مؤلفاتي التي وجهتني
نحن المؤلِّفون نؤلف الكتب ونوجه بها الأفكار ثم تعود هي فتؤلفنا وتوجهنا، والأغلب أن الكتاب الأول الذي ألفناه وشغفنا بإخراجه وتهيأنا له بالتفكير البكر، أو ما ظننا أنه بِكر، هذا الكتاب هو الحلقة الأولى من سلسلة للكتب التي نخرجها بعد ذلك وفق البذور التي بذرناها في هذا الكتاب الأول. ثم نحن في تأليف هذه الكتب نحرص على رباطنا بالكتاب الأول. فلا نحيد ولا ننحرف.
لا نحيد ولا ننحرف لسببين:
- الأول: أننا نحرص على ألا نبدو متناقضين، وهذا أخف السببين، بل أَتْفَهُهُمَا.
- والثانى: أن الأفكار الأولى التي حفزتنا على التأليف الأول تبقى حية تنمو وتكبر، فنتوسع فيها بما لها من خاصة التوسع، وليس لحرصنا على التزامها.
إن الذين قرءوا جان جاك روسو يذكرون كيف أن فكرة الطبيعة فاجأته وهو يمشي على طريق ريفي بين الحقول. فما هو أن وجد شجرة حتى ارتمى تحتها وأخذ يجتر الفكرة: إن الإنسان كان سعيدًا في سذاجته وبدائيته، ثم عرف العلم والحضارة فتعس.
الفكرة بسيطة بل مخطأة أيضًا، ولكن لها زاوية تستحق التنقيب والبحث. وأخرجها روسو في رسالة قصيرة قرأها الناس ودهشوا بها. ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا هنا أن حياة روسو نفسه تأثرت بهذه الرسالة. فإنه بعد تأليفها شرع يتوسع في معانيها ويحيي هذه المعاني في سلوكه وأخلاقه وأفكاره.
هذه الرسالة التي ألَّفها روسو عادت فألفت حياته هو ووجهته وعيَّنت أهدافه. وكل منا — نحن المؤلفين — له مثل هذا الشأن إذا كان مؤلِّفًا أمينًا يقول ما يعتقد وما يتعقل. أما إذا كان مأجورًا للدفاع عن مذهب فليس لمؤلفاته تأثير عليه سوى ذلك التأثير الذي يُقال عن الكاذب يكرر ويدمن الكذب حتي يصدقه.
حتى القصة يؤلفها الكاتب في الخيال ويعين لبطلها صفات وميزات تعود بعد ذلك فتؤثر في هذا المؤلف نفسه حتى ليتخذ هذه الصفات والميزات لنفسه. ألسنا نرى في قصص تولستوي أبطالًا يشبهون تولستوي نفسه؟
قد تقول هنا إن أبطال تولستوي في قصصه يشبهونه في الأخلاق؛ لأن أخلاقه هو كانت كذلك قبل أن يخلقهم. وهذا ممكن ولكنه ليس ضروريًّا. ولكنه وهو يدون صفاتهم ويفصلها ويعين ميزاتهم، كان يتبنى شخصياتهم ويستلهمها في حياته، ثم أيضًا يرتبط بها.
الكتاب الذي أؤلفه هو صديقي الذي أؤثِّر فيه ويؤثِّر فيَّ.
كان أول ما ألفت كتابًا باسم «مقدمة السبرمان» وذلك في ١٩٠٩ وأنا في لندن أعاني اختمارات ذهنية كثيرة انفجر بعضها في هذا الكتاب. والآن بعد خمسين سنة أجدني لم أتغير عمَّا قلت في ذلك الكتاب. بل كل ما حدث أني توسعت وتعمقت؛ ففي هذا الكتاب إشارات أو فصول موجزة عن: التطور، الاشتراكية، برناردشو، إبسن، الدين والعلم، حرية الفكر، داروين … إلخ.
وهذه الإشارات أو الفصول قد صارت بعد ذلك مؤلَّفات ومجلدات أثرت في حياتي وأخصبتها وأدخلتني السجن وأسعدتني بدراسات وألهمتني خططًا ما زلت في نتائجها ومناهجها.
وفي ١٩١٤ أخرجت أول مجلة أسبوعية في مصر باسم «المستقبل». والاسم نفسه يحوي دلالة لحياتي بعد ذلك؛ فقد كافحت دعاة الفعل الماضي الذين يعوون بشأن التقاليد. كما دعوت إلى العلم الذي نبني به مستقبلنا. وأجد في أحد الأعداد مقالًا بعنوان «الله» يحوي أفكارًا يمكن أن تُوصف عند الصديق بالحرية وعند العدو بالإلحاد.
وفي ١٩١٦ وجدتني أدعو في جريدة الأخبار إلى إلغاء الطربوش. وكان يحفزني على ذلك إحساس بأنه شارة الاستعمار التركي لمصر.
وكنت في إخراج مجلة المستقبل ودعوتي فيها إلى الاشتراكية وإلى المادية، ثم بعد ذلك في اقتراحي إلغاء الطربوش، مسوقًا بالكتاب الصغير الذي ألفته في ١٩٠٩ بعنوان «مقدمة السبرمان».
وحررت بعد ذلك مجلة الهلال سبع سنوات أخرجت فيها هذه الكتب. وهي جميعها امتداد وتوسع وتعمق لما جاء في مقدمة «السبرمان»: حرية الفكر، العقل الباطن، أحلام الفلاسفة.
ثم عملت في تحرير البلاغ فنشرت فيه مقالات جُمِعَتْ بعد ذلك كتابًا باسم «نظرية التطور وأصل الإنسان».
ومؤلفاتي في السيكلوجية — من «العقل الباطن» إلى ما تلاه من الكتب — هي امتداد لنظرية التطور؛ لأن العقل الباطن هو الحيوان الكامن في الإنسان.
واتجاهي الاشتراكي الحاضر هو امتداد للفصل الموجز الذي خصصته عن الاشتراكية في هذا الكتاب الأول الذي ألفته في ١٩٠٩. وكنت وقتئذٍ عضوًا بالجمعية الفابية الاشتراكية الإنجليزية.
وقد تشعبت فكرة التطور عندي فأصبحتْ إيمانًا بالارتقاء واتجاهًا نحو المستقبل وبحثًا بل أبحاثًا متكررة في معاني الحضارة والثقافة والعلم.
نحن المؤلفين نتجاوب مع مؤلَّفاتنا نؤثر فيها ونتأثر بها. وهي — كما توجه القراء — توجهنا نحن أيضًا. وبالطبع أعني المؤلفات التي تتصل بالأخلاق والحياة العامة والمذاهب والسلوك؛ إذ ليس من المعقول أن مؤلِّفًا يؤلف كتابًا في صناعة الصابون أو القيم الصحية في بعض الأغذية تتأثر حياته به. وإن كنت أظن أن اهتمامه بمثل هذه الموضوعات سيربطه — ثقافيًّا وعلميًّا — بها طيلة حياته. ولكن العبرة الكبرى بالكتب التي نؤلفها في الأخلاق والمذاهب والسياسة والاجتماع.
وبكلمةٍ أخرى أستطيع أن أقول للقارىء: إذا شئت أن تتعرف إلى مؤلف وتقف على منهجه في الحياة واتجاهه الفلسفي فإنه يكفيك أن تقرأ عناوين مؤلفاته.
ذلك لأن مؤلفاته هي حياته.
ومؤلفاته الأولى على الأخص؛ إذ هي مؤلفاته التي ألَّفها عفو ميله واتجاهه، وقصد منها إلى البوح والاعتراف عمَّا كان يكظم في نفسه من أفكار.
والأغلب أنه لم يكسب منها بل لعله خسر فيها؛ إذ هو ألفها دون أن يهدف إلى كسب وإنما إلى إشباع شهوة ذهنية.
فيما بين ١٩٠٩ و١٩١٤ ألفت «مقدمة السبرمان» و«نشوء فكرة الله» و«الاشتراكية» وجميعها خسرت فيها بل لم أكد أجمع جنيهًا كاملًا منها كلها. ولكني سعدت بها؛ لأني بُحْتُ بالمكتوم في نفسي واسترحت بالبوح.
وليس عجيبًا بعد ذلك أن أعظم مؤلفاتي انتشارًا وهو كتاب «نظرية التطور وأصل الإنسان»، الذي ألفته منذ ثلاثين سنة، كان أقلها كسبًا لي. فقد بعت حقوق الطبع الكاملة فيه بعشرين جنيهًا فقط، مع أنه الآن في الطبعة الرابعة.
وقد يظن القارئ أني أبتئس بذلك، ولكن العكس هو الصحيح؛ فإني سعيد بانتشاره لأنه يعالج نظرية حبيبة إلى نفسي أحب أن تنغرس مبادئها في قلوب القراء العرب حتى يسترشدوا بها في السياسة والاجتماع والأخلاق …
هو هزيمة مالية فاضحة ولكنه انتصار ذهني رائع.
وكتاب آخر جرى هذا المجرى هو «تربية سلامة موسى»، فما هو أن خرج من شركة «الكاتب المصري» في ١٩٤٧ حتى أعلنتني أنها أبطلت مشروعاتها في الطبع والنشر وأنها ستبيع الكتاب بالمزاد؛ أي تبيعه بقدر ما فيه من ورق يوزن بالأقة. ولم أصب منه غير عشرين أو ثلاثين جنيهًا، ولكني أعده أحسن مأ ألفت؛ فإنه اعترافات صفيت فيها حسابي مع المجتمع الذي أعيش فيه وسردت حياتي بكل ما تحوي من صفاء أو غبار.
وكثير من مؤلفاتي بعد ذلك — وهي تبلغ أربعين — هي اعترافات؛ فإن «هؤلاء علموني» و«الأدب للشعب» كلاهما يبسط للقارئ ما أعتقد عن تطوري الثقافي. ولكن كثيرًا أيضًا من مؤلفاتي الأخرى هو تعليمي قصدت منه إلى الشرح والبسط كما فعلت في جميع كتبي عن السيكلوجية.
وهناك كتاب ألفته في ١٩٥٣ كان يجب أن يؤلَّف قبل ذلك بنحو ثلاثين سنة هو كتاب «الثورات». وإنما أخرني عن ذلك هذا العرش الأجنبي الملوَّث على بلادنا ووقوف الاستعمار البريطاني السافل خلفه يؤيده لأنه كان وسيلته إلى استغلالنا. وقد كان موضوعه يختمر في ذهني منذ ألفت «مقدمة السبرمان» في ١٩٠٩ التي تعد ثورية في الاجتماع والثقافة أكثر مما هي كذلك في السياسة. فقد عرضت فيه للثورات أو لبعضها الخطير التاريخ وأبرزت معانيها وأهدافها.
ومع أني لم أُخرِج هذا الكتاب إلا في ١٩٥٣ فإن عامة القراء كانوا يجدون في مؤلفاتي السابقة اتجاهات ثورية في مختلف النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان الحزب الاشتراكي الذي ألفته — مع حسني العرابي وغيره — ثورة في نظر النيابة العامة التي حققت معنا في ١٩٢٣ بشأنه. ثم سُنَّتْ بعد ذلك القوانين — بإيحاء الإنجليز — وحظرت إيجاد مثله في المستقبل.
ويقول السيكلوجيون: إن الابن الأصغر في العائلة كثيرًا ما ينشأ ثائرًا؛ ذلك لأن مكانه فيها هو مكان الضعف حين يستبدُّ به إخوته الكبار ويحملونه باستبدادهم على التمرد والثورة. وهو حين يشب ويختلط بالمجتمع يتجه فيه اتجاه الثورة؛ إذ يجد في أشخاص المستبدين ذكريات غير واعية من استبداد إخوته الكبار أيام طفولته.
وقد كنت أصغر إخوتي في العائلة، ولا أذكر منذ صباي إلا أني كنت على إعجابٍ عظيمٍ بعرابي … وكانت ترجمتي بعد ذلك لكتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» من المسرات التي أسعدتني. أجل ووجهتني؛ فإن كراهتي للعرش أيام فاروق، وهي التي جعلت النيابة العامة تحبسني أسبوعين — بعضها على الأسفلت — في ١٩٤٦ بدعوى التآمر على إيجاد حكم جمهوري بدلًا من الحكم الملوكي، هذه الكراهة كانت تجري في سياق كراهتي لتوفيق الشقي الذي تآمر مع الإنجليز على هزيمة عرابي وتحطيم الحركة الوطنية.
إن ظروفًا كثيرة سيكلوجية واجتماعية عملت لتوجيهي الثوري، كما عملت أنا بعد ذلك لهذا التوجيه للقراء. ثم كان بعد ذلك الارتباط بين المؤلف ومؤلفاته.
•••
ما هو الذي يحفزني على التأليف؟
اعتقادي أنه اهتمامي بالشعب؛ أي إنه مجموعة من عواطف السخط على الحال القائمة والأمل في حال مرجوة. والسخط يثير عليَّ غضب الكثير من الجهلة الذين لا يفهمون طبيعة الحضارة الغربية وما يكمن فيها من عدوان واستعمار للشعوب الضعيفة التي تعيش على قديمها الرث من التقاليد. ولست أنا من عشاق هذه الحضارة الغربية بدليل أني اشتراكي. فهي حضارة المباراة والاشتراكية حضارة التعاون. ولكن — لأن هذه الحضارة الغربية عدوانية استعمارية — يجب علينا أن نقاومها بأسلحتها. وأعظم هذه الأسلحة هو العلم والصناعة، مع اتجاهنا نحو الاشتراكية.
وعندما أقارن بين مؤلفاتي وبين مؤلفات طه حسين وعباس العقاد أعجب أكبر العجب؛ لأن موضوعاتهما التي تشغلهما تختلف عن الموضوعات التي تشغلني.
فإن لهما أكثر من ثلاثين أو أربعين كتابًا في شرح المجتمع العربي في بغداد والمدينة ومكة في القرن الأول للهجرة. ولهما دراسات عن أبطال من العرب ماتوا قبل ١٣٠٠ أو ١٢٠٠ سنة. وكأن المجتمع المصري الحديث، وثورات الشعوب، والانقلاب الاقتصادي الذي يفصل بين عصر الإقطاع وعصر الصناعة، وحرية الفكر التي تدعو إلى العقل بدلًا من العقيدة، وقيمة العلم، ونظرية التطور، كل هذا وغيره ممَّا يلابسه من الأفكار والاهتمامات لا قيمة لهما في نظرهما لارتقاء شعبنا. وليس لواحد منهما كتاب واحد عن هذه الموضوعات.
وممَّا يؤسف له أنه قد نشأت لهما «مدرسة» تؤلف عن كل شيء عربي قديم، وليس عن مشكلة مصرية حديثة. والتأليف هنا سهل لا يكاد يحتاج إلى مجهود؛ إذ ليس أسهل من الرجوع إلى الطبري، أو الأغاني، أو ابن الأثير، أو السيرة الحلبية، أو غير هذه الكتب لاستخراج صيغة جديدة لترجمة قديمة. وكثيرًا ما تكون هذه الصيغة الجديدة دون السيرة أو الترجمة القديمة.
وكما كان يقول توفيق الحكيم، أو كما كان يمارس الفن — وفق سخافة «الفن للفن» — كذلك أحس وأنا أسمع بعنوان جديد لطه حسين أو عباس العقاد بأنهما يؤلفان للتأليف وليس لهدف اجتماعي يخدم الشعب.
في كل ما ألفت أنا هدفت تصريحًا أو إضمارًا إلى خدمة الشعب وتوجيهه؛ فإن عناوين مؤلَّفاتي يكفي ذكرها للبرهان على ذلك. مثل «نظرية التطور» و«حرية الفكر» و«الثورات» و«كيف نربي أنفسنا» و«الأدب للشعب» و«برناردشو» و«طريق المجد للشباب» … إلخ.
ولو كنت قد وجدت الحرية أيام الحكومات الملوكية السابقة لألفت عن الاشتراكية بما كان يوجه ويرشد.
وسخافة «الفن للفن» جعلت توفيق الحكيم يدعو إلى الموت بدلًا من الدعوة إلى الحياة كما هو واضح في درامته «أهل الكهف».
•••
والآن عندما أراجع حياتي التأليفية، أحس الأسف أكثر مما أحس الفرح؛ ذلك أنه كان يمكنني أن أنفع بلادي أكثر لو أني كنت على حرية تامة في التأليف. ولكني كنت حين أؤلف أحس التوتر في ضميري وأقف حائرًا فترات يظل فيها عقلي حائرًا بين أن أكتب ما يجب أو أكتب ما يمكن. وأنتهي إلى «ما يمكن» وأترك ما يجب. أي أترك الحسن إلى ما هو دونه.
وربما كان الأزهر أكبر ما عاق تفكيري الحر. وقد ألفت كتابي: «هؤلاء علموني» ولم أذكر فيه كارل ماركس مع أنه الأول في تنويري وتثقيفي؛ فقد خشيت إن أنا ذكرته أن أُتَّهَمَ بنشر الشيوعية.
وما زلت أذكر مع الغصة أن شيخ الأزهر — أيام حكم إسماعيل صدقي في ١٩٣٠ — طلب من وزارة المعارف ألا تشترك في «المجلة الجديدة» التي كنت أصدرها وقتئذٍ وأناهض بها هذا الطاغية الذي ألغى الدستور. وكانت حجة الأزهر أن هذه المجلة تدعو إلى الكفر. ووجد إسماعيل صدقي في هذه التهمة تبريرًا لتعطيلها وتخلُّصًا من نقدي له. وفعل مثل ذلك مع اثنتي عشرة مجلة أخرى كنت أصدرها.
وإذا تركنا هذا النقص في حرية الفكر باعتباره أحد الأسباب لتعطيل التأليف الحر في مصر فإنه يبقى علينا أن نقول إن هناك نقصًا آخر يساعد على هذا التعطيل هو تقصير دور النشر في القاهرة وبيروت وغيرهما عن خدمة المؤلفين بترويج مؤلفاتهم بالطريق التجارية المألوفة في بيع أية سلعة أخرى. فإن الكتاب في السوق سلعة لا تختلف من غيرها وتحتاج إلى الأساليب التي تروج بها السلع الأخرى في نظامنا التجاري الحاضر. كما أن إخراج الكتاب بالطبع والتغليف لا يزال دون ما يستحق من العناية.
ولهذا لا يزال المؤلفون يستعينون بالصحافة على التأليف. ولا أكاد أعرف مؤلفًا عربيًّا يجد كفاية عيشه من التأليف وحده؛ إذ هو في أغلب الحالات يستعين بعملٍ آخر. وأقرب الأعمال إلى التأليف هو الصحافة.
ولكن الصحافة للمؤلف تنفع وتضر.
فهي تنفع لأنها تُلْصِقُ المؤلف بالجمهور وتبرز في وعيه أحداث العالم وتطوراته وتَحْمِلُهُ على أن يكون شعبيًّا في أغلب الحالات. ولكنها تضر من حيث تعويده السرعة بل العجلة في التأليف والرضا بالنتيجة الوقتية دون التمهُّل والإتقان.
وظني أنه يمكن المؤلفين أن يرصدوا حياتهم أو معظمها للتأليف إذا وجدوا الخدمة المتقنة من الناشرين في الارتقاء بالطبع والإخراج مع النشاط في التوزيع.
•••
وأخيرًا أحب أن أنبه إلى أن التأليف ليس صناعة أو حرفة وإنما هو حياة؛ ذلك أن موظف الحكومة أو المتجر أو المصنع أو صاحب الدخل من العقار أو الأرض أو الشركة، كل هؤلاء يعملون — إذا عملوا — انتظارًا للأجر أو الربح. وليس لعملهم أية علاقة بحياتهم، عملهم ينفصل من حياتهم إذ هو وسيلة للحياة وليس الحياة نفسها.
ولكن المؤلف يحيَا في مؤلفاته كما أن مؤلفاته تحيا فيه. فهو مشتغل الفكر دائب التأمل يمارس الحياة وهو يلحظ منها موضوعاته التأليفية. بل إن هذه الموضوعات تغمره وتتدخل في علاقاته العائلية والاجتماعية والاقتصادية.
وحياة التأليف هنا تشبه حياة الفلاحة التي تغمر الفلاح في كل يوم من أيام حياته، بل في كل ساعة؛ فهو لا ينتظر منها الأجر فقط إذ هو يحياها في نخاع عظامه. أي إنه لا يجعل من الفلاحة وسيلة للعيش فقط وإنما هو يحيا حياة الفلاحة والزراعة، حياة الريف التي يجعل منها هدفًا أكثر ممَّا يجعل منها وسيلة.