زوجة وأطفال
لم أكن طوال عزوبتي أفكِّر في الزواج. ولكن كانت أمي تُلِحُّ عليَّ كما هو الشأن في جميع الأمهات. وكنت من وقت لآخر أستمع لندائها وأزور هذا البيت أو ذاك، حتى إذا أوشكت أن أجد الفرصة وأن كل شيء مهيَّأٌ لإتمام الزواج، كنت أفزع وأفر بالسفر أو أتمحل الأعذار الكاذبة. وماتت أمي في ١٩١٦ وكنت في الثامنة أو التاسعة والعشرين فلم أعُد أجِد الحافز إلى التفكير في الزواج، وبقيت على ذلك إلى ١٩٢٣.
وليس شك أنه كان للصدمة التي لقيتها أيام حبي لتلك الفتاة الإرلندية — وأنا في إنجلترا — أثر في كامنتي لكراهتي أو تجنُّبي للزواج. فلم يكن يقترح عليَّ أحد الزواج بعد هذه الصدمة إلا وأتنهد في حسرة وأسف، ثم أصد في جمود وعزوف. ولكن في ١٩٢٣ زرت مع صديق لي بيتًا لبعض أصدقائه، فوجدت هناك فتاة قد أينع شبابها، وكانت لا تزال بالمدرسة وقد قعدت إلى مكتبها وهي مشغولة بالكراسة والكتاب والقلم. وتحدثت إليها قليلًا عن مشاغلها المدرسية، ونهضت وودعت وفي نفسي هواجس، وفي اليوم التالي وفي نفس الميعاد حملت صديقي على معاودة الزيارة، وأدرك هو مأربي واستجاب لرغبتي في سرور.
وبقيت معها في هذه الزيارة الثانية أكثر من ساعتين، ثم تجرأت بعد ذلك على أن أزورها وحدي وتجرأ والداها على أن يتركانا معًا، وبقيت خطبتنا نحو خمسة أشهر لم أنقطع عن زيارتها يومًا واحدًا. وأيام الخطبة تعد من أسعد الأيام لأن الخطيبين يحسان أنهما في مؤامرة سرية يرتكبان فيها المخالفات للعُرف والقواعد الاجتماعية. وفي الخطبة نحوم ولا نرد، ونحسو ولا نعب؛ فيزيدنا هذا شوقًا من يوم إلى يوم، وقد تعلمنا طرقًا في التخلص من أحد الوالدين أو أحد الإخوة، وكنا نجد لذة عظمى في ممارسة هذه الطرق وخاصة حين كان أحدنا يلفق خبرًا يؤدي إلى جلاء هذا القاعد الذي لا يريد أن يفهم أننا نرجو خلوة.
وعقب الزواج وجدت صعوبتين: أولاهما أني أحترف الأدب والصحافة وأتعلق بالقراءة وهوايتي هي الثقافة. والزوجة تعد الإنفاق على الكتب إسرافًا، ثم هي أيضًا لا تطيق رؤية زوجها وهو غارق في كتابه طوال الوقت أو معظمه في البيت، وخاصة إذا كانت هي لم تتعود إدمان القراءة. والصعوبة الثانية هي التفاوت العظيم بين مستويينا الثقافيين؛ فإن الإنجليز كانوا قد حرموا التعليم الثانوي، ولم يكن في القطر المصري كله مدرسة ثانوية للبنات تديرها وزارة المعارف إلى سنة ١٩٢٥، وكانت زوجتي قد تعلمت في مدرسة فرنسية من تلك المدارس التي تديرها الراهبات ويتجه فيها معظم العناية إلى التعليم الديني؛ ولذلك وجدت أنه للتغلب على هاتين الصعوبتين أن أشرع في تعليمها من جديد. فصرت أشركها فيما أكتب وأناقشها في جميع الموضوعات الثقافية التي أهتم بها. وبدهي أن كل زوجة تهتم بحرفة زوجها. ولما كانت حرفتي هي الصحافة والأدب والعلم فإنها اضْطُرَّتْ إلى تتبُّع نشاطي حتى ارتفعت على مستواها السابق كثيرًا.
وبهذا صَحَّ الوفاق بيننا، بل أكثر من ذلك إذ هي قد أصبحت صديقتي كما هي زوجتي. وظني أن خير طريق إلى الصداقة الضرورية بين الزوجين في مصر أن يرفع الزوج زوجته إلى مستواه الثقافي.
إذ هو حين يقصر في ذلك يجد أن التفاهم معدوم أو ملتبس، فلا يكون الحديث بينهما إلا في الشئون التافهة ويعودان وكل منهما يعيش في عالم منفصل من العالم الذي يعيش فيه الآخر. والصداقة التامة تحتاج إلى التكافؤ الثقافي بينهما أو ما يقاربها.
ومن عجب أني — مع الدكتور كامل لبيب — ألَّفت كتابًا عن ضبط التناسُل أنصح فيه بمنع الحمل إلا عن وجدان ودراية بما يتفق ومصلحة الوالدين والأطفال. ولكني مع ذلك أجد عندي ثمانية من الأولاد حتى يصح أن أواجَه بالبيت القائل في أحد شطريه:
ولكن هناك ظروفًا جعلت المخالفة للكتاب الذي ألَّفته قهرية؛ فإن الأطفال الأربعة الأولين كانوا إناثًا، فكان الشوق إلى ولد ذكر حتى أنجبناه. أما من زادوا فكان سبب وجودهم نقصًا صيدليًّا في منع الحمل. وللرأي العام في إيثار الذكور على الإناث قوة تجعل أم البنات تُحِسُّ كأنها موصومة وتشتاق صونًا لكرامتها إلى أن تلد ذكرًا. وهذه «غريزة» اجتماعية عامة. وقد عاش أولادنا جميعًا ولم يمرض أحد. وأنا أعزو هذا إلى أننا تعودنا من سنين أن نشرب اللبن نيئًا لا يُوضَع على النار بتاتًا، ولم يحدث قط أن احتجنا إلى أن نغير هذه العادة. وقد وجدت من نحو عام مقالًا لأحد الإنجليز يدعو فيه إلى تناول اللبن نيئًا ويقول بأن غليه على النار يُفقِده كل ميزاته تقريبًا.
والأولاد في البيت، حين يرفرفون ويغردون يملَئُون الجو حياة بل يزيدون الحياة حيوية. وليس شيء أجمل وألذ من رؤية الذكاء ينبجس في الطفل وهو في سِنِيه الأولى حين يسأل ويستطلع. والأطفال أحيانًا عذاب جهنمي عقب الغداء أو وقت القراءة أو الكتابة. ولكنه عذاب حلو سرعان ما ننسى آلامه؛ فإن الابتسامة التي تُشرق على وجه الطفل تضيء الجو وتقشع كل ما تكاثف فيه من غيوم. والآنسة الصغيرة التي اشترت فستانًا جديدًا تسير به في خيلاء وطرب كأنها في عيد تملأنا سرورًا وبهجة. ومنذ أن شببت عن الطفولة، كانت تمرُّ بي الأعياد فلا أعرفها إلا من الجرائد أو الأصدقاء إلى أن امتلأ البيت بالأولاد فعادت الأعياد مهرجانات. فيكون منها صداع قبل ميعادها بشهر، ونحن في مساومات بشأن البذلة الجديدة والحذاء الجديد والفستان الجديد، حتى إذا كان يوم العيد زهى البيت بالأحمر والأخضر وامتلأ أرضه بقشور النُّقل وضج هواؤه بالصواريخ وتجاوبت جدرانه بصيحات الحماسة والسرور.
ولكن الأولاد مع كل هذه المسرات يحملون الآباء على النكوص بدلًا من الإقدام وعلى البخل بدلًا من السخاء. وقد يقال إنهم يزيدون مسئوليات الآباء ويجعلونهم اجتماعيين بعيدين عن الشذوذ أو الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي. وهذا القول صحيح ولكنه يحمل في طياته أيضًا معنى الجُبن والخوف من الاقتحام؛ لأن الأبَ يفكر كثيرًا ويقلق كثيرًا بشأن المستقبل، مستقبل أولاده، وليس مستقبله. وهذا التفكير أو القلق يُحِيلُهُ من حيوان حر جريء ينطلق في مفاوز الحياة ويقتحم غاباتها إلى حيوان مدجن كأنه دجاجة لا ينشد غير السلامة. ولذلك من الشاقِّ وكل المشقة أن ينشد المجد — الذي يحتاج إلى أن نرقى إليه السماوات — رجل متزوج له أولاد.
وحين نحترف الأدب نحتاج إلى شجاعة قد تحملنا على ألَّا نبالي الرأي العام وعلى أن نجحد التقاليد ونخرج على السَّنَن؛ لأن الأديب الحق يجد أنه محتاج في بعض الأوقات إلى أن يغير القيم والأوزان الاجتماعية والأخلاقية وأن يجهر بما يجبن غيره عن الجهر به. ولكنه حين تُحَدِّثُهُ نفسه بذلك يجد نداء العائلة أي الزوجة والأولاد صارخًا في وجدانه: قف! ألا تتذكر ابنتك هذه التي ستتزوج بعد عام أو عامين؟ فينكص في جبن وذلة. وصوت الزوجة هنا هو صوت الضمير الاجتماعي الكامن. والزوجة في البيت تمثل المجتمع بعاداته وعُرفه وشعائره، فإذا ثار الزوج وحاول أن ينفصل ويطير ويحلِّق غير آبه للمجتمع جرَّته هي إلى الأرض.
ولهذا السبب آثر كثيرون من المفكِّرين والأدباء العزوبة على الزواج. بل أحيانًا وقفوا فيما يشبه منتصف الطريق بين العزوبة والزواج، كما فعل هافلوك أليس؛ فإنه تزوج، ولكن — بالاتفاق مع زوجته — عاش كل منهما مستقلًّا في منزله الخاص، كما أنهما امتنعا عن التناسل. وقد قرأت سيرتيهما كما كتبها كل منهما وكما كتبها ثالث اتَّصل بهما فوجدت أنهما نجحا في تحقيق الحرية التي ابتغياها. وعاش كل منهما في استقلال فكري وفني وفلسفي. وهذا الانفصال بينهما في العيش زاد رباط الحب والصداقة قوة بينهما، حتى لقد روي عنهما أن شخصًا لا يعرفهما رآهما في القطار معًا فظن أنهما خطيبان؛ وذلك لما رأى من سلوكهما الغرامي ووفرة الكلمات والإيماءات التي كانت تَدُلُّ على شوق مفرط وحب عميق مع أنهما كانا قد مضت على زواجهما السنين. ولكن يجب أن أقول إني أحسست عقب قراءة سيرتهما أن الزوج استمتع بالاستقلال والعزلة. ولكن الزوجة تألَّمت منها كثيرًا حتى إنها وقعت أو أوشكت أن تقع في هاوية الشذوذ الجنسي مرة وفي هاوية الانتحار مرة أخرى. ولكن قد يعترض هنا بأن المركز الاجتماعي للمرأة في الحضارة القائمة لا يتيح لها الاستمتاع باستقلالها لأنه — أي هذا الاستقلال — كثيرًا ما يكون غُرمًا لها بدلًا من أن يكون غُنمًا؛ إذ هي محرومة من كثير من الفرص التي تُكسب الرجل كرامته الاقتصادية والاجتماعية. وأنا أسلم بكثير من هذه الحجة، ولكني أكتب في حدود الحضارة القائمة.
وشخصية الأديب الصميم هي — سيكلوجيًّا — شخصية سيكوباثية؛ أي إنه والمجرم سواء. ولكن الفرق بينهما أن المجرم ينحرِف إلى أسفل المجتمع. والأديب ينحرف إلى أعلى. كلاهما متقلقل متأفِّف نازع إلى الشذوذ لا يرضى بأوزان المجتمع وقيمه. وكلاهما مكروه من الرجل العادي. وكما أن العائلة من العوامل الكبرى التي تحُولُ دون الإجرام كذلك هي أيضًا من العوامل الكبرى التي تحول دون الأدب أو تعوق رسالته. أو بكلمة أخرى، تعمل العائلة للاعتدال وتحول دون الشطط: الإجرامي والعبقري معًا.
وكل ارتباط هو — في معنى ما — تقيُّد؛ فإن الارتباط — بالمذهب أو بالحزب السياسي — يقيد الأديب ويحدُّ من حريته ومن هنا دعوة ألدوس هوكسلي الأديب الإنجليزي وأندريه جيد الأديب الفرنسي إلى «الانفصال»؛ أي يجب أن ينفصل الأديب من الأحزاب والمذاهب ويستقل في فنه وتفكيره. والحق أن لهذا القول وجهًا بل وجوهًا من الصواب. وخاصة في عصرنا هذا حيث نرى الأحزاب تستخدم الأديب لتأدية أغراضها بل أحيانًا أغراضها السافلة. ولكن عصرنا هذا أيضًا يتَّسم بصراعٍ رُوحِيٍّ بين الحق والباطل. والأديب الذي تنفذ بصيرته إلى صميم هذا الصراع ويقف على البينات والمعارف إنما يكفر بحرفته وفنِّه إذا هو نكص عن الدفاع عن الحق وإذن ليس هناك مجال في عصرنا لهذا الاستقلال المزعوم. فللأديب المخلص حزب كما أن له عائلةً وهو يَرضى بشيء من القيود يتقيد بها فنُّه كي يبقى متصلًا بالمجتمع يدرس — عن اختبار — مشكلاته ويجعلها أساس الفن ومحور الحرفة.
وقيود العائلة مع ذلك لها ما يقابلها من الميزات بما تُهَيِّئُ للأديب من نظام في المعيشة لا يحصل على مثله الأعزب الذي يتعوَّد عادات التسكُّع. ثم إذا كانت مسئولية الأطفال تؤخر أو تنقص من الشجاعة والحرية فإنها أيضًا تَزيد الإحساس الاجتماعي وتصل بين الأديب وبين المجتمع بروابط قوية تجعله على قدرة لخدمته. والإنسان يتربَّى بعائلته ويزداد بها فهمًا للطبيعة البشرية. فالأولاد يُربُّون الآباء كما يربي الآباء الأولاد؛ لأننا ونحن نربي أولادنا نبصر بالطبيعة البشرية في سذاجتها واستطلاعها وتمردها. وكل بيت هو لذلك معهد للتجارب البشرية. وهذا المعهد يخرِّج العبيد، كما يخرِّج الأحرار، والمجرمين والعبقريين.
ولكني إذا كنت قد وجدت من العائلة قيودًا من الحرير؛ فإني وجدت من الحكومة المصرية — بإيعاز الإنجليز وتسلُّطهم — أغلالًا من الحديد. فهي التي منعتني خمسة عشر عامًا من أن أكتُب حرفًا إلا بعد أن يقرأه رقيب حتى ولو كان في اللغة أو التاريخ أو السيكلوجية. وهي التي حرمتني — إلا في فترات من حياتي — من احتراف الصحافة التي أهواها.