بعض الأدباء الذين عرفتهم
عرفت جرجي زيدان مؤسس «الهلال» قبل أن يموت بسنتين أو ثلاث، بل عرفته منذ ١٩٠٩ حين كنت بإنجلترا، وكنت قد ألَّفت رسالة «مقدمة السبرمان» وبعثت بها إلى مطبعة الهلال كي تُطبع، فأحالتها المطبعه إليه ليقرأها. وبعث هو إليَّ بخطاب مسهب يشرح لي فيه وجوه النقد التي يأخذها على الرسالة، ويقترح حذف بعض الفصول والسطور ممَّا عده مخالفًا للعقيدة العامة. وأذكر من خطابه هذا قوله: «إنه لا بأس بأن ننتقد المسيحية؛ لأن المسيحيين قد ألِفوا نقد ديانتهم، أما المسلمون فيجب أن نتوقاهم؛ لأنهم لم يألفوا النقد.» وقد خرجت هذه الرسالة مشوَّهة مبتورة لكثرة ما حُذف منها.
ولما عدت إلى مصر زرته واتصلت معرفتي به إلى وفاته، وكنت بين مشيعيه إلى قبره. وكان جرجي زيدان عصاميًّا في ثقافته وثروته، وهو أول من أرصد حياته في عصرنا لدراسة التاريخ الإسلامي، وألَّف في ذلك قصصه الكثيرة كما ألف تاريخ التمدن الإسلامي. وهذه الكتب تُعَدُّ من الطلائع لهذه الدراسات التي استفاضت في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة. ولم يكن لجرجي زيدان أي اتجاه علمي، حتى لقد كتبت ذات مرة أعزو الحجاب عند العرب إلى أسباب بيولوجية هي أن البنات في الأقطار الحارة يبلغن سن النضج الجنسي في الحادية عشرة أو حوالي ذلك أي قبل اكتمال سن النضج الذهني. ولذلك لم تكن لهن من عقولهن رقابة على غريزتهن الجنسية أو ضبط لها، وأن هذا هو السبب للحجاب بين العرب. فتعجب لهذا التعليل وقال لي إن «الأسلوب يعجبني»، ولكن الحقاق تكذبه. وكانت هذه «الحقائق» عنده تاريخية. وأنا الآن أعرف أني كنت مخطئًا في هذا التعليل البيولوجي؛ إذ ليس هناك أي فرق في سن النضج الجنسي بين أبناء المناطق الحارة والمناطق الباردة، والتعليل الصحيح للحجاب اجتماعي.
وكان جرجي زيدان انبساطيًّا بدينًا بشوشًا كثير الأصدقاء. ومات عقب انتهائه من أحد مؤلَّفاته. فما هو أن أتم الصفحة الأخيرة حتى وضع القلم وانسطح، فانفجر شريان أحدث له «النقطة». وفي اليوم التالي شيَّعناه إلى الجبانة، وكان هناك عدد غير صغير من الأدباء الذين استعدوا لتأبينه. ووُضِعَ النعش وكُشِفَ عن الوجه ونهض أحد المؤبِّنين. ولكن ما إن شرع في إلقاء كلماته حتى صاح شقيق للمتوفى يقول: إنه رأى شقيقه يرمش وإنه لا يزال حيًّا. وكانت المسألة لا تزيد على أن عاطفته قد تغلبت على عقله. ولكن كانت النتيجة أن المشيعين عادوا ولم يسمعوا تأبينًا، وترك حارس للجثة إلى الصباح …
ومؤلفات جرجي زيدان لا تزال حية وهي أقرب إلى التلخيص منها إلى الإسهاب؛ لأنه عالج موضوعات لم يعالجها أحد من قبلُ. فكان يستوعب أكثر ما يستطيع فيُضْطَرُّ إلى الاقتضاب. ولما أُنشِئت الجامعة المصرية كلف إلقاء محاضرات عن التاريخ الإسلامي. ثم عادت إدارة الجامعة فألغت هذا التكليف بدعوى أنه مسيحي. وقد تركت هذه الحادثة في نفسه مرارة؛ فكان لا يفتأ يذكرها في حزن وألم.
وكان فرح أنطون يصدر «الجامعة»، وكان من وقت لآخر ينتقد «الهلال». وكانت مجلة «الهلال» شرقية ومجلة «الجامعة» غربية، فلم يكن هناك نقطة للتعارف أو التصادُق بين صاحبهما. واتصلت صداقتي بفرح حين شاركته في تحرير «اللواء» لفترة قصيرة حوالي ١٩٠٩. وكنا نقضي السهرة في إحدى القهوات المُطِلَّة على ميدان الأوبرا أو ما يقاربها. وكان فرح «مفكرًا حرًّا» بالمعنى الفرنسي لهذه العبارة. وكان يعرف نيتشه وروسو. وقد اندمج بعد ذلك في الحركة الوطنية المصرية. وكان حلبي الأصل؛ ولذلك شق عليه اتخاذ اللهجة المصرية العامية. وكان انبساطيًّا مفراحًا يشرب الخمر، بل كان يشرب الأبسنت، وهو مشروب مُنِعَ بيعه بعد ذلك لفتكه بالصحة.
وقد ترك كل من جرجي زيدان وفرح أنطون أثره في النهضة المصرية. فإن الأول فتح أبواب الدراسة لتاريخ الإسلام والعرب وآدابهم وعقائدهم وحضارتهم، كما فتح الثاني أبواب الدراسة للنهضة الأوروبية. ومات الأول حوالي الخمسين، ومات الثاني حوالي الأربعين.
وفي تلك السنوات عرفت يعقوب صروف محرر «المقتطف»، وكان قد جاوز الستين. وأذكر أنه لأول مقابلة لي شرع يسألني عن أصلي هل أنا مصري قح أم بي عرق أجنبي؟ وكان قد قرأ رسالتي «مقدمة السبرمان». وبعد حديث طال في العلوم عاد فجزم بأني أجنبي، وأن تفكيري يدل على هذا! وكانت نزعته العلمية قد طغت عليه، فلم يكن يُحسِن التقدير للأدب أو الفلسفة. ودار بيني وبينه نقاش ذات مرة عن هربرت سبنسر وشوبنهور، فأبرزت أنا القيمة العظمى للفيلسوف الألماني الذي نظر النظرة الكونية الشاملة، أما هو فكان يرى أن سبنسر أعظم المفكرين في العالم، وأن شوبنهور لا قيمة له بتاتًا إلا في «ملاطفات» أدبية أو مجازفات فلسفية. وكان «المقتطف» في أيامه من المجلات القوية التي وجهت القراء العرب الوجهة العلمية وأنارت بصيرتهم. ولم يكن جافًّا في إيراده للبحوث العلمية، كما أنه كان من وقت لآخر يترجم إلى العربية مقالات جدية من المجلات الأوروبية.
وفي إدارة المقطف وجدت أمين المعلوف، وكان لغويًّا علمي الذهن. وقد وضع معجمًا بعد ذلك للحيوان لا يزال أحسن ما يُعتمد عليه في هذا الموضوع. واتصلت بيني وبين أمين المعلوف صداقة إلى وفاته. وكان يُكثر من الشراب. وقبيل وفاته بعامين أو ثلاثة أصيب ببحة كانت تجعل الحديث معه شاقًّا، ولكنه احتفظ ببشاشته وذكائه. وقد عاش أمين المعلوف ملء حياته. فاشتغل في السودان ووصل إلى أقاصيه العليا حيث أفريقيا السوداء، كما اشتغل في مصر والعراق. وهو — مثل فرح أنطون — لم يتزوج.
ويجب أن أذكر هنا أن جميع هؤلاء الأربعة كانوا سوريين، أو — كما نقول الآن بعد التجزئة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية — لبنانيين. وكانوا جميعهم كارهين للحكم العثماني لا يطيقون ذكره. وكان إذا شرع أحدهم في الحديث عنه لم يتمالك من الغيظ. ولم يكن وجدانهم وطنيًّا؛ لأن رؤيا الاستقلال للعرب لم تكن قد تجسَّمت. وكان اليأس أغلب عليهم. وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب الكبرى الأولى، بقوا على شك من حقيقة الاستقلال المزعوم لهذه الدول العربية. وأظن أنهم كانوا على حق في هذا.
ومن الشخصيات الفذة التي عرفتُها قبل الحرب الكبرى الأولى شخصية الأديبة الكبيرة مي. وقد بقينا صديقين إلى يوم وفاتها عقب عودتها من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولم تكن مي جميلة ولكنها كانت «حلوة». وكانت تعرف الآداب الإنجليزية والفرنسية، وتقرأ كثيرًا وتقف على الاتجاهات العصرية في أوروبا وأمريكا والشرق. وكانت أيضًا متمدنة من حيث اكتمال وسائل التمدُّن في المعيشة. وكان تمدُّنها وثقافتها يكسوان وجهها وتعبيرها ظرفًا ورقة. وقد استطاعت مي أن تجعل احتراف الأدب عند الفتاة المصرية والسورية زينة أنثوية لا استرجالًا كريهًا. وكانت — في حياة أبويها — تعقد بمنزلها اجتماعات «صالونية» حيث يكون السياسي والأديب والوجيه بعض ضيوفها. وكانت تشترك في جميع المناقشات بل كانت أحيانًا تديرها. وقد تنبه ذكاؤها كثيرًا لاختلاطها بهؤلاء الضيوف. ولم يكن هناك موضوع تعجز عن الاشتراك في معالجته. وتفعل كل ذلك في رقة وجمال وتمدُّن. ومات أبوها فلم يتأثر «الصالون»، ولكن عقب وفاة والدتها تزعزعت مي. ولم يكن ذلك — في ظني — لحزنها على والدتها التي ماتت بعد أن أسنَّت وبعد أن كان موتها منتظرًا. وإن كانت الفرقة بين الأم وابنتها قد تركت أثرها، وخاصة عندما نعرف أن مي لم تتزوج، وأن رفقتها لأمها كانت تعزيها. وليس من السهل على فتاة أن تجد نفسها يومًا ما وهي منفردة مقطوعة في منزلها، وخاصة في وسط — مهما قلنا إنه متمدن — لا يزال شرقيًّا.
على أني أظن أن السبب للتزعزع النفسي الذي أصاب مي كان انتقالها الفسيولوجي من الشباب إلى الكهولة. وهذا الانتقال كثيرًا ما يُخِلُّ بالاتزان الفسيولوجي عند بعض النسوة، وقد ماتت مي منذ أكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولما عادت زرتها مع صديقي الأستاذ أسعد حسني، وفتحت هي لنا الباب. فرأيت شخصًا لا أعرفه، رأيت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين. فسدرت عيني، فغمزني أسعد وهمس: الآنسة مي! الآنسة مي! فسلمت وتضاحكت. ولكنها هي أدركت كل شيء واستولى عليَّ اكتئاب وخجل وجمود وارتسمت في ذهني صورة لعذاب النفس الذي لَقِيَتْهُ هذه المسكينة في مرضها. ولكن سرعان ما زال عني الاكتئاب والخجل والجمود؛ إذ شملني أسف. فإن مي قعدت إلينا وشرعت تقص علينا ما قاسته في المستشفى وكيف ألبسوها «الجاكتة» التي تمنع العربدة عند المجانين، وكيف أضربت هي عن الطعام، ثم — وهنا الأسف والحزن — كانت وهي تروي لنا ما وقع لها وكيف أن أدباء مصر نسُوها وتركوها ولم يسألوا عنها، كانت تضحك مرة وتبكي أخرى، وتكرر هذا منها كثيرًا. وأدركت أنها لا تزال في حاجة إلى المستشفى.
وزاد اعتقادي هذا عندما أصرت على أنه كان لها أقرباء ينوون خطفها من القاهرة، وكانت تذكر أسماءهم وأنهم كانوا يتربصون بها في مكان تعينه، وكانت هي مضطرة إلى المرور بهذا المكان.
وخرجنا نحن الاثنين ونحن في أسف وغَمٍّ لهذه الحال التي كانت عليها مي. ولكن أسفي أنا كان مزدوجًا؛ فإني بقيت طوال المساء وأنا أفكِّر في جمودي وكيف أني لم أتنبَّه عندما رأيتها بالباب فأحييها تحية اشتياق وتقدير وأنها لا بد قد عرفت من جمودي أنها قد تغيرت، وأن جمالها وحلاوتها وظرفها ورقتها قد زالت. وملأتني هذه الخواطر مرارة بل كراهة لنفسي.
فلما كان اليوم التالي قصدت إلى منزلها وأنا طوال الطريق أستعد للقاء أرجو أن أقشع به غمامة الأمس. وهو مع ذلك لقاء لفتاة مريضة مزعزعة. فلما فتحت لي الباب عانقتها في حنان صادق وحب مصطنع.
وتراجعت هي وتأملت وجهي في ابتسام وانشراح واضحين وهي تقول: «مرسي، مرسي يا أستاذ!»
وشعرت أني كفَّرت عن جمودي بالأمس. وقعدت معها وأنا أتحدث في نشاط ومرح. ولكنها عادت إلى البكاء والضحك. فكانت دموعها تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تتشنج بالضحك. وبعد أسابيع ماتت؛ إذ لم تطق هذه الدنيا التي رافقتها أكثر من ثلاثين سنة وهي تتلألأ فيها بالشباب والجمال، ثم عادت فتركتها منفردة في شيخوختها بلا جمال وبلا تلألؤ.
ومخلفات مي الأدبية كثيرة، ولكنها كانت في حديثها أبرع وأذكى مما كانت في جميع ما كتبت. وكنت أقول لها إن السبب لتفوق حديثها على مقالاتها ومؤلفاتها أنها شرقية تخاف في الكتابة أن تبوح بكل ما تفكر فيه ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديث. وقد صدمتني ذات مرة بملحوظة جعلتني أفكر، هي قولها: «إن مبالغتك في التفاؤل هي في صميمها وأصلها مبالغة في التشاؤم.» وأحيانًا أظن أنها كانت صادقة، كما أنها هي أيضًا كانت مثلي متفائلة ذلك التفاؤل الذي يخفي التشاؤم ويضمره.
وقد يسأل القارئ هنا: لِمَ لم تتزوج مي مع جمالها وثقافتها؟ فالجواب أنها كانت تعيش في وسط شرقي. ولو كانت مي قد نشأت في برلين أو باريس أو لندن لوجدت الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها، والفخر والمجد بالتصاق تاريخهم بتاريخها. ولكن إخواننا اللبنانيين — على الرغم من عصريتهم — لا يزالون شرقيين، ولم يستطيعوا أن يسيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون أدبي له حرية الصالونات الأوروبية في المناقشة والاختلاط. وبكلمة أخرى أقول: إن مي عاشت عمرها قبل ميعادها بخمسين سنة.
وقبل الحرب الكبرى الأولى عرفت عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان». وكانت هذه المجلة الشهرية تحاول أن تحيي الأسلوب العربي القديم على نحو ما فعلت جريدة «مصباح الشرق» للمويلحي أو كما تفعل الآن «مجلة الرسالة». وكان البرقوقي نقيضي في أهدافه الأدبية؛ فقد كان يَجِدُ لَذَّةً عجيبة في التعبير عن معنى ما بكلمة مماتة. ويقول إننا يجب أن نُحْيِيَ هذه الكلمة. ولم يكن يجدي احتجاجي عليه بأن الكلمة إنما أميتت لأسبابٍ قوية استدعت موتها، وأن إحياءها الأن خطأ؛ لأن مركزها الاجتماعي قد انعدم. وكان صهره مصطفى صادق الرافعي أكثر إمعانًا منه في خطة الإحياء للكلمات المماتة. وعرفت محمد السباعي وكان الكاتب الأول في مجلة «البيان». أما الكاتب الثاني فكان عباس حافظ. وكلاهما كان يُعنَى أكبر العناية بالأسلوب العربي القديم. ولم يكن بمجلة «البيان» لا كثير ولا قليل من الفن الصحفي، ولذلك لم تعِش طويلًا.
وكان عبد الرحمن البرقوقي من أطيب الناس. وكان غربي الذهن قضت المصادفات بأن يكون شرقي التربية والثقافة. وكنا أحيانًا نمشي في الإسكندرية فيأخذ في المقارنة بين الشوارع التي أُقِيمَتْ إليها مساكن الأجانب وبين تلك الأخرى التي أُقِيمَتْ إليها مساكن المصريين. ويُستنتج من هذه المقارنة ما يحمله على القول بأن الشرق كله مفلس. وقد عرف الشيخ محمد عبده وأدرك المغزى في اتجاهاته وإصلاحاته.
وإذا كان حقًّا أن الخمر تكشف عن خبايا الصدور، وتفكك الضوابط التي تحول دون الصراحة، فإني أروي الحادث التالي الذي يدل على النفس الزكية التي كان يتسم بها البرقوقي، فقد كنا على قهوة في الإسكندرية حوالي ١٩١٤، وقد قعدنا إلى الموائد الخارجية والنسيم يهب علينا كأنه البلسم في رقته ورخامته، وأمامنا أكواب من البيرة — أو غيرها — نشربها في اشتهاء ولذة. ثم طلبنا رطلين من الكباب، فجاء بهما الخادم وبخار الكباب يتصاعد ورائحة الشواء تُسكر. وما إن شرعنا نتنقل على هذا الطبق حتى طرأ علينا متسوِّل. وكان غاية في الرثاثة والجوع والعفن. فطلب إحسانًا، فتأمله البرقوقي ثم نظر إليَّ كأنه يستفهم. ثم دفع الطبق إلى طرف المائدة وقال للرجل: كُلْ. فأكل الطبق كله برطليه من الكباب وهو واقف.
وكان البرقوقي يسكن — هو ومجلته — بالقرب من باب الخلق، وكانت «الجريدة» قريبة منه. وقد دعوته قبيل الحرب الكبرى الأولى إلى أن نزور معًا لطفي السيد (باشا) رئيس تحريرها. ولم أكن أعرفه قبل ذلك إلا من مقالاته مع إعجابي العظيم بها. فلما دخلنا عليه وجدت غرفته كأنها غرفة وزير في سعتها وأثاثها. وتحدثنا عن نيتشه والتصوف. ولا أدري إلى الآن كيف جمع بينهما لطفي السيد. ولكني خرجت من هذه المقابلة الأولى وفي اعتقادي أن لطفي السيد أديب كما هو فيلسوف.
وحوالي تلك السنين، أو قبل ذلك بقليل، بزغ طه حسين، وكان أزهريًّا معمَّمًا، يكره الأزهر، ويعربد على صفحات «الجريدة». والتحق بالجامعة المصرية ونال دكتورية الأدب. وكان الفرح عامًّا بين الشباب الجديد لهذا الأزهري الناجح. وكنت أُصدِر مجلة «المستقبل» الأسبوعية في الدعوة إلى القرن العشرين وما بعده. فنشرت صورته وهو بالجبة والقفطان. وراج العدد بين القراء الذين رغبوا في اقتناء الصورة، وكان لنجاح طه حسين قيمة رمزية هي أن مصر العتيقة تستطيع أن تتجدد. وقد وجد طه حسين من لطفي السيد المراعاة بل أحيانًا المحاباة، حتى كانت مقالاته تتحيز المكان الأول في «الجريدة» على الدوام. والواقع أن انتقال طه حسين من الأزهر إلى الجامعة المصرية ثم إلى السوربون — مع أنه ضرير — هو معجزة. ولكن ثَمَّ معجزة أخرى هي أنه اتخذ مكانًا أماميًّا ثوريًّا مستقبليًّا في الأدب. مع أن الإنسان كان يتوقع — بعد اعتبار ماضيه — أن يتخذ مكانًا تقليديًّا حيث يُراعى «قواعد النحو والصرف» في الأدب والاجتماع والسياسة. وقد يقال إن المعري قد أثَّر فيه وبعث في نفسه كراهة لقواعد «النحو والصرف» في أسلوب الحياة. ولكن يبقى عندئذٍ سؤال هو: لماذا اختار طه حسين المعري كي يكتب عنه ويُسهِب في الكشف عن عقله وقلبه؟ ولا عبرة بأن يقال إن الاشتراك في العاهة باعث مقنع للقوة الجذبية التي وجدها طه حسين في المعري. لأن هناك أدباء وشعراء كثيرين بهم هذه العاهة ولكنهم لم يجذبوه. وظني أن عاهة العمى لم يكن لها إلا أقل الأثر في التفات الأديب المصري إلى أديب المعرة. وإنما الأثر الأكبر أنهما يشتركان في الثورة، وخاصة الثورة على المشايخ. فقد رأى طه حسين في الأزهر ما بعث سخطه وحرَّكه إلى الكفاح، ثم رأى عند المعري مثل هذا السخط ومثل هذا الكفاح. فارتبطت بين الأديبين أواصر الحب والفهم وتعارفا وتفاهما. وقد انتقلت عند طه حسين بعد ذلك بؤرة المعركة من ميدان الأزهر إلى ميدان السياسة المصرية. ولكن اتجاهه الأول لم ينحرف.
وهناك من يزعم أن السياسة قد أفسدت أدباءنا وشغلتهم عن مهمتهم الأصلية. وهذه المهمة إنما هي عند هؤلاء الزاعمين أدب البرج العاجي الذي لا يتصل بالمشكلات العصرية. ولكنهم مخطئون؛ لأن الأديب في عصرنا يخون عصره إذا لم يكن سياسيًّا. وأعني بالطبع السياسة العليا العالمية والقُطرية ولا أعني أن يستأجر أحد الأحزاب كاتبًا فيرصد هذا قلمه للدفاع عنه ظالمًا أو مظلومًا في مهاترات مزرية. ونحن نعيش في عصر انفجاري يحفل بالانقلابات الاجتماعية والأدبية والعلمية. وذلك الأديب الذاهل الذي يعيش في البرج العاجي إنما يبتعد عن أهم الشئون البشرية حين يبتعد عن السياسة. وكل أديب له وجدان بتطور العالم في عصرنا يحس أن واجبه الأول أن يكون هو نفسه عنصرًا من عناصر هذا التطور؛ ولذلك يستحيل أدبه إلى أدب كفاحي سياسي.
ولذلك لا يستحق أدباؤنا اللوم على أنهم أخضعوا أدبهم للسياسة، بل الحق أنهم يستحقون الثناء والحمد. وحين أتأمل الصدود الذي نلاقيه أحيانًا في بعض الأفراد أو عند الجميع عن شوقي — على الرغم من شاعريته الرائعة — أعتقد أن مرجعه أن شوقي لم يمارس الأدب الكفاحي. ولم يطابق بين فنه وبين أماني الشعب إلا في فترات نادرة. وأن إعجاب الشعب بحافظ إبراهيم — على الرغم من شاعريته التي لا تسمو إلى مستوى شوقي — إنما يرجع إلى أنه طابق بين فنه وبين أمانينا السياسية. وحتى في المستقبل، بعد مائة سنة مثلًا، سوف يدرس حافظ ويستدل بشعره على عواطف الأمة المصرية واتجاهاتها ومستواها الفني أكثر ممَّا يدرس شوقي الذي عاش زمنًا غير قصير من حياته في البرج العاجي.
ولم أعرف شوقي إلا في السنوات الأخيرة من حياته. وكان له مكتب بالقرب من دار الكاتب المصري كنت أزوره فيه. وقد فهمت مقدارًا كبيرًا من سيكلوجيته حين شرع ذات مرة يوضح لي في إسهاب لماذا ألف درامة «كيلوبطرة». فقد زعم أنه أراد أن يزكي هذه المرأة باعتبارها ملكة مصرية قد أسيء إليها في سمعتها. ودهش أكبر الدهشة مني عندما ناقضته وقلت إنها لم تكن مصرية. وكان في ثقافته يصبو إلى كل قديم، حتى إنه لم يدرك شيئًا من التيارات الكاسحة التي اتسم بها الثلث الأول للقرن العشرين. وقد ولد شوقي في أواخر القرن التاسع عشر في مصر، في بيئة الباشوات والبكوات التي كانت تكره عرابي، ولم يقطع الحبل السري الذي كان يربطه بالقرن التاسع عشر إلى يوم وفاته.
أما حافظ إبراهيم فكان من الجواهر التي لا تزال تلمع وتسطع في ذكريات جميع الذين عرفوه. وكان يمتاز أو يتَّسم بوجه كالح متجهم يصدم بل يخيف لأول نظرة، حتى إذا قضى معه الإنسان نصف ساعة ودَّ لو ينهض ليُقبِّله ويعانقه. فقد كان أنيسًا يحدِّثك بنكات، بالمعنى العربي القديم لهذه الكلمة. وكان وطنيًّا يطابق بين أمانيه وأماني الدهماء من الفلاحين والعمال والمتوسطين. وأذكر من نكاته أني سألته ذات مرة عن رأيه في أحد الشعراء، فكانت إجابته العجيبة: «إن أشعاره يجب أن تُنسى عن ظهر قلب.» وهو عندي ذكرى تترنم بها نفسي.
وليس هناك مفر من المقارنة بين شوقي وحافظ ومطران؛ فإن دراسة هؤلاء الثلاثة تدل على التيارات المتناسقة والمتناقضة في المجتمع المصري في الخمسين من السنين الأخيرة. فإننا نُحِسُّ أحيانًا في قصائد شوقي ومقطوعاته جَوَّ الترف المصري الذي أوشك على الزوال: السجاجيد الإيرانية، وصينية القهوة الفاخرة يحملها عبد أسود، والمقاعد الناعمة والحجاب، حجاب المادة والروح. أما أشعار حافظ فصرخات المتألم، وأحيانًا مهاترات العاجز. ونحن نقرؤها فنصرخ معه أو نهاتر في ألم وعجز؛ لأنه منا ونحن منه. شاعر مصري بلدي يقرأ أخبار المظاهرات ويفرح بها، ويؤلف القصائد عنها وكأنه يريد أن ينتظم فيها مع الطلبة. أما مطران فيشبه أحيانًا تلك الحدائق الأنيقة التي يجمع فيها أصحابها الأثرياء أصص النباتات الأجنبية التي نسأل عن أسمائها ونعجب بروائها، ولكن ليس لها في قلوبنا ذلك الحنين الذي نُحِسُّهُ حين نذكر حقولنا المألوفة بفلاحيها وجداولها وأشجارها من الجميز والتوت.
ومن الشخصيات الذهبية التي تبرُز في وجداني وأفتأ أذكرها كلما عنَّ حديث عن الأدب أو القلم أو الشرق أو الحضارة، شخصية شبلي شميل. وكان رجلًا قصيرًا متكتل الجسم كأنه مصارع، عرفته في ١٩١٢ وبقينا على اتصالٍ بل تحابٍّ إلى وفاته في أواخر الحرب الكبرى الأولى. وكان في تلك السنوات يقارب السبعين ولكنه كان على صحة وشباب نادرين، وكان روحه الكفاحي للغيبيات يَسِمُ — وقد يقول غيري: يَصِمُ — كل كتاباته. ذلك أنه كان يدعو إلى الحرية الفكرية في كلمات جريئة وأحيانًا في وقاحة جريئة، كما كان يدعو إلى نظرية «النشوء والارتقاء» أي التطور. وقد نقل إلى لغتنا كتاب بوخنر في هذا الموضوع. وكان يسخر من الغيبيات في كلمات لا يجرؤ غيره على استعمالها. ولما أصدرت مجلة «المستقبل» في ١٩١٤ أيَّدني وكان يكتب فيها بتوقيعه أو بلا توقيع، وقد كتب فيها قصيدة «فلسفية» لم أفهم غايته منها، وإلى الآن لا أفهمها.
وكان شبلي شميل مفكِّرًا أكثر مما كان عالمًا. وكان يقنع القارئ بعقله وليس بمعارفه. ولذلك عندما نقرأ مخلَّفاته الآن نجد التفكير الرصين والأسلوب الرصين. وكان كثير من المعجبين به يستهويهم أسلوبه، وكان هو يردُّ على ذلك بأن رصانة الأسلوب هي ثمرة الرصانة في التفكير. وهذا حق. ولكني مع ذلك كنت عند زيارتي له في منزله أجد التوراة أمامه وأجد آثار التنقيب فيها. وكنت حين أداعبه بأن مكافحته للغيبيات لا تتفق وهذا الغرام بالتوراة كان يجيب بأنه يحب بلاغة التوراة وأن اهتمامه بها لغوي أثري.
وكان من حيث المزاج والتفكير بل المعيشة أوروبيًّا متمدنًا. وكان يحمل على عادات الشرق وتقاليده في لهجة غاضبة. وكان متدينًا شديد التديُّن بل متعصبًا في تديُّنه بالديانة البشرية. وظهر هذا التدين عند إعلان الحرب الكبرى الأولى؛ فإنه بقي أسابيع وهو هائج كما لو كان قد استولى عليه نيوروز. وظني أنه لو كان في سن الشباب لتطوع لمحاربة ألمانيا لأنه عَدَّ هجومها هجومًا على المبادئ البشرية.
وهذه الديانة البشرية التي ذكرتُها كانت أيضًا ديانة جميل صدقي الزهاوي. ولكن الزهاوي كان يعمل في بغداد، في السر والظلام. في حين كان شبلي شميل يجاهر ويعلن ولا يبالي. وحوالي ١٩٢٥ زار الزهاوي القاهرة مع السيدة زوجته، وسارع إلى السؤال عني. وقضينا أيامًا ونحن نلتقي ونتحادث في كل شأن. وكان رجلًا ضئيلًا قد بلغ السبعين أو تجاوزها، وكان يسير على ساقين ركيكتين تكادان تعجزان عن حمله. وكان أيضًا غربي الذهن على ذكاء خارق ولكن على معارف ناقصة في العلوم العصرية. وقبل أن يغادر القاهرة سلم إليَّ مخطوطة هي ديوان يجمع عددًا من قصائده التي لو طبع بعضها لأدى إلى السجن؛ لأنها طعن وقِح في كثير من العقائد التي اصطلح الناس على تقديسها. وهذا الديوان — بعد أن بقي عندي سنوات — طلبه مني زكي أبو شادي ولا يزال عنده إلى الآن. ولا أظن أن الظروف الحاضرة أو القادمة، في القريب، ستؤذن بطبعه.
وقد تركنا زكي أبو شادي يعيش في الولايات المتحدة؛ لأنه يعتقد أن الرجعية الفكرية قد خيَّمت على مصر في هذه السنوات الأخيرة، وأن الأحرار — لهذا السبب — لا يستطيعون أن يتنفسوا في الجو الخانق الذي سعى الإنجليز لإيجاده في جميع أقطار الشرق العربي. ونحن نخسر كثيرًا بغيابه عنا. فإنه أديب عالم وقد أخرج مجلة وألَّف كتبًا خدمت مصر وبسطت لنا آفاقًا للتفكير العصري. وهو يجيد الكتابة بالإنجليزية كما يجيدها بالعربية. وله عندي مؤلَّف باللغة الإنجليزية في الديانة البشرية جدير بأن يُوضَع في صفٍّ مع المؤلَّفات التي من نوعه في أيَّة أمة أوروبية متمدِّنة.
وحين أراجع المعاكسات التي لقيها زكي أبو شادي، والتي أدت أو أدى بعضها إلى تركه لمصر، زيادة على موجة الرجعية التي اكتسحتنا هذه السنوات الأخيرة، أجد أنها تعود إلى أنه متمدن. وأنه في سلوكه — فضلًا عن لغته — لا يبالي أن يكون عصريًّا. وهذه العصرية تُنعَى على بعض الأشخاص المتمدنين. والناعون هم على الدوام شرقيون تقليديون كارهون للحضارة العصرية. ولكنهم في كراهتهم لا يتشوَّفون إلى حضارة مستقبلية راقية أو أرقى ممَّا نجد في حاضرنا، بل يرجعون إلى تقاليد وعادات تنافي العصر الديمقراطي وتنكر مبادئه. ومن هنا فرار زكي إلى الولايات المتحدة وكراهته لجَوِّنَا الحاضر. وهذا هو ما يجب أن نأسف عليه جميعًا وأن نتأمل في مغزاه كثيرًا.
ومن الأحرار الذين عرفتهم محمود عزمي، وهو الآن في كهولته «معتدل». ولكنه كان في شبابه جريئًا واسع الآفاق بعيد الأمداء. وكان يجري في غلواء الشباب. دعوته ذات مرة في أواخر ١٩٣٠ إلى أن يكتب للمجلة الجديدة مقالًا فشرط عليَّ أن يكتبه بالحروف اللاتينية. وكان هذا قبل أن يناضل عبد العزيز فهمي باشا لأجل الخط اللاتيني بنحو خمس عشرة سنة. ولم ينزل عن رأيه إلا بعد مناقشات متكررة. وكان يدعو إلى القبعة ويعتمر بها في شوارع القاهرة. وقَلَّ أن نجد كاتبًا مثل محمود عزمي في نصاعة تفكيره وصحة منطقه. وهو هنا يشبه كثيرًا عبد القادر حمزة. ومن المَلَذَّاتِ الذهنية أن يقرأ له الإنسان مقالًا يناقش فيه الموضوعات السياسية مناقشة موضوعية في تعقُّل بعيد عن الزخارف اللفظية أو الأوهام البلاغية.
وعندما أرجع بذاكرتي إلى كثيرين من الأدباء — وبعضهم لا أحب أن أذكرهم — وأتأمل المجهودات العظيمة التي بذلوها والنزعات النبيلة التي نزعوا إليها في أول عهدهم بالكفاح الأدبي، ثم كيف انتكسوا منهزمين راضين بالماضي بدلًا من أن يقتحموا المستقبل، عندما أتأملهم، أجد أن العيب لم يكن فيهم وحدهم، وإنما هو أيضًا في هذا القدر الذي حاطنا بظروفٍ سياسية استعمارية أجنبية أو استبدادية داخلية، تعاقبنا — نحن الأدباء — على التقدم والرقي وتكافئنا على التأخُّر والانحطاط. أجل، هذا القدر القاسي الذي يهيئ لقوات الظلام في مصر وفي أقطار الشرق العربي كي تخيم على دعاة النور وتطمس نورهم، وقد انطمس كثير من النور.