شخصية عرفتها
حوالي ١٩١٥ كنت بالإسكندرية مع «الصحفي العجوز» توفيق حبيب. وبينا نحن نتنزَّه على الكورنيش إذ قابلنا أحد الشبان وسلَّم في أُلفة على المرحوم توفيق. وتعارفنا، فإذا به طبيب قد عاد من باريس وشرع يعمل ولكن في غير نشاط ولذلك فهو في قلة من الكسب.
وقصَّ على توفيق قصته، فقال إنه من أسرة عريقة في الصعيد، وإنه ورث ثروة كانت تغل له نحو خمسين جنيهًا في الشهر. ولكنه بدَّدها في باريس لأنه آثَر أن يعيش باذخًا في مدينة النور والجَمال. وعاد من باريس وهو لا يملك غير مهنته التي مضى عليه وهو يمارسها بالإسكندرية نحو ثلاث سنوات.
وفي اليوم التالي تقابلنا ووجدنا فسحة من الوقت تحدثنا فيها، فوجدت فيه اطِّلاعًا واسعًا وخاصة في البيولوجية، والتطور، والنظريات الاجتماعية. كما وجدت فيه حرية فكرية لم أكُن في تلك السنين أَجِدُ لها مكانًا في مصر؛ ولذلك ائتنَس كل منَّا بالآخر. فصرنا نعين المواعيد صباحًا ومساءً نلتقي ونتنزه ونتحدث.
واتصلت معرفتي به بعد ذلك. فكنت أكتُب إليه من القاهرة. وكان إذا زار العاصمة قضى كل وقته معي. وكان يعجبني منه — خاصة — صراحة تكاد تكون طفلية إلى ولاء للبشرية يتجاوز الوطنية، وإلى حب وتقدير للحرية والثقافة الحرة. وكان يكتب — كما أكتب أنا أيضًا — في الجرائد والمجلات باسمه أو باسم مستعار عن شئون علمية أو إنسانية.
فلما كانت السنين الأخيرة للحرب الكبرى الأولى انقطعت عني أخباره، فظننت أن مرجع ذلك إلى وفرة عمله، ولم أُبَالِ كثيرًا، وقلت في نفسي إذا ذهبت إلى الإسكندرية فإني — لا بد — واجده.
وذات يوم مشئوم من سنة ١٩٢٠ كنت في الترام بالقاهرة، فرأيت شخصًا زريًّا رث الملابس مشعَّث الشعر يواجهني في آخرالعربة ويسلم عليَّ. فلم أرد السلام لأني ظننت أنه لا بد قد قصد غيري. فتلفتُّ حولي كي أجد أحدًا آخر يرد عليه السلام فلم أجد. فعُدْتُ أُحْدِقُ فيه، وعاد هو يسلم عليَّ، وفي لحظة شعرت كأن قلبي قد استحال إلى كرة ثقيلة وأنه يسقط في جوفي. فقد فزعت وارتعت! أجل هو صديقي الطبيب، صديقي الحميم الذي أحببته وأحبني، صديقي الذي كنت أقعُد معه وأنظر إلى عينيه فأكاد أعرف كل ما في ثنايا عقله من أفكار وأوهام وآمال. ونهضت إليه، وتكلمت وسألت وأنا في لهفة عمَّا حدث له، وعرفت شر ما يُعرف.
ونزلنا من الترام وقعدنا في قهوة قريبة، وقص عليَّ قصته بل مأساته وهي أنه وقع ضحية للكوكئين … وأنه قد مضى عليه أعوام وهو يتناول هذا السم وأنه لم يعُد يُطيق تركه. وما أعجب ما تُغيِّرنا الملابس! فإن هذا الطبيب الحبيب لم يتغير شيء في وجهه إذا استثنيت شحوبًا وهزالًا. فملامحه الحلوة ونغمة صوته وبريق عينيه بل إيماءة يده، كل هذا كان كما عرفته منذ خمس سنوات.
ولكن ما قيمة كل هذا إلى جانب اللحية التي لم تُحلق منذ عشرة أيام؟ وما قيمته إلى جانب القميص الأبيض الذي فقد بياضه وحمل من العرق والتراب ما يدل على أنه بقي على جسمه أكثر من شهرين؟ وما قيمته إلى جانب الصدر الذي بان عنه القميص فبرزت عظامه، وإلى جنب البنطلون الذي تمزق من خلفه الأعلى …
كنت إزاء شخصية هذا الصديق وأنا أحس أن الكوكئين قد فصل بيننا، كأننا من كوكبين مختلفين؛ فقد مضت عليه مدة طويلة انقطع فيها عن عمله وعن قراءة الصحف وعن الاختلاط بعائلته التي قاطعته. ومع أني كنت أعرف أن المدمن لهذا السم يحتاج إلى معالجة طويلة فإن أسفي عليه حملني على أن أطلُب منه أن يكف ويُقلع. ولكن إجابته لهذا الطلب ردت إليَّ وجداني وجعلتني أُدرِك أنني إزاء مريض له منطق آخر. ولم نعُد نتحدث عن العلم أو السياسة أو الأدب؛ لأن كل هَمِّهِ معي كان الحصول على ريال يشتري به جرعًا أخرى. وأخرجت له كل ما في جيبي وأنا واثق أنه سيُنفقه في هذا الشر.
وبهذه المقابلة «تجددت» صداقتي له. ولكنها كانت صداقة من نوعٍ آخر؛ إذ كان همه الوحيد أن يحصل مني على الريال وكنت حين ألقاه أسلِّمه المبلغ وأنا أتوقى ألا يراني أحد؛ لأن رثاثته كانت في ازدياد حتى لقيته ذات مرة بلا حذاء …
وفي إحدى المرات لقيته وكان لا يكاد يستر جسمه إلا بخرق مهلهلة، فقدته إلى بيتي، وهناك سلمته بذلة كاملة ومعها الملابس الداخلية، ومع أني أقصر منه فإن البذلة كانت على كل حال حسنة لائقة.
وقابلته بعد ذلك، ولشد ما كانت دهشتي إذ وجدته لا يزال في الخرق المهلهلة القديمة، وعرفت أنه باع بذلتي …
وساءت الحال حتى صرت أتجنَّبه ولكني لم أفقد العطف والأسف عليه. وذات مرة كنت جالسًا في قهوة مع بعض المعارف، ورأيته وهو يدخل من الباب فأدرت وجهي كي لا يراني، ولكنه لمحني، ومر علينا وسلَّم عليَّ فتعاميت خجلًا ممن كانوا معي. وخرج هو وظننت أن كل شيء قد انتهى وأنه فهم أني لم ألحظه وهو يمر بمائدتنا.
ولكن لما انتهت قعدتنا وخرجت سرت قليلًا ولم أبعد. فوجدت صوتًا خلفي يلعن ويسب … فالتفتُّ ورائي فوجدت صديقي الطبيب الذي أخذ يعتب عليَّ بكلمات الهاوية التي تردى فيها لأني تعاميت عنه في القهوة وهو يسلم عليَّ. فأوضحت له موقفي، وسلمته الريال الذي أعاد إليه الصفاء.
واشتغلت بعد ذلك في تحرير مجلة «الهلال»، وكان يزورني من وقتٍ لآخر. وفي ذات مرة جاءني وهو في اتِّزانٍ لم أعهده فيه، وكان ذلك بعد غيبة استغرقت سنوات كدت أنساه فيها. فلما سألت عرفت أنه قد شُفي من الكوكئين.
وكان شفاؤه بمصادفةٍ عجيبة بل بمأساة؛ ذلك أنه أحس ذات يوم ألمًا موجعًا في بطنه يرافقه قيء، فلما قصد إلى الطبيب أخبره أنه في حاجة عاجلة إلى عملية لإخراج الزائدة الدودية التي التهبت. ولم تمض عليه ساعة حتى كان قد أجريت له العملية في نجاح وهو غارق في غيبوبة الكلوروفورم، والمعروف أننا لا نحس ألمين معًا. بل نحس الألم الشديد الذي يُنسينا الألم الخفيف، ولذلك أنساه تعب العملية وتخدير الكلوروفورم آلام الحرمان من الكوكئين. ونهض من فراش المرض بعد ١٥ يومًا وهو بريء من الاثنين؛ التهاب الأمعاء من الزائدة الدودية والتهاب المخ من الحرمان من الكوكئين.
وفرحت بهذا الانقلاب، وإن كان الاتزان الجديد لم يثبُت، فقد كان يتقزز من وقتٍ لآخر ولا يكاد يطيق الجلوس على الكرسي أكثر من دقائق. ولكن صحته عادت إليه فعاد الدم يجري في وجنتيه.
وهنا انقدح في ذهني خاطر، قلت له: يا دكتور، ألا ترغب في خمسة جنيهات كاملة؟ فأشرق وجهه وسأل في لهفة: «كيف ذلك؟»
قلت: «اكتبْ لنا مقالًا في «الهلال» عن الهاوية كيف ترديت فيها وكيف نجوت منها وابدأ الآن إذا شئت، وهاك جنيهًا.»
فوقف في احترامٍ أو حماسة يتسلم الجنيه الذي مضى عليه بضع سنوات لم يلامس مثله كفه. وسلمته الورق والقلم، وشرع يكتب، ولكن أنا وهو كنا واهمين؛ فإن اتزانه الذي لمحته فيه لم يكن يكفي للكتابة؛ لأنه ما كاد يكتب خمسة سطور حتى مزق الورقة، ثم مزق أخرى وأخرى. وأخيرًا تركني على وعد أن يعود ويكتب ما طلبته منه. وقضى نحو ثلاثة أشهر وهو يكتب هذا المقال الذي لم يزد على خمس أو ست صفحات.
ونشرنا المقال في «الهلال»، وكان مأساة، وقرأته السيدة الكريمة مدام فهمي ويصا، فاشترت نحو خمسمائة نسخة وزَّعتها على أعضاء البرلمان، وكان من أثر هذا المقال أن سُنَّ قانون جديد لمعاقبة المتجرين والمتعاطين للكوكئين.
وانتعشت رويدًا صداقتنا القديمة بانتعاش صحته النفسية والجسمية فصرنا نتواعد ونقعد معًا على القهوة أو في نادٍ. وعاد يحترف صناعته ويجد فيها شيئًا من الكسب الذي يكفي للوقار في الملبس والمطعم. وهو لا يزال حيًّا إلى الآن أقعد إليه فأجد النور القديم في عينيه كما أجِد أثر العاصفة التي مرَّت به ولكن مع الإنسانية والتفكير المنظم. وقد بلغ الخامسة والستين. وظني أنه سيعيش كثيرًا وسيذكر هذا الكابوس الذي جثم على عقله وأظلمه نحو خمس أو ست سنوات ولكن ما أضيع هذه السنوات!
والآن بعد نحو ربع قرن من هذا الحادث المؤلم أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام وأتعجب وأسائل: كيف كان الكوكئين يُباع في كل مكان ويشتريه الجمهور بالقرش والجنيه ولا يجد أي إنسان صعوبة في الحصول عليه، ثم مع ذلك كان بوليس القاهرة يعجز عن ضبط المتَّجرين به؟
أذكر أني كنت قاعدًا مع بعض الإخوان ذات مساء في قهوة بباب الحديد. وشرع أحدهم يتشمم هذا المسحوق الأبيض، فدفعني الاستطلاع إلى أن آخذ قليلًا منه وأستنشقه، فأحسست انتعاشًا أو «يوفوريا»، ولم أحس أي تخدُّر ولما آويت إلى الفراش لم أحس أي ميل إلى النوم، فشرعت أقرأ ولا أدري متى نمت. ولكن استيقظت في الصباح في الساعة العاشرة فعرفت أن الكوكئين قد أرَّقني — أي نبهني — إلى الساعة الثالثة أو الرابعة من الصباح، وتأخُّري في الاستيقاظ هو وحده الذي أذكرني أني تناولت قليلًا من ذلك السم في المساء السابق.