كفاحي الثقافي
الثقافة إما أن تكون راكدة وإما مكافحة. وهي تركد حين تعالج الموضوعات لا تثير المناقشة. وقد يرجع هذا إلى أن المجتمع نفسه مستقر يعيش في بيئة زراعية مثلًا، أو أن حق الحكم منفصل منه حين يتولى شئونه مستعمرون مثلًا. وقد بقِينا نحن على هذه الحال نحو أربعين سنة فيما بين ١٨٨٢ و١٩٢٢ كان مجتمعنا فيها منفصلًا من الإدارة الحكومية إلى أن تقرَّرت لنا حقوق بالدستور. وكان المتولون من الإنجليز — الذين لا تُجدي المناقشة الصحفية معهم — عن موضوع تعليمي أو صحي أو اقتصادي. وأذكر أن المرحوم عوض واصف حين أنشأ مجلة «المحيط» في ١٩٠٣ قال في العدد الأول: إن مجلته ستعالج الشئون السياسية والحكومية. فردت عليه «المقتطف» بأنه ليست هناك جدوى؛ لأن المتولِّين لهذه الشئون إنجليز لا يقرءون العربية.
ولكن مجتمعنا أثار المناقشة وجعل الثقافة الدينية — عن طريق محمد عبده — ثم الثقافة الاجتماعية — عن طريق قاسم أمين — موضوعًا للمناقشة الحية. وكانت حالنا في تلك السنين أشبه بحال روسيا أيام القيصر؛ فقد كان المفكرون الروس ممنوعين من نقد السياسة، فاتجهوا إلى الأدب. وكان علينا في مصر حظر عام بشأن السياسة وانتقاد الحكومة، فاتجه النقد نحو المجتمع.
وفي أيامي الأولى، في بداية وجداني الأدبي، وجدت مجلات «المقتطف» و«الهلال» و«الجامعة»، من المحركات الذهنية، بل أكسبتني هذه المجلات توجيهًا تجديديًّا في العلم والأدب. وكنت قانعًا بهذه الثقافة. ولولا حادثة دنشواي لما التفتُّ إلى السياسة أدرس أصولها وأُعنَى بتفاصيلها في السنين العشر الأولى من هذا القرن.
وكانت نظرية التطور التي فهِمت مغزاها من «المقتطف» البذرة الخصبة في ثقافتي. فقد أكسبتني معرفة وأسلوبًا، وعيَّنت لي أصدقائي وخصومي من المؤلِّفين والمفكرين. وغرست في نفسي مزاج الكفاح لأنها تصدَّت للعقائد والتقاليد. وقد تشعَّع الكفاح من هذه البؤرة إلى موضوعات أخرى. ولذلك لم أسعد قطُّ بالبرج العاجي. كما أن مغزاها الخطير في التفكير العلمي والاجتماعي جعلني دائم الشك كبير الاستطلاع والمساءلة. وتغيرت الأوزان والقيم عندي، وأخذت بقيم وأوزان جديدة ترى على فجاجتها في «مقدمة السبرمان» التي ألَّفتها وسني نحو ١٩ سنة.
ففي هذه الرسالة أجِدني أقول بالاشتراكية واليوجنية والتطوُّر وتنظيم الدولة والمجتمع الاشتراكي لإيجاد السبرمان أي الإنسان الأعلى الذي نكون نحن منه بمكان الغوريلا أو الشمبنزي منَّا. وقد كان التفكير عندي في هذه الشئون أقرب الأشياء إلى ما يمكن وصفه بأنه «غيبيات» عملية، أخذت مكان الغيبيات الدينية وقتئذٍ. وفي السنة التي ألفت فيها هذه الرسالة ١٩٠٩ نشرت مقالًا في «المقتطف» بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وفي «الهلال» مقالًا عن الاشتراكية التي أسميتها وقتئذٍ «الاجتماعية»، وهذا الاسم الثاني أقرب إلى الكلمة الأوروبية من كلمتنا الشائعة الآن «االاشتراكية». وألفت رسالة في هذه الموضوعات بعثت بها إلى مطبعة المقتطف كي تُطبع، فردتها إليَّ المطبعة مع نحو ثماني صفحات مجموعة — وكنت في لندن — واعتذرت عن التوقف عن الطبع لأن القانون في مصر يعاقب على نشر هذه الآراء ونزلت عن أجر الطبع للصفحات الثمان.
وقد كان هربرت سبنسر يقول إنه يستطيع أن يعرف المستوى الذهني لأي إنسان بعد مدة قصيرة من التحدُّث معه. وهو يعني بهذا أن لكل منا كلمات أو عبارات محورية تتكرر أو يلتفت إليها الذهن كثيرًا، وهي تدل على اهتمامات المتكلِّم أي تدل على ثقافته مادة واتجاهًا. وحين أرجع إلى نفسي أبحث عن الكلمات التي تتكرَّر في مؤلفاتي ومقالاتي أجد أن أكثرها تكرارًا: التطور، العالمية، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، المستقبل. أي إنها كلمات تدعو إلى تغييرنا.
وأجد أن تفكيري في السياسة والثقافة كان على الدوام يساريًّا، وفي الأغلب ارتياديًّا. ومما يُلاحَظ أن جميع الكتاب في مصر بدءوا حياتهم الأدبية مذهبيين ارتياديين، ثم انتهى كثير منهم إلى ملاذِّ التقاليد يدعون إلى الفعل الماضي بدلًا من اقتحام المستقبل. كما أني أجد أن لي استغراضًا ديمقراطيًّا في جميع ما أكتب يحملني على مكافحة الظُّلُمات الذي لا تزال حية في الشرق العربي: في الاجتماع والاقتصاد والعقيدة. ولكن لم يتغيَّر موقفي من حيث إني كاتب مذهبي يساري أكافح الرجعيين الذين يجِدون الحكمة خلفنا لا أمامنا، كما أكافح أيضًا الإقطاعيين الذين يعارضون الاتجاهات الديمقراطية في الأمم العربية. وليس شك أن لوضعي الاقتصادي الاجتماعي من حيث إني من الأقلية المسيحية أثرًا في اتجاهي الثقافي اليساري. فإن اليهود — وهم أقلية في أوروبا — كانوا ولا يزالون يحملون علَم الثقافة اليسارية في السياسة والاجتماع والاقتصاد.
وقد كانت حياتي الصحفية في مصر ثقافية إلى أبعد حدٍّ؛ فقد أخرجت «المستقبل» في ١٩١٤ وجعلته للكفاح الفكري، ولم ألتفِت فيه إلى السياسة، وأخرجت منه ١٦ عددًا. وكان شبلي شميل من محرريه ومؤيديه. ثم اشتغلت بالهلال ثم بالبلاغ. وفي هذه الجريدة الأخيرة اشتبكت بالسياسة. ولكن همي الأول واهتمامي الأكبر كانا بالصفحة الأدبية. وهناك ثلاثة كتب هي «نظرية التطور وأصل الإنسان» و«مصر أصل الحضارة» و«التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث» نشرتها كلها فصولًا متتابعة في «البلاغ» قبل أن تُجمع في كتب ووجدت من عبد القادر حمزة ليس الصدر الرحب فقط بل التشجيع أيضًا على أن أمضي في هذه البحوث.
أما «الهلال» فقد حررته من ١٩٢٣ إلى ١٩٢٩، وكان من شروط عملي فيه أن أؤلف كل عام لقُرَّائه كتابًا جديدًا يقوم مقام العطلة حين كان ينقطع شهرين. وكان بعض هذه الكتب للتسلية مثل «أشهر قصص الحب التاريخية» وكنت أؤديها على سبيل الواجب الحرفي. ولم تكن تكلفني مجهودًا، ولكن كان بعضها الآخر يحملني على البحث والدراسة. فكنت أؤلف وأنا أتعلم، مثل «حرية الفكر وتاريخ أبطالها» و«العقل الباطن». والحق أن هذه المؤلَّفات التي ألفتها وأنا بالهلال ثم بالبلاغ كان كل منها بمثابة المدرسة التي علمتني وأمدتني بالغذاء الذهني سنوات. بل حتى المقالات التي كنت أنشرها في «الهلال» و«البلاغ» وجدت من الناشرين اهتمامًا، فطُبع بعض منها مع تنوُّع موضوعاتها باسم «مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» و«في الحياة والأدب».
- (١)
أن يكون لنا أدب مصري عصري لا يرتكن إلى الأدب العربي القديم.
- (٢)
أن يكون لنا أسلوب عصري في التعبير لا يمت إلى الجاحظ أو غيره، مع مداعبة مستحيية للغة العامية … وهي مداعبة لم تثمر.
- (٣)
أن نأخذ بالأوزان والقيم الأوروبية في النقد الأدبي دون أوزان الناقدين القدماء وقيمهم كالجرجاني أو ابن الأثير أو ابن رشيق.
- (٤)
أن نجعل الأدب يتَّصِل بالمجتمع ويعالج شئونه ويندغم في مشكلاته.
- (٥)
أن نوجد القصة والدرامة المصريتين.
- (٦)
أن نجعل الأدب إنساني الغاية عالمي المشكلات.
والمؤلف بالمقارنة إلى الصحفي يُعَدُّ ناسكًا. فإن المؤلف ينزوي في غرفته باحثًا منقبًا، ولكن الصحفي يخرج ويختلط بالمجتمع. ومع أن أكثر مجهودي في الصحافة كان ثقافيًّا في بحث العلوم والآداب فإني قد مسست السياسة أيضًا، وأحيانًا اقتحمت غبارها حتى عصفت بي في كثير من الأوقات. ولكن أعظم ما يعزِّيني أن ما عصف بي كان أيضًا يعصِف بالأمة، وأني في كفاحي الصحفي كنت أكافِح للديمقراطية التي حاول المستبدُّون أن يحرمونا منها.
وأول اختباري للصحافة كان في «اللواء» في ١٩٠٩. فقد قضيت فيه نحو أربعة أشهر مع فرح أنطون. وكان يرأسنا رجل مهذَّب مستنير يدعى عثمان صبري وكان صهر مصطفى كامل، وكان قد تولى الرياسة بعد المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان قد أغضب الأقباط بكلماتٍ نابية. وكنا نكتب في المطالبة بالجلاء، ولا مفاوضة إلا بعد الجلاء. وهذه العبارة كان يستنكرها بعض الساسة في مصر، أما الآن فلا تُستَنكر. وقد عمل بها الهنود حين أصروا مدة الحرب الكبرى الثانية على شعار «اتركوا الهند». وقد بقي فرح طوال عملي معه باللواء وهو يظن أني مسلم؛ لاشتباه اسمي، ولأنه لم يكن في كل ما أكتب ما يدل على وجهة طائفية خاصة. أما عثمان صبري فكان يعرف أني قبطي، وكان كثيرًا ما يذكر مقالات الشيخ عبد العزيز جاويش بالاستنكار أمامي ويتفادى من نشر أي مقال يوهم الشقاق بين المسلمين والأقباط. وقد كسبت من «اللواء» مرانة صحفية حسنة، وكنت أكتب الخبر والمقال في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. ولم يكن للمخبر في تلك الأيام قيمة كبيرة. وكانت الجرائد «مقالية» أكثر مما كانت خبرية؛ وذلك لأن الكفاح من أجل الاستقلال كان يستغرق كل اهتمامها تقريبًا، فكان جميع كتاب الجريدة تقريبًا محررين.
وفي العقد الأول من هذا القرن كان طراز «اللواء» جريدة الحزب الوطني يغلب على الصحافة؛ لأنه كان الجريدة الناجحة. وكان أسلوبه خطابيًّا إذ كان مصطفى كامل يعتقد بحق أن الصحافة يجب أن تكون في خدمة الوطنية وأن تثير حماسة الجمهور وتنبِّه وجدانه الوطني. ولذلك لم تكن العناية بالأخبار الخارجية كبيرة بل لم تكن هناك أقل عناية بها. إذ كانت تُختصر أو تُقتضب في نصف أو ربع عمود من التلغرافات. أما سائر الجريدة فكان معظمه يرصد للمقالات التي تُنَدِّدُ بالإنجليز المحتلين أو تثير الجمهور. وكان لذلك أول شرط للكاتب الصحفي أن يكتب في أسلوب فصيح بعباراتٍ صارخة. وبقيت هذه الحال تقليدًا في الصحافة إلى حوالي ١٩٣٠ حين شرعت جرائد «الخبر» بدلًا من جرائد «المقالة» في الظهور. وما زلنا إلى الآن ١٩٤٧ نجد من بقُوا من الصحافة القديمة كبيري العناية باللغة قليلي العناية بالمعارف العامة عن المشكلات العالمية أو العلمية أو الاجتماعية، بل نجد بين بعض القراء إساغة لهذه الكتابة الأسلوبية.
وكانت الجرائد في ذلك الوقت «شخصية» فكُنَّا نقرأ الجريدة لا لأنها حافلة بالأخبار أو الصور بل لأن فلانًا يكتب فيها مقالًا. بل كانت المخاصمات أيضًا شخصية. فكان «المؤيد» يشنِّع على مصطفى كامل لأن الخديوي عباس صفعه. وكان «اللواء» يشنِّع على الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» لأنه لم يكن كفئًا لزواج كريمة السادات السيدة صفية بل كان «المقطم» يدخل في هذه المخاصمات ويتكلم أيضًا عن زوجة الشيخ علي يوسف.
وظهرت أولى المجلات الفكاهية حوالي ١٩٠٠، وكانت مادتها الأساسية تهزئة الإمام العظيم محمد عبده. وكان يشاع أن الخديوي عباس باشا كان يحرضها على اتخاذ هذا الموقف لأنه كان يكره الروح العصري الذي كان يدعو إليه الإمام في الأزهر. وظني أني أنا أول من أخرج مجلة أسبوعية جديدة هي «المستقبل» في ١٩١٤.
ولما تركت «اللواء» وعدت إلى أوروبا بقيت الصحافة خيالًا ساحرًا في ذهني. ورجعت إلى مصر واستطعت في ١٩١٤ أن أحقق هذا الخيال بأن أصدرت مجلة «المستقبل» الأسبوعية، ولكن لم أصل إلى العدد السادس عشر حتى كانت الحرب الكبرى الأولى قد شَبَّتْ، وارتفع سعر الورق نحو عشرة أضعاف سعره السابق. وكان لا بد أن أعطلها. ولكن التعطيل جاءني بطريقٍ آخر. ففي ذات يوم وأنا أفكِّر في مشكلة الورق طلبتني إدارة المطبوعات. فقصدت إليها غير عابئ بما يحدث. وكانت الإشاعات كثيرة بشأن تعطيل المجلات والجرائد. وهناك قعدت أمام أحد الموظفين السوريين الذي حيَّاني وطلب لي القهوة، وجعل يلاطفني بكلماتٍ عذبة. ويسألني عن المجلة وهل هي رائجة أم أني أخسر فيها. ثم بعث في طلب رجل إنجليزي. وجاء هذا وقعد قبالتي يستمع دون أن يتكلم. ثم شرح لي هذا الموظف حرج الموقف وضرورة وقف — أي تعطيل — بعض المجلات. ومع أني لم أكن أبالي التعطيل — كما قلت — فإني وجدت فتنة سيكلوجية في متابعة البحث والمناقشة وخاصة أمام هذا الإنجليزي. فأبديت أني قادر على إصدار «المستقبل» مهما كانت الصعوبات. فتلاحظ الاثنان وأنا مفتون بالموقف. وأصررت على أني سأصدرها إلى آخر الحرب، وأني سأدعو فيها إلى الاشتراكية. وعاد الموظف السوري يخاطبني في ملاطفة مسرفة ويقول إني أستاذ وعاقل … إلخ، وأصررت أنا على العناد.
وأخيرًا صرَّح في غير ملاطفة بأن إدارة المطبوعات تستطيع التعطيل. وأن المناوئين للحكم في الظروف الحاضرة الشاذة يمكن نفيهم أو اعتقالهم. وكان هذا ما أردت أن أسمعه، فنهضت وقلت إني سأعطل المجلة، وخرجت.
وليس عندي مجموعة من مجلة «المستقبل»، ولكن بعض القراء ما زالوا يقتنونها مجلدة تحتوي الأعداد الستة عشر التي صدرت. ومقالاتها تدل على تفكيري وقتئذٍ. ويعبر هذا التفكير عن اتجاهي الذهني العصري. فإن فيها مقالات عن نيتشه. وبها مقال كله فجور إلحادي عنوانه «الله» وهذا غير قصائد ومقالات لشبلي شميل وكان يدعو فيها إلى نظرية التطور وإلى المذهب المادي. وأجد بها بحثًا عن «الضمد» عند العرب أي زواج المرأة لجملة رجال. والخلاصة: كان المستقبل يدعو دعوة عصرية بل مستقبلية فجة خاصة. وكنت أبيع منه نحو ستمائة نسخة في الأسبوع. وهذا غير المشتركين المتحمسين. وظني أنه كان يمكن أن ينجح ويؤدي رسالة الهدم والبناء التي كُنَّا نحتاج إليها لولا ظروف الحرب في ١٩١٤. ولم تظهر بعد «المستقبل» مجلات من طرازه التحريري. ولما عمدت إلى إخراج «المجلة الجديدة» في أواخر ١٩٢٩ كنت قد تأثرت بالفن الصحفي، كما أن الظروف المصرية كانت قد دجَّنتني تدجينًا سيئًا. فخبت النار وباخت الحماسة وأخذ الاعتدال مكان الغلو.
وأرسلت إليَّ مي عقب التعطيل خطابًا تطلب مني أن أحرر «المحروسة» وكانت جريدة يومية قليلة الانتشار يصدرها والدها، فقبلت، وبقيت أحررها جملة أشهر سئمت بعدها الكتابة مع المراقبة الصارمة التي كانت تفرضها إدارة المطبوعات على الصحف. ولم يكن يخفف من هذا السأم سوى زيارات مي ومؤانستها لنا من وقتٍ لآخر؛ فقد كانت حلاوتها تمتزج بظُرف ورقة.
وبقيت طوال الحرب الكبرى الأولى وأنا معطَّل. وقد قضيت معظم سِنِي هذه الحرب في الريف في عزبتنا بالقرب من الزقازيق … وكانت تلك الأيام بمثابة الحضانة. فقد أكببت على القراءة الجدية في الآداب والعلوم واستوعبت منها كثيرًا. وكنت من وقت لآخر أقصد إلى مأمور المركز في الزقازيق كي أرجوه في الإفراج عن أحد الذين قبض عليهم من الفلاحين. وكانت الحكومة تُنفِذ شرطتها إلى الأسواق الريفية العامة فتقبض على من تستطيع من هؤلاء المساكين وتربطهم بالحبال الغليظة كما لو كانوا أسرى حرب. ثم يبعثهم الإنجليز إلى فلسطين وكانوا يموتون بالمئات والألوف. ولم أكن أنجح في تخليصهم إلا بالرشوة.
وسئمت الركود الريفي، فاشتغلت بالتعليم فترة. ثم هبت الثورة في ١٩١٩ ورأيت أن أقصد إلى القاهرة حتى أكون على صلة بالحوادث وحتى أجد منفذًا جديدًا إلى الصحافة. وتحقَّق لي ذلك؛ فإني بعد أن اشتغلت بالتعليم في مدرسة التوفيق قليلًا اشتركت في تحرير «الهلال» واشتركت أيضًا في تحرير «البلاغ».
وانغمست في السياسة مع المرحوم عبد القادر حمزة. وكنت أزور معه سعدًا. وكان عبد القادر حمزة من الكُتَّاب الأفذاذ إذا نشب في موضوع لم يترك الجدل فيه حتى يستقصيه ويخرج منه منتصرًا. وكان نزيهًا في حكمه حتى حين كان يختلف. فإنه بعد أن ترك الوفد في ١٩٣١ بقي على صداقته السابقة مع كثير من الوفديين.
وأصدرت «المجلة الجديدة» في أواخر ١٩٢٩. وأصدرت «المصري» في السنة التالية. وكانت الأولى شهرية والثاني أسبوعيًّا. وكانت الدعوة في كليهما تحريرية في الثقافة والسياسة. وعصفت بنا في ١٩٣٠ عاصفة سياسية في وزارة إسماعيل صدقي باشا، فألغى الدستور واستبدل به آخر بعيدًا عن الديمقراطية. وألغيت مجلتاي. وكان قد شرط في قانون النشر الجديد أن من يطلب امتيازًا لجريدة أو مجلة جديدة يجب أن يؤدِّي تأمينًا قدره ١٥٠ جنيهًا. فأديت التأمين نقدًا، ولكنه رُفِضَ. وبعد ثلاث سنوات أي في ١٩٣٤ جاءت وزارة عبد الفتاح يحيى باشا، فاستطعت أن أعيد إصدار «المجلة الجديدة» بضمان عامل في المطبعة عندي … وهذه هي حالنا في مصر: في وزارة يرفض التأمين النقدي وفي وزارة أخرى يقبل ضمان العامل الذي لا يملك شيئًا.
وفي بداية الحرب الكبرى الثانية أُنْشِئَتْ وزارة الشئون الاجتماعية، فاستدعتني كي أحرر مجلتها. وقبلت لأني وجدت أن الفرصة تتيح لي الإرشاد العصري والتوجيه الاجتماعي. وبقيت أكتب في هذه المجلة نحو سنتين. وكانت مقالاتي يوقَّع عليها بإمضائي أو تُنشر بلا إمضاء. فإذا راقت المشرفين على المجلة وُضِعَ لها إمضاء غيري حتى ولو لم تكن له علاقة بالوزارة. وقد كان هذا العمل مثارًا للسخرية أحيانًا وللأسف أحيانًا.
وكنت أتناول عشرين جنيهًا راتبًا شهريًّا على التحرير دون أي اشتراط على القدر الذي أكتب أو على مواظبة الحضور. فكان يمضي الشهر دون أن أحضر للوزارة، وكنت أكتب أي قدر شئت من الصفحات. ولكن الوزارة ضنَّت عليَّ بهذه الحرية مع صغر الراتب. فألغته وعينت أربعين قرشًا للصفحة الواحدة. ورأيت آخر الشهر بعد هذا النظام أن كل ما حصلت عليه هو جنيهان فقط، فتركت التحرير.
وكنت طوال عملي بالوزارة أصدر «المجلة الجديدة» أيضًا. وبقيت على ذلك إلى ١٩٤٢ حين سلمتها لبعض الإخوان الأصدقاء كي يقوموا بنشرها وكي أختص أنا في التحرير السياسي. ولكنهم نزعوا نزعة ديمقراطية يسارية مسرفة لم ترضَ الاستعمار، فأُلْغِيَتْ في تلك السنة بأمر عسكري.
وفي السنة التالية اشتريت امتياز جريدة يومية. وقبلت إدارة المطبوعات نقل الامتياز الذي أثبت فيه أنها «يومية» وذكر فيه الضمان بأنه ٣٠٠ جنيه أي ضمان جريدة يومية. وبعد أن قبل كل هذا وبعد أن استعددت لإصدار هذه الجريدة اليومية أُقِيلَتْ وزارة الوفد. وفي اليوم التالي للإقالة في أكتوبر من ١٩٤٤ أبلغتني إدارة المطبوعات أن الجريدة شهرية وأنه لا يجوز لي أن أصدرها يومية.
وعندما أقارن بين صحافة الجيل الماضي — من ١٩٠٠ إلى ١٩٢٠ — وصحافة الجيل الحاضر! أجد أننا قد تقدمنا وتأخرنا. أجل! تقدمنا في فن الطبع والإخراج تقدُّمًا عظيمًا جدًّا؛ فإن جرائدنا ومجلاتنا تدل على رقي فني يضارع أعلى المستويات الصحفية في أوروبا. ولكننا من حيث التحرير تأخرنا؛ إذ ليس عندنا الآن من المحررين من يضارعون مصطفى كامل أو علي يوسف أو لطفي السيد. وقد مات عبد القادر حمزة وهو آخر هذا الجيل المنقرض.
ولكن هناك مع ذلك علامة حسنة في الصحافة الحديثة، هي عنايتها الكبيرة بالأخبار الخارجية. فإن هذه العناية — التي كان مبعثها الحربين الأخيرتين — تنير القراء وتربيهم على النظر العالمي وبحث سياستنا من الزاوية السياسية العالمية الكبرى. وهذا حسن. ولكن انسياق الجرائد وراء الإعلانات قد حَدَّ من حريتها واهتماماتها. فإن جرائدنا مثلًا تُعنَى بالميدان السينمائي الذي يغل لها الإعلانات، أكثر مما تُعنَى بالزراعة المصرية التي يعمل فيها الملايين ولكن لا تنتفع منهم الصحف بالإعلانات.
وقد دلَّتني اختباراتي في السياسة والثقافة على أن بضع مقالات في السياسة أحيانًا تعود بمثل الربح المالي الذي يعود من تأليف كتاب كامل قد احتاج إلى دراسة السنين. ولذلك فإن التأليف في مصر تضحية كبيرة لا يرضاها إلا المهوسون بالثقافة. ولذلك أيضًا أصبح كثير من الأدباء الذين افتتحوا حياتهم بالتأليف صحفيين.
وذات مساء وكان ذلك في ١٢ يوليو من هذا العام ١٩٤٦ كنت نائمًا على الأسفلت في غرفة مظلمة في سجن الأزبكية مع نحو أربعين من المتهمين بالسرقة والضرب والفسق والقتل وحيازة المخدرات وغير ذلك. وكانت تتهمني أني أفكر وأدعو إلى الجمهورية أو الشيوعية. وكانت خشونة الأسفلت تمنعني من النوم وتؤلمني فأرقت. وأخذت ذاكرتي تعرض لي فلم حياتي الماضية. فذكرت الحرية التي كنت أتمتع بها في ١٩١٤ حين كنت أكتب مقالات في «المستقبل» لو أن بعضها نُشِرَ هذه الأيام لقاد إلى السجن. وذكرت العناء الذي لقيته في الدراسة والتأليف، وعددت نحو عشرين كتابًا ألفتها لأبناء وطني أخلصت فيها النية وبذلت المجهود كي أُنِيرَ وأعلم، وكي أسمو بالشباب إلى مثليات القرن العشرين وأخرجهم من ظلمات القرون الماضية. ثم تأملت حالي على الأسفلت الخشن، وكيف أني لم أجمع مالًا ولم أحصل حتى على الكرامة التي يستحقها من يخدم ويخلص في الخدمة. وكان إلى جنبي نصف رغيف هو عشائي الذي قررته لي الحكومة المصرية جزاء هذا العمر الذي قضيته في خدمة مصر. وأخذت أفكر وأجتر التفكير وعقلي يتضور من الألم، إلى أن أصبح الصباح ودخل علينا رجل بقفة فيها خبز، فناولني رغيفًا للفطور وضعته فوق نصف الرغيف الذي تناولته في المساء السابق. وهكذا يفعل بنا الاستعمار والاستبداد المتحالفان.