أمي وإخوتي
لا أذكر أبي لأنه مات وأنا دون السنتين في ١٨٨٩، ولكن جَوَّ البيت في طفولتي كان حافلًا بذكراه؛ فقد كانت أمي تصف سنة وفاته ﺑ «السنة السوداء»، وبقيت بذلته معلقة إلى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشَّى بياقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت أسمع القصص عنه. وقد بقينا عقب وفاته نتناول مؤخَّر مرتبه عشرين شهرًا تقريبًا. وهذا بالطبع غير المعاش. ومن هنا يعرف القارئ مقدار الإفلاس الذي كانت قد هوت إليه الحكومة؛ فقد كان الموظفون تتأخر مرتباتهم سنة أو سنتين. وكانت الرشوة تتفشى لهذا السبب. وكانت وظيفة أبي «رئيس تحريرات مديرية الشرقية» ولم يزِد مرتبه على سبعة جنيهات ونصف جنيه ومع ذلك ترك لنا وقت وفاته أكثر من مائة فدان. وكان الثمن المعتاد في تلك السنين عشرة جنيهات أو عشرين جنيهًا للفدان. وقد اطَّلعت على عقد بيع لجدي في نحو سبعين فدانًا (حوالي ١٨٤٠) وكان اهتمام الكاتب في العقد بشأن أدوات الزراعة، كالمحراث والنورج، وأوصاف الماشية، من بقرة إلى جاموسة إلى حمار، أكبر جدًّا من اهتمامه بالأرض التي لم تستغرق سوى ثلاثة سطور، بينما استغرقت الأشياء الأولى أكثر من أربعين أو خمسين سطرًا. وكان اتخاذ البذلة الأوروبية جديدًا في تلك السنين — أي قبل وفاة أبي — بين الموظفين. وكانت البذلة المألوفة شيئًا يسمى «السترة الإستامبولية» وكانت سوداء بين الردنجوت والبونجور. وكنا نسمع القصص التي تُروى عن التجارب الأولى في خلع الملابس القديمة واتِّخاذ البذلة الأوروبية. وكانت هذه القصص مجالًا للتنادُر والضحك.
والطفولة في أيامنا كانت أكثر إمتاعًا، ولكن أقل تنبُّهًا مما هي الآن؛ لأننا قضيناها في الزقازيق والريف. وكانت الزقازيق تخلو من تلك الحركة الصاخبة الخطرة التي تُرى الآن في القاهرة، فكنا نجول فيها مطمئنِّين أو نخرج منها إلى الحقول المجاورة، ولكن لم يكن هناك ما يُنَبِّهُ الذهن ويبعث الاستطلاع.
وممَّا أذكره وأنا في الرابعة أو في الخامسة أن شابًّا يُدعى زغبان غرِق في القناة التي أمام بيتنا. وأُخرجت جثته ورأيتها محمولةً على عاتقي أحد الشبان وخلفه عدد كبير من الرجال والنساء في لغط وصراخ. ثم صار لزغبان هذا روح أو عفريت يتردَّد في الظلام فنُخَوَّف به، وتذكره الأم لطفلها المشاغب فيسكت ويخنس.
حدث هذا حوالي ١٨٩٢، وفي ١٩٤٥ أي بعد ٥٣ سنة كنت أسير إلى هذه القناة، فسمعت من إحدى الأمهات اسم زغبان تُخَوِّفُ به هذه الأم طفلها، وهنا عبرة تُفَسِّرُ لنا نشأة الخرافات.
وعاشت أمي معي إلى ١٩١٦ حين ماتت في الثالثة والسبعين. وكانت امرأة متدينة تُعنَى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تُعنَى باستشارة الطبيب. وقد قضيت طفولتي وأنا في ملابس سوداء أحمل عبئًا من التعاويذ يعوق الحركة الحرة، بل لا تزال في أذني علامة الخرم الذي عُلِّقَ به قرط إيهامًا بأني لست غلامًا بل بنتًا حتى تُتقى بذلك العين. وقد رأيت وأنا أقرأ «الأرض الطيبة» لبيرل بك أن هذه العقلية تسود الصينيين أيضًا؛ فإن الأم في هذه القصة تتحدث عن ابنها كأنه بنت حتى لا تصيبه الآلهة بالعين. وقيمة الذكر تزيد على قيمة الأنثى كلما انحط شأن المرأة. ولذلك كان للغلام — ولا يزال إلى حدٍّ كبير — مكانة كبيرة في مثل الصين أو الهند أو مصر يمتاز بها على أخواته البنات.
وجميع الأمهات المصريات اللاتي وُلِدْنَ قبل مائة سنة لا يختلفن. فهن طراز واحد من حيث الأُمِّيَّة والإيمان بالخرافات واحترام التقاليد والتزام الحجاب. ولكن إذا كان النور قد نقصهن فإن الطِّيبة لم تكن تنقصهن؛ لأن المطامع المالية الحاضرة لم تكُن معروفة، والتفاخر بالأثاث والأزياء والمقتنيات لم يكن أيضًا معروفًا إلى الحَدِّ الذي بلغه اليوم. ولا أذكر يومًا رأيت أمي تأكل وحدها؛ إذ كان على الدوام هناك امرأة أخرى فقيرة تتغدى معها.
وقد تركت أمي في نفسي ذكريات من الحنان لا تزال تعود إلى ذهني فتغمرني بلذةٍ أليمة. فما زلت أذكرها وأنا في طفولتي، وأنا في الحمى أتقلب وأستيقظ في فترات فأراها قاعدة إلى جنبي تدعو وتصلي كأنها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها — حين كنت أودعها للسفر إلى القاهرة وأنا بالمدرسة الثانوية — تناديني عقب خروجي من الباب وتصر على أن أدخل البيت ثانية، كأن في هذا رمزًا إلى عودتي سالمًا بعد السفر. وكان أكثر إلحاحها عليَّ قُبَيْلَ موتها أن أتزوج؛ ولذلك في ليلة العرس، وأنا قاعد إلى جنب عروسي في الزفاف، في ١٩٢٣، بعد موتها بسبع سنوات، تذكرت إلحاحها وغيابها فارتعشت وانتفض جسمي وطفر الدمع الذي لم أجرؤ على مسحه. ولكن عروسي أخبرتني بعد أيام أن بعض الحاضرين للزفاف يقولون إني كنت أبكي.
وأنا أصغر إخوتي؛ ولذلك لا أذكر اثنتين من أخواتي بالبيت لأنهما تزوجتا قبل أن أبلغ وجداني. وكل ما أذكره عنهما أننا كنا نرحل مع والدتي إلى مقرهما في ميت غمر بالهدايا من الخراف والدنادي والفواكه والنُّقْل. ونحمل كل هذا معنا على العربات إذ لم يكن بين الزقازيق وميت غمر خط حديدي. وظني أن هذا كان يقع فيما بين ١٨٩١ و١٨٩٥، ولا يزال لميت غمر أثر نضِر في ذاكرتي؛ ذلك أنه كان يقصد إليها الغليون من أثينا أو أزمير أو بيروت. والغليون هو سفينة شراعية تحمل نحو عشرة أو أكثر من الأشرعة، وكانت تجتاز البحر المتوسط ثم النيل إلى أن تصل إلى دمياط فالمنصورة فميت غمر فبنها فالقاهرة، وتحمل معها جميع المتاجر من تركيا ويونان ولبنان. وكانت ترسو إلى الشاطئ فكنا نقصد إليها نحن الأطفال، مع مئات من الكبار، ونشتري النُّقل والفواكه المجففة والحلوى الطحينية. وكانت تبيع كل شيء تقريبًا حتى ملابس الأطفال اليونانية اللونية في أحمرها وأصفرها وأخضرها. وكان رُسُوُّ أحد هذه الغلايين أشبه بالأعياد؛ لأن المدينة كانت تهرع إليه وتشتري حاجتها، فتطن الشوارع بالحركة.
أما أختي الثالثة فلا أذكرها بالبيت، ولكني أذكر ضجة العرس التي علِقت بذاكرتي لما كان فيها من موسيقا وثُرَيَّاتٍ وسرادق يملأ الشارع أمام البيت، وبقي هذا السرادق نحو سبعة أيام أو أكثر، وانتعشنا فيه باللعب والسهر.
أما أختي الصغرى فهي الرابعة وأذكرها بنتًا بالبيت قبل زواجها، وكانت تقودني إلى الكُتَّاب ثم تأتي إليَّ وقت الانصراف وتعود بي إلى البيت. وكانت بيننا ألفة دامت سنوات إلى أن تزوجت وتركتنا. ويبدو أني أسأت الاستعمال لهذه الألفة؛ ففي ذات يوم وقفت في الشارع أمام البيت وناديتها باسمها كي تفتح لي، فما أدري إلا وقد انفتح الباب وانهالت هي عليَّ ضربًا لأني ناديتها باسمها؛ لأن الحجاب كان لا يزال يغشى بيوتنا، وكان يقضي بألا تُذكر أسماء البنات كما يجب ألا تُرى وجوههن، وظني أنها حُجزت بالبيت منذ العاشرة وأفسد هذا الحجاب برنامج تعليمها. فقد كانت بالزقازيق مدرسة قبطية للبنات ولكن الرجعية الاجتماعية حالت دون الانتفاع بها. ولذلك لم تتعلم واحدة من أخواتي؛ إذ كُن يُحجزن بالبيت وهن حول العاشرة.
وهذه الألفة التي دامت سنوات الصبا بيني وبين أختي الصغرى بالبيت بقيت حبًّا وصداقة إلى يوم وفاتها في ١٩٤٤ حين قعدتُ أمامها وهي في عذاب الذبحة الصدرية تكافح الموت إلى أن غشيتها غيبوبة الليل الطويل. وما زلت أذكر تلك الساعات المؤلمة التي كانت تُهيأ فيها للاحتفال بالزواج؛ فإني لم أكن على وجدان بأنها ستفارقني وكنت مغتبطًا بضجة العرس زائطًا. أما هي فكانت تخطفني وأنا أمر عليها أعدو وأزأط فتعانقني وتلهث وتشهق بالبكاء. وبقينا إلى يوم وفاتها ونحن نتزاور مرة على الأقل كل أسبوع.
وفي الوسط العائلي المصري يسود الوئام والحب اللذان لا يفسدهما سوى المطامع المالية من أحد الأعضاء. ولكن أحيانًا تسود الشهامة. فقد كان أبي موظفًا في مديرية الشرقية. وكان هناك قانون يحرم على الموظف أن يشتري أرضًا في المديرية التي يعمل فيها؛ وذلك تلافيًا من استعماله وظيفته وسلطته لمصلحته الخاصة. فكان أبي يشتري الأرض ثم يسجلها باسم أحد أولاده. فلما مات كان معظم أرضنا مسجلًا باسم البنتين الكبريين، اللتين تزوجتا في ميت غمر. وكان الزوجان شقيقين، وكان أبوهما غبريال سعد بك رجلًا شهمًا. فلما رأى أن ثروة أبينا توشك أن ينتقل كثير منها إلى زوجتي ابنيه أي أكثر ممَّا تستحقان انتظر حتى بلغت أختاي سن الرشد ثم جمعهما مع زوجيهما وحملهم جميعًا على التنازُل لي أنا وشقيقي، وكنت أنا في الثالثة أو الرابعة وشقيقي في السابعة أو الثامنة. وقد سمعت من أمي بعد ذلك بسنين أن هذا الرجل الشهم لم يُبَالِ أن ينتهر ابنيه حتى يجبرهما على الموافقة على التنازُل. وبَدَهِيٌّ أن مثل هذه الشهامة نادرة في أيامنا. ولا بد أيضًا أنها كانت نادرة وقتئذٍ؛ ولذلك فإن فضل هذا الرجل عظيم، وقد بُورك له في عائلته حتى أصبح نسله يعقوبيًّا يتجاوز المئات عدًّا. وكلهم تقريبًا ناجح موفر المال والعمل والكسب.
والراضون عن النظام الاجتماعي الحاضر في مجتمعنا الاقتنائي كثيرًا ما يذكرون العائلة وأن نظامنا يؤيدها. مع أنه لا يفكك العائلات ويضع البغض مكان الحب بين أعضائها سوى الخلافات المالية التي تُلابِس هذا النظام. وقل أن نجد عائلة متوسطة أو ثرية بلا خلاف مالي بين أعضائها مرجِعه طمع أحد أعضائها ورغبته في الاستئثار دون الآخرين. ولم تنج عائلتنا من هذه الخلافات التي سوَّدت العلاقات، ولو أننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني غير اقتنائي لما كان هناك مجال لهذه الخلافات التي تكاد تعم العائلات في أيامنا.
واحد على آخر أو طمع واحد في آخر. وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا أننا نتعلم منذ الطفولة بأن هذا لي وهذا لك، وإنني يجب أن أتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع. روح خبيث يُقال لنا إنه يعمل للرجولة مع أنه يعمل للعداوة والبغض والحقد. وقد لَقِيَتْ أختي الصغرى عناء بل سرقة صريحة من بعض أعضاء عائلتنا. ولم يكن المرتكِب لهذه السرقة يحس أنه مجرم، بل كان يتباهى لأن روح المباراة — هذا الروح الاقتنائي الذي ننشأ عليه — قد أكسبه هذه العقلية. وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجاتٍ متفاوتة. ولذلك قَلَّ أن نجد مثل ذلك الرجل الشهم الذي أشرتُ إليه غبريال سعد بك يعارض هذا الروح الاقتنائي ويطلب الخير لغير أبنائه.
وجميع العائلات المصرية موبوءة بالشقاق الذي يرجع إلى مطامع ثم خلافات مالية بشأن الميراث أو الوصية أو الوقف. وقد عرفتُ عائلات بقي الخلاف فيها بين الإخوة نحو عشر سنوات وهم مُشَتَّتُون في المحاكم الأهلية، ثم المحاكم المختلطة؛ إذ كان أحد الإخوة يعمد إلى أجنبي مشاكس فيأجره على المعاكسات التي تنقل القضايا من المحاكم الأهلية إلى المحاكم المختلطة وتصل إلى الإسكندرية. يفعلون هذا وينقطع كل منهم عن زيارة الآخر وتنمحي عاطفة الأخوة بينهم فيعودون أعداء يبحث كل منهم عن دماء الآخر. ولا أكاد أجد عائلة تخلو من هذه الخلافات إلا إذا كانت تخلو من العقارات الموروثة. فقد عرفت عائلة مسلمة قريبة من عزبتنا ترك الأب فيها للورثة أكثر من ١٥٠ فدانًا، ثم جعلها وقفًا وعيَّن ناظرًا للوقف أكبر أبنائه. ثم فشا الخلاف بين الورثة وكانوا يزيدون على عشرة. فلم يكن من هذا الناظر إلا أن أجَّر الأرض الموقوفة كلها إلى رجل يوناني أو إيطالي، وجاء هذا الرجل إلى الأرض يزرعها بنفسه، وأصبح الورثة يتضرعون إليه كي يعطيهم نصف أردب من الذرة أو القمح أو جنيهًا أو جنيهين … وأعرف رجلًا آخر كان ثريًّا «باع» أرضه لورثته. ولم يكن الغرض من هذا البيع سوى التمييز لبعضٍ دون بعض. وكان هذا البيع بالطبع صوريًّا. وكان يعتقد أنه سيبقى متصرِّفًا إلى يوم وفاته. ولكنه عندما قصد إلى عزبته — عقب البيع — كي يبيع القطن، قابله الخولي وأخبره بأنه لا يملك شيئًا؛ لأن ابنه الذي «اشترى» منه يمنعه من التدخُّل في أرضه، وحزن الرجل واحتقن الحزن في قلبه فأصابه فالج مات به بعد أقل من شهرين.
وأيام صباي يملؤها شقيقي الذي يكبرني بأربع سنوات. وكنت أعده بطلًا لجراءاته واقتحاماته. وقد ذهبنا معًا إلى كُتَّاب مسيحي ثم إلى كُتَّاب إسلامي. ثم عدت إلى كُتَّاب مسيحي. وخرجت من هذه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث أو أربع سنوات وأنا لا أُحسِن قراءة سطر، وإنما أحفظ عن ظهر قلب بعض الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن. ولم أشرع في القراءة إلا بعد أن دخلت المدرسة الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الخيرية القبطية في الزقازيق.
وكان شقيقي طفلًا ذكرًا بعد بناتٍ أربع. وأذكر من بعض اقتحاماته أنه ألَّف في الزقازيق عصابة كنتُ أحد أعضائها. وألف علي الشمسي «باشا» عصابة أخرى؛ ففي ذات يوم انفردت بنا عصابة علي الشمسي وأوسعتنا ضربًا وإيلامًا لخصومة كانت قائمة بينه وبين شقيقي. ولكننا بعد ذلك استدرجنا علي الشمسي إلى طريقٍ ناءٍ شمال الزقازيق ثم أثخناه بالعصي والأحجار حتى عاد مريضًا. وكان والده أمين الشمسي باشا يعرف عائلتنا لصداقة قديمة بينه وبين أبي. ولم أكن أمر عليه وهو أمام منزله حتى أُقَبِّلَ يده فيسألني عن أعضاء عائلتنا. وكان فيما بين ١٨٩٥ و١٩٠٠ مغضوبًا عليه من رجال الحكم؛ لأنه كان عرابيًّا في ثورة ١٨٨٢؛ إذ انضم إلى الحركة الوطنية ضد الخديوي توفيق مع أنه كان شركسي الأصل. وكان الصراع بين عرابي والخديوي صراعًا — إلى حدٍّ بعيد — بين الأتراك والشركس من جانب وبين المصريين من جانب آخر. ولكن أمين الشمسي باشا عرف عدالة المطالب المصرية وانضم إلى العرابيين.
ولما كنت في إنجلترا في ١٩٠٨ أرسلت إليه خطابًا أقترح عليه فيه إنشاء مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين الذين يعملون في أرضه وأرضنا، وكنا متجاورين لأن عزبته كانت ملكًا لجدي ولا يزال اسمها «كفر سليمان» باسم جدي. وأرسلت مثل هذا الخطاب إلى كبراء المالكين من عائلتنا، ولكن خطابي لم يجد سوى التسلية عندهم جميعًا؛ لأن الوجدان التعليمي كان لا يزال في مصر خامدًا. ولم يكن خطابي سوى ثمرة الوسط المتمدِّن المتنبِّه لقيمة التعليم في لندن.
وقد باع جدي «كفر سليمان» هذا إلى الشمسي باشا قبل أن أولد أنا بنحو ١٥ سنة — حوالي ١٨٧٢ — ولكني نشأت على الاصطلاح بأنه «الكفر القديم» وهو يبعد عن كفرنا الجديد بنحو كيلو متر. وقد زرته وأنا طفل مع بعض أقاربي فَأَرَوْنِي بيتًا أو زريبة كانت تسمى «بيت العبيد» أي المكان الذي كان يُحجز فيه العبيد في الليل ويقفل عليهم حتى لا يفروا …
وبالطبع لم تكن في أيامي عبودية ولا عبيد. ولكن الذكرى كانت قريبة؛ فإني وأنا طفل كنت أُخَوَّفُ بكلمة «فرج» وهي اسم عبد مات في إحدى غرف المنزل وبقيت ذكراه تتسلسل للتخويف من إخوتي إليَّ. وكذلك رأيت امرأتين سوداوين إحداهما كعب الخير والأخرى زهراء. وكانتا جارتين عندنا شملهما قانون تحرير العبيد ولكنهما لم تنقطعا عن زيارتنا. بل كانت إحداهما تقضي الشهور — عندما تترك زوجها — في بيتنا، وكانت تكل إلى أمي مفاوضات الصلح مع زوجها حين كان يعود لطلبها.
وكانت بيني وبين شقيقي نحو أربع سنوات؛ فلذلك لم تكن بيننا رفقة أو زمالة. وقد وجدت هذه الرفقة والزمالة في ابن خالة لي يدعى ميخائيل، وكان من سني. وقد ترافقنا طفلين ثم صبيين ثم شابين. ومن الذكريات البارزة في صباي مدينة بسطة الفرعونية. فقد كنت أزورها مع ابن خالتي هذا حين كانت لا تزال بيوتها قائمة. والغرف في بعض هذه البيوت كانت لا تزال تحتفظ بجوها الحميم حتى مكان المسرجة في الطاق كان واضحًا بسواد دخانها. وكانت الشوارع الضيقة سالكة بين البيوت. وهذا إلى عشرات من التماثيل الحجرية، ولم يُبَالِ الإنجليز أن تُمحى هذه المدينة مع قيمتها التاريخية العظمى؛ إذ جعلوا بيوتها وأنقاضها سمادًا «كفريًّا» ينقله الفلاحون إلى حقولهم. ولم يعد لها من أثر الآن.
وكان ميخائيل يسكن في بيت يجاور منزلنا، فلم نكن ننفصل طوال النهار، وإليه أعزو نزعتي الثقافية؛ فقد كان منذ صباه يحب الشعر ويتفصح، وكنت أعجب بفصاحته. وكنا نشتري المؤيد ونقرؤه معًا. بل تجرأنا ذات مرة على أن نؤلف درامة جعلنا فيها البطل ملكًا يقص حلمًا على المسرح ثم يتحقق هذا الحلم. ولكننا لم نثابر إلى النهاية فقطعناها في منتصف الفصل الأول. وقد ثابرت أنا بعد ذلك على الدراسة وانقطع هو عنها. ولكنه لم يقاطعها؛ فإني ما زلت إلى الآن عندما ألتقي به أجد فيه الالتفات إلى الحركات الأدبية بل أجد النقد الذكي. ولكن من ينظر إليه هذه الأيام لا يعتقد أن سِنَّهُ تزيد على الأربعين مع أنها لا تقل عن ٥٩ أو ٦٠ سنة. وقد يعزو بعضهم هذا الشباب إلى حياة السرور التي كان ولا يزال يُؤثِرها على أي أهتمام آخر. وبقينا مترافقَيْن مدة التعليم الابتدائي ثم افترقنا حيث تَوَظَّفَ هو والتحقت أنا بالمدارس الثانوية بالقاهرة. ولكنا كنا أيام الإجازات لا نفترق. وقد اهتززت سرورًا وتأمُّلًا قبل سنتين عندما زارني بالقاهرة أحد الأقارب المزارعين ورأى حولي مئات الكتب، فتأملها ثم تنهد وقال: «لم يغرس فيك هذه العادة المرذولة سوى هذا الملعون ميخائيل ابن خالتك.» وقد قال هذه الكلمة الصادقة؛ لأنه كان يرانا فيما بين ١٩٠١ و١٩٠٤ نقرأ معًا وندرس معًا في هوس لم يكن يجد فيه هو سوى خسار المال والذهن والوقت.
ولا تزال ذكريات الصداقة والرفقة بيني وبين ميخائيل عذبة في ذهني. ولم أعرف صديقًا بعد ذلك لازمني وتناسقتُ معه في الصداقة المنيرة المربية سوى عزمي الدويري الذي عرفته في ١٩٣٠ وفقدته في ١٩٤٤. وكان في بداية صداقتنا خامًا أخضر في ثقافته يقرأ الكتب العربية ويستضيء بمصابيحٍ خافتة. ولكنه بعد أن عرف المؤلفين الأوروبيين انغمس في المذاهب الأوروبية والسياسية الجديدة واستضاء ذهنه بها وصار يمتاز بالعقلية العالمية. وجرَّ عليه هذا النور الجديد عسفًا من البوليس السياسي لم يُبَالِه. وكنت كثيرًا ما أُذَكِّرُهُ بإعجابه القديم بأدباء البهرجة البلاغية ثم احتقاره لهم بعد ذلك فيضحك كثيرًا. بل الحق أنه استحال بعد أن عرف الآداب الأوروبية خَصمًا لهم يَعُدُّ وجودهم عائقًا لتطورنا الثقافي والسياسي. وظني أن هذا هو اختبار جميع المنتقلين من الأدب العربي إلى الأدب الأوروبي حين يقرءونه في لغاته الأصلية غير مترجَم. وقد ترك موت عزمي في نفسي لوعة لمَّا تنطفئ.
وقد رأيت أخواتي يَمُتْنَ واحدة إثر الأخرى. والموت يفقد لذعته عندما تكون السِّنُّ متقدمة؛ لأن الرحلة الأخيرة إلى الليل الطويل تسير هونًا والموت يأتي على ترقُّب. ولكن عندما كان الموت يفجأ إحداهن وهن لا يزلن في بداية العقد السادس أو السابع كان وقعه في القلب ووطأته على العقل يُحدِثان جمودًا كأنه كابوس اليقظة، ولكن السنين تُحِيلُ بكيمياء الزمن هذه الكوارث، حتى إني عندما أذكرهن الآن أحس الحزن عليهن في حنان ورقة وليس في ألمٍ وغضب.
وأستطيع الآن أن أعرض لجميع الشخصيات البارزة في عائلتنا، سواء أكان هذا البروز للفضيلة أم للرذيلة، وهذه الشخصيات هي الآن فوق الخمسين أو الستين. وعندما أرجع بذاكرتي إلى أيام طفولتهم وإلى الظروف البيئية الأولى التي سعدوا أو تعِسوا بها أجد التعليل الكافي لسلوكهم الحاضر. وأستطيع أن أقول — في ضوء ما أعرف من سيرتهم، بل أحيانًا سيرتهم الحميمة — إن التعاسة الأولى التي ينكب بها أي إنسان في حياته إنما هي التدليل، وإن التعاسة الثانية هي الاضطهاد. فجميع أولئك الذين لَقُوا تدليلًا أو اضطهادًا في عائلتنا أيام طفولتهم فسدوا. ومعنى «الفساد» هنا ليس العجز عن الكسب أو حتى العجز عن الانتصار المألوف في معركة الحياة. ولكني أعني ذلك الفساد الاجتماعي الذي يقارب الإجرام بل هو إجرام تخفيه رفاهية العيش؛ فإن الشخصية السيكوباتية التي وصفها صديقي الدكتور صبري جرجس في كتابه واضحة في عائلتنا في جميع أولئك الذين لَقُوا تدليلًا أو اضهادًا أيام طفولتهم. وقد يقع الاضطهاد لأن زوجة الأب أساءت إلى ابن زوجها في المعاملة وميَّزت عليه أطفالها دونه فعلمته المكر والخبث والكذب والغش؛ فنشأ على هذه الأخلاق التي صار يعامل بها المجتمع. ولكن في ذهني زوجة أب أخرى عاملت ابن أختي الدكتور رزق الله موسى في طلخا بالنزاهة والرفق والحب، فنشأ قديسًا. وفي ذهني آخر في الخامسة والستين من عمره دﻟﻠﻪ أبواه فنشأ وكل حياته جرائم. ولكن أولئك الذين وجدوا النزاهة والإنصاف في التربية أيام الطفولة هم إلى الآن — في شيخوختهم — مثال الطيبة والإحساس الاجتماعي السامي.