القاهرة فيما بين ١٩٠٣ و١٩٠٧
في عام ١٩٠٣ اجتزنا امتحان الشهادة الابتدائية، وكنا في القُطر كله لا نزيد على ثلاثمائة أو أربعمائة تلميذ. وعُقد الامتحان في القاهرة. ولم يكن بالقطر كله سوى ثلاث مدارس ثانوية كانت في نظامها ثكنات يتسلَّط عليها الإنجليز بالأوامر العسكرية والعقوبات العسكرية. والتحقت بالمدرسة التوفيقية ثم بالمدرسة الخديوية، وكان شمال المدرسة التوفيقية وشرقها وغربها أرضًا زراعية لا يُباع الفدان فيها بأكثر من مائتي جنيه وقد ارتفع سعر الفدان الآن ١٩٤٧ في هذه الأرض بالذات إلى نحو عشرين ألف جنيه. ولم يكن للمالكين أي فضل في هذا الثراء ولم يتعبوا لإيجاده؛ إذ إن الفضل لسكان القاهرة وتقدُّم المدنية.
وكان الإنجليز يحاربون شيئين في الأمة لا ثالث لهما. وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين، وهما التعليم والصناعة، ونجحوا في ذلك نجاحًا عظيمًا؛ فلم يسمحوا طوال إشرافهم على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات في أي مدينة من مدن القُطر. وكانوا يعلموننا أن بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة، كأن القَدَر قد قضى علينا بالفقر الأبدي. وكانوا يصرون على المحافظة على «تقاليدنا». فكانت المدرسة السنية الإبتدائية في القاهرة — وكانت ناظرتها إنجليزية — تصر على اتخاذ البرقع للتلميذات وهن في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر، وكان معلم اللغة العربية يُفصَل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكتة. وتقدمت الآنسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في سنة ١٩٠٧ من بيتها، فرفض دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان. ولكنها استمرت على الكفاح وأحدثت ضجة في الجرائد، وتقدمت في السنة التالية فقُبلت ونجحت. ولكن الإنجليز تنبهوا، فلم تَفُزْ فتاة مصرية بالشهادة الثانوية منذ ١٩٠٨ إلى ١٩٢٩ حين تقدمت الفتيات اللاتي أنشأت لهن وزارة المعارف مدرسة ثانوية في ١٩٢٥ أي بعد إعلان الاستقلال بسنتين.
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين ١٩٠٣ و١٩٠٧ سلسلة من التعذيب. فكان أحدنا يُعاقَب طَوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الإسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحًا أي في الظلام مدة الشتاء، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو أكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف، أو يقف فقعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا أكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحًا، فيزداد عقوبة والزيادة تتراكم. وهذا إلى عقوبات أخرى مهينة مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه.
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان، وكان يتأنَّق في تعذيبنا. وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية. وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكَّة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم. ولكن شارمان أصر على أن يلبسوا ملابسهم التي تَصِمُهُم بالفقر؛ فلبسوها وكانوا ينزوون منَّا في خجل.
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقًا في أواخر الحرب الكبرى الأولى، عَمَّ الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه. وقد يستنكر القارئ هذه العاطفة منَّا. ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذابًا لا يُطاق. وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا. وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري، حتى لقد كُنَّا أحيانًا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي.
وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعًا واحدًّا فيها هنئت به. ولذلك تخلَّفت في الدراسة. وكان من أسباب هذا التخلُّف أيضًا أني مرضت بعيني واحتجت إلى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقيًا. كما أني أعزو إلى عذاب المدرسة هذه العربدة الجنسية الذاتية التي انغمست فيها للترفيه عن نفسي. وإزالة الكمد الذي كانت تحدثه هذه الحياة المدرسية المرهقة.
ولكن القاهرة في تلك السنين ١٩٠٣–١٩٠٧ كانت حافلة ببشائر العصر الجديد. فقد رأيت فيها الأتومبيل لأول مرة. ولكن الحياة القديمة كانت لا تزال راسخة. فكان السَّقَّاء يحضر الماء في قربته لمنزلنا. وكنا أحيانًا نركب الحمير من مكان إلى آخر لأن الترام كان يسير في شوارع قليلة. ولم يكن شيء من المنازل قد بُني على الضفة الغربية من النيل، كما أن هليوبوليس كانت لا تزال صحراء، بل إن شمال المدرسة التوفيقية في ١٩٠٣ كان — كما سبق أن ذكرت — خاليًا من المباني إلا القليل المتفرق.
وكنا نتحدث في تلك السنين عن شيئين يحركان المجتمع المصري، هما الاحتلال الإنجليزي وحركة قاسم أمين لتحرير المرأة. ولم أكن أهتم بالحركة الثانية كثيرًا. وكان الحزب الوطني أعظم قوة تكافح الاحتلال في ذلك الوقت. وكان قد ألفه في ١٨٩٧ ستة من الشبان المتنبهين هم: أحمد لطفي السيد «باشا» ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد عثمان (والد أمين عثمان باشا) ولبيب محرم — شقيق عثمان محرم باشا — وسعيد الشيمي. وكان «اللواء» — جريدة الحزب الوطني — يستهوي النفوس، وكُنَّا نسارع إلى شرائه عقب الانصراف من المدرسة ولكن الشبان الأقباط كانوا يجدون بعض الاستياء من الدعوة الدينية في الحزب الوطني وكذلك الدعوة العثمانية — أي التركية — وكان منطقهم يقول: «إذا كنتم تدعون إلى جامعة إسلامية وإلى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع أن الأتراك ليسوا فقط أجانب، بل إن تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر؛ فإن لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني.»
وقد انتهى موقفهم هذا إلى أن حمل مصطفى كامل عليهم وأثار تعصبًا دينيًّا ساءت عواقبه واستغلَّه الإنجليز أيام كرومر وجورست. ولم يُصلح هذا الفساد القومي غير أحمد لطفي السيد حين أسس «الجريدة» ودعا دعوة مصرية بحتة ليس فيها شيء من الدعاية للأتراك أو للعرب أو للإسلام. ولكن حتى مصطفى كامل قبيل وفاته بخمسة أشهر أو ستة أعلن في مقالات أن مصر يجب أن تكون للمصريين فقط، وصار لهذا يعارض الخديوي عباس في ممالأته للدولة العثمانية. وبلغ من معارضته له أن جريدة «المؤيد» وصفته بأنه قد أصبح يشبه عرابي.
والواقع أن المجتمع المصري في بداية هذا القرن كان مجتمعًا تركيًّا أو كالتركي؛ فكان الاصطياف في إستنبول مألوفًا. وكانت الحكومة المصرية تؤدي «الجزية» السنوية لتركيا. وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو خلاسية. وقلما كنا نجد «مصريًّا» ثريًّا. ولذلك حين نتأمل العائلات المصرية الثرية في ١٩٤٧ نجد أنها كلها حديثة العهد بالثراء. وهذه الحال تفسر لنا سيكلوجية الحركة العرابية. فإن عرابي كان يتأمل وطنه في عام ١٨٨٠ فلا يجد فيه مصريًّا صميمًا يملك شيئًا يؤبَه له. وأن جميع الأثرياء كانوا من الأتراك أو الألبان الذين كان محمد علي قد اختصهم بالامتيازات وأقطعهم أرض المالكين المصريين السابقين الذين استولَوْا على عقود امتلاكهم وأحرقها. ولذلك كنا لا نعرف رئيسًا للوزارة إلا وهو تركي الأصل، بل أحيانًا كانت تؤلف الوزارة وليس بين أعضائها مصري صميم واحد أيام إسماعيل وتوفيق. وكنا نرى هؤلاء الأرستقراطيين على سخفهم ونذالتهم وهم في عرباتهم يتنزهون على جسر قصر النيل. وكان يتقدمهم قواص أو قواصان وكل منهما في سترة تهريجية يحمل عصا طويلة في وضع عمودي ويعدو أمام العربة وهو يصيح بأعلى صوته: هيه. هيه.
وكانت الجرائد المقروءة في تلك السنوات ثلاثًا: «اللواء» الذي كان يحرك الأمة إلى المطالبة بالجلاء ويقرؤه جميع الشبان، و«المؤيد» الذي كان يؤيد الخديوي ويقرؤه أبناء البيوتات التركية والمحافظون من المصريين، و«المقطم» الذي كان يؤيد الإنجليز ويقرؤه الموظفون. أما «الأهرام» فكانت في ركود يشبه الموت لا يقرؤها غير عدد صغير من التجار.
وكان الخديوي عباس محور الحركة الوطنية في أوائل حكمه. وهو الذي أوعز بإيجاد الحزب الوطني، وكان يعاونه بالمال. وممَّا زاد الخديوي اتجاهًا نحو الحركة الوطنية تلك الإهانات الشخصية التي كان يجدها من كرومر. فقد حصل هذا الرجل على تربيته السياسية في الهند، وكان يعامل المصريين كما كان يعامل الإنجليز الهنود قبل خمسين أو ستين سنة، وكانت له في ذلك أساليب طفلية. وقد رأيته ذات مرة وهو ينزل من عربته، فلم ينزل مستويًا على قدميه كما يفعل البشر بل تقدم له خادم مصري وحمله كأنه طفل من العربة في عناية ورِقَّة حتى حط جثته على الأرض … وقد فعل هذا في ظني كي يثبت أنه سيد مطاع أو ملك غير رسمي. وتشاجر مرة مع الخديوي لأن الحوذي الذي كان يسوق عربة الخديوي إنجليزي. وحاول مرة — عقب انتقاد الخديوي للجيش المصري الذي كان كتشنر قائدًا عامًّا له — أن يعين وزيرًا إنجليزيًّا. وكان كرومر هذا من عتاة الاستعماريين، وهو الذي أحال القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وقتل الصناعة المصرية قتلًا تامًّا؛ حتى إننا حوالي ١٨٩٨ أنشأنا مصنعًا في القاهرة لغزل القطن ونسجه، وجئنا له بمدير إنجليزي، فأصر كرومر على فرض الضرائب الباهظة عليه حتى أغلقه. ثم — وهنا عبرة — عين مديره الإنجليزي في الحكومة المصرية.
وبفضل الحزب الوطني — بل بفضل الشاب مصطفى كامل — تزايدت الحركة الوطنية وأخذت موجاتها تعلو وتزبد. ورأى كرومر عجزه عن مكافحتها. فحمله الغيظ على العنف الأحمق بل على التوحُّش الإجرامي، فانتهز حوالي سنة ١٩٠٧ فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي إحدى القرى في المنوفية، وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربُّونه، فاشتبك الريفيون مع الإنجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الإنجليز أو بالأحرى بوفاتهم. وعندئذٍ عُيِّنَتْ محكمة «مخصوصة» وكان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا، ومن أعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا، وكان المحامي عن الإنجليز المرحوم الهلباوي الذي صار بعد ذلك عضوًا في حزب الأحرار الدستوريين. وشرع في محاكمة الدنشوائيين وعم الأمة توتر نفسي وغلت العواطف. وكتب «المقطم» بأن المشنقة أُرسلت إلى دنشواي قبل أن تنتهي المحاكمة، فخجلت الحكومة وكذَّبت الخبر. ولكن المرجح أن المقطم كان صادقًا؛ لأنه كان يتصل اتصالًا وثيقًا بالإنجليز في ذلك الوقت. وصدر حكم المحكمة بجَلد البعض وبشنق الآخرين. وأُنفذت الأحكام في القرية ذاتها. ورأى الأطفال آباءهم يُشنقون أو يُجلدون، ورأت الزوجات والأمهات والشقيقات والآباء أعِزَّاءهم وهم يتدلَّوْن من الحبال أو يصرخون من الجَلد.
وأذكر أني كنت في الإسكندرية في ذلك الوقت أتنزه مع أخي، وكنا نأكل في المطاعم، فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان، فلم أستطع الأكل جملة أيام، ودارت في رأسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين على بلادنا وأهلنا. وخجل الإنجليز أنفسهم من هذا الحادث الإجرامي، فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر. وكان يرأس الوزارة الإنجليزية في ذلك الوقت رجل من الحريين يدعى هنري كامبل بانرمان. ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برَّر جريمة كرومر بأن وقف في البرلمان يقول: «إن التعصب الإسلامي قد تفشَّى في أفريقيا الشمالية كلها بما في ذلك مصر.» وكتب «المقطم» مقالًا عنوانه «التعصب يمتد ويشتد.» أي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب أن يُكبحوا بمشانق دنشواي. وما زالت كلمات هذه المقال ترن في ذهني، ولا تزال «دنشواي» عندي من الذكريات النفسية الأليمة.
وقد وجدت تعزية في شيء واحد هو أن الوجدان الوطني أصبح عامًّا وتنبَّهت الأمة كأنها استيقظت من نوم. فكنت أجد بعض الشبان يشترون «المقطم» ويمزقونه حتى لا يقرَأه أحد. وحتى الأقباط الذين كانوا متوجِّسين من حركات الحزب الوطني الدينية، أصبحوا وطنيين يكرهون الإنجليز. وكان هذا الانفعال الجديد ملحوظًا في أعضاء عائلتنا. ولكن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الإسلامية من ناحية وبالرغبة في السيادة العثمانية من ناحية أخرى عرقل الاندماج التام للأقباط في الحركة الوطنية. فكانوا يُشيحون عنها ويذكرون حكم الأتراك ومظالمهم أيام إسماعيل وتوفيق.
وشعرت في ذلك الوقت بما زلت أشعر به الآن، وهو أن الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا؛ لأن الرجعية بالتزام التقاليد، وكراهة الروح العصري في السياسة والاجتماع والعقيدة، كل هذا يتألف منه عدو آخر لعرقلة أمتنا عن التقدم. وكانت نظرية التطور التي تعلمتُها من «المقتطف» قد جعلتني ألمح بصيصًا من الرؤيا الجديدة، وأن أُومِن بأن العلم — الذي حقق السيادة وإن لم يحقق السعادة لأوروبا — جدير بأن يرفعنا من حضيض الفقر والجهل الذي وضعنا عليه الإنجليز، وأن يحقق لنا استقلالنا؛ ولذلك وجدتني من ذلك الوقت أدعو إلى أن نعيش العيشة العصرية، وأن أناصب الرجعيين المصريين العداء الذي أناصبه للإنجليز.
وكان علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» معدودًا بين كبراء الكتاب الصحفيين يُحسِن المناقشة ويلتزم المنطق والتعقُّل. وكان «المؤيد» قليل الانتشار يسبقه «اللواء» ويطغى عليه بمقالات مصطفى كامل النارية. ولكن «المؤيد» كان يثب في الأزمات؛ ففي حادث دنشواي مثلًا أقبل عليه القراء — وهم في كمدٍ وحزن وحيرة — يقرءونه ويتعقَّلون ما يكتبه عن السياسة الإنجليزية المصرية وينظرون للمستقبل من خلال بصيرته.
ولكن علاقة الشيخ علي يوسف بالخديوي جعلته يتجه صوب إستامبول أو كما كانوا يسمونها «الأستانة العلية»؛ حتى إنه عندما أسس «مجلس المبعوثان» في تركيا دعا المصريين إلى أن يرسلوا نوابًا عنهم فيه؛ إذ إن مصر جزء من الدولة العثمانية …
أما مصطفى كامل فكان يغزو قلوب الشبان. وكان إذا أعلن عن خطبة يلقيها تَجَمَّعَ الألوف لسماعه، وكان في شبابه وحماسته إغراء للشبان. وقد مات بالدرن ولما يبلغ الثانية والثلاثين.
وفي تلك السنين شبَّت الحرب بين روسيا واليابان، فاتجه الرأي العام نحو اليابانيين باعتبار أنهم أمة شرقية مثلنا، فكنا نفرح كلما قرأنا عن هزيمة روسية؛ لأن روسيا كانت تمثل في أذهان الجمهور أوروبا التي تنتمي إليها بريطانيا، كما أن يابان كانت تمثل يقظة الشرق. حتى إن مصطفى كامل ألَّف عنها كتابًا باسم «الشمس المشرقة».
وأحدث خليل صادق نهضة أدبية في تلك السنين بسلسلةٍ من القصص كانت تخرج كل شهر باسم «مسامرات الشعب» وهي قصص مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية اشترك في الترجمة له فيها كُتَّابُنَا المعروفون مثل حافظ عوض وعبد القادر حمزة «باشا» ومحمود أبو الفتح وغيرهم. ولكن الأدب لم «يتمصر» في ذلك الوقت؛ لأن كفاحنا للإمبيريالية البريطانية كان يستغرق كل مجهودنا، فكان الكاتب الذي يجِد في نفسه القدرة على التعبير الفني يلتفت إلى السياسة قبل الأدب، ويجاهد في إيقاظ الوجدان المصري الوطني. وما نقصنا نحن من هذه الوجهة سده إخواننا السوريون واللبنانيون عنَّا: وهم بالطبع كانوا أقرب إلى الثقافة العصرية الأوروبية منا؛ لأنهم تعلَّموا في الجامعة الكاثوليكية والجامعة الأمريكية في بيروت، وهم أيضًا — لأن عددًا كبيرًا منهم كانوا مسيحيين — لم يجدوا العائق السيكلوجي الذي كُنَّا نجده نحن في مصر إزاء الثقافة الأوروبية العصرية.
وكنا فيما بين ١٩٠٣ و١٩٠٨ في تبلبل سياسي وفي تبلبل آخر أدبي واجتماعي، فقد كانت تسود وجداننا السياسي نزعتان: الأولى والكبرى هي الاتجاه نحو الدولة العثمانية، والدفاع عن استقلالنا المصري؛ بدعوى أننا جزء من هذه الدولة العثمانية. وواضح أن موقفنا هنا كان حائرًا مقلقلًا. ثم كانت النزعة الأخرى وقد بزغت ضعيفة تتلجلج بل لا تكاد تنطق، وهي الدعوة إلى الاستقلال المصري التام والتخلُّص من بريطانيا وتركيا معًا.
أما التبلبل الأدبي فلم نكد نحس به في تلك السنوات. وكان جميع الكُتَّابِ، باستثناء اللبنانيين، يُعْنَوْنَ بالأدب دراسة القدماء من العرب لا أكثر. ولكن كان هناك تبلبل اجتماعي وضع خميرته محمد عبده وقاسم أمين، ونمت وزكَت هذه الخميرة في الوسط الإسلامي، وأصبح لها دعاة وخصوم.
وكان الخديوي عباس محبوبًا إلى سنة ١٩٠٧ يجد فيه الشباب رمزًا للكفاح. وكانت شراسة كرومر — الذي كان يرغب في معاملته كما لو كان أحد مهراجات الهند — تُنَبِّهُ فيه هذا الكفاح. وتعلق به الجمهور وشاعت عنه مواقف وطنية. ومما سمعناه في تلك السنين أن ويصا واصف ومرقس حنا وعددًا آخر — معظمهم من المحامين — قصدوا إلى سراي عابدين وانتظروا إلى أن هَمَّ الخديوي بركوب عربته، فأصروا على أن يحلوا خيولها ويجرُّوها هم. ولكن الخديوي اتخذ موقفًا معارضًا لاتجاهات الشيخ محمد عبده نحو الأزهر؛ فكان — أي الخديوي — يصر على أن يبقى الأزهر كما كان منذ مئات السنين محافظًا لا تتسرب إليه تيارات الثقافة العصرية، وكان محمد عبده يصر على أن يتطور الأزهر إلى جامعة عصرية. واتجه المستنيرون من الأمة وجهة محمد عبده فازورُّوا عن الخديوي.
ولكن أعظم ما جعل الجمهور المصري يتغير على الخديوي هو ما كان يُسمَّى بسياسة الوفاق؛ فإن الإنجليز — بعد أن رأوا سياسة كرومر الشرسة مع الخديوي قد أحالته إلى وطني يدس لهم ويؤيد الحركات الوطنية ضدهم — عينوا السر الدون جورست وكيلًا لهم بالقاهرة؛ فتحبب هذا إلى الخديوي وزاد في سلطته. وارتاح الخديوي إلى هذا التغيير ارتياحًا عظيمًا جدًّا، وشرع يعارض الحركات الوطنية الدستورية، ويسير مع الإنجليز في «سياسة وفاق» كان ضررها بالأمة فادحًا.
وكانت سياسة الوفاق هذه سببًا في انقلاب مصطفى كامل؛ إذ إنه أبى أن يسير مع الخديوي، وأصر على الكفاح. ولم تمضِ سنوات حتى أصيب جورست بالسرطان ومات به في إنجلترا. وأعرب الخديوي عن حبه له، وتقديره لسياسة الوفاق بأن زاره خفية وهو على فراش الموت.
ثم جاء كتشنر، فأعاد سياسة كرومر، ولكن في فجاجة العسكري وغشومته. وعاد الخديوي إلى موقف المعارضة والمعاكسة للإنجليز.
ولو سُئلت عن الفرق في القاهرة بين ١٩٠٥ و١٩٤٥ لقلت إن نبض القاهرة قبل أربعين سنة كان أبطأ، كما أن الإيقاع كان شرقيًّا في كل شيء تقريبًا. فكان الناس يمشون أكثر ممَّا يركبون. وكانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تستفِض بعد إلى صحراء هليوبوليس أو إلى الضفة الغربية من النيل. وكُنَّا في الملابس نعبر طور الانتقال. فإني أذكر أني لبست قفطانًا بحزام وأنا تلميذ بمدرسة الأقباط في الزقازيق، وكنت في العاشرة من العمر. ثم لبست أيضًا وأنا في الثانية عشرة بذلة رمادية من طراز الريدنجوت. أما نساؤنا وآنساتنا فبقين كلهن إلى سنة ١٩١٩ يتخذن البراقع والحبرات.
وكنا نقضي ليالي السرور عند الشيخ سلامة حجازي. والحق أن هذا الرجل كان ممثلًا بارعًا، ولكنه لم يكن يُمَثِّلُ قدر ما يُغَنِّي؛ فقد وجد إقبالًا عظيمًا على أغانيه فكان التمثيل عنده ملحقًا بالغناء. وظني أنه كان يفعل هذا مضطرًّا؛ لأن كفاءته المسرحية كانت عظيمة جدًّا. ولا بد أنه كان يتألم لأن الجمهور لا يقدرها بل يؤثر عليها الغناء.
وكانت هناك إلى جنب مسرح الشيخ سلامة ملاهٍ أخرى كانت غاية في الفُحش، حيث كانت الراقصات يقمن بحركات وإيماءات هي في صميمها محاكاة غير فنية للتعارُف الجنسي، محاكاة فاحشة رخيصة دنسة متهتكة. وقد اضْطُرِرْنَا بعد سنة ١٩٢٢ إلى إلغاء هذا الرقص. ولكن بعض الأغاني القديمة الفاحشة لا تزال تُغنَّى إلى أيامنا هذه.
وشرعنا — بعد ذلك بسنوات — نحس الوجدان المسرحي، وندرك معنى الدرامة ومغزاها، مما ترجمه فرح أنطون وممَّا مثله جورج أبيض من الدرامات عن اللغة الفرنسية.