التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
لم يُكتب تاريخ الجناية التي جنتها بريطانيا على مصر إلى الآن. لم يُكتب لا تفصيلًا ولا إجمالًا. وهو حين يُكتب سوف يقف الجمهور في مصر كما تقف شعوب العالم خارج مصر على جنايات تتجاوز حدود الخيال. فقد هبت الأمة في ١٨٨٢ بقيادة عرابي تطلب من الخديوي توفيق طلبًا متواضعًا بالمقارنة إلى سائر الأمم، هو الحكم البرلماني. وبعد أن سلم الخديوي بهذا الطلب عاد فماحك فيه وانتهى إلى القول بأن مجلس النواب يستطيع أن يفعل ما يشاء إلا النظر في الميزانية. ومعنى هذا أنه لا يستطيع شيئًا بتاتًا؛ لأن كل مشروع يحتاج إلى مال يدخل في الميزانية وإذن يستطاع إلغاؤه ويعود البرلمان كما لو كان جمعية يتمرن أعضاؤها على الخطابة العقيمة الثرثارة. وإذا كان جائزًا لملك أو أمير أن يطلب مثل هذا الطلب من أمته لكان يجب في ظروفنا في ١٨٨٢ ألَّا يجوز مثل هذا الطلب من الخديوي في مصر. لأننا في تلك السنين كنا خارجين من سنوات الإفلاس للحكومة المصرية، وهو الإفلاس الذي كان يرجع سببه إلى تصرف الخديوي السابق إسماعيل. وما زلنا نحن إلى الآن أي في ١٩٤٧ نؤدي أقساط هذا الدين الأبدي.
كان الخديوي توفيق يُصِرُّ على منع النواب من النظر في الميزانية بتحريض الماليين — أي الساسة؛ لأن السياسة هي المال — من الإنجليز والفرنسيين. فإن هؤلاء كانوا يوقنون بأن الدَّيْنَ المصري ظلم فاحش واحتيال سافل. وكانوا يتوقعون من النواب المصريين عرقلة في دفع الأقساط. فكان لذلك خوفهم من الحركة الوطنية المصرية وتأييدهم لاستبداد الخديوي توفيق في اصطدامه بعرابي.
وشخصية عرابي هي شخصية مقدسة في تاريخنا، شخصية الفلاح الناهض الذي لم يُطِقْ رؤية أبناء الأتراك والشركس والأرمن يمتازون على أبناء المصريين في الجيش والإدارة. فثار على هذا النظام. ثم رأى أن النواب في ثورة أخرى لأجل الحكم البرلماني الصحيح. فاندغمت الثورتان ضد الخديوي توفيق وضد طبقة الأتراك والشركس.
ورأى الإنجليز الخطر على ديونهم التي أوقعوا فيها إسماعيل كما رأوا الفرصة سانحة كي يحتلوا مصر. ثم يحيلوها بعد ذلك إلى مزرعة للقطن تغنيهم عن الواردات الأمريكية من القطن، كما يقفون أيضًا على قناة السويس وهي باب البحر المتوسط إلى آسيا. فكانت الحرب بين الإنجليز المستعمرين — أي الساسة التجاريين والصناعيين — وبين الفلاحين المصريين.
وكان يعاون الإنجليز في هذه الحرب الغادرة عرب الصحراء والأتراك والشركس. ولم يكن يعاون الفلاحين أحد.
وانتهت الحرب بهزيمتنا أي هزيمة الفلاحين المصريين. ودخلت مصر — سياسيًّا — في العصر الجليدي، ومُحِيَ اسمها من التاريخ ووقف تطورها نحو خمسين سنة. وأعاد الإنجليز إلى الخديوي سلطته الاستبدادية وألغَوْا البرلمان. وأيضًا أعادوا حكم الأتراك والشركس والأرمن. كما نرى مثلًا أن رياسة الوزراء لم تُسَلَّمْ إلى مصري من أبناء الفلاحين منذ ١٨٨٢ إلى ١٩٠٨ أي مدة ٢٦ سنة تولى فيها هذه الرياسة أبناء الأرمن والشركس والأتراك وحدهم. وبقي الإنجليز بعد ذلك على هذه القاعدة كلما رأوا نهضة من الفلاحين. فإنهم كانوا يعمدون فورًا إلى أحد أبناء الأتراك أو الشركس فيولونه رياسة الوزراء كي يحطموا به نهضة الفلاحين أي الحركة الوطنية.
ثم شرع الإنجليز في مهمتين سلبيتين؛ إحداهما: منع التعليم فأقفلوا المدارس. وثانيتهما: منع الصناعة فلم يأذنوا بإقامة مصنع. بل لقد أقمنا مصنعًا لنسيج القطن في بولاق حوالي ١٩٠٠ اشتغل وأنتج الأقمشة فتعقبوه بالمعاكسات حتى أقفلوه وعينوا مديره الأرلندي في وظيفة حكومية. ولا تزال أسسه قائمة. وقد حصلت من كامل صدقي (باشا) على أحد الأسهم التأسيسية لهذا المصنع الذي عمل الإنجليز على إفلاسه. ثم حددوا التعليم وصرحوا بأن المقصود منه إيجاد الموظفين فقط للحكومة. وكانت مدرسة الطب محدودة العدد حتى إن خريجيها في بعض السنين لم يكونوا يزيدون على ٦ أو ٧ أطباء في العام كله. وكان أطباء الجيش المصري يُجلبون من لبنان من خريجي الكلية الأمريكية في بيروت. وكانت حالنا مع ذلك أفضل من حال الهنود؛ فإن هؤلاء كانوا محرومين من مدرسة للطب إلى ١٩٢٠ فلم يكونوا يتعالجون — وهم ٤٠٠ مليون — من أمراضهم إلا على أيدي الدجالين أو على أيدي الأطباء القليلين جدًّا الذين تعلَّموا في أمريكا أو أوروبا.
فتعقَّل هذا أيها القارئ، تعقل وتدبر في هذه القسوة وكيف كُنَّا محرومين من الأطباء قبل ١٩١٩ إلا خمسة أو ستة تخرجهم مدرسة الطب كل سنة.
وكيف حُرِمَ الهنود حرمانًا تامًّا من مدرسة للطب إلى ١٩٢٠. وإني أذكر فيما بين ١٩٠٠ و١٩١٥ أني لم أزُر طبيبًا مصريًّا. لا أنا ولا واحد من أعضاء عائلتي. ولم أكن أسمع عن طبيب مصري؛ إذ كان كل الأطباء الممارسين بالقطر المصري أجانب من اليونانيين أو الإيطاليين أو الإنجليز أو الفرنسيين. بل أكثر من هذا، ففي ١٩٢٧ كان علي ماهر (باشا) وزيرًا للمعارف، وسنحت له فرصة في إحالة الجامعة الشعبية إلى جامعة حكومية، وكانت هذه الفرصة هي غياب المندوب السامي البريطاني جورج لويد. وجمع المختصين وصرَّح لهم «بأننا يجب أن نبادر وأن نؤسس الجامعة المصرية على أساس ثابت في غياب اللورد لويد؛ لأنه إذا جاء قبل أن ننتهي من هذا العمل فإنه سيعارض ويمنعنا من إيجادها.» وتلك كانت خطة الإنجليز لتبوير العقول المصرية.
وتم تأسيس الجامعة في غياب اللورد لويد، ولمَّا عاد إلى مصر ووجدها قائمة كان ينتفض غيظًا وجزعًا.
وكانت همة الإنجليز المشئومة في منع التعليم تتَّجه إلى البنات كما تتجه إلى الغلمان؛ فإنهم منعوا التعليم الثانوي للبنات ولم نستطع إيجاد مدرسة ثانوية للبنات إلا في ١٩٢٥. وكانت وزارة المعارف ترسل بعثات إلى أوروبا وتشترط على أعضائها ألا يلتحقوا بأية جامعة، وإذا فعلوا فُصلوا من البعثة وحرموا الإعانة المالية.
هذا من ناحية التعليم من حيث المنع أي من حيث تحديد الكم، ولكن حملتهم المشئومة كانت تتجه أيضًا نحو الكيف. فكانوا مثلًا يصرون على ألَّا تدخل بنت في المدرسة السنية الابتدائية — أكرر كلمة ابتدائية — إلا وهي مبرقَعة. كما كانوا يصرون على أن يكون معلم اللغة العربية معمَّمًا؛ غيرة على التقاليد. حتى نبقى من دعاة الفعل الماضي نعيش في الأمس.
أما من ناحية الصناعة فقد عرَّفوا المصنع في عام ١٩٠٤ بأنه: «محل مقلق بالراحة أو مضر بالصحة أو خطر.» ولا يزال هذا التعريف قائمًا إلى الآن. وهو يكفي لإقفال أي مصنع في العالم. ولذلك لم يجرؤ واحد على إنشاء مصنع إلى ١٩١٩، بل إني أنظر في جدول الصادرات والواردات في ١٩١٣ فأجد أن الواردات إلى مصر كلها من السلع الإنتاجية — أي الآلات — لا يزيد ثمنها على ١٨٠٠ جنيه؛ أي أقل مما يحتاج إليه مصنع صغير في سنة واحدة.
واتجه الإنجليز إلى إحالة القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وانبعثت هممهم إلى زيادة محصوله بإيجاد المشروعات للري حتى يتوافر فيشترونه رخيصًا ولا يخشون المزاحمة الأمريكية في الأسواق العالمية. ولم يكن الإنجليز قط أمة زراعية، فكان من العجب أن يُفتونا هم في الزراعة ويتسلطوا على حظوظنا فيها. والمتأمل لتاريخ وزارة الأشغال ووزارة الزراعة يجد أنهما كانتا تعملان وتشتركان لهدف واحد. هدف واحد ليس له ثانٍ هو زراعة القطن. الأولى تقيم القناطر وتخزن المياه وتشق القنوات، والثانية تقوم بالتجارب لإيجاد سلالات جديدة من القطن تمتاز بها صناعات لنكشير في إنجلترا.
أما كيف نصنع قطعة الجبن أو كيف نزرع التفاح أو كيف نربي الدجاج أو كيف نزيد ثروة الفلاح، فكل هذا لم يخطُر قط بالأذهان المالية السياسية البريطانية. وقد أدى بنا هذا إلى أننا — ونحن أمة زراعية كما زعموا — كنا نشتري أقة التفاح بجنيه ونصف جنيه مدة الحرب الأخيرة.
والإنجليز في جنونهم بزراعة القطن لم يُبَالُوا قط بما سوف يؤدي إليه خزن المياه في النيل، وتوفيرها في قنوات الريف من الأراضي. لم يبالوا أية مبالاة سواء بصحة التربة أو صحة الفلاحين أو الماشية أو النبات. فإن أي إنسان — مهما يكن جاهلًا — كان يستطيع أن يفهم في ١٩٠٠ مثلًا أنه إذا استشبعت التربة بالمياه الوفيرة فإنها ستملح وتقل خصوبتها، كما أن الحشرات والديدان ستعيش فيها وتتكاثر. ولا بد أن تفشو ديدان البلهارسيا والأنكلستوما والأسكاريس.
وقد فشت كل هذه الديدان التي لم نكن نعرفها في ١٩٠٠ إلا قليلًا جدًّا. إذ لم يكن بين الفلاحين ممن يحملون هذه الديدان في أجسامهم تأكل لحومهم وتشرب دماءهم من ١٨٩٠ إلى ١٩٠٠ سوى ٢ أو ٣ في المائة فأصبحوا الآن — بفضل جنون الساسة التجاريين من الإنجليز — نحو ٨٠ أو ٩٠ في المائة. وأصبحنا أمة مريضة نحاول الآن أن نشفي فلاحينا من هذه الديدان.
ومحاولتنا إلى حدٍّ بعيد عقيمة؛ لأن أساس الري الذي وضعه الإنجليز في جنونهم بزراعة القطن وهم أمة غير زراعية، هذا الأساس لا يزال قائمًا. ومياه الري تعلو مستوى التربة.
وإني أذكر حين كنت صبيًّا بين ١٨٩٥ و١٩٠٠ أني كنت ألعب مع الصبيان الفلاحين في الريف فكنا نجِد الأرض أيام الجفاف مشققة يبلغ عرض الشق فيها نحو ربع متر، وقد يطول إلى خمسة أمتار أو أكثر، ولا يقل عمقه عن نصف متر أو متر. وكانت الحشرات والديدان تموت في هذا الجفاف. وكان الفلاحون يستمتعون بصحة عجيبة. وكان الفدان يغل عشرة قناطير أو اثني عشر قنطارًا من القطن. وهذا كلام يكاد الفلاحون أنفسهم لا يصدقونه. ولكني رأيته بعيني. وخصوبة الأرض متصلة — كما يعرف جميع الذين مارسوا الزراعة وفطنوا إلى الأمراض الريفية — بصحة الفلاح بل بصحة النبات والحيوان. ولكن طرق الري التي أفشاها الإنجليز في ريفنا أفسدتنا جميعًا، ناسًا وحيوانًا ونباتًا وتربة.
-
تبوير العقول المصرية بمنع التعليم.
-
وإفقار الأمة بمنع الصناعة.
-
وتعميم الأمراض الدودية بالري الوفير لزرع القطن.
هذه هي الخطط الأساسية الثلاث التي سار عليها الإنجليز فيما بين ١٨٨٢ و١٩١٩. وكانوا يدبرونها في عناية مع التبصُّر للمستقبل. فإنهم كانوا يمنعون تعليم البنات مثلًا في ١٩٠٠ كي لا تكون لنا عائلات متعلمة في ١٩١٠ أو ١٩٢٠. وكانوا يمنعوننا من إيجاد مصنع للقطن مهما صغُر؛ كي لا نستغني عن أقمشة لنكشير بعد عشر سنوات. وكانوا يعارضون في إنشاء جامعة كي لا تتفشى العلوم بيننا فتوقظ عقولنا … إلخ.
وبهذا استطاع الإنجليز أن ينزلوا بنا إلى الحضيض جهلًا وفقرًا وعجزًا. ومع أنهم هم السبب الأصلي للجهل والفقر والعجز فإنهم كانوا يحتجُّون علينا بهذه النكبات الثلاث عندما كنا نطلب الاستقلال. فكانوا في ١٩١٩ يذيعون في أنحاء العالم أن القارئين في مصر لا يزيدون على ٢ أو ٣ في المائة وسائر الشعب غارق في غياهب الجهل. وكان أحد مستشاريهم في ١٩١٩ أيضًا يلوم علينا جهلنا وأنه ليس بين المصريين من يدري عمليات البورصة.
وممَّا زاد فداحة الاحتلال الإنجليزي لوطننا فيما بين ١٨٨٢ و١٩١٩ أن تلك الفترة كانت فترة الاستعجال والترويج للانقلاب الصناعي التاريخي ليس في أوروبا وحدها بل في العالم كله. ونعني في العالم الذي لم يُنكب بالاستعمار البريطاني. ولذلك كان تخلُّفنا عظيمًا جدًّا في نتائجه. حتى إن ثورة ١٩١٩ ثم ما تلاها من تطور اجتماعي أو اقتصادي تكاد تعد من المعجزات، أجل من المعجزات على الرغم من جميع العراقيل التي وضعها الإنجليز لمنع تطورنا.
ولو أن تطورنا سار سيرته الطبيعية من ١٨٨٢ إلى الآن ١٩٤٧ بلا تدخل أو احتلال الإنجليز، ولو أن الخديوي توفيق نزل على رأي مجلس النواب، لكانت مصر الآن في مقدمة الأمم المتمدنة. مائة في المائة من أبنائها يقرءون ويكتبون ويتعلمون في نحو عشرين جامعة ونحو خمسين ألف مدرسة ابتدائية وثانوية. ولكان أجر العامل فيها لا يقل عن جنيه في اليوم حيث كان يعمل في نحو خمسين ألف مصنع مصري. وكنَّا عندئذٍ نكون أمة قوية في زاوية البحر المتوسط لا تجرؤ بريطانيا على أن تنطق بكلمة في شأن قناة السويس.
وكنا نكون أمة متمدنة لنا ريف متمدِّن لا تخلو قرية من قرانا من نحو مصنعين أو ثلاثة مصانع تحيل المواد الخامة الريفية إلى مصنوعات عصرية.
كل هذا كان ممكنًا لو أن أحدًا لم يقِف ضد مجلس النواب ويصر على أنه لا يجوز للنواب بحث الميزانية.
ولو أن الإنجليز لم يحتلوا مصر في ١٨٨٢.
وحتى بعد أن حصلت الأمة على الدستور في ١٩٢٢ بقي الإنجليز على خطتهم القديمة وهي مكافحة الحكم النيابي. فكانوا يتحينون الفرص لتزييفه ويختارون الرجال لتحطيمه. ولذلك بقي طراز الصراع الذي كان بينهم وبين الأمة في ١٩٢٢ كما كان في ١٨٨٢ بينهم وبين عرابي. وكانوا يبحثون عمَّن بقي من الأتراك والشركس كي يجعلوهم رؤساء للوزارات التي تناهض الحركة الوطنية الممثَّلة في الوفد. فرأينا زيور يجمع البرلمان في الصباح ويطرد أعضاءه في المساء في ١٩٢٥ كأن نواب الأمة غوغاء لا أقل ولا أكثر.
وأرجو القارئ أن يفهم أني لست أشك في وطنية أبناء الأتراك والشركس في مصر الآن؛ فقد اندغموا في الأمة ونسوا الصراع القديم أيام عرابي كما نسوا لغتهم الأصلية. ولكن الإنجليز يُحِسُّونَ هذا الصراع القديم أكثر مما نحسه نحن ثم يسيئون فهمه أيضًا. وإن كان مثال زيور يدل على أنهم لم يسيئوا الفهم. فقد حاول هذا المخلوق أن يحطم الحياة النيابية في مصر ونجح في تحطيمها سنين طويلة.
أخشى بعد أن سردتُ الكوارث التي أنزلها الاستعماريون الإنجليز بشعبنا أن يعتقد القارئ أني أكره الإنجليز أو أن يؤدي ما ذكرته إلى أن يكره هو الشعب الإنجليزي؛ فإن هذا الشعب من أنبل الشعوب في العالم. وما أستمتع به أنا من ثقافة أو قيم بشرية سامية يُعْزَى معظمه إليه. وإنما أنا أكره الاستعماريين الإنجليز فقط. وهؤلاء الاستعماريون ينهبون الشعب البريطاني نفسه ويذلونه بالفقر والجهل كما كانوا ينهبوننا ويذلوننا. وليس الشعب البريطاني ثريًّا إلى الحد الذي يتخيله وينتظره الإنسان حين يتأمل هذه الإمبراطورية الشاسعة. وصحيح أنه انتفع بموارد الإمبراطورية التي حركت الصناعة. ولكن معظم المنفعة يعود إلى الاستعماريين والاستغلاليين. وهم طبقة واحدة. أي إن الذين يستغلون العمال في منشستر وجلاسجو وبرمنجهام هم أنفسهم الذين كانوا يستغلون المصريين والهنود والجاويين. وفي بريطانيا من الفقر ما ليس في أمة لا تملك أية مستعمرات مثل سويسرا أو نروج أو سويد. وقد ذكر هيوليت جونسون أن الصبيان الفقراء في يوركشر — في إنجلترا — عندما عُرِضَ عليهم الموز رفضوا تناوله ولم يعرفوا كيف يُؤكل؛ لأنهم لم يأكلوه قبل ذلك. وكذلك فعلوا بالبيض. وذكر السر جيمس أور أن الذين يحصلون على الغذاء الكافي في إنجلترا لا يزيدون على النصف، وأن سدس الأمة الإنجليزية مريض للنقص الغذائي.
ومرتب الكناس في المجلس البلدي — من إحصاء في ١٩٣٨ — في سويسرا هو ٢٢٣ جنيهًا في السنة. وفي سويد ٢١٠ وفي دنمركا ١٥٠. وليس لهذه الأمم مستعمرات. أما مرتب الكناس في المجلس البلدي في لندن فهو ١٤٥ جنيهًا في السنة فقط. وإني أقصد من ذكر هذه التفاصيل أن أبين للقارئ أن الشعب الإنجليزي بريء من الجرائم الاستعمارية التي يرتكبها دعاة الاستعمار والاستغلال، وأن البرهان على ذلك هو فقر هذه الطبقات الدنيا في إنجلترا، هذه الطبقات التي تعيش فيما يقارب الحرمان والمرض اللذيْن نقاسيهما نحن المصريين والهنود والجاويين من التسلُّط الإمبراطوري البريطاني مع تفاوت في الدرجة.
الشعب الإنجليزي شعب متمدن نبيل. ولكن الاستعماريين من الإنجليز أشرار بل أبالسة يجب ألا نذكرهم إلا باللعنات.