنا نهجس أحيانًا بأمل الاستقلال إذا انهزمت بريطانيا أو على الأقل لم تنتصر. وكان هذا الأمل قويًّا في بداية الحرب وبقي إلى أن دخلت أمريكا في صف الحلفاء.
ولم تكُن الطائرات عنصرًا خطيرًا في الحرب الكبرى الأولى، ولم تزُرْنا فيها غير طائرتين: الأولى ألقت قنبلة بالقرب من البنك الأهلي، والثانية ألقت قنبلة في حي الفجالة. وكان التلف صغيرًا. وأيضًا أرسلت ألمانيا بلونًا عبر جوِّنا ذهابًا وإيابًا؛ من أوروبا إلى المستعمرة الألمانية في أفريقيا الشرقية. ولم يَلْقَ أية معارضة من الإنجليز. وكان على ارتفاعٍ بعيد حتى لم يسمع أحد بأزيز موطراته.
وقد كانت براعة الالمان في القتال عظيمة، ولكن إخفاقهم في السياسة كان عظيمًا أيضًا؛ إذ لم يستطيعوا أن يتوقوا انضمام الأمريكيين إلى أعدائهم؛ ولذلك صحت كلمة لويد جورج رئيس الوزارة الإنجليزية عندما قال: «الألمان يكسبون المعارك الآن. ولكنا نحن سنكسب الحرب.»
وكان تشرشل بطل الحرب الكبرى الثانية بطلًا أيضًا في الحرب الكبرى الأولى؛ فقد كان يتَّهم الألمان بأنهم يصنعون الصابون من جثث القتلى أي يستخرجون الشحم من هذه الجثث ويصنعون منه الصابون. وقال أيضًا إن الألمان يبعثون جنودهم إلى المدن لتلقيح النسوة بلا زواج … وكانت هذه التهم بالطبع غير صحيحة. ومما قام به تشرشل في تلك الحرب أنه زيَّف ملايين النقود الورقية وبعث بها عن طريق سويسرا إلى ألمانيا حيث أفسد قيمة النقد الألماني. وتشرشل أيضًا هو المسئول عن الحصار الذي ضربه الٍإنجليز على ألمانيا أكثر من ستة أشهر بعد إعلان الهدنة. فلم يكن يدخل ألمانيا شيء من الأغذية التي يحتاج إليها السكان، وكانوا قد بلغوا حالًا بشعة من القحط. وقد عم الكُسَاح أطفالهم لهذا الحصار.
وارتفعت الأسعار والأثمان إلى أربعة أضعاف بل خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب. ولكن الرخاء كان عامًّا؛ لأن الإنجليز بعد أن كانوا قد حددوا أثمان القطن في السنتين الأوليين من الحرب تركوها حتى وصلت إلى ٤٠ و٤٥ جنيهًا للقنطار. وكان أردب القمح يصل إلى ٧ أو ٨ جنيهات. وبقيت إيطاليا مدة طويلة وهي محايدة، فكانت تموننا بكثيرٍ من المصنوعات. ولذلك لم يزِد قَطُّ ثمن البذلة على ٨ أو ٩ جنيهات. وأحدثت أثمان القطن المرتفعة هوسًا عامًّا في الريف حتى بلغ ثمن الفدان خمسمائة جنيه وإيجاره ٤٠ أو ٥٠ جنيهًا. وبدهي أنه في مثل بلادنا حيث منع الإنجليز تأسيس المصانع يجب أن ترتفع أثمان الأرض كلما زاد النقد المتداوَل؛ إذ ليس هناك شيء آخر لاستغلال النقد الفائض. وأعرف اثنين شقيقين في الريف كانا يتَّجران بالقطن في ١٩١٩. وقد عمهما الهوس بشأن الزيادة المستمرة في أثمانه، فصارا يجمعان منه ويكنزان حتى أصبحت ثروتهما كلها قطنًا لا يملكان شيئًا غيره. وكان يعرض عليهما الثمن العالي فيرفضان انتظارًا لارتفاع الثمن إلى خمسين أو مائة جنيه. وهما في هذه الآمال والأحلام وإذا بالثمن يهوي إلى أقل من أربعة جنيهات. فجُنَّ أحدهما ومات الآخر. وكثر الانتحار بين المضاربين على أثمان القطن في بورصة الإسكندرية. وفي أثناء هذه الحُمَّى كانت الثروات الضخمة تتكون في أيام أو أسابيع؛ فقد كان هناك تجار يشترون البيض أو الزبد أو يتَّجرون في البهائم. فلما رأوا أن القطن يصعد إلى السماء أقبلوا عليه. فلم يكن يدور العام على أحدهم — فيما بين ١٩١٨ و١٩١٩ — حتى كان يملك عشرين أو ثلاثين ألف جنيه مع أن كل ما كان يملك في بداية تجارته لم يكن يزيد على مائتي جنيه. وكان بعض هؤلاء يتناسى قديمه ويزعُم أنه أصيل عريق في الثراء. وبعض آخر كان يتبجح بعصاميته وأنه جمع ثروته بذكائه، أو كما كان يقول بذراعه. وكلاهما كان كاذبًا؛ لأن كل ما في الأمر أن الحظ رفعهم كما خفض غيرهم.
وكانت الحرب تسير في سلحفة بطيئة خالية من الاقتحامات، حتى كاد الناس يعدُّونها شيئًا مألوفًا ليس هناك ما يدعو إلى أن يتغير؛ فقد حفرت الخنادق — من الجانبين — في الإقليم الشمالي من فرنسا وجُهِّزَت بالأثاث والمصابيح الكهربائية، ونظمت بينها المواصلات وحُصِّنَتْ بالأسمنت. وعم الجهة الغربية ركود حتى صارت عبارة «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» من العبارات الرمزية نقولها عندما لا نجد خبرًا جديدًا. وهنا الاختلاف بين الحرب الأولى والحرب الثانية في ١٩٣٩؛ فإن الغارات الجوية التي وصلت إلى مدننا جعلت هذه الثانية متحركة نشيطة بالمقارنة إلى سكون الأولى في الخنادق. وحاول الألمان أن يحركوا الجبهة الغربية بالهجوم الكبير على فردان، ولكنهم لم ينجحوا إلا في قتل عشرات الألوف من شباب الألمان والفرنسيين. والواقع أنه لم يكن في أخبار الحرب الأولى — بعد الهجوم البرقي الألماني الأول مما بقي أثره — سوى ثلاثة أشياء هي: دخول أمريكا في الحرب، ثم انفصال روسيا بنظامها الجديد، وأخيرًا شروط ولسن التي أحسسنا بها كأننا نفتتح عصرًا جديدًا للسلام والعدل. وكان أهم ما في هذه الشروط حق تقرير المصير للشعوب التي يستعبدها الاستعمار. وكانت عصبة الأمم إحدى الثمرات لجهاد ولسن للسلام العام.
وقد ظهر ولسن بمذهبه الجديد كما لو كان نبيًّا؛ فإن العالم الذي كان يَئِنُّ من الإمبراطورية البريطانية استروح نسيمًا منعشًا من هذه المبادئ الجديدة التي تقول بالمساواة والحرية وتقرير المصير. وعلِقت هذه المبادئ بأذهاننا، وصرنا نلهج بها ونفكِّر فيما نستطيع أن ننتفع به منها. وكان الساسة الإنجليز يتململون من هذه المبادئ ولكنهم لم يستطيعوا منعها وإنكارها. وقد عادوا إلى مثل هذه الحال في الحرب الكبرى الثانية عندما دعا الرئيس روزفلت إلى ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع؛ فقد قبلوا مبادئ ولسن ثم مبادئ روزفلت بالقول مع نية نقضها بالفعل.
وكان ولسن يسير في أوروبا ويتنقل من عاصمة إلى أخرى والجماهير تحتشد له وتتلقاه في خشوعٍ ديني؛ حتى كان بعضهم يجثو على الركب على أرصفة المحطات، وكان الكاتب الفرنسي رومان رولان في سويسرا وقد غادر فرنسا احتجاجًا على الحرب.
أنت وحدك، أيها الرئيس، بين جميع أولئك الذين يحملون الواجب الرهيب لقيادة الأمم، أنت وحدك تستمتع بسلطة روحية عالمية؛ لأنك توحي الثقة العامة.
أجب نداء هذه الآمال الحارة، وتناول هذه الأيدي التي بُسِطت إليك فاجعلها تصافح بعضها بعضًا … لأن الأمم إذا وجدت أنها خُذِلَت في هذه الوساطة فإنها ستتفرق وتهيم في فوضى ثم لا بد أن تتحطم في الشطط. وعندئذٍ تنغمس الشعوب في الدماء وتنكفئ الأحزاب القديمة إلى رجعية دموية … أيها الوارث لجورج واشنطون وإبراهام لنكولن هَلُمَّ إلى الراية وهي ليست راية حزب أو راية أمة وإنما هي راية العالم كله. وَادْعُ نواب الشعوب إلى برلمان البشرية. وارْأَسْ أنت هذا البرلمان بالسلطة الكاملة التي هي حقك لما لك من وجدان روحي سامٍ، ولما لأمريكا من مستقبل عظيم. تكلم! تكلم إلى الجميع؛ لأن العالم متعطِّش إلى صوت يعلو ويغمر تُخُوم الأمم وطبقاتها. كن الحكم للأمم الحرة، حتى يعرفك المستقبل بأنك كنت المُصالِح بينها.
وليس من شك في أن مبادئ ولسن الأربعة عشر كانت من أكبر العوامل لثورتنا في ١٩١٩. وكان ولسن يحاول تغيير العالم؛ وكان يؤمن برسالته في جِدٍّ وشرف. ولكن الرجل في شرفه وسذاجته لم يُقدِّر عُتُوَّ اللؤم والخسة في الإمبراطوريين: كليمنصو رئيس وزارة فرنسا، ولويد جورج رئيس وزارة بريطانيا. فقد سايره هذان الاثنان وأوهماه بالموافقة التامة على مبادئه كي يلقي بكل القوة الأمريكية في كفة الحلفاء ضد ألمانيا، حتى إذا تم الانتصار بفضل هذه القوة للإنجليز والفرنسيين تَنَكَّرَ هذان الاثنان له. وكان من الفكاهات التي يتنادر بها الفرنسيون في حمق ورعونة قول كليمنصو وقت المفاوضات: «إنني في مأزق، فعن يميني نابليون وعن يساري المسيح.» وهو يعني بنابليون لويد جورج في زعمه أنه بطل، وبالمسيح ولسن في زعمه أنه مصلح للعالم. ونحن الآن في ١٩٤٧ عندما نذكر هذه المفاوضات في ١٩١٩ ندرك أن ولسن لم يكُن فقط الرجل البارَّ بالبشر بل كان أيضًا الرجل البصير. أما هذان الاثنان فكانا أحمقين قد طربا للانتصار ورَضِيا بالنظر القصير. ولو أن مبادئ ولسن عمَّت العالم لما وقعت الحرب الكبرى الثانية.
وعلى كل حال ربح العالم من ولسن «عصبة الأمم». وصحيح أن الإمبراطوريين من الإنجليز والفرنسيين أفسدوها وأحالوها إلى هيئة ميتة عندما أيقنوا أنها تعارض المذهب الإمبراطوري. ولكن هذه العصبة نبهت الأذهان، وبَقِيَتْ ماثلةً أمام العالم نحو عشرين سنة وهي تشهد — حتى بضعفها وفشلها — على ضرورة إقامة منظمة عالمية تشرف على مصالح البشر. وقد كانت هي الباعث بعد ذلك لإيجاد «منظمة الأمم المتحدة» و«مجلس الأمن».
والحق أن هاتين الحربين قد أنجبتا في الميدان الديمقراطي الغربي بطلين عالميين فقط، كلاهما أمريكي هما ولسن وروزفلت. وكلاهما دعا دعوة عالمية فعبر عن أسمى الأماني وأنضر الآمال في السلام والعدل والشرف بين البشر.
وفي العالم الآن ثقافة عالمية بشرية جديدة تختمر، وعن قريب ستتبلور، ثم سوف تتجوهر مبادئ أو ديانة عامة نؤمن بها جميعًا ونقول بها إن هذا الكوكب هو وطننا، هو قريتنا التي يجب أن نجوب شوارعها ونعرف أَزِقَّتِهَا، في القطب الشمالي أو جبال الهملايا في الصيف، وفي صحارى أفريقيا أو آسيا في الشتاء. وطن عالمي جديد كبير يلغي هذا العالم المجزَّأ أو هذه الأوطان القديمة.
وكثير من الفضل في هذا الاتجاه يُعزَى إلى ولسن وروزفلت.