عشر سنوات
عشر سنوات مضت منذ كتبت ونشرت الصفحات السابقة. وقد حدثت في هذه المدة أحداث داخلية وخارجية تستحق التدوين لما لها من خطورة وطنية أو عالمية وذكريات سارة أو أليمة.
فأما أحداثنا الداخلية فأكبرها ثورة ١٩٥٢ وطرد فاروق وإعلان الجمهورية ثم تأميم قناة السويس في ١٩٥٦ بعد إجلاء الجيش البريطاني عن الوطن.
وأما الأحداث الخارجية فكثيرة. كان أعظمها بلا شك الانقلاب الاشتراكي في الصين. ثم التقدُّم العلمي في اختراع القنبلة الهيدروجينية، ثم الأقمار الصناعية التي يدور منها اثنان حول الكرة الأرضية، وأنا أكتب الآن هذه الكلمات في نوفمبر من ١٩٥٧.
بلادنا تغيرت والدنيا تغيرت.
فإننا منذ تبوأ صلاح الدين الأيوبي عرش مصر في ١١٧٦ إلى نهاية حكم فاروق في ١٩٥٢ لم نعرف ملكًا أو سلطانًا عربيًّا أو مصريًّا؛ إذ كانوا كلهم أتراكًا أو أكرادًا. وقد دمروا مصر تدميرًا كاد يكون كاملًا.
ولذلك كان خلع فاروق انتصارًا للقومية المصرية العربية وليس محض انتقال من النظام الملوكي إلى النظام الجمهوري؛ لأن الانتقال الأكبر كان من الحكم التركي الكردي الذي عاش ٧٧٦ سنة إلى الحكم المصري العربي الذي سيعيش إلى الأبد بإرادة الشعب.
•••
كان فساد الحكم — قبيل خلع الشقي فاروق — قد بلغ أقصاه. وكانت السراي تستخدم كل من شاءت من الموظفين، وخاصة الجواسيس، لتعقُّب جميع الذين يشتبه في سلوكهم نحوها. وما زلت أذكر أن صديقي محمد خالد الكاتب الناهض المعروف زارني ذات يوم. وقعدنا في مكتبتي وتجاذبنا الحديث عن الفساد العام في الأحزاب والزعماء وجرأة فاروق على العدوان. وتبادلنا كلمات تساءلنا فيها إذا كان فاروق ينوي قتلنا في الشارع؟ وأن من الأصوب ألا نبقى خارج منازلنا إلى ما بعد الغروب. وكان قد شاع عن فاروق أنه يقتل خصومه. ولم يكن أسهل من قتلنا في الظلام على أيدي الجواسيس أو القبض علينا وطرحنا في أحد السجون ثم الادِّعاء بأننا متنا بالسكتة.
وكانت تهمتنا وقتئذٍ أننا كنَّا نريد قلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية. وتقدمت جاسوسة معروفة كانت تختلط بالأدباء وتصادق أديبًا «كبيرًا» بهذه التهمة لنا — أنا والدكتور مندور — إلى السراي. وقامت النيابة العامة بالتحقيق وأفرجت عنا بعد اعتقالي ١٥ يومًا واعتقال مندور ٥٠ يومًا.
ولذلك كان يوم خلع فاروق يوم التهاني تصل إليَّ عن طريق التليفون وبالمصافحة في الطريق وبالزيارة لبيتنا حين كنا نقدِّم الشربات للمهنئين. ومما يذكر مع السرور أن ضغط الدم عندي كان على الدوام حوالي ١٨٠، ولكن بعد طرد هذا الشقي من مصر انخفض إلى ١٥٠. وبقي على ذلك إلى الآن.
وفساد فاروق يعود — كما هو الشأن في جميع الفاسدين — إلى الوسط الفاسد الذي نشأ فيه. فإن تربيته الأولى أيام الطفولة والصبا كانت تتجه نحو حرمانه مما كان يشتهي من طعام؛ لأن أباه المغفَّل فؤاد كان يعتقد أن هذا الحرمان سوف يصنع منه رجلًا يضبط شهواته. ولكن الذي حدث أن فاروق تعلَّم سرقة الطعام كما تعوَّد خدمه الخاصون به تهريب الطعام إليه. فنشأ على اعوجاج في الأخلاق يقصد إلى مآربه بطرق سرية ملتوية غير صريحة.
ولما مات أبوه انفرج بعد الضيق فأصبح يأكل كما لو كان ثورًا. ومن هنا هذا الإفراط في السمن الذي انتهى إليه.
ولما أصبح ملكًا وجد أن النظام الحزبي في مصر يتيح له أن يستغل الخلافات والمتناقضات فيضرب حزبًا بآخر كي تنتهي السلطة إليه وحده. فإذا كان حزب الوفد يطالب بالحد من سلطانه وهو في الحكم، فإن حزب الأحرار الدستوريين يسلم له — وهو خارج الحكم — بما بخل به عليه حزب الوفد؛ فيطرد الوزارة الوفدية ويأتي بوزارة من الأحرار الدستوريين. أما حكم الدستور ففي التراب.
وكان فاروق يجد — مع الأسف — من يؤيده من السفلة في هذا السلوك الإجرامي نحو الوطن.
ولكن أي وطن؟ إن مصر لم تكن وطنه إلا من حيث الشكل. وكان مكانه منها الإقطاعي يستغل أبناءها. ولم يتعلَّم قط تاريخها ولم يدرس لغتها ولم يهدف إلى أهدافها، وهذا شأن أسرته كلها منذ أيام محمد علي؛ أي منذ ١٥٠ سنة. بل ماذا أقول؟ كان شأنه شأن الحاكمين الأتراك والأكراد منذ صلاح الدين الأيوبي إلى ١٩٥٢.
وكان الشعب مع الوفد على الدوام إلى سنة ١٩٥٠.
أما بعد ذلك فقد رسخ في أذهان المفكرين أن الوفد لم يعُد الهيئة الثورية التي كانت تكافح استعمار الإنجليز واستبداد السراي كما كانت حاله أيام سعد بل بعد سعد إلى سنة ١٩٥٠. وكان الوفد — حين يتولى الحكم — يبقى مناضلًا لا يساوم ولا يخضع. ولكنه — لهذا السبب نفسه — لم يكن يبقى في الحكم أكثر من سنة أو سنة وشهورًا، ثم يطرد، وتأتي في مكانه وزارة يتولى رياستها أحمد زيور أو إسماعيل صدقي أو محمد حسين هيكل أو إبراهيم عبد الهادي أو غيرهم.
وزارة تُسلِّم بكل طلبات السراي وتمجد اسم فاروق وآباءه وجدوده ومآثره وفضائله. حتى لقد قال الشيخ علي عبد الرازق — وكان وقتئذ وزيرًا للأوقاف — إن الله يجدد دينه مرة كل مائة سنة، وإن فاروق هو الموكَّل بتجديد الدين هذه المرة …
ولم يكن التملق مقصورًا على الوزراء؛ فإن أديبًا «كبيرًا» وصفه في مقال بأنه فيلسوف، كما أن أديبًا كبيرًا وأستاذًا محترمًا آخر وقف في الجامعة، ومئات الطلبة أمامه يستمعون، وفاروق يُنصت لكلماته، وقف يقول له: «وإن سلوكك الشخصي يا مولاي ليصلح أن يكون قدوة لشعبك وللناس.» ولا تنسى كلمة «الشخصي».
وكان المؤلفون يذكرونه في مقدمات كتبهم على أنه «المصلح العظيم».
هكذا أفسد الوزراء والأساتذة فاروق؛ ففسد.
وفي ١٩٥٠ انتهى الوفد إلى حال من اليأس حملته على أن يقبل ويمارس منطقًا جديدًا أملاه عليه إقطاعي كبير. خلاصته أن الوفديين لا يبقون في الحكم إلا سنة أو سنة وشهورًا؛ لأنهم يعارضون طلبات السراي. أما الأحزاب الأخرى فتبقى أربع وخمس سنوات لأنها تبلي طلبات السراي ولا تُعارِض. وأنه خير للوفد أنه يلبي هو الآخر طلبات السراي ويكف عن خطة المعارضة التي ورِثها من أيام سعد زغلول؛ وذلك كي يبقى في الحكم خمس سنوات.
وأذكر أني قصدت إلى منزل مصطفى النحاس قبيل تأليف الوزارة الوفدية الأخيرة. وكان هناك جمع محتشد يزيد على المائة. فألقى الزعيم — الذي كنا نحترمه — خطبة أطنب فيها في الثناء على فاروق وقال إن حكومة الوفد ستكون صارمة في القضاء على كل حركة يقصد منها إلى المساس بجلالة الملك.
وعم الحاضرين وجوم، ولكن الزعيم لم يكترث لهذا الوجوم. فمضى يشرح ويؤكد المعاني للمحالفة الجديدة بين الوفد والسراي.
وانفض الشعب عن الوفد في أسف ويأس.
وجعل فاروق يرقص ويرفس كما يشاء. وانتهى باختيار أحد حظاياه فجعله وزيرًا. وكان هذا الحَظِيُّ يقعد في ملهى الأوبرج ويصفعه فاروق على قفاه مداعبة ولهوًا. وبكت مصر لا لخيبة فاروق وحده بل لخيبة رجالها وزعمائها أيضًا.
وما زلت أذكر حادثًا عجيبًا وقع في ١٩٥١. فقد كنت مع أصدقاء في مشاهدة قصة سينمائية وخرجنا حوالي الساعة الحادية عشرة وسرنا في شارع عماد الدين نستروح نسيم المساء. فأشار أحدنا إلى شارع إلى اليمين وقال: هنا ماخور يزوره فاروق في بعض الليالي.
وأثارت هذه العبارة استطلاعنا ودخلنا الشارع. فوجدنا رجال البوليس السري في ملابسهم التنكرية واقفين في الأماكن الاستراتيجية. ووجدنا السيارات. ورأينا البيت تتلألأ منه أنوار المصابيح.
وكان رجال البوليس السري في غاية الكياسة يَمنعون ويُشيرون في رفق واستحياء. وكثرت تعليقاتنا. وقصد كل منا إلى مسكنه وهو يفكر.
وعندما أتأمل تلك الأحداث المهينة لتاريخنا أجِد أن الوفد لم يكن ليجد الفرصة لضرب السراي أكثر مما وجدها في ١٩٥٠؛ فإن فاروق قبل سنتين كان قد دفع الجيش المصري إلى مقاتلة إسرائيل دون أن يستشير مجلس الوزراء فضلًا عن البرلمان. وهذا عمل يكفي وحده لخلع أي ملك في العالم. وأوقعَنا بذلك في حرب كان جيشنا فيها لا يزيد على ٢٣ ألف جندي بينما كان جيش إسرائيل يبلغ ٦٥ ألف جندي. وأنا أنقل هذه الأرقام عن جلوب (باشا) الذي لا يمكن أن يُتَّهَمَ بحب مصر.
على أن لفاروق هنا فضلًا قد أسداه إلى بلادنا من حيث لا يدري ومن حيث لا يقصد؛ ذلك أن الحرب بيننا وبين إسرائيل قد نبَّهت الجيش إلى مدى الفساد الذي كان يعم بلادنا. فكانت بداية التفكير والعمل لإنقاذ الوطن من الاستعمار البريطاني والاستبداد الفاروقي. وبدأت الثورة تختمر.
•••
وسارت الثورة، التي شرحتها في كتابي «الثورات»، في تدرج: التخلص من السراي، ثم التخلص من الإقطاعيين، ثم التخلص من الإنجليز، ثم البناء والإصلاح.
•••
وكان أعظم ما قامت به الثورة — بعد ذلك — هو الإقدام على تأميم قناة السويس في ١٩٥٦.
وتاريخ هذه القناة لا يقرؤه مصري إلا مع الألم والغيظ؛ فإنه أكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر.
وأذكر أني في ١٩٤٧ دعوت في مقال بمجلة «مسامرات الجيب» التي كان يصدرها الأستاذ عمر عبد العزيز إلى تأميم هذه القناة. وقلت في تدليلي وتبريري إن هذه القناة تقع في أرض مصرية، وإن تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم الترام في القاهرة. وعدت فكتبت مقالات أخرى في هذا المعنى في مجلات أخرى. ولا أعتقد إلا أن الوفديين كانوا يقرءون مقالاتي هذه في استهزاء وسخرية. ولكن أحد الصحفيين سأل النحاس (باشا) — بإيعاز من الشركة على ما أظن — عن إشاعة التأميم؛ فأجاب بأنه ليس عند الحكومة أية نية للتأميم وأنها تنتظر انتهاء الامتياز حين تستولي عليها أي في ١٩٦٩ … كان الوفد قد فقد روح الكفاح.
وأُمِّمَتِ القناة في ١٩٥٦. وأحس الشعب أنه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط بل استرد كرامته.
وقصة الكفاح الذي كافحنا به الدول الثلاث التي أغارت علينا بقواتها في البر والبحر والهواء لا تزال ماثلة في أذهان الجمهور. ولكن شيئًا واحدًا يجهله الجمهور وهو أن أمريكا التي كانت تبدو كأنها تدافع عنها وتلوم المُغِيرين، هذه الدولة طلبنا منها في الأيام الأولى من القتال أن تُسعفنا بالقمح لأن ما كان عندنا منه لم يكن ليكفي أكثر من ثلاثة أسابيع؛ فرفضت. وأصررنا على الطلب، فرضيت بشرط أن ندفع الثمن بالدولارات، ولم تكن عندنا دولارات.
وكانت خطة الولايات المتحدة أن تغزونا من الداخل أي تنتظر حتى يعم بيننا قحط يحمل الجائعين على الثورة. وعلى الاستنجاد بالأمريكيين.
هذا هو الذكاء العظيم الذي تفتق عنه ذهن أيزنهاور الذي كان يلوم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل؛ لأنهم أغاروا علينا فجعلوا العالم يستنكر خططهم. أما خطته فلن تستنكر. أليس العالم «الحر» حرًّا في أن يبيع القمح أو لا يبيع؟
وعمدت حكومتنا إلى الدولة السوفيتية الاشتراكية وطلبت منها إسعافنا بالقمح. فلبت الطلب فورًا.
ومن ذلك اليوم إلى الآن يشكو أحد وزرائنا لغطًا في القلب لفرط ما فزِع عندما اعتقد أن الشعب سيجوع وأنه هو المسئول.
إن «الديمقراطية» الغربية كانت تنوي إيجاد مجاعة في بلادنا كي نخضع ولكن الاشتراكية السوفيتية أنقذتنا. فلم نجُع، ولم نخضع، ولم ينقلب نظام الحكم، ولم يرجع فاروق، وبقيت جمهوريتنا سليمة.
•••
وقصة علاقاتنا مع الدولة السوفيتية من أروع القصص التاريخية، فإنها تحوي ألوانًا من النذالة والشهامة، والشرف والدناءة.
والشهامة والشرف في جانب الاتحاد السوفيتي والنذالة والدناءة في جانب الدول الغربية التي تصف نفسها بأنها حرة وبأنها ديمقراطية، ولا تذكر نفسها بأنها دول استعمارية قتلت الألوف من الهنود والمصريين والجزائريين بعد أن نهبت ثرواتهم.
ذلك أننا — عقب ثورة أكتوبر في ١٩١٧ — حين استولى البولشفيون على الحكم، قاطعنا دولة الاتحاد السوفيتي بإيعاز بل بإلزام من الإنجليز. وكان يكون معقولًا — في عرف السياسة الاستعمارية السائدة وقتئذٍ — لو أن هذه المقاطعة اقتصرت على التبادل الدبلوماسي. ولكن الإنجليز جعلوا هذه المقاطعة تجارية أيضًا. فكانت الدولة السوفيتية إذا احتاجت إلى القطن المصري رفضنا نحن بيعه لها. وعندئذٍ كان الإنجليز يشترون منا ما يحتاج إليه السوفيتيون ويبيعونه لهم. وفرق الثمن يذهب إلى جيوبهم. وكنا نرضى بهذه الحال …
وبقينا على نحو ذلك عشرين سنة نرفض بيع قطننا للروس وغير الروس من دولة الاتحاد السوفيتي. وذلك بزعم أن الشيوعية تدخل بلادنا إذا تعاملنا مع السوفيتيين.
إن أقل ما خسرناه في هذه المقاطعة الجنونية يبلغ نحو مائة مليون جنيه كسبها الإنجليز منَّا بدعوى حمايتنا من الشيوعية. وكان لنا وزراء عُمْيٌ صُمٌّ لا يفهمون، أو خونة جبناء يعرفون ويُخفون. وكان لفؤاد الملك السابق الجبان اللعين أكبر الأثر في هذه المقاطعة.
وبَقِينا على تجمُّد في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى يوم الهجوم على قناة السويس في ١٩٥٦. فرأينا الظلام في الظهر. وجعلت عيوننا ترود الظلام نبحث عن أصدقاء. ووجدناهم، وكان في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي، والهند، والصين والدول العربية، أو بعضها.
وهددت دولة الاتحاد السوفيتي الدول الثلاث الغادرة بالصواريخ، إذا لم تكف عن الهجوم وتنسحب. وخضعت هذه الدول وهي ذليلة وخرجنا نحن منتصرين. وكان من أكبر العوامل لانتصارنا أن انضم الشعب إلى الجيش في بورسعيد؛ فلم يظفر الأعداء بالاكتساح السريع لقناة السويس كما كانوا يدبرون.
وانتصر العدل بانتصارنا؛ إذ ثبت أولًا أن الدول الناهضة الجديدة مثل الهند والصين والاتحاد السوفيتي تقاطع الاستعمار وتطارده. وثبت ثانيًا أن هيئة الأمم — على الرغم من كل نقائصها — تستطيع أحيانًا أن تقف في صف العدل والحق ضد الطغيان والاستعمار. بل ثبت أخيرًا أن العالم كله قد أصبح على وعي أي وجدان بعضه ببعض، وأنه لم يعد هناك مكان للتسلل في خفية إلى الاستعمار.
•••
حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٧ أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها. فالنصف الأول إلى ١٩٥٢ كان انحدارًا كاد يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم. كما فسد الجهاز الحكومي وطغى العرش واستخفَّت الأحزاب بالقيم الأخلاقية بل استهترت. وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلِّقين يرغبون في الوصول إلى القمم. وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون أي حساب للشعب. بل تجاوزت هذه الحال إلى من نسميهم أدباء ومؤلفين وصحفيين كبار؛ فقد ارتشوا إلا الأقلين، عن ضمائرهم وصاروا يؤلِّفون ويكتبون كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف بل إعلانات خادعة غاشَّة لخدمة النذل فاروق.
أما النصف الثاني — أي من بداية الثورة في ٢٣ يوليو من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٧ — فيمثل نهضة الشعب. وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخر. وأنا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل، وخاصة بعد هذا الاتفاق الذي عقدناه بيننا وبين الاتحاد السوفيتي في نوفمبر من ١٩٥٧ على تصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي أمضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أنادي به.
ومتى انتشرت المصانع بيننا فإن كثيرًا من أزماتنا سيحل، بل هذه الأزمات تحل نفسها عندئذٍ بلا عمل إرادي من الحكومة. فإن التعطل سيزول، وخاصة تعطل المتعلمين. وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاه الأدبي. وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعب.
الثقافة العلمية ستكون النتيجة للحضارة الصناعية. ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة، ويستمر التفاعل بينهما.
•••
إن هذه الكلمات الموجزة التي كتبتها في وصف إحساسي للأحداث الكبرى التي خلَّفت آثارها في بلادنا في السنوات العشر الماضية كنت أُحِبُّ أن ألحق بها وصفًا آخر للأحداث الكبرى في العالم. ولكن الإيجاز الذي توخيته في الكلام عمَّا حدث في بلادنا يطالبني بإيجاز مثله في شأن الأحداث العالمية.
وربما كان أعظم هذه الأحداث من حيث التنبيه العام لشعوب العالم وإيجاد وعي أي وجدان كوني جديد للإنسان، هو هذا الحدث الذي ما زلنا نعاين تفاصيله كل يوم. أي هذان القمران الصناعيان اللذان أرسلتهما دولة الاتحاد السوفيتي إلى السماوات يدوران حول الأرض.
وإطلاق الصواريخ لا يحتاج من العلم إلى ما تحتاج إليه القنبلة الذرية أو القنبلة الهيدروجينية. وهو فن أكثر مما هو علم. ولكن قيمته المسرحية كبيرة؛ لأنه بمثابة الإنذار للنائمين كي يصحوا أو للغافلين كي يتنبهوا.
وقد اضطرت الصحف إلى أن تلغط بشأن السفر إلى القمر ثم إلى الكواكب عقب إطلاق الصاروخين اللذين انطلق منهما القمران. وأصبحت العامة — قبل الخاصة — تتحدث وتعلق وتفكر. وهذا كله كسب للذكاء البشري سوف تكون له آثاره البعيدة العميقة في المستقبل القريب.
أما الحادث التاريخي العظيم بل الرهيب فهو ظهور الصين الجديدة دولة اشتراكية تقف في صف العدل والخير للبشر ضد الاستعمار والغدر والخيانة في الأمم التي تزعم أنها حرة وديمقراطية. وقد أصبح عدد الاشتراكيين في الاتحاد السوفيتي والصين ودول أوروبا الشرقية نحو ١٠٠٠ مليون. وهم قوة كبيرة سوف تقضي على سُبَّة البشر الكبرى — أي الاستعمار — في السنوات القريبة القادمة.
هم قوة جديدة. ولكنهم أيضًا قوة عجيبة من طراز آخر غير ما عرفه التاريخ. فإن دولة الاتحاد السوفيتي مثلًا تعاقب كل من يجرؤ من مواطنيها على الدعوة إلى الحرب بعقوباتٍ قد تصل إلى السجن ٢٥ سنة. وهذا في الوقت الذي يقف فيه الوغد تشرشل في فولتون بالولايات المتحدة ويطلب من حكومتها ضرب السوفيتيين بالقنابل الذرية.
ولو كان تشرشل مواطنًا سوفيتيًّا وألقى هذه الخطبة ضد أمريكا مثلًا في موسكو لعوقب بالسجن مدة قد تبلغ ٢٥ سنة. ولكنه أحد المواطنين في بريطانيا دولة الاستعمار والحرب ونهب البترول من العرب وقتل اليمنيين والعمانيين والكنيويين … إلخ.
ولا أستطيع أن أقول إن الحرب الكبرى الثالثة لن تقع. ولكني أقول إن احتمال وقوعها قد نقص بعد أن فاز الاتحاد السوفيتي باختراع الصواريخ وبعد أن زادت أسلحته الأخرى.
إن قوة الاتحاد السوفيتي هي الضمان الوحيد للسلم في العالم في عصرنا.
•••
وأحتاج إلى أن أقول شيئًا عمَّا مر بشخصي من الحوادث في السنوات العشر الماضية.
فمنذ حوالي ١٩٤٦ اتضح للوفديين أني — لما أتسم به من اليسارية — عبء عليهم وأنهم يتهمون برعايتي أو على الأقل بالتسامح معي. ولست أشك أني كنت مقلقًا لهم؛ فإنهم لم يستطيعوا قط زحزحتي عن مبادئي الاشتراكية وعن نقدهم لتخلُّفهم في خدمة العمال، وعن كراهتي للسراي وبغضي للحركات الرجعية التي كثيرًا ما حالفوها هم وصانعوها. وقوطعت من الصحف الوفدية. بل أستطيع أن أذكر حادثة تدل على النفاق المستتر الذي كان يمارسه زعماء في الصحافة.
ذلك أن أحد الصحفيين الوفديين الكبار — وهو ليس في مصر الآن — دعاني ذات يوم كي نتقابل للحديث في شأنٍ مهم. فلما التقينا وجدته يعرض عليَّ العمل في جريدته الكبرى بحيث أُشرِف على الاتجاهات السياسية؛ فلا يكون هناك فيما ينشر ما يخالف الخطط والأهداف الوفدية. وبقينا نحو ساعتين ونحن في نقاش، بل في ترتيب وتنظيم لصفحات جريدته. وبعد أن تعبنا افترقنا على أن نجتمع بعد يوم. ولكن مرت أيام ولم نجتمع ولم يطلبني هذا الصحفي الكبير.
وأحسست الإهمال بل الإهانة. وقصدت إلى موظف كبير بهذه الجريدة — صار وزيرًا بعد ذلك — وقصصت عليه ما حدث. فابتسم وهو يقول: إنه — أي صاحب الجريدة — لا يعين موظفًا في جريدته إلا بعد استشارة السراي. وإنه بالطبع قد عرض اسمي، فوجد الرفض البات المنتظر. فسكت، وأهمل الموضوع.
وهذا كان شأن كثيرين غيره. كانوا يتظاهرون بمعارضة السراي في استبدادها ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يحرصون على الولاء لها فلا يخالفون لها رأيًا بل يستشيرونها.
وتسكعت جملة سنوات في الصحافة بسبب هذه المقاطعة؛ حتى لقد مرت عليَّ شهور لم أكن أكسب منها سوى خمسة جنيهات في الشهر كنت أتناولها ثمنًا لمقال في «مسامرات الجيب». ومن ذلك: المقال الذي دعوت فيه إلى تأميم قناة السويس.
وفيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٢ كان «البوليس السياسي» أو «القلم المخصوص»، كانت كل هذه الهيئات تعربد وتعمل للتخريب في السياسة والصحافة والتفكير. وكانت جميع هذه الهيئات أيضًا على اتصالٍ بالسلطات الإنجليزية الاستعمارية بدعوى مكافحة الشيوعية وتبادل المعلومات عن نشاط الشيوعيين.
ولم يكن بعيدًا على بعض هؤلاء الجواسيس — بحكم هذا الاتصال وطبيعته — أن يخدموا الإنجليز في خططهم الاستعمارية، بل إن هذا هو ما يرجح ما دام هناك اشتراك وتبادل في المعلومات …
وطغى هذا البوليس طغيانًا عظيمًا حتى لقد كان «يخطف» مؤلفاتي من مكتبة كادموس بلا أدنى حرج. فكان يدخل أحدهم ويضع يده على عشرة وعشرين مجلدًا ويخرج بها دون أن يدفع الثمن بدعوى أنها محرَّمة. وكانت هذه المكتبة في شارع ٢٦ يوليو (فؤاد سابقًا). ولا تزال صاحبتها حية أمَّا المكتبة فقد أُقْفِلَتْ.
والذي يجب أن أعترف به في أَلَمٍ أن أدباءنا الكبار — إلى بداية الثورة في ١٩٥٢ — لم يعملوا قط للثورة على الأوضاع الخسيسة التي كان يستند إليها نظام الحكم. فلم يكن بينهم إلا من أيَّد فاروق أسفل تأييد وأحطه. ولي الحق بأن أفخر بأني لم أكن كذلك. وقد نالوا بهذا التأييد كل ما أرادوا من مالٍ وجاه، حتى لقد عيَّروني بأني أحسدهم على ما نالوه هم وحُرِمْتُهُ أنا من يدي فاروق الملوثتين.
وها أنذا في ١٩٥٧ أجد الجمهورية التي اتُّهِمْتُ بالدعوة إليها وحُبِسْتُ من أجل ذلك في ١٩٤٦، وأجد نجاح دعوتي للصناعة وهي دعوة أمضيت فيها أكثر من ثلاثين سنة، وأجد دعوتي للعلم كما أجد الإيمان بنظرية التطور، وأخيرًا أجد تهمتي بأني أحب دولة الاتحاد السوفيتي، هذه التهمة قد أصبحت فخرًا، بعد إذ عرفنا وعاينَّا موقفها الأبي الكريم نحونا في هجوم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل علينا في ١٩٥٦. وأجد مصريًّا صميمًا على رأس حكومتنا هو جمال عبد الناصر الذي نشأ في عائلة فلاحين وتشمَّم تربة «خيم».
ولذلك أستطيع أن أقول: إني انتصرت.
•••
من وقتٍ لآخر أتساءل: ما هو القصد العام في حياتي الفكرية؟
- (١)
استقلال بلادنا من هوان السيطرة الإنجليزية.
- (٢)
ثم تحرير المرأة من الحجاب ودعوتها إلى أن تكون لها شخصية مستقلة بالتعلم والعمل والإنتاج والكسب.
كانت هاتان الفكرتان تغمرانني في أوروبا. فلما عدت إلى مصر وجدت أن الوعي الديني أكبر وأعمق من الوعي القومي أو الوطني سواء بين المسلمين أم بين الأقباط. وأحسست عندئذٍ قصدًا آخر هو ضرورة مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور حتى تأخذ بيِّنة العلم مكان عقيدة الإيمان. وعندئذٍ يجد الشباب وعيًا جديدًا هو الوعي للعلوم المادية الذي يساوي بين أبناء الأمة بل أبناء البشر، ويدعو إلى الوفاق بدلًا من الشقاق.
وكنت وأنا في لندن قد درست الاشتراكية التي رسمت لي قصدًا نبيلًا عظيمًا ليس لمصر فقط بل للعالم كله. وقد كان من المحال أن نفرض نجاح هذه الدعوة التي كان الإنجليز المستعمرون والباشوات الإقطاعيون يتحدون في مقاومتها. ومع ذلك أنشأنا حزبًا اشتراكيًّا في ١٩٢١ قتله سعد زغلول. مع أنه لو كان قد تركه لكان وسيلة إلى الدراسات الاقتصادية التي تنحاز في اتجاهها نحو الطبقات الفقيرة في بلادنا. ولكن سعد زغلول كان «باشا». وكان هذا التفكير أبعد ما يكون من ذهنه.
ثم وجدت لي قصدًا علميًّا آخر هو تعميم الصناعة. وظني أني تعلقت بهذا القصد باعتبار الصناعة بديلًا من الاشتراكية. أي بديلًا يغري الأغنياء. ثم تكون هي — أي الصناعة بعد ذلك — وسيلة لتحقيق الاشتراكية.
ومع أني في كتابي «هؤلاء علموني» قد ذكرت نحو عشرين من الأدباء والعلماء والمفكِّرين الذين وجَّهُوا نشاطي الذهني وربوا نفسي، فإني لم أذكر معهم كارل ماركس داعية الاشتراكية. والآن أحب أن أعترف أنه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس. وإنما كنت أتفادى من ذكر اسمه خشية الاتهام بالشيوعية.
والآن في ١٩٥٧ أحس قصدًا آخر إزاء الغيوم الذَّرِّيَّة التي تخيم على العالم وتهدد البشر بالفناء. هو تعميم السلام ومكافحة دعاة الحرب. وهؤلاء الدعاة هم مائة في المائة استعماريون يهدِفون إلى استعباد الشعوب الأفريقيا والأسيوية ونهب ثرواتهم ومنع الحضارة عنهم ولو بالمخاطرة بمستقبل البشر؛ إذ هم ليسوا بشرًا، هم ذئاب.
وإني أعمل الآن في صحف «أخبار اليوم» وأؤلِّف الكتب بغية تحقيق هذه الأهداف.