من الأفلام الماضية
نستطيع أن نجمع الضوء بالعدسة فتتلاقى أشعته المتفرقة في بؤرة هي أضوأ نورًا وأكثف أشعة، وليست هناك عدسة للزمن حتى تجمع فيها ساعاته ودقائقه في ثانية أو ثوان … ولكن وجداننا يقوم أحيانًا في المآزق والضائقات مقام العدسة، بحيث نعيش في لحظة خاطفة سنين طويلة، كما يحدث مثلًا عندما توشك على الغرق ويغشانا الماء ونتعلق بين الحياة والموت. ففي هذه الحال ينبسط أمامنا «فلم» من الذكريات التي مضت عليها السنين …
كنت مرة على جزيرة وايت حوالي سنة ١٩٠٨، في جنوب إنجلترا، وكنت أسير على شاطئ صخري هاوٍ يرتفع أكثر من مائة متر … وبينا أنا في سيري أتأمل البحر إذا بقطيع من الغنم تتقدمها كباش قد برزت قرونها في وحشية مروِّعة تتجه نحوي في هرولة طار لها عقلي فوثبت كي أتجنبها. ولكني في وثبتي رأيتني على حافة الهاوية أكاد أسقط. وفي تلك اللحظة الحرجة رأيت فلمًا من أفلام طفولتي يمر بذاكرتي في سرعة برقية.
فهنا مأزق من مآزق الحياة قلَّ إن خلا أحد من تجربته أو ما يشبهه: خطر داهم يجمع ذكرياتنا في بؤرة تسطع منيرة في وجداننا … ولذلك نذكرها طيلة حياتنا. ولكن هناك تجارب أخرى يتكاثف فيها الزمن وتتجمع في وجداننا. وهي أيضًا نتيجة المأزق الحرج الذي لا يبلغ الموت ولكنه يدانيه في عمق الإحساس وتنبُّه الوجدان.
وليس من الضروري أن يكون هناك خطر متوقع، ولكن لا بد أن يكون هناك ألم يحز كأنه الموت. كنت ذات مرة في باريس أجلس على قهوة ومعي إخوان نتحدث عن السياسة. فتطور الحديث إلى نقاش حامٍ. فاحتد أحد الشبان الفرنسيين عليَّ لأني خالفته وقال لي: «لا تناقش … ليس لك هذا الحق. الإنجليز أسيادكم!»
وتبالهت. وتضاحكت … ولكني شعرت كأنما شربت سمًّا، وأن أمعائي تتمزق. ونهضت وقصدت إلى غرفتي، وانبطحت على السرير وأنا أبكي. وبعد ذلك لم أكن أصدم في أي مدينة في أوروبا بأي شخص أقل مصادمة إلا ويهتف بي صوت داخلي: «الإنجليز أسيادكم!» فأذل وأتمزق.
وفي الحرب الكبرى الأولى كان شبابنا يؤخَذون قسرًا من القرى فيُربَطون بالحبال ويُنقَلون إلى فلسطين. وكان الكثيرون منهم يموتون أو يعودون وهم حطامات بشرية، قد فقدوا أنفع أعضائهم. وذات يوم كنت على محطة الزقازيق فإذا بي أرى شابًّا لم يبلغ العشرين، وإلى جانبه شيخ هرم كأنه أبٌ أو عمٌّ لهذا الشاب. وكان الشيخ دائب الكلام في حرارة وعطف، حتى كاد رأسه يمس وجه الشاب، فاقتربت منهما. ولكني فزعت من هول ما رأيت، وما زلت أفزع من هذه الذكرى … فقد كان الشاب فاقد البصر من غبار فلسطين وسينا، وعاد أعمى لا يرى نور النهار … وكان الشيخ يواسيه بكلماتٍ كاذبة، والشاب ينصت في جمود وصمت كأنه لا يسمع.
وأحسست — وبيني وبينهما أقل من مترين — كأني مجرم، وكأني مسئول عن هذه الكارثة التي نزلت بهذا الشاب. وجف حلقي وودت أن أقول للشيخ شيئًا. ولكن جمود الشاب جمدني. وبقينا ثلاثتنا على هذه الحال، إلى أن جاء القطار الذي حملهما إلى قريتهما …
وقد مضى على هذه الحادثة نحو ٢٨ سنة. ولكني عندما أخلو لنفسي، يعود «الفلم» فينبسط أمامي وأستعيد كل كلمة وأرى كل حركة من حركات الشيخ المواسي والشاب الأعمى. ثم تتمزق أمعائي عندما أفكِّر في دخوله قريته واستقبال أمه أو أخته له واستقباله لهم.
وكنت حوالي سنة ١٩١٧ في المنصورة. وسئمت من جلسة طالت على إحدى القهوات التي تشرف على النيل، فنهضت عند الغروب وصرت أجول على غير هدى في الشوارع والأَزِقَّة. فلما عتم المساء أخذت طريقي إلى القهوة …
فبينا أنا أسير الهوينا إذا بي أسمع صوتًا خافتًا ظننت أنه يصدر من أحد المنازل، ولكن الصوت كان مع خفوته قريبًا. فتلفتُّ حولي فرأيت شيئًا ضئيل الجسم حسبته كلبًا أو قطًّا. فاقتربت منه فسمعت صوتًا يقول في خلط واضطراب: «ملوخية … ملوخية باللحمة … عيش وملوخية … بدي آكل … أنا جعانة: عيش وملوخية …»
ودنوت من هذه الأشلاء المكومة الملفوفة في الخرق. فوجدتها امرأة قد اسحتالت من الفاقة والبؤس إلى حطام لا يعقِل. ووقفت إلى جانبها أسمع أنين الجوع وبكاء المعدة … ثم قصدت من فوري إلى مطعم فاشتريت لها طلبتها وعدت مع صبي المطعم إليها، وأخذنا نحن الاثنين نعرض عليها ما أحضرناه من الملوخية واللحم، وأكلت المسكينة في ضعف وارتباك … ولكنها لم تأتِ على ربع الرغيف، وظني أنها كانت في أيامها الأخيرة …
وكلما جاءت العتمة عقب الغروب وضاقت نفسي لسببٍ ما عادت هذه الذكرى تضيء في مخيلتي فأتنهد أسفًا على ذلك الحطام البشري الذي ظننته أول الأمر كلبًا أو قطًّا.
وفي صرخة الموت عذوبة تفتن النفس، وفي الموت نفسه فتنة كأنها صحوة الوجدان، حتى لنحس أن يقظتنا إنما هي حلم نصحو منه عندما نقف إزاء من نحب وهو في النزع الأخير.
وقفت إلى جانبها — وهي أختي — وكانت في عذاب الذبحة الصدرية تصرخ صرخات الموت. ولم أكن مخدوعًا أو واهمًا في المصير المحتوم الوشيك! وعاد «الفلم» ينبسط أمامي مبتدئًا بما حدث منذ أكثر من ٥٠ سنة، وأخذت صوره تتعاقب الواحدة بعد الأخرى في لحظات خاطفة، وفي نصوع ووضوح، حتى كأني أسمع كلماتها وهي تشتري لي الحلوى، وتغسل لي وجهي أيام الطفولة … ثم أنتبه من هذه الذكريات إلى صرختها العذبة الأليمة. وكانت في عذوبتها تجعلني أنتفض كأني في لذلة أليمة، أو كأني في طرب حزين ثم جاءت النهاية وساد السكون …
وخرجت وإذا بي أنظر إلى السماء فلم أترك سحابة إلا وأنا أتأملها كأنها شأن خطير يجب ألا أنسى شيئًا من تفاصيله. أو كأني أقرأ حروفها الفضية وأطلع من ورائها على سر خطير. فلما انطبعت هذه السحب في نفسي، نظرت إلى الأرض. ولكني عدت في لهفة أنظر إلى هذه السحب كأن شيئًا يوشك أن يفلت مني. ثم ترن فجأة تلك الصرخات العذبة الأليمة فأرتاح إليها وأسكن وأستكين …
وهذه الذكريات، أو هذه «الأفلام» على إيلامها، هي الحياة. هي كنز يجمع المر والحلو واللذة والألم. وحياة تخلو منها هي الحياة تخلو من كنوزها … وحين أعود إلى اللحظات الخاطفة التي تجمع فيها الإحساس والوجدان، أحس حنانًا لذيذًا جارفًا، يبدأ حرقة والتهابًا ثم يتميع خيالًا ينساب هنا وهناك في أفكار وخواطر شتى عن الموت، وعن الدنيا، وعن المصير، وعن الحاضر والمستقبل، بل وعن العلم والأدب والفلسفة والسياسة … فتتغير القيم والأوزان، فأرفع من بعضها وأبخس من بعضها الآخر، وعندئذ أحس أن هذه المآزق، وهذه الكوارث، هي المجال الذي أتغير فيه وأتطور. وأن هذه الكوارث، إنما هي حوافز تنبه الوجدان وتبدل الذهول بالإحساس الملتهب، والتفكير المركَّز … حتى إني لا أحسد أولئك الذين حُرِمُوا من هذه الكوارث فتبلدوا وتجمدوا وعاشوا كما لو كانوا سمكًا لا يحزنون ولا يلتهبون … أجل! لم يعرفوا طرب الحزن الذي يسمو في لذته وتأثيره على طرب الفرح، ولم يصدموا بتلك الصدمات المنبهة التي تُوقِفهم في الطريق حتى يتأملوا ما قطعوا منه في الماضي وما سوف يقطعون في المستقبل، أجل! لم يجمعوا الزمن في بؤرة إنسانية تتكاثف فيها الأشعة فيزداد ضوء الوجدان.