السبعون سنة الأولى من عمري
في هذا الشهر — يناير من ١٩٥٧ — أتممت السبعين سنة الأولى من عمري. وما لم يكن رأس الإنسان مصنوعًا من الحجر الصلد فإن في هذه السنين ما يبعث على التفكير والعبرة بشأن الحياة.
بشأن الحياة وليس بشأن الموت …
وإنى حين أفكر في الموت فإنما أفعل ذلك كي أستنبط وأستخلص منه عزمًا جديدًا لأن أحيا. وذلك لأني أسلم بنهائية الموت. وليست لي أية مطامع غيبية بعده. وكثيرًا ما يخطر ببالي لذلك أن إحراق الجثمان خير من دفنه؛ لأن النار التي تلتهم الجسد وتحيله إلى غاز ورماد تؤكد هذه النهائية، أو على الأقل تؤكدها في إحساسنا؛ ولذلك أرجو أن أنتهي إلى هذا المصير ولو في المرمدة الهندية التي بالقاهرة.
وما بقي من عمري سوف أنشد فيه النمو. أي أنْ أكبر ولا أعمر فقط. أكبر وأنضج.
ومن مدة قريبة قرأت هذا البيت التالي ووقفت عنده أتامل الحال النفسية التي انبعث بها الشاعر إلى تأليفه:
إنه شاعر سخيف؛ إذ لا بد أنه قال هذه الكلمات وهو في مثل سني الآن، في نهاية السبعين. ولكن أي أشر هذا الذي يندم على أنه لم يحققه؟
أنه يأسف على إنه لم ينزق كما كان يحب.
ولكن أكبر ظني أنه لو كان قد نزق وأشر وانغمس في اللذات الجنسية والكئولية والصبيانية لكان ندمه أكبر. وأقصد هنا الانغماس؛ لأننا نستطيع — حتى بعد السبعين — أن نمارس هذه اللذات في اعتدال. وهي مع ذلك لذات حيوانية لا ترتفع إلى قمة كياننا، إلى الرأس.
ولي هنا اعترافان:
- الأول: أني أهتم بالدنيا ومصير الإنسان أكثر مما أهتم بنفسي.
- والثانى: أن أكبر لذاتي هو اللذة الفلسفية.
ولست أجد السعادة الراكدة في هذه الأشياء الثلاثة، وإنما أجد الكفاح النشيط.
إني أعرف ناسًا هانئين راكدين سعداء. ولكن سعادتهم لذلك أشبه بالموت منها بالحياة. وما يحسبونه سعادة هو غفلة ونعاس أو أنانية حيوانية. ولكن السعادة الإنسانية هي أن نهتم بالإنسان والمجتمع، فنقلق، ثم يبعثنا القلق على الكفاح … ثم تكون سعادة الكفاح.
إننا نولد مرة واحدة من أمهاتنا، وميلادنا هذا يعيِّن لون بشرتنا ومقدار قامتنا ونحو ذلك. ولكن الإنسان الذي يكبر ويسير نحو النضج يحتاج إلى أن يولَد قبل السبعين نحو عشر مرات. وهو عندئذٍ لا «يصل» إلى سن السبعين أو الثمانين وإنما ينمو إليها؛ فإن النمو هو شعار الحياة الحية.
لقد كان أول ميلادي — بعد سن المراهقة — حين عرفت نظرية التطور، فأحسست بها أن عقلي قد كبر وأن نظرتي قد أصبحت تشمل الكون، وأني أحاول الشمول والاستيعاب، وأن لي ديانة تربطنى بأقصى النجوم والكواكب وأحط الديدان والحيوان، وأني مسئول أمام الحياة والإنسانية.
وامتدت أمامي دراسات ما زلت أتابعها بسبب هذه النظرية. وهي دراسات تتعدد وتتنوع وتتناول خميرة العجين وجسيمات الذرة ومنشأ السحر ومستقبل الإنسان.
لقد عرفت برناردشو، وفكرت كثيرًا في معنى الشخصية الإنسانية في درامات إبسن، وعرفت الحبيب المجنون نيتشه، وصحوت على الحضارة الأوروبية وهبطت على أسسها في الصناعة والعلم، وأعجبت بجوتيه، واجتررت كثيرًا، مع فرويد، أسرار النفس الإنسانية، ودرست الغصن الذهبي، وسحرني دستوفسكى وبقيت في السحر حتى أنهضني منه جوركي.
وكنت كلما اكتشفت واحدًا من هؤلاء أحسست بميلاد جديد.
كنت وأنا في سن الأربعين أو الخمسين، عندما كانت الحياة ترهقني بتكاليفها وأعبائها، أهفو إلى الريف وأحلم بالراحة والهناء في سذاجته وأتمنى قضاء السنين الأخيرة من العمر فيه حيث البساطة في كل شيء كما فعل روسو.
ولكني الآن لم أعد أسيغ هذا الحلم، هذا الفرار من أعباء الإنسانية، بل أصبح همي أن أزيد هذه الأعباء بأن أستوعب مشكلات العالم وأدرس ثقافته. وأحس كلما زادت هذه المشكلات وتعقدت أن مسئوليتي قد زادت أيضًا. والرجل المثقف الذي ينشد الريف وسذاجته وراحته هو جندي فارٌّ من معركة الخير والشر التي يجب أن يعرف مكانه فيها.
وقد كنت أيضا أفكر في هواية ما تخفف من جِدِّ الحياة وضغط المسئوليات. بل لقد نصحت الشبان بأن يختاروا إحدى الهوايات ويتعلَّقوا بها. ولكني أحس الآن أن الهواية فرار آخر من الحياة، وأننا يجب ألا ننشد التسلية وتزجية الوقت بل ننهض بعمل إيجابي كفاحي لخير الإنسانية.
وأصل الرغبة في راحة الريف. واتخاد الهواية، هو أننا ننشد — عن جهل — ما نسميه السعادة، ولكن هذه السعادة تخدر النفس، أما الهموم والاهتمامات فتنبهها. ولن نحس الحياة على أعمقها إلا حين نكافح، بل الكفاح هو الذي يجعلنا نحس أننا أحياء.
ومع ذلك إذا كانت الهواية كفاحًا فأنعم بها. ولكن هذه الكلمة عندئذٍ تخالف معناها المألوف.
وهناك وسائل كثيرة للتربية الذاتية ولكن أعظم هذه الوسائل وأجداها هو الكفاح من أجل الخير في العالم. فأنت تكافح كي تغير حالًا قائمة ولكنك أنت أيضا تتغير بهذا الكفاح؛ وذلك لأنك ستحتاج إلى الدرس والتفكير، وستلاقي الصعوبات والعقبات. وقد تنجح أو تخيب، وكل هذا تربية لك وزيادة في عقلك وبصيرتك. إن الماضي ميت.
وأنت حين تكافح تختار المعارف الحية التي تغير الدنيا والأخلاق والآمال. فأنت حين تدرس وتتربَّى يتجه تفكيرك بالمعارف الحية نحو المستقبل أي نحو التغيير. أما إذا اخترت المعارف الميتة فإن تفكيرك يتجه نحو الماضي، وليس في الماضي مكان للتغيير. إن الماضي ميت.
وهنا الفرق بين كاتب وكاتب، بين أديب وأديب، بين مفكر وغير مفكر.
إن المفكرين المكافحين يفكرون في المستقبل ويخططونه بينما غير المفكرين يكتبون عن الماضي وكأن ليس لهم شأن بالمستقبل، ليس لهم كفاح.
إن الشيخوخة، سن السبعين أو الثمانين، قد تكون بشيرًا لك، أيها الشاب، أو نذيرًا. فهي بشير إذا كنت قد عودت نفسك — منذ شبابك — العادات الحسنة، الإيجابية والسلبية، وأول هذه العادات الاهتمام بالدنيا والإنسانية والسياسة والثقافة ومستقبل بلادك بل مستقبل الإنسان … فإذا اهتممت بكل هذه الأشياء السامية فإنك أنت ستسمو بها كما تتربى وتكبر شخصيتك ويحد ذكاؤك. وهذا الاهتمام نفسه سيشغلك عن العادات السيئة التي تفشو كثيرًا بين الفارغين التافهين الذين يستهلكون كل يوم عشرات الفناجين من القهوة والشاي ويدخنون إلى حَدِّ إفساد الجو حولهم. وقد يتسلَّوْن عن فراغهم وسأمهم بالانغماس في الخمور أو نحوها.
لا تكن شابًّا أجوف، لا تكن شابًّا تافهًا. اهتم بالدنيا وبالإنسانية. واهتمامك هذا يربيك ويجعلك شابًّا وأنت في سن السبعين والثمانين. واجعل من الفلسفة أكبر لَذَّاتك التي تحيا معك إلى يوم وفاتك والتي تفوق كل ما يقوله التافهون عن الملذات الأخرى.