هذا العمر
سِنُّ الستين أشبه الأشياء بالقمة نقف عليها في سياحتنا على هذا الكوكب ونسائل: ماذا أفدنا من الماضي، وماذا ننتظر من المستقبل؟ وفي أعماق العقل الكامن وسوسة كأنها لغط في النفس: سن الستين هي سن الإقالة، يجب أن تُقَالَ أنت من الحياة.
وفي هذا العام ١٩٤٧ الذي أتم فيه هذه السن أجدني قد أخرجت كتابًا «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين» وكأنه احتجاج على الشيخوخة، ولو أن مَيَّ كانت حية لقالت لي على عادتها: ها أنت ذا تتشاءم وتحاول أن تتفاءل، تحس الضعف فتتخذ القوة.
ولكني كنت أجيب بأني ما زلت أحس حماسة الروح بل غلواءه، وإني أستطلع الدنيا كما لو كنت طفلًا. وحسبي هذا برهانًا على أني بعيد عن الشيخوخة.
وأعود إلى أيام الطفولة والصبا بل الشباب أيضًا، فأجد أني — من حيث التعلم المدرسي أو الجامعي — عشت في صحراء لم أنتفع بشيء منها. وإنما كان انتفاعي بما كسبت من تربيتي الذاتية: من جامعة الكتب في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومن سياحاتي في أوروبا، وأخيرًا — ولهذا أكبر قسط في تربيتي — من اختباراتي الشخصية. وقد تكون الفترة التي عشتها وأنا على وجدان يقظ بالحوادث فذة من حيث إنها فترة الانتقال من مجتمع الأمس إلى مجتمع الغد. ومن تحول الإنتاج من النظام القروي الزراعي إلى النظام المدني الصناعي، ومن الغيبيات إلى الماديات. والحق أني لا أكاد أعرف عصرًا تجمعت فيه عوامل اقتصادية واجتماعية انقلابية مثل عصرنا هذا؛ فإن الفترة التي تقع بين ١٩٠٠ و١٩٥٠ هي تاريخ بشري يزيد في مغزاه ونتائجه للمستقبل على القرون التي تقع بين ٥٠٠ و١٥٠٠. أجل! لقد عشنا بسرعة في هذه الفترة بل هرولنا نحو المستقبل. وهناك من تخلفوا لأنهم لم يطيقوا هذه السرعة أو الهرولة، فلهثوا وعرقوا ثم قعدوا وبعد أن قعدوا واطمأنُّوا أخذوا يحفظون عن «ظهر قلب» قواعد الفعل الماضي في حين بقِينا نحن في الهرولة نحو المستقبل. وليس شك في أننا نعثُر، ولكن العثار مع السعي خير من السلامة مع القعود والركود.
والتربية الحقيقية — وهي ثمرة العمل لكل إنسان — هي في النهاية اختباراته طوال حياته. وليست هذه الاختبارات هي ما يقع لنا بل هي الرجوع والاستجابات لما وقع لنا. ونحن نختلف كثيرًا في هذا؛ فإن هناك من يستجيبون بالصدود والاعتزال، وهناك من يستجيبون بالإقدام والمكابدة. وهؤلاء هم الذين ينتفعون بالاختبارات. أما المعتزل الذي يؤثِر السلامة بالصدود والاعتزال والإحجام والانكفاف فهو ميت حتى لو طال عمره إلى المائة؛ لأن الحياة لا تقاس بالطول وحدَه إذ إن لها عرضًا وعُمقًا أيضًا، ولا يكون لها العرض والعمق إلا بأن ننغمس فيها ولا نقِف على ساحلها متفرِّجين بل نقتحم عبابها ولو تعرضنا بذلك للموت المبكر.
وفي كل حياة من المصادفات ما يُعَدُّ حسنًا أو سيئًا، وبعضها يقود إلى النمو والخصب، وبعضها يؤدي إلى البوار والدمار. ومصر نفسها مصادفة سيئة لكل مصري من حيث إنها مأساة جغرافية. إذ هي تقع في ملتقى القارات الثلاث الكبرى، كما أنها تقع في طريق الملاحة بين آسيا وأوروبا. ثم هي فوق ذلك تخلو من الجبال التي تيسِّر الدفاع؛ ولذلك وقعت في أسر الغزو المتكرر. وكان آخر غزاتها هؤلاء الإنجليز الذين أحالوها إلى عزبة للقطن ومنعوا عنها الصناعة والتعليم، وأيَّدوا الرجعية وضربوا أبناءها المخلصين الثائرين على الاستبداد، وعمَّموا فيها الفاقة والجهل والمرض.
ونحن المصريين جميعًا سواء في هذه الكارثة، كارثة هذه المصادفة التاريخية بغزو الإنجليز لوطننا وبقائهم فيه أكثر من ستين سنة، يفرضون علينا القيود ويقيمون السدود ويحالفون الرجعيين لقمع الروح المصري. وكثير ممَّا عانيته في حياتي من المصادفات السيئة التي عطَّلت نشاطي وبعثرت قواي يرجع إلى هذه المحالفة القائمة بين الرجعيين المصريين والمستعمِرين الإنجليز فيما اتفقوا عليه من قيود للحرية كانت تضطرني إلى أن أدرج بدلًا من أن أطير. بل كانت تضطرني أحيانًا كثيرة إلى أن أقعد بدلًا من أن أدرج. وهناك من الكتَّاب في مصر من استسلموا لهذه القيود وارتضوها، بل صاروا يخيفون الجمهور من الحرية وينعون ما فيها من استباحات تؤدِّي إلى أخطار. ولكني لم أدخل قَطُّ في معسكرهم إذ لا أطيق العمل في هذا الجو الخانق للضمير والذهن.
أما مصادفاتي الحسنة التي أخصبت حياتي فكثيرة، أذكرها بالشكر للأقدار التي هيَّأتها لي. وأولها وأكبرها قيمة أني لم أعرف قَطُّ الحاجة المالية الملحة. وكذلك لم أعرف الترف المخدِّر،فأنا أتمتع بذلك القلق الذي يبعث على الاهتمام اليقِظ المنبه، ولكنه قلق لا يؤدي إلى الهم المرهق المجمِّد. ثم صادفتني مصادفة حسنة أخرى هي أني عرفت اللغتين الفرنسية والإنجليزية في سن مبكرة. وقد وصلتا بيني وبين الثقافة العالمية العصرية. ولذلك ارتفعت اهتماماتي من المشكلات «القروية» الصغيرة التي تحفل بها صحفنا من جرائد ومجلات إلى مشكلات عالمية بشرية منبسطة الآفاق.
ثم هناك مصادفة أخرى مؤلمة للعالم منبهة لرجال الذهن. فإني عشت عمري فيما بين ١٨٨٧ و١٩٤٧ في عصر انقلابي انفجاري رائع من حيث الاكتشافات والاختراعات والثورات؛ لأنه عصر المعارك التاريخية والصراع الخطير بين مجتمع آفل وبين مجتمع بازغ. كأن حوادث ألف سنة قد تجمعت في بؤرة زمنية، كما يتجمع ضوء الشمس من العدسة. فصرنا نرى الانقلاب تلو الانقلاب، والعالم يعاني الآلام من هذه الانقلابات التي تُنَبِّهُ المثقفين إلى الدرس وتُحَرِّكُ ذكاءهم وتبسط لهم رؤيا زاهية للمستقبل لا يراها غيرهم في السعادة القادمة من خلال المخاض الحاضر وآلامه.
وعندما أعرض لحياتي الماضية أجدني ممتازًا امتيازًا واضحًا جدًّا بصفة طفلية هي الاستطلاع. وهذا الاستطلاع يحطم القيود التي وضعها العُرف أو كثيرًا منها، فيتسع ميدان الاختبارات ويزيد بذلك الوجدان. وهذا الاتجاه نفسه — أي الانتفاع بالاختبارات — يغير القيم والأوزان بحيث إن ما يعده غيري نكبة قد أعُده أنا نعمة؛ لأن له قيمة لا يراها هو في التربية والتنوير والنمو. فقد وقعت بي كوارث وأحزان أحمضت حياتي فترة. ثم اكتسبت من الكوارث نورًا وحكمة، كما اكتسبت من الأحزان حنانًا ورقة، لا أحب أن أفقدهما. أجل! لقد تضورت من الألم حين مات ابن أختي وهو في السنة الأخيرة بكلية الطب، وبقيت في نفسي لوعة تمزقني كلما ذكرته. ولكن هذه اللوعة قد استحالت بالزمن إلى حنان رخيم لا أحب أن أفقده. وكذا الشأن في جميع الأحزان الماضية تُطفئ كيمياء الزمن نارها وتحيلها إلى ذكريات رفيقة تؤنس ماضينا. ولذلك أكنز هذه الذكريات وأستثيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة للذة لا للألم، مع أن وطأتها حين وقوعها كانت بمثابة الصدمة التي تذهل وتجمد.
وأظنني أمتاز أيضًا بعقل حر مفتوح يحسن الضيافة للآراء الجديدة. وليس لي فضل في هذا، وإنما هو الفضل للغتين الإنجليزية والفرنسية اللتين أتاحتا لي الاتصال الدائم بالثقافة الأوروبية العصرية. وهي تمتاز بالحرية المستفيضة كما يمتاز المجتمع الأوروبي بحُرِّيَّة واسعة لا يعرفها المجتمع المصري. ومن هنا أصبحت ثقافتي ارتيادية أتحسس الجديد في الآراء وأعرضه على مجتمعنا كي أوقظه إلى الحياة العصرية. ومن هنا كان ما يبدو من أني يساري متطرف، مع أني لو كنت في مدينة أوروبية لكنت أُعَدُّ عاديًّا ليس بي أي تطرف. وليس شك أن بعض اتجاهي هذا يعود إلى أني مسيحي لا أُحِسُّ أني مقيد بتقاليد الأكثرية في مصر.
ولو سئلت ما هو «بيت القصيد» أو «إيماءة حياتي» كما تبدو من مؤلفاتي وسيرتي واتجاهي، لقلت إنها الحرية. فإني أحب عرابي وفولتير لدفاعهما عن الحرية كل في ميدانه. وقد ألفت كتابين عن حرية الفكر. وأحب كتاب «الجمهورية» لأفلاطون و«الإنسان والسبرمان» لبرنارد شو؛ لأنهما يتجردان من التقاليد في بحث «التأصيل» البشري. وأحب إبسن في «بيت عروس» لأنه يبسط آفاقًا جديدة للحرية في شخصية المرأة.
وأنا الآن في الستين أعد نفسي صائرًا ولست كائنًا كما يقول أندريه جيد. ولذلك أُعنَى بأن أتعلم كلمة جديدة أو أشرع في دراسة علم جديد أتغيَّر أو أتطور به. وفي هذه الأيام مثلًا أجد أني مزحوم بدراساتٍ كثيرة، منها هذه السيمية أي علم اللغة من حيث صحة التعبير وملاءمته. كما أن اهتماماتي بالسيكلوجية والتطور والاجتماع تجعلني أشكو قلة الفراغ. وفي العالم الآن ثقافة جديدة قد تجرثمت في بداية هذا القرن وهي الآن تتبلور وتتجوهر، هي ثقافة عالمية غير وطنية أحس أني من أبنائها ودعاتها. وقد أثبتت لنا القنبلة الذرية ضرورة الاتجاه العلمي وخطورته معًا؛ لأن الحضارة القائمة — حضارة السادة على هذا الكوكب — هي حضارة العلوم المادية، والأخطار القائمة هي أخطار العلوم المادية. ولذلك فإن الأمة التي تهمل العلوم إنما تهمل حياتها. وقد حاولت في مصر طيلة حياتي الماضية أن أعمِّم التوجيه العلمي بمؤلَّفات شعبية مختلفة. وكثيرًا ما نبتت الخصومات بيني وبين بعض الكُتَّاب على هذا الأساس؛ أي إني كنت أنتقص قيمة مؤلفاتهم لأنها لم تكن تتجه الاتجاه العلمي أو على الأقل كانت تتجاهل الأسس العلمية وتستسلم لمزاعم غيبية تافهة. ولذلك تعد مؤلفاتي من أدوات التطوُّر الذهني في مصر، وليست كذلك مؤلَّفات كثير من الكتاب الذين عاصروني. ففي الوقت الذي كنت أؤلِّف فيه عن «العقل الباطن» أو «نظرية التطور وأصل الإنسان» أو «البلاغة العصرية واللغة العربية» أو «حرية الفكر» ثم «حرية العقل» أو «غاندي والحركة الهندية» أو نحو ذلك ممَّا يوجِّه ويغير، كان غيري يؤلِّفون عن الخلفاء الراشدين أو الأمويين أو العباسيين! أجل، كنت أنشد الآفاق وأرتاد المجاهل في الوقت الذي كانوا هم فيه يشرحون لقرائهم قواعد الفعل الماضي. مع أن هذه القواعد معروفة ومشروحة في مئات الكتب القديمة ولا تحتاج إلى زيادة في الشرح والإيضاح. فإن جميع الذين كتبوا مثلًا في ترجمة عمر بن الخطاب لم يكتبوا عنه بأوفى مما كتب ابن أبي الحديد منذ نحو ألف سنة. وجميع الذين يخرجون لنا من وقت لآخر تراجم عن أبي نواس أو المهدي أو المأمون لم يزيدوا كلمة عمَّا كتبه مؤلف الأغاني أو غيره من المؤلفين القدماء. ولكن الجمهور الذي يتعطش إلى الثقافة العصرية كي يفهم الحضارة العصرية لا يجد غير هذه الموضوعات القديمة، فيبقى — أي هذا الجمهور — قديمًا غير عصري.
وهناك أشياء آسف لها كثيرًا، منها أني عطلت عن الكتابة إلا تحت أعين المراقبة نحو خمسة عشر عامًا في الحربين الكُبريين؛ إذ حتم علينا الإنجليز ألا ننشر حرفًا في جريدة أو مجلة أو كتاب إلا بعد أن يقرأه رقيب. وقد قُرِئَتْ لي كتب في الأدب والعلم وحذف الرقيب منها ما شاء … وهذا التعطيل قد جمد فكري مدة طويلة؛ لأن قطع التفاعل بين المؤلف وبين الجمهور يجعل الثقافة محدودة. لأن الثقافة اجتماعية لا نهتم بها إلا في مجتمع حي يوافقنا أو يعارضنا، ولكنه في كلتا الحالين حَيٌّ ينبهنا. وقد قطع الاستعمار البريطاني بيننا وبين الجمهور هذه السنين الطويلة، فقطع عنا بذلك التنبيه الذي كان يحركنا إلى التفكير والدراسة الخصبة، كما قطع عن الجمهور التنوير الذي كان يحتاج إليه.
وشيء آخر آسف له هو أن الحكومة المصرية — بإيعاز المستعمرين الإنجليز أيضًا — قد سنَّت قانونًا تستطيع أن تحرم به أي مصري خارج القطر من رعويته المصرية، ويكفي لذلك قرار من مجلس الوزراء بلا محاكمة أو دفاع. وقد منعني هذا القانون من أن أترك مصر منذ عشرين سنة، مع أن مثلي يحتاج أن يزور أوروبا مرة كل عام أو كل بضعة أعوام حيث يتجدد بالإيحاء أو التغيير الذهني والترفيه النفسي.
ولكن المتسلطين الذين يعيشون في مصر بالامتيازات القديمة — هذه الامتيازات التي هي فضيحة مصر الآن في جميع المحافل المتمدنة — يخشون رجلًا مثلي يسارع إلى شرح الآراء الجديدة والإصلاحات العصرية. فما هو أن أضع قدمي في باريس حتى أجد قرارًا بحرماني من الرعوية المصرية؛ وعندئذٍ يجب أن أتسكَّع سائر عمري إلى أن أموت خارج وطني بعيدًا عن أولادي. ولهذا آثرت البقاء في القاهرة على التسكع — بلا وطن — في مدن أوروبا. وظني أن هذا القانون سيبقى إلى أن أموت. ولن أرى أوروبا التي تشع أنوارها على هذا الكوكب.
وأخيرًا أعود إلى السؤال الذي لا يفتأ يتكرر: هل ربيت نفسي؟
وهذا السؤال يعيد إلى ذهني وصف ﻫ. ج. ولز للوزير البريطاني الكبير جلادستون بأنه لا يُعَدُّ متعلمًا أو حاصلًا على تربية، وذلك لأنه «كان يجهل الأثنولوجية — أي علم وصف السلالات البشرية وخصائصها — وأن رؤيته للتاريخ كانت ناقصة؛ لأنه لم يكن يدري الصورة الحقيقية للجيولوجية — أي علم طبقات القشرة الأرضية وتاريخ الأحياء — كما كان يجهل الأفكار الابتدائية عن البيولوجية — أي علم الحياة — وكذلك كان يجهل العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العصرية والآداب والفكر الحديث.»
وإذا قِست نفسي بهذا المقياس الذي عينه ولز كي يبرهن على جهل جلادستون فإني أجد أني حاصل على هذه التربية التي قصدها؛ لأني أدري كل هذه الأشياء التي ذكرها وأكثر منها مما يجري على طرازها. والحقيقة أن الذين يستطيعون أن يُسَمُّوا أنفسهم ممتازين بتربية صحيحة في أيامنا قد لا يبلغون واحدًا في الألف، والبرهان على هذا أن الذين يفهمون مثلًا النظرية النسبية لأينشتين أو الطاقة الذرية قليلون جدًّا. وهذه القلة ترجع إلى أن وسائل التربية معدومة أو نادرة في بقاع كثيرة. وذلك الذي يصل — على الرغم من كل ذلك — إلى تربية تكاملية حاوية بحيث تتسع عنده المعارف وتتكامل وتتناسق، هذا الرجل، يحتاج إلى أن يُفني العمر كي يحقق هذه الغاية. وطلب العيش يحول دون ذلك عند ٩٩٩ في الألف من الناس.
الواقع أن الذين يقودون العالم منذ أيام جلادستون إلى الآن كانوا — ولا يزالون — في عداد الجهلة. فقد روى ولز مثلًا عن جلادستون أيضًا أن السر جون لبوك رافقه في زيارة لداروين. فكان طوال وقته يتحدث عن المشكلة البلغارية كأنها كل شيء في وجدانه، أي إنه لم يكن يدري القيمة البشرية الكبرى لنظرية التطور التي أخرج داروين إنجيلها للعالم. ولكن أليس هذا حال الساسة إلى الآن، هل وزراء بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو مصر في ١٩٤٧ أفضل من حال جلادستون في ١٨٧٠؟
إن العالم منكوب بتقاليد في التربية والتعليم. وفي المدارس والجامعات رواسب ثقافية تبلِّد الذهن بل تحول دون التفكير. كأن هناك محظورات لا يجوز التفكير فيها. اعتبر مثلًا هذا الفقر المصنوع في العالم. فإن الإنتاج الزراعي ثم الإنتاج الصناعي يكفيان — مع التنظيم — كي يعيش كل فرد على هذا الكوكب وهو موفر الطعام والكساء والمسكن، آمن على نفسه وجسمه من المرض والجريمة، متعلم أقصى تعليم، مستمتع بالفراغ الذي يمكِّنه من زيادة معارفه. ولكن الساسة الذين يتولون شئون هذا العالم لا يزالون في مستوى جلادستون يهتمون بمشكلة بلغاريا أكثر ممَّا يهتمون بنظرية التطور. والعجب أنك عندما تبحث في مشكلة بلغاريا تجد أنها نبتت من الجهل أيضًا، وأن الذين يحاولون حلها جهلاء يثرثرون وهم يعتقدون أنهم يفكرون.
وقد سبق أن قلت إني لا آسَف كثيرًا على أني لم أتخصص؛ لأن الاختصاصيين — كما أرى في أخلاقهم — لا يتوسعون أو يتعمقون في الدراسات التي لا تمس العلم أو الفن الذي اختصوا فيه. وأعتقد أحيانًا أن الزهو هو الذي يمنعهم من هذا التوسُّع أو التعمق، وأنهم يحسون استكفاء ذاتيًّا لا يحتاجون معه إلى زيادة. وأقول في نفسي عندئذٍ إني لست كذلك وإني لو كنت قد تخصصت في علم تجريبي لما زُهيت. ولكن هذا الفرض ليس سيكلوجيًّا لأنه يتجاهل العواطف الاجتماعية. ولكني لا أشُكُّ أني بعيد عن الزهو في غير تعمُّد أو تكلف، وأن بُعدي عن الزهر هو الذي يجعلني أتابع الثقافة بروح الطالب، وهو الذي يجعل أسلوبي خاليًا من التفصُّح. وكثير من الكُتَّابِ يتفصَّح في خيلاء وزهو؛ لأنه يسلك في حياته وأخلاقه سلوك الخيلاء والزهو. ولهذا السلوك أثره في نفسه لأنه يحمله على الاستكفاء فلا يدرس ولا يتزيد من المعارف. ولذلك أستطيع أن أجزم بأن التفصُّح في الكاتب برهان على كراهة التزيُّد أو التطوُّر في الدراسة. وليس هذا لأن التفصُّح يشغل وقته بل لأنه يُكسِبه زهوًا فيقنع بالخيلاء والتبختُر. وفي ذهني الآن كاتب من هؤلاء المتبخترين يكتب من وقتٍ لآخر عن الأخلاق. قعدت إليه ذات مرة أحدِّثه عن الأخلاق وأنها هي والاجتماع ثمرة الوضع الاقتصادي. فلم أَلْقَ منه غير الضحك. فانتقلت من البيئة إلى الوراثة وذكرت له كاتبًا هو كرافت أبنج عن «السيكوباثية الجنسية» فلم أستنبط منه غير الدهشة. أجل! إن تفصُّحه المتحذلق قد حال بينه وبين تربية نفسه؛ إذ هو قانع بهذه الخيلاء اللفظية وسيموت بها جاهلًا لشئون هذا الكوكب الذي عاش عليه.
ولذلك أعتقد أن أعظم الوسائل للتربية هو الاتجاه. أي كيف نتجه في هذه الدنيا وبماذا نهتم؟ نهتم باقتناء الفصاحة أم باقتناء المعارف؟ بمشكلة بلغاريا أم بنظرية التطور؟ نهتم بأن نكون وجهاء نسير في خيلاء وزهو أم عقلاء نفكر في سداد وفهم؟
وفي عصرنا هذا يجب أن نقيس التربية الحقة بأدق وأكبر من المقياس الذي وضعه ﻫ. ج. ولز؛ ولكن عندئذٍ لا نجد أحدًا — ولا واحدًا — يمكن أن يقال إنه حاصل على تربية حقة. فإن العلوم خاصة والثقافة عامة مشتَّتة غير منظمة، وتحصيلها لهذا السبب شاقٌّ، وأعمارنا تفنى في محاولاتٍ عقيمة وإن تكن مخلصة للتعلُّم. حتى إذا انتهينا إلى الطريقة واهتدينا إلى المنهاج وجدنا أن الشباب قد ولَّى.
وقد يبعثنا هذا إلى القول بأن العمر يجب أن يزيد حتى يبلغ المائة سنة مثلًا، فنجني في العقود الأخيرة ما جهدنا لأجله واختبرناه في العقود الأولى. ولكن قبل ذلك يجب تنظيم المعارف ومناهج الدراسة وترقية الصحافة حتى تعود جميعها أدوات ووسائل للتنوير؛ لأن الواقع أن بعضها الآن أدوات ووسائل لتبليد الأذهان ومطاردة الذكاء، ونشر الظلام. والعالم حافل بالتباسات واستغراضات للجهل الفاشي، هذا الجهل الذي يجِد دعامة بين المعلِّمين والأدباء والفلاسفة الذين يدعون إلى مزاعم وعقائد يوحون منها إلى القراء والمتعلمين بأنها آراء وحقائق. وقد سبق أن عانى جوتيه مثل هذه الحال حين قال: «ليس هناك أفظع من الجهل النشيط.»
وإذن أجيب على سؤالي: هل ربيت نفسي؟ بأني ما زلت «صائرًا» في سياق التربية. وأني أسر حين أحس أن لي شخصية نيوروزية قلِقة مستطلعة أطمع في أكثر مما أستوعب، وأن الثقافة تحتل المكانة الأولى من اهتماماتي. بل أحس أحيانًا أنها الاهتمام الوحيد؛ حتى إني لأفجأ نفسي من وقت لآخر بخطاب يرسله إلي صديق فأرجئ فتحه إلى الغد كي أتصفح كتابًا جديدًا هذا اليوم.
وأُسَرُّ أيضًا حين أجد أن القيم البشرية عندي تأخذ مكان القيم الاجتماعية. وعندي أن هذا الانتقال هو البرهان في عصرنا على الحكمة والفهم. فإن القيم الاجتماعية — بإلحاح العادات والتقاليد — تغمرنا وتقيم في نفوسنا «عواطف» تحملنا على السعي والجهد لما يسمونه «منافسة» وأحرى أن يسمى «محاسدة» لاقتناء أتومبيل أو عزبة أو لقب أو نحو ذلك ممَّا يحملنا المجتمع على احترامه. وكثير من الناس يموتون شهداءَ هذا الجهد السخيف. وحين ننتقل إلى القيم البشرية نجد أن حياة الصحة والصلاح الاجتماعي والفهم والقناعة بالحاجات الضرورية والاستمتاع بما في الدنيا من أطايبها المجانية خير ألف مرة بل مليون مرة من تلك القيم الاجتماعية. وليس في الدنيا ما يعدل فنجانًا من الشاي أو كسرة من الخبز مع الجبن تحت ظل شجرة — كما قال الإمبراطور أوريليوس — أو قراءة كتاب منير أو الحديث إلى المجرة في منتصف الليل في الريف أو تحية الشمس في بزوغها أو — حين أكتب — البحث عن بشائر المستقبل والتشبُّث بها وشرحها في مقال أو كتاب.
وإذا سأل القارئ: ماذا تستنتج من اختباراتك، وما تكهناتك للمستقبل بعد أن قضيت نحو أربعين سنة وأنت على اتصال وجداني بالعقل العام على هذا الكوكب؟
فإني أجيب بأن الحاضر يومئ إلى المستقبل إيماءة واضحة نراها بالعين وأحيانًا نسمعها صاخبة بالأذن، هي الاشتراكية التي سوف تعم الدنيا كلها. وليس هذا لأن الناس سيتحولون من أشرار إلى أبرار، بل لأن الإنتاج الصناعي سيحتم ذلك. كما سيحتم توافر النقل وضرورة التجارة — على أبعاد كوكبية — أن يحال العالم إلى دولة واحدة تتجه نحو ثقافة واحدة ولغة واحدة.
وهذا النظام الاشتراكي العام سوف يرفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية؛ لأنه من جهة سيفتح لها أبواب العمل والاختبار والتعلُّم كالرجل سواء، كما أنه من جهة أخرى سيغنيها عن عناء الواجبات المنزلية العديدة. وليس هذا لأنها ستترك المنزل بل لأن كثيرًا من الواجبات المنزلية ينتقل بالحضارة إلى خارج المنزل. ويتضح هذا من المقارنة في مصر بين المرأة في الريف والمرأة في المدينة. فإن الأولى تعجن وتخبز وتحلب البقرة وتصنع الجبن وتخيط ملابسها وتحمل جرة الماء من الجدول وتجمع الوقود إلى غير ذلك من الواجبات التي لا تعرفها المرأة في المدينة. ثم المقارنة بين المرأة في القاهرة والمرأة في نيويورك تزيدنا فهمًا بأن الحضارة تلغي الواجبات المنزلية التي ترهق ربات البيوت الآن وتَحُول بينهن وبين العمل في الخارج أو بين تربية أنفسهن. ولذلك نحن صائرون نحو تحقيق الرؤيا التي حلم بها إبسن في شخصية «نورا» هذه الأنثى التي أصرت على أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية.
وأستطيع أن أستنتج من حياتي الماضية أن أعظم العقبات التي تؤخرنا في مصر كما تؤخر كثيرًا من أمم آسيا وأوروبا — بعد الاستعمار — هي هذه الرواسب من الثقافات والتقاليد والغيبيات الفرعونية والبابلية وأمثالها التي انحدرت إلينا. وهي تتخذ ألوانًا من الصيغ والأساليب، وتعترض عجلة التاريخ وتعوق التطور. والبيئة الصناعية وحدها هي التي تحطمها؛ لأنها — أي هذه البيئة — لا تنهض إلا على العلم. وهو نار كاوية تحرق جميع الرواسب وتبدد عفنها هباء.
والحضارة الجديدة المنتظَرة هي الحضارة الصناعية، هي الحضارة التي لا يبعد أن تلغي الزراعة من العالم. وليس هذا بالعمل العظيم المستحيل كما يتوهم بعضنا؛ فإن الكيمياء الصناعية تصنع الآن مركَّبات كيماوية عديدة كان صُنْعُهَا قبل هذا القرن مقصورًا على الجسم الحي نباتًا كان أو حيوانًا. فإذا استطاعت الكيمياء الصناعية أن تصنع مادة البروتين فإن الزراعة تعود عناءً لا ضرورة له بتاتًا وعندئذٍ يحال العالم إلى حدائق وغابات تُعنَى بها الطبيعة وحدها. وإذا كنا نظن أن صنع البروتينات لا يزال بعيدًا فيجب أن نذكر الطاقة الذرية؛ لأن أي إنسان منا، لو أنه — قبل خمس سنوات — سئل أيهما أقرب إلى خيالنا: استخدام الطاقة الذرية قنابل للتدمير أو صنع البروتين كيمائيًّا، لظن هذا الثاني أيسر بكثير من الأول.
وظني أيضًا أن الزمن ليس بعيدًا حين نشرع — حتى في مصر — في تطبيق نظرية التطور بالانتخاب التناسلي؛ أي اليوجنية. وفي العالم نحو أربعين دولة متمدنة تمنع غير الصالحين للتناسل من أن يعقبوا. والأمة التي تعارض في مثل هذا الإصلاح ستتخلف في ميدان التطور البيولوجي أي الرقي البشري الصميم.
وأخيرًا أقول إني أرى إيماءة ثقافية جديدة هي التخلُّص من المذهب الانفصالي — مذهب ديكارت الذي يفصل بين الروح والجسم، أو بين الحياة والمادة، أو بين العقل والمادة — إلى المذهب الاتصالي الذي يقول بأن القوة هي المادة المتدفقة، والمادة هي القوة المتجمدة. وفي هذا القول وثبة ثقافية واسعة إلى المستقبل سوف تكون كبيرة الأثر في الحضارة القادمة. وقد سبق للفيلسوف العظيم سبينوزا أن نبَّه إلى ذلك في لغة فلسفية ونحن نقتنع هذه الأيام بصحة تفكيره عن طريق العلم التجريبي، ونصل إلى وحدة وجودية في الطبيعة ثم نتدرج إلى ما يلائمها في المجتمع.
وعندما أرتفع إلى هذا التفكير أُحِسُّ أن كثيرًا من الاهتمامات بل الهموم الوطنية التي حجبت النور وعكرت الصفاء اللذين كنت أنشدهما في حب وولاء بشريين، هذه الهموم تذوب وتتبدد. أجل! إني أحب أن أعترف. فإني ما كتبت كلمة واحدة ضد المستعمِرين الإنجليز إلا وأنا في أَلَمٍ وارتعاش وأسف أكثر ممَّا أحس من غيظ وحنق وكفاح. وكذلك كان الشأن عندما كنت أكافح، الرجعيين المستغرضين والجهلاء النشيطين من المصريين. فإني أخجل حين أقول إني أحب جميع هؤلاء الإنجليز المستعمرين والمصريين المستبدين. وفي نفسي رجاء بأن يتغيروا وأن يروا رؤياي وأن ينسلخوا من الاستعمار والاستبداد، ويفتحوا عقولهم للثقافة الجديدة: للحرية والإخاء والمساواة. وجميعها مستطاع لو أنهم كفوا عن «الجهل النشيط» الذي يمارسونه.
وقد احترفت الثقافة وقضيت عمري أقرأ وأكتب. وزادتني هذه الحرفة وجدانًا بالدنيا، كأني أحس أكثر وأرى أبعد، حتى لقد صغرت همومي الشخصية إلى جنب اهتماماتي العامة. ودراستي للأدب وللفلسفة قد أوهجت خيالي وأحدَّت ذكائي. ثم انعكست هذه الدراسة إلى حياتي فأصبحت قيمي وأوزاني الخاصة قيمًا وأوزانًا أدبية وفلسفية. ولذلك كثيرًا ما أنصح للشبان بأن يقرَءُوا الأدب والفلسفة، وأن يحاولوا كتابة القصة وقرض الشعر؛ لأنهم وهم في هذا النشاط يتخيلون الحال المُثلى ويصعدون بأذهانهم إلى السماء ويختارون أسمى المعاني وأنصع الكلمات. وكل هذا ينعكس على حياتهم الخاصة فيرتفعون عن التبذُّل ويحيلون حياتهم إلى فن جميل.
لو أني مت ثم بُعِثْتُ وخُيِّرْتُ في الحرفة التي أحترف لما اخترت خيرًا من أن أقرأ وأكتب. ولكني مع ذلك سوف أموت وفي نفسي شيء من الطاقة الذرية؛ لأنه يجب على كل إنسان في عصرنا أن يستوفي ثقافة علمية معينة يدرك منها هذا المنهج البشري الجديد للتسلُّط على المستقبل. ولم أجد الفرصة لهذه الثقافة كما كنت أشتهي وإن كان حظي منها قد يحسدني عليه غيري. أجل! لقد تركتُ الطاقة الذرية في نفسي مركب نقص أعانيه في ألم كل يوم.