ثورة ١٩١٩
في ١٨٨٢ حكم علينا الإنجليز — بمعاونة المستبدين المصريين — بالموت السياسي، وبقينا في هذا الموت إلى ١٩١٩ حين بُعِثنا وشرعنا نعود إلى التاريخ. وعدنا إليه بالثورة والدم والتدمير.
وكانت جميع طبقات الأمة في ثورة؛ فإن الفلاحين بعد أربع سنوات من خطف محصولاتهم ورجالهم كانوا حاقدين على الإنجليز. وكانت الطبقة المتوسطة من الموظفين حاقدة أيضًا على الإنجليز الذين مَنعوا الرياسة في الوظائف عن المصري وقصروها على الإنجليزي. وعادوا بنا إلى أيام توفيق حين كانت الرياسة للأتراك والشركس دون المصريين.
فطبقات الأمة الفقيرة والطبقة المتوسطة أيضًا كانت في تملمُل؛ ولذلك حين تولت الطبقة المتوسطة قيادة الثورة انقاد الفلاحون والعمال إليهم. ولكن يجب ألا ننسى أن الوجدان الوطني لم يمُت قط منذ ١٨٨٢، ولكنه كان خامدًا، وقد بعث فيه مصطفى كامل الحياة. ولكن هذا الزعيم جاء قبل أوانه ثم مات في شبابه في ١٩٠٧. ثم كانت هناك فترة اختلاط فكري هو تراث التاريخ: مصر أحد أقطار الدولة العثمانية؟ أو مصر يجب أن تدعو إلى الجامعة الإسلامية؟
وكان هذا الاختلاط الفكري يفتِّت الوطنية المصرية. فلما كانت الحرب الكبرى الأولى رأينا الإنجليز يتصرفون بحظوظنا كما لو كانوا آلهة فوق السحاب يعلنون على العالم «حماية» مصر. ثم يخلعون الخديوي، ثم يرتقي عرش مصر بدلًا منه السلطان حسين. ثم يمنعوننا من الاجتماع أو الكتابة ويراقبون جرائدنا حتى لا يكتب حرف إلا بإذنهم، ولكن بعد ذلك يصيح بنا ولسن: هُبُّوا إنَّ لكم حق تقرير المصير.
وكان أكثر الأمة وجدانًا بأن سنة ١٩١٩ يجب أن تكون سنة فاصلة في تاريخنا أولئك الذين عاشوا في الثورة العرابية واشتركوا فيها. وكان سعد زغلول في مقدمة هؤلاء؛ فإن لوحة التاريخ المصري من ١٨٨٠ إلى ١٩١٩ كانت واضحة الخطوط والصور في ذهنه.
فما هو أن أُعلِنت الهدنة حتى قصد هو وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، وكلاهما رأى الثورة العرابية أيضًا وعاش في سِنِي الخزي الوطني التي أعقبتها أو في العصر الجليدي للوطنية المصرية، قصدوا إلى دار المندوب السامي البريطاني وطلبوا في إلحاح الإذن لهم بالسفر إلى لندن كي يطلبوا استقلال مصر.
ولكن المندوب السامي كان يفكر في تيار آخر هو استعمار مصر؛ ولذلك لم يسغ هذا الطلب، ورفضه. وشرع سعد يبعث في الأمة وجدانًا بالظروف الجديدة التي تجعل الاستقلال طلبًا أساسيًّا لا نقبل دونه شيئًا آخر. وسرت في البلاد موجة من السخط على الإنجليز. واعتقل الإنجليز سعدًا ورفاقه ونفَوْهم إلى مالطة في مارس من ١٩١٩. وزاد السخط وكثرت الإضرابات من الطلبة والموظفين، وقطعت السكك الحديدية وأسلاك التليفون والتلغراف. وعندئذٍ أذن الإنجليز بسفر الوفد؛ أي سعد ورفاقه، إلى باريس كما أرسلوا لجنة إنجليزية برياسة الاستعماري القارح ملنر لتحطيم الحركة الوطنية بإغراء عناصر أخرى، غير أعضاء الوفد، حتى يقبلوا الحكم ويضربوا الأمة بالحديد والنار كي تقبل الاستعمار البريطاني وتخضع له.
ووصلت لجنة ملنر إلى مصر في ديسمبر من ١٩١٩. وكان سعد ورفاقه — أي الوفد المصري — في باريس، فكان إرسال هذه اللجنة بمثابة التلصُّص على الحركة الوطنية أو الدخول إليها من الباب الخلفي للاتفاق مع العناصر التي ليست مع سعد. ولكن الشعب قاطع هذه اللجنة، بل إن محمد سعيد باشا رئيس الوزراء استقال احتجاجًا على إرسال هذه اللجنة مع وجود الوفد المصري في باريس.
واستطاعت لجنة ملنر وهي في مصر أن تُقنع عدلي باشا بالمفاوضة مع الإنجليز. وكان سعد والوفد — وهما في باريس — يطالبون باستقلال مصر باعتبار هذا الاستقلال جزءًا من مفاوضات الصلح العام في ١٩١٩. وسافر عدلي إلى سعد وأقنعه بضرورة السفر إلى لندن في مايو من ١٩٢٠ للمفاوضة. وهنا تغيَّر موقفنا؛ فقد كان سعد والوفد يطلبان الاستقلال باعتباره من القضايا التي تتجاوز حق الإنجليز أو حق استئثارهم في بحثه، وأن الدول المجتمعة في باريس — أي الولايات المتحدة وفرنسا وسائر الدول الصغرى — لها حق البحث لهذا الموضوع إلى جنب بريطانيا. ولكن عدلي نقل هذه القضية من هذا الموقف الرحب إلى موقف حرج هو المفاوضة مع الإنجليز فقط.
وتقهقرت القضية المصرية خطوات إلى الوراء بهذا الموقف الجديد، وسافر الوفد المصري إلى لندن؛ فطلبنا نحن الاستقلال وطلب الإنجليز الاستعمار، وهذا هو ما كان يُنتظر. وكان الإنجليز يرمون إلى تضعضع الروح الوطني بمرور الأشهر حين يجد المصريون ركودًا وهمودًا فتموت الحركة الوطنية.
- (١)
حماية المواصلات الإمبراطورية في مصر.
- (٢)
الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أجنبي.
- (٣)
حماية الأجانب والأقليات.
- (٤)
بقاء السودان على ما كان عليه.
وفي ١٩ أبريل من ١٩٢٣ اختارت الحكومة ثلاثة من الأشخاص البارزين فوضعوا الدستور المصري. وكان سعد ورفاقه قد أعيدوا من المنفى وتولى هو أولى الوزارات الدستورية في ١٩٢٤.
وفي سني الثورة هذه — في الوقت الذي كان يعمل فيه سعد ورفاقه — ويهدم فيه خصومه ما يحاول أن يبنيه، في هذا الوقت كان الشعب يختمر ويبني روحًا جديدًا؛ فقد حُفظت مبادئ ولسن، وكان الطلبة والموظفون والتجار يتناقشون فيها ويجدون فيها إيحاء لمكافحة الإنجليز وتحقيق الاستقلال. وكانت المظاهرات من الطلبة والنسوة، بل كانت الغزوات من الريفيين على السكك الحديدة وأسلاك التلغراف. كل هذا — على ما وقع فيه من شطط — كان يبعث النشاط في الأمة.
وكان خروج النسوة في المظاهرات ليس ثورة على الإنجليز وحدهم بل كان ثورة أيضًا على ألف سَنة من ظلام الحجاب؛ فقد كن يخرجن مقنَّعات بالبراقع البيض في المظاهرات الأولى. ولكن لم تمضِ أشهُر حتى كن قد خلعن البراقع، وتألفت منهن لجان في الوفد.
ومن القصائد التي نظمها حافظ إبراهيم قصيدة في وصف المظاهرات الأولى للسيدات المصريات في ١٩١٩، وكان الإنجليز لا يأنفون حتى من ضربهن كما كانوا يفعلون بمظاهرات الطلبة. قال حافظ:
وكنا في تلك الأيام لا نستطيع السفر إلا بإذن من موظف إنجليزي ولو كان الانتقال لا يتجاوز ما بين القاهرة وبنها. وأذكر أني حين أردت الحصول على هذا الإذن دخلت على الموظف الإنجليزي فجابهني بقوله: استكلال؟ بلهجة التهكم.
وكان الأقباط يدًا واحدة مع المسلمين ولم تنجح دسائس التفرقة. حتى كان الشبان المسلمون يخطبون من منابر الكنائس والشبان الأقباط يخطبون من منابر المساجد. وقد عرفت بعد ذلك أنه كان في الثورة العرابية في ١٨٨٢ مثل هذا الاتفاق أيضًا إذ كان يرافق عبد الله نديم خطيب الثورة قسيس ينهض بعده ويخطب في الدعوة إلى الاتفاق بين العنصرين وحق الأمة في الحكم النيابي التام.
وكان بديهًا أن يُقتل بعض الإنجليز من الأبرياء في مثل هذا الاختلاط؛ لأن الإنجليزي — أيًّا كانت شخصيته — كان رمزًا للاستعمار. ولكن الإنجليز كانوا وحوشًا يهاجمون القرى ويصبون البنزين عليها ويحرقونها. وكانوا — عقب تحطيم الترام ونزع قضبانه في القاهرة — يقبضون على الأفندية ويطرحونهم على الأرض ثم يجلدونهم. وبعد الجَلد يجبرونهم على العمل في ترميم القضبان المنزوعة. وحدث أن قطع الخط الحديدي للدلتا فيما بين الزقازيق وميت غمر، فقصد الجنود الإنجليز إلى مكان القطع واحتشد الفلاحون المساكين نساء ورجالًا وأطفالًا — في سذاجة — في ذلك المكان. والأغلب أنهم لم يشتركوا في قطع هذا الخط، ولكن الإنجليز عندما اقتربوا منهم صوبوا عليهم البنادق وقتلوا منهم عددًا كبيرًا.
وكل هذا التقتيل في المصريين نسيه الإنجليز وذكروا فقط العدد القليل من قتلاهم. فأنشَئوا المحاكم العسكرية لمحاكمة المصريين الذين اتُّهِموا بقتلهم، وكانت هذه المحاكم تَحكُم بالإعدام.
وما زلت أذكر نادرة مضحكة وقعت لي في تلك الأيام. فقد ركبت حمارًا من الزقازق أقصد إلى العزبة. وبينا أنا في الطريق خرج إليَّ أحد الفلاحين من حقل قريب وأخبرني أن الإنجليز يرمِّمون الخط الحديدي على مسافة فهمت أنها تبلغ نحو كيلومتر. واقترح عليَّ أن أختار طريقًا أخرى لأنهم — إذا اجتزت بهم — سيلقون القبض عليَّ ويجبرونني على العمل معهم في الخط الحديدي. وبينا هو يحدثني خرج عليَّ صبي وعرض عليَّ أن أشتري منه جرو ذئب، فنفحته بقرش وأخذت الجرو، وسرت في بطء أفكر في طريق أخرى أتجنب بها الإنجليز. ولكن الفلاح الذي أوهمني أن بيني وبينهم نحو كيلومتر كان مخطئًا أو هو لم يُحسن التعبير عن المسافة؛ لأني وأنا لا أزال في التفكير عن طريق أخرى خرج عليَّ إنجليزي من خلف جميزة غليظة وهجم عليَّ وجرني في عنف إلى الأرض وطلب مني العمل مع سائر من قبض عليهم. وكان الجرو لا يزال بيدي، فقلت له: هل لك أن تأخذ هذا الذئب وتخلي عني؟ فلم يصدق أنه ذئب. ولكنه بعد أن لوح بيده أمامه وكشر له الجرو عن أنيابه سلَّم بأنه ذئب وقبِل الصفقة. بل زاد عليها أن حمل الجرو وأنا على الحِمار وحرسني من زملائه حتى اجتزت مكان الترميمات وسرت في طريقي وأنا أتعجب من هذه المصادفة الحسنة وفضل هذا الجرو عليَّ.
وتبرُز في ذهني ثلاثة أشياء من ثورة ١٩١٩:
أولها الإكبار العظيم للموقف الوطني الذي اتخه الأقباط ورفضهم أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات؛ فإن شباب المسلمين وكهولهم كانوا لا يزالون يذكرون موقف الحزب الوطني وما كان يدعو إليه من الجامعة الإسلامية ونفور الأقباط من هذه الدعوة. ولذلك كانوا يتشككون في موقفهم في ١٩١٩. ولكن الأقباط كانوا على الدوام في المقدمة، بل كان منهم كاهن هو القسيس سرجيوس الذي كان لا يبالي أن يقول ويكرر القول بأنه إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية. وعندما كانت لجنة الدستور تبحث قانون الانتخاب طلب توفيق دوس باشا أن تكفل حقوق الأقباط في الانتخابات بالتعيين، أي إذا لم ينتخب منهم العدد الذي يمثِّلهم فإن الحكومة تعين حينئذ عددًا من الأقباط حتى لا يكون هناك نقص في التمثيل. فهببنا — نحن الشبان في ذلك الوقت — نُزُيِّفُ هذا الرأي ونقول بالاكتفاء بالانتخاب.
والشيء الثاني الذي يَبْرُزُ في ذاكرتي من هذه الثورة هو وثبة المرأة المصرية من الأنثوية والبيت إلى الإنسانية والمجتمع؛ فقد مُزِّقَ الحجاب وشرعنا جميعًا نعد المرأة المصرية إنسانًا له حقوق الإنسان بعد أن كنا نتكلم عنها باعتبارها ربة البيت أو الزوجة أو غير ذلك من الصفات التي كنا نصف بها «المخدَّرات». وقد زالت هذه الكلمة الآن من لغتنا.
أما الشيء الثالث فهو النهضة الاقتصادية التي أثمرت بجهود طلعت حرب وغيره، بنك مصر وسائر توابعه من الشركات الأخرى، وبهذا البنك مسخت عن جباهنا الوصمة التي كان يعيرنا بها المستشار المالي برونيات بقوله إنه ليس بين المصريين من يعرف أعمال البورصة.
هذا في شئوننا الداخلية، أما في شئوننا الخارجية فإن ثورة ١٩١٩ علَّمتنا كيف ننظر إلى الدولة باعتبارنا أمة مستقلة لا نجري في ذيل بريطانيا.
ولكن استطاع الإنجليز بعد ذلك أن يحطموا استقلالنا ويزيِّفوا دستورنا على يد زيور وإسماعيل صدقي وأمثالهما.
ولكننا نحن رجال الذهن المتصلين بالعقل العام في أوروبا وأمريكا كنا نتطلع إلى آفاق أخرى. ومن الحسن أن يعرف القارئ الشاب بعض اختباراتنا ومشاهداتنا في أعقاب الحرب الكبرى الأولى ويقارنها بما رأى هو وشاهد في أعقاب الحرب الكبرى الثانية.
ففي ١٩١٩ كانت مبادئ ولسن مذهبًا جديدًا يشبه الدين المدني الجديد للبشر على كافة الأرض. وكانت حماستنا لهذه المبادئ أحرَّ من الحماسة التي تَلَقَّى بها العالم مبادئ روزفلت في ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع. وظني أن من أكبر الأسباب لخمود الحماسة هنا هو ما لقيه العالم من التزييف والتعويق لمبادئ ولسن في ١٩١٩.
وقد حدثت ثورتان في الحرب الكبرى الأولى: الأولى في ١٩١٧ في روسيا حين تسلَّم الشيوعيون الحكم وألغَوْا الامتلاك الشخصي للعقارات. وهاج الإمبراطوريون في فرنسا وبريطانيا وبولونيا وإيطاليا وأنفَذُوا الجيوش إلى روسيا لقتل هؤلاء الشيوعيين، بل إنهم استخدموا الجيش الإلماني المقهور لهذه الغاية أيضًا.
وممَّا لا نزال نذكره أن أتلي وبيفن — وهما من أعضاء الوزارة البريطانية الحاضرة ١٩٤٧ — كانا يحرِّضان العمال على عصيان الحكومة في شحن الذخائر والأسلحة إلى روسيا. ونجحا في إيجاد إضراب في الموانئ الإنجليزية. وفشل تشرشل في تهيئة حملته على روسيا لهذا الإضراب. وأحدثت الثورة الروسية دهشة عامة. وكان الإمبراطوريون ينشرون الدعاية ضدها بألوانٍ مختلفة. مثال ذلك أن الروس قد ألغَوْا الديانة والزواج. وإن هذا هو عاقبة الإلغاء للامتلاك الشخصي.
ولكن أهم من الثورة الروسية في نظر الجمهور المصري تلك الثورة التركية التي قام بها مصطفى كمال حين ألغى عرش السلاطين كما قطع علاقة تركيا بالشرق؛ ذلك أننا منذ ١٨٨٢ كنا نتطلع إلى تركيا باعتبارها «دولة الخلافة» وكنا نأنس إلى خيال لم يتحقق قَطُّ هو أنها يجب أن تحمينا وأن ندخل في حظيرتها ونكون معها سلطنة عثمانية كبرى. فلما جاء مصطفى كمال يهدم الأسس ويوجِّه الأتراك نحو الغرب بدلًا من الشرق ويلغي الخط العربي ويستبدل به الخط اللاتيني، ويفصل الدين من الدولة وينفض العرب والعربية عن تركيا الجديدة، لمَّا أحدث مصطفى كمال هذه الأحداث تنبَّه التقليديون في مصر إلى احتمالات سياسية أخرى وانحازوا إلى الاستقلال المصري باعتبار أنه كل شيء في أهدافنا السياسية. وفرق عظيم بين هذه العقلية الجديدة وبين العقلية القديمة التي كان يتَّسم بها الشيخ علي يوسف في «المؤيد» حين دعا حوالي ١٩٠٧ إلى أن ترسل مصر مبعوثيها أي نوابها إلى مجلس المبعوثان في الأستانة. بل كانت هذه عقلية مصطفى كامل أيضًا؛ أي إنهما كانا يفسران الاستقلال المصري بأنه الانضواء إلى الراية العثمانية.
وبالطبع كان الاختلاف كبيرًا بين الجمهور المصري بشأن ثورة لنين وثورة مصطفى كامل. ولكن الشعور العام إزاء هاتين الثورتين أن العالم القديم يحطِّم الأغلال وينطلق في حرية جديدة. ولا عبرة بأنه في انطلاقه هذا يتعثَّر ويكبو؛ لأنه سوف ينهض ويستقر.
وقد بعثت فينا هاتان الثورتان تفاؤلًا عظيمًا كما بعثتا تشاؤمًا عظيمًا أيضًا عند المستعمرين الإنجليز. ومن هذا التفاؤل أني أنا وبعض الإخوان ألِفنا حزبًا اشتراكيًّا في ١٩٢٠ حاربتنا الحكومة بشأنه حتى قتلتْه.
أما حال ألمانيا فكانت شنيعة، فإنه عقب الهدنة منع الإنجليز وصول الأقوات إليها أحد عشر شهرًا حتى قيل إن جميع الأطفال هناك أُصِيبوا بالكساح. ثم هبت ثورة سبارتكوس لتحقيق الشيوعية في يناير من ١٩١٩. ولكن فشلها كان عاجلًا وخاصة بعد قتل الزعيمين كارل ليبنخت وروزا لكسمبرج. ثم جاء بعد ذلك انهيار المارك الألماني. وقد خسر فيه آلاف من المغامرين المضاربين في مصر وغيرها حين أنزله الألمان إلى الصفر وأخرجوا نقدًا جديدًا. فكنا نرى في مصر كيسًا من الأوراق يحمله أحد هؤلاء المغامرين ويقول: إنه كلفه ألفًا أو خمسمائة جنيه وهو الآن لا يساوي مليمًا.
وقد جاءت هذه الأحداث عقب الحرب الكبرى الأولى في تواتُر فكانت مجالًا للتأمل والتفكير والحديث: مبادئ ولسن، الثورة الروسية، الثورة المصرية، الثورة الألمانية، ثورة مصطفى كمال.
ولكن كل هذه الأحداث لم تكُن شيئًا في جنب القنبلة الذرية في أغسطس من سنة ١٩٤٥؛ لأن هذه القنبة تُلقِي من الآن ضوءًا أو ظلًّا على مستقبل البشر بعد ألف بل آلاف السنين.