من ١٩١٩ إلى ١٩٤٧
رأيت الحكم البريطاني في مصر فيما بين ١٩٠٠ و١٩١٩ وأنا على وجدان بتصرُّفاته واتجاهاته. ورأيت الحكم «المصري» فيما بين ١٩١٩ و١٩٤٧ وأنا على وجدان أيضًا بتصرفاته واتجاهاته. وقد قلت «المصري» بهذه الصيغة الكتابية لأنه لم يكُن في كثير من الأحيان مصريًّا بحتًا؛ إذ كانت اليد الإنجليزية تعلوه وتقوده إلى الفساد والشر. فإن الإنجليز هم الذين جعلوا زيور باشا يحل البرلمان في ١٩٢٥ في نفس اليوم الذي عُقِدَ فيه. وهم الذين سلطوا علينا إسماعيل صدقي فيما بين ١٩٣٠ و١٩٣٤ كي يضرب الأمة بالسياط والبنادق. وهم الذين حملوا محمد محمود باشا في ١٩٢٩ على أن يعطل البرلمان ثلاث سنوات «تقبل التجديد». ولكننا مع ذلك مُضْطَرُّونَ إلى أن نسمي هذا الحكم فيما بين ١٩١٩ و١٩٤٧ مصريًّا؛ لأن الأيدي التي أنفذت السياسة كانت مصرية. وكانت تستطيع أن تكف الأذى عن الوطن لو أنها شاءت.
فيما بين ١٩٠٠ و١٩١٩ كانت السلطة الإنجليزية صريحة. فقد تعلمت أنا الجغرافيا في السنة الثانية الابتدائية حوالي ١٩٠٠ باللغة الإنجليزية وكان كل التعليم بالمدارس الثانوية — فيما عدا اللغة العربية طبعًا — باللغة الإنجليزية في جميع المواد. وكنا لا نستطيع أن نحل مشكلة تتصل بالحكومة إلا على يد إنجليزي. ولكن كل هذا أو معظمه تغير بعد ١٩١٩.
وأول ما يسأل الإنسان عندما يقارن بين الاحتلال والاستقلال هو مقدار الحرية التي يتمتع بها الفرد. حرية القول والخطابة والصحافة والاجتماع. ومع الأسف بل الألم العظيم يجب أن أعترف هنا بأن هذه الحرية نقصت ولم تزِد بعد ١٩١٩. فإننا في ١٩٤٧ أقل حظًّا من هذه الحريات ممَّا كنَّا حوالي ١٩٠٥ أو ١٩١٠. وهذا هو ما مارسته بنفسي. ففي ١٩١٤ استخرجت «رخصة» لإصدار مجلة «المستقبل» ولم أجِد الصعوبات الشاقة التي أجدها أو يجدها غيري في مثل هذا الاستخراج في ١٩٤٧. بل لقد حاول وزير سابق هو الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا استخراج «رخصة» لجريدة يومية في ١٩٤٦ فرُفض طلبه. وقد كنت قبل ١٩١٩ ألقي المحاضرة بلا ترخيص من المحافظة في القاهرة. أما الآن فإني أحتاج إلى ترخيص. وأنا أكتب هذه الكلمات في أكتوبر من ١٩٤٧ وقد بلغت التحقيقات بشأن مقالات أو أخبار الصحف العشرات. وهذا ما لم نكن نعرفه قبل ١٩١٩.
وفي ١٩٢٢ صدر الدستور المصري. وفهمنا منه أنه سيُحترم وأنه وثيقة رهيبة يجب أن تستنبط منا إحساسًا دينيًّا لاحترامها. ولكن هذا الدستور استبدِل به آخر أيام زيور باشا في ١٩٢٥. ثم عطل أيام محمد محمود باشا في ١٩٢٩. ثم ألغي واستُبدل به آخر أيام إسماعيل صدقي باشا في ١٩٣٠. وصحيح أن المستعمرين الإنجليز كانوا خلف هذه العربدة في حياتنا الدستورية. ولكن الأيدي المنفِّذة كانت مصرية.
وكلنا يعرف أن الذين جاهدوا وضحوا هم الوفديون. ومع ذلك حسبت السنوات التي تولَّوْا فيها الحكم فيما بين ١٩٢٣ و١٩٤٧، أي نحو ربع قرن، فوجدت أنها خمس سنوات وثمانية أشهر فقط. وحسبت السنوات التي تولى فيها إسماعيل صدقي باشا الحكم، في هذه المدة أيضًا وليس له حزب، وليس له رأي عام مصري يؤيده، فوجدت أنها تقارب المدة التي حكم فيها الوفد. فكأن الدستور لم يغير شيئًا من أوضاع الحكم التي كانت تشكو منها مصر قبل ١٩١٩. وفيما بين ١٩٣٠ و١٩٣٤ أوقع بنا إسماعيل صدقي باشا من ألوان الاستبداد البشعة ما اضطره هو نفسه إلى أن يطالبنا بنسيانه في ١٩٤٦. ولم نَرَ قط مثل هذا الاستبداد من الإنجليز قبل ١٩١٩ إلا في حادث دنشواي. والمتأمل للكراهة العميقة عند بعض العناصر للوفد يجِد أنها ليس لها من سبب سوى أن الوفد هو الهيئة الديمقراطية الشعبية الوحيدة في مصر.
وهذه العربدة في حياتنا الدستورية حينذاك وفي نشاطنا السياسي هي التي انتهت بنا إلى أن ينشأ حزب ديني مثل «الإخوان المسلمين» يتناول السياسة من ناحية الدين، ويجعلنا في شك أو خوف من المستقبل بعد أن كافح لطفي السيد وغيره في فصل الدين من السياسة. فإن «الإخوان المسلمين» يتوسَّمون في الجامعة الإسلامية من الآمال والآفاق ما كان يتوسَّمه الحزب الوطني أيام مصطفى كامل من الجامعة العثمانية. وفي هذا تفكيك للوطنية المصرية وتشكيك في قيمتها ومستقبلها. وأنا مضطر أن أصرح بأني كنت متشائمًا من هذا الاتجاه الذي كان قائمًا وقتئذٍ.
ولكن يجب أن نذكر الكسب أيضًا. وهو كسب عظيم. وعندي أن أعظم مآثرنا هنا هو انتقال المرأة من ظلام القرون الوسطى إلى نور القرن العشرين. ويجب ألا يلومني القارئ إذا كررت وأطنبت في هذا الانتقال. فقد رأيت بعيني نسوة مصريات حوالي عام ١٨٩٨ «يَذبحن» الخنافس. فلما سألت عن السبب قيل لي: إنهن يطبخنها ويأكلنها كي يُصبحن سمينات بعد النحافة … ورأيت تلميذات المدرسة السنية حوالي ١٩٠٣ وهن مبرقعات مع أن أعمارهن لم تكن تزيد على إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة. وكانت ناظرة المدرسة — وهي إنجليزية — تلح وتصر على التزام البرقع لأنه من «تقاليدنا». والانتقال من هذه الحال إلى «المرأة الجديدة» المحامية والطبيبة والصحفية وسائر نسوتنا السافرات هو آية في الرقي الاجتماعي لا نكاد نصدقها لولا أننا نحسها ونختبرها. والجيل الجديد لا يقدِّر هذا الارتقاء لأنه لم يَرَ عمق الهاوية التي كُنَّا فيها قبل ١٩١٩. وهذا الارتقاء النسوي في مصر هو مرحلة من الرُّقِيِّ الاجتماعي قد قطعناها ولن تستطيع قوة أن تنزعها منا. فقد انتصرنا بها على القرون الوسطى وعلى الشرق معًا.
وكذلك كسبنا في التعليم ولكن كسبنا هنا أقل من الارتقاء النسوي. فإني أذكر أني حين كنت تلميذًا بالمدارس الثانوية لم يكُن في القطر المصري كله غير ثلاث مدارس ثانوية لا تدخلها فتاة. وهي الآن تعد بالعشرات والفتاة تتعلم فيها أيضًا بلا عائق. وكذلك الجامعات التي لم نكُن في أيامنا ندري معناها، والتي كان الإنجليز يحظرون علينا تأسيسها.
ولكن نهضتنا التعليمية سارت مع ذلك ببطء. ولا تزال بطيئة. وأذكر أن أحد الأمريكيين قبل عشر سنوات سألني عن عدد المدارس الثانوية للبنات فقلت إنها تسع — ولم تكن تبلغ ذلك — فقال: «كنت أنتظر أن تقول إنها تسعون مدرسة.» على أن هذا البطء لم يمنع تخريج ألوف الشبان المتعلِّمين والفتيات المتعلمات الذين يعتمد عليهم في تكوين رأي عام مستنير سوف يصون الدستور من العبث، ويحمل الحاكمين على مراعاة العدل وإنصاف الأمة في المستقبل. ولكن حماستنا للتعليم قد أعثرتنا فيما يسمى «التعليم الإلزامي» الذي أنفقنا عليه منذ إيجاد نظامه إلى الآن نحو خمسين مليون جنيه دون أن نستطيع تخريج مصري واحد متعلم منه. وعلة ذلك أنه تعليم يقوم على نظام شرقي غير عصري.
وقد ارتقينا في الصناعة. فصارت لنا صناعات كبيرة. ونسينا الأكذوبة التي كان يشيعها المحتلون البريطانيون بيننا ويطلبون منا تصديقها، وهي أن مصر «بلاد زراعية»؛ وذلك كي يقصروا نشاطنا على زراعة القطن ويمنعونا من الصناعة. أي إنهم كانوا يرمون إلى أن نكون أمة لا تنتج للعالم سوى «المواد الخامة» كما يفعل الزنوج الأفريقيون. وقد اغتصبنا منهم الصناعة والتعليم اغتصابًا؛ لأنهم كافحونا فيهما بكل ما قدروا عليه ثم انهزموا.
ولم تقع حتى الآن أية إصابة في القاهرة بين أفراد الطبقتين العالية والمتوسطة، وكل ما وقع من الإصابات حتى الآن كان بين أفراد الطبقات الفقيرة.
وهذا بعد أن مضى على تفشي هذا الوباء نحو عشرين يومًا. وليس أدل على وهدة الفقر التي يتردى فيها تسعة أعشار الشعب المصري — بما فيها من حرمان وقذارة — من هذه الكلمات. وليس أدل على تقصيرنا في الإصلاح الاجتماعي من هذا الإهمال الفاضح لأبناء أمتنا. بل لقد أصبحنا نُتَّهَمُ بالشيوعية كل من يدعو إلى إصلاح اجتماعي ويبرز فضائح هذا الفقر الكالح الأسود الذي يعيش فيه فلاحونا وعمالنا. وبعض الكراهة للوفد تعزى إلى أنه قد حاول إصلاح هذه الحال فاتُّهِمَ بالغلو في الديمقراطية التي لا يطيقها المستعمرون الإنجليز والمستبدون المصريون.
ولكن حال العامل في المصانع أرقى بكثير من حال الفلاح في الريف. وهو بقليل من السخاء من الإصلاحات الاجتماعية التي يتمتع بها العمال في أوروبا، يمكن أن يسير إلى مستوى أعلى.
والمشكلة التي تتحدانا في مصر الآن هي الفقر كيف نعالجه بل كيف نمحوه. ولا قيمة لأية أمة ولا معنى لأي رُقِيٍّ ما لم يكن الهدف هو مكافحة الفقر وما يَجُرُّ من حرمان وجهل ومرض. أجل مرض الكوليرا الذي يفتك الآن بطبقاتنا الفقيرة لأنها عاجزة عن الحصول على الغذاء الوافي أو النظافة الوافية.