الآفاق الأوروبية تتفتح لي
لما فُوجئ العالم في أوائل أغسطس من هذا العام ١٩٤٥ بالقنبلة الذرية وجد كثير من شباننا «المتعلمين» أنهم محتاجون إلى أن يراجعوا حياتهم وأن يفتشوا أذهانهم كي يعرفوا موقفهم على هذا الكوكب. وقد اضطُرَّ كثير منهم إلى أن يغيروا الأوزان والقيم الثقافية التي كانوا يرتضونها من قبلُ وأن يستبدلوا بها قيمًا وأوزانًا أخرى. وقد أحدثت هذه القنبلة صدمةً في أذهان هؤلاء المتعلمين أؤكد أنها لا تقل — في قيمتها الروحية — عن الصدمة المادية التي أحدثتها في هيروشيما وناجازاكي في اليابان.
أعرف من هؤلاء الشُّبَّان اثنين كلاهما يستمتع بمركزٍ مالي حسن كما أنه على اطِّلاع حسن بالتيارات الثقافية العصرية. وقد كان إلى أغسطس الماضي قانعًا بمعارفه وتطوراته الذهنية. ولكن هذه القنبلة كشفت له عن نفسه فجاءة. فقال لي واحد منهما: «أشتهي أن أعيش طويلًا كي أتعلم وأعرف كثيرًا من تطورات العالم بعد ظهور هذه القنبلة.»
وقال الثاني: «إني أحس كأني أحتاج إلى تربية جديدة كاملة أولد بها من جديد أتعلم معارف جديدة وأقف على كُنه هذه القنبلة وعواقبها الحربية والمدنية.»
وقد ذكرت مثلي هذين الشابين كي أقول إني في عام ١٩٠٨ أحسست مثل هذا «الوجدان» وضاقت نفسي إلى حَدِّ الانفجار؛ فقد وجدت من الأدب الذي نقله إلى العربية فرح أنطون ومن نظرية التطور التي دأب في شرحها يعقوب صروف سنوات في «المقتطف» أني إزاء رؤية أنا أعمى إلا عن بصيص منها، وأن هناك آفاقًا مُغلقة يجب أن يكون همي واهتمامي في حياتي أن أفتحها، وذلك بعد أن استقر عندي أن جهلي عميق، وأني في مصر أعيش في حياة ذهنية صحراوية تقفر من التفكير الخصب. لذلك قررت وأنا في التاسعة عشرة أن أترك مصر وأرحل إلى أوروبا كي أبحث عن الحياة وأُرَبِّي نفسي وأولد من جديد. وكنت في ذلك الموقف الذي وجدتُه في أغسطس من ١٩٤٥ من ذينك الشابين اللذين ذكرتهما، وأحسست كأني أريد أن أنسى — عن ظهر قلب — كل ما سبق أن تعلمت، وأن أمسح لوحة ذهني كي أنقُشَ فيها المعارف التي أختارها بنفسي.
وكان من حظي الحسن — كما سبق أن ذكرتُ — أن الناحية المالية بفضل ما ورثت من عقار صغير مُغِلٍّ، لم تحوجني قط إلى الاهتمام بالكسب ولم يكن الإسراف أو الاستهتار في مزاجي؛ ولذلك لم أُبَالِ في دراستي أن أعين هدفًا بنية الارتزاق والكسب، بل كان كل قصدي ونشاطي أن أستنير وأن أقشع الظلام المخيِّم على عقلي. وشرعت آخذ تربيتي في يدي وأعين برنامجي أو برامجي، لا للدرس فقط بل للحياة أيضًا. بل الحق أن الدرس كان عندي هو الحياة؛ لأني شعرت أني أعيش لأدرس وأني أدرس لأعيش. ويبدو لي أني أحسنت الاختيار في هذا البرنامج؛ لأني أَجِدُ في ١٩٤٥ أن همومي الثقافية لا تزال هي نفسها تلك الهموم التي كانت تشغل قلبي وذهني في ١٩٠٨ و١٩٠٩. وإذا كان هناك تغيير فهو في التوسع والتفرع فقط.
شباب وفراغ وباريس، وأنا في التاسعة عشرة، ولكن لا! فإن باريس عندي لم تكن مدينة الأنوار التي كان يحج إليها المصطافون ويجدون فيها ما يشتهون؛ لأن هذا الذي يشتهونه قد وُضِعَ لهم وحدهم؛ إذ إن سواد الباريسيين يجهله. وباريس من حيث الانغماس الجنسي تُعَدُّ من أنسك العواصم الأوروبية. ثم كانت شهواتي الملتهبة في تلك السنين ذهنية أكثر مما كانت جنسية. وكانت الدهشة عندي على أعظم ما تكون حين وجدتني في مجتمع يخالف المجتمع الذي نشأت فيه في مصر، ولم تكن دهشة منبهة فقط بل كانت صدمة موقظة.
كنت في مصر قبل ١٩٠٨ أعرف الحجاب وأرتضي شعائره ولا أجد غرابة أو عيبًا في التلميذات الصغيرات يدخلن المدرسة السنية الابتدائية وعلى وجوههن براقع بيض. وكنت أجد الفصل بين الجنسين شيئًا مألوفًا. والبيت في مصر خِدْرٌ كامل ونساؤنا مخدَّرات كاملات. ولا أكاد أذكر أني طوال عمري في مصر قبل سفري إلى فرنسا قد تحدثت إلى آنسة أو قعدت إلى سيدة أو فتحت عيني في وجه امرأة مصرية. فلما وجدت المجتمع الباريسي واختلطت به ورأيت فيه المرأة الفرنسي على حريتها وصراحتها وطلاقتها؛ شعرت أن أفقًا جديدًا يتفتح أمامي لم يستطع يعقوب صروف أو فرح أنطون أن يفتحه لي من قبلُ. فإنهما لم يمسا هذا الموضوع — أي حرية المرأة — لسببٍ واضح وهو أنهما مسيحيان. وكانا بالطبع يَخْشَيَانِ أن يُعاب عليهما النقد للعقائد أو التقاليد الإسلامية. ولم أكن قد عرفت قاسم أمين أو بالأحرى لم أتحمَّس له. ولا أدري العلة لغيابه عن وجداني في ذلك الوقت؛ لذلك كنت حين أُضْطَرُّ إلى محادثة إحدى الباريسيات أحس ارتباكًا يغمر كياني فلا أجد اللعثمة في لساني فقط بل التخاذل أيضًا في سائر أعضائي. وقد احتجت إلى سنواتٍ كثيرة حتى أتغلب على هذا الشعور المتعس الذي غرسته في نفسي تسع عشرة سنة من الفصل بين الجنسين في مصر.
وواضح أن هذا الشلل النفسي منع عاطفة الحب أو كظَمها في الوقت الذي كان يجب أن تنفرج فيه أو تتسامى؛ ذلك أن الحب فنًّا كنا نجهله نحن في مصر في تلك السنين. وكانت أية محاولة مني نحو التعارُف الحميم بآنسة تنتهي بخيبة تكوي القلب والعقل معًا. وفي مصر في وقتنا هذا من ينظر إلى الاختلاط بين الجنسين بعين المَقت أو النفور، ولكني حين أقارن حالي سنة ١٩٠٩ وما كنت عليه من تعس جنسي ووكس عاطفي بحال شبابنا الآن في سرورهم ولهوهم أراني مضطرًّا إلى الاعتراف بأنهم سعداء يغتبطون في ظروف كنت أنا فيها شقيًّا يرثى لي.
وحبست نفسي في مدرسة ابتدائية في قرية قريبة من باريس تُدعى موليري من قرى القرون الوسطى. واندغمت في عائلة ناظر المدرسة، وشرعت أتعلم اللغة الفرنسية في نشاطٍ ومثابرة حتى نُبِزْتُ بين المعلمين بعبارة «كيه فوديرسا» أي «ما المعنى؟» وذلك لإلحاحي على السؤال. ولم تمضِ أشهر حتى وجدتُني أقرأ الجريدة اليومية بل الكتاب في فهم وتعقُّل بمساعدة المعلم. وكان انتفاعي بجرائد فرنسا اليومية عظيمًا؛ لأنها وجهتني في السياسة وجهة عالمية كانت جرائدنا في مصر في ذلك الوقت تعجز عنها. وانقطعت صلتي بمصر باستثناء «الجريدة» التي كان يُصدرها لطفي السيد، وكان يلقن بها تعاليمه الجديدة: مصر للمصريين لا للأتراك ولا للإنجليز. حرية المرأة. الحكومة الدستورية بإيجاد برلمان. وكان يكتب في هذه الشئون وغيرها بأسلوبٍ اقتصادي بعيد عن الزخارف التي كنا نتعلمها في المدارس الثانوية ونحسب أنها قمة البلاغة وتاج الفصاحة. وقد عرفت أن مجلة «المقتطف» قد جمعت هذا العام ١٩٤٥ عددًا كبيرًا من مقالاته التي كتبها بالجريدة فيما بين ١٩٠٧ و١٩١٤. والقارئ يستطيع أن يجد في هذه المقالات ذلك التوجيه الوطني الذي وجدتُه أنا في تلك السنين منها.
وكانت المرأة الفرنسية — كما قد عرف القارئ مما ذكرت — أعظم ما حرك وجداني الاجتماعي، بل كذلك حرية المرأة في أوروبا الغربية؛ فإن هذه الحرية كانت لهبًا يلسع ويجرحني في كرامتي الوطنية كلما ذكرت حال المرأة المصرية. وإلى هذه السنوات وإلى هذا الوجدان تعود ثورتي بعد ذلك على التقاليد المصرية التي لم أعد أُطيق صبرًا عليها. وكثيرًا ما فقدت صداقات كنت أحرص عليها لموقفي من هذه التقاليد، بل هناك من أصدقائي من يقول إني فقدت مكاسب.
وبعد ذلك قرأت هنريك إبسن ودعوته إلى شخصية مستقلة للمرأة، ثم عرفت المنظمات والجمعيات النسوية التي كانت في لندن تطالب بحقوق الانتخاب والنيابة. وامتلأ قلبي وذهني نورًا وتفاؤلًا بمستقبل البشر.
وقد نشأت في مصر في وسط ريفي؛ ولذلك التفتُّ إلى الريف في فرنسا وتعلمت منه. فإننا في مصر لا نرحل إلى الريف إلا مُضْطَرِّينَ كارهين؛ لأننا نتوقع الغبار على السكك والإهمال الصحي في المساكن. وريفنا فضلًا عن هذا صحراء الروح لما يخيم عليه من جهل وفاقة وقذر للجسم كأنه الدنس للنفس. ولكن ريف فرنسا جنة العين. وكنت أجد السعادة العظمى في فسحة أقضيها ماشيًا على الطرق الزراعية التي يكسوها البلاط — وقتئذٍ — بين حقول تموج بحركة الحياة النامية في البقول أو تزدان بالكروم وأشجار الفاكهة الزاكية. وما زلت أذكر ذات مرة أني رأيت على مسافة في جولاتي هرمًا صغيرًا أحمر أثار استطلاعي فقصدت إليه، فلما بلغته وجدته شجرة قد كساها التفاح الأحمر كاد يُخفي أوراقها …
والقرية الفرنسية — مهما صغرت — تحتوي كثيرًا من المرافق الاجتماعية حتى لكأنها مدينة صغيرة؛ فإن فيها المطعم والحانة والفندق والسوق الأسبوعية. ولذلك كثيرًا ما يقضي الباريسي أسبوعًا أو شهرًا في الريف كما يقضي أحدنا مثل هذه المدة في الإسكندرية أو رأس البر.
وفي الحرب الكبرى الثانية أشار الماريشال بيتان شبهاتٍ وشكوكًا بشأن المجتمع الفرنسي أوهمت كثيرًا من القراء المصريين أن هذا المجتمع مريض قد تفككت فيه العائلة وتزعزع الإيمان. والواقع أن كل هذا وهم؛ فإنه ليس في أوروبا عائلة متماسكة كالعائلة الفرنسية. ولا يزال نظام هذه العائلة بطريركيًّا لا تخرج فيه السلطة عن الأب. وليس في كل أوروبا الغربية أمة تحترم الكنيسة كما يحترمها الفرنسيون. وحسبُ القارئ أن يعرف أن جميع الكنائس في فرنسا — وبعضها ينفرد في ريفٍ ناء — تُترك مفتوحة ليلًا ونهارًا، ومع ذلك لا يُسرق ما فيها من الأثاث الغالي الذي يُقَدَّرُ أحيانًا بمئات أو ألوف الجنيهات. وهذا على الرغم من حرية الفكر المستفيضة. لا بل على الرغم من الدعايات النشيطة ضد الدين والكنيسة. وما زلت أذكر منظرًا كان له أثر الصدمة الموجِعة لأول شهر كنت فيه في باريس في ١٩٠٨؛ فقد رأيت جنازة تسير في أحد الشوارع تتقدمها راية قد كُتب عليها «لا رب ولا سيد!»
ومثل هذا المنظر يُوهم أن الأمة الفرنسية قد استفاض فيها الكفر والإلحاد. ولكن وقفة واحدة خارج الكنيسة أو داخلها يوم الأحد كانت تُكَذِّبُ هذا الوهم؛ فإن كاهن القرية هو الرئيس الروحي الذي يخاطب السكان بلهجة الأمر تحيط به هيبة التقاليد. والواقع أنه ليس في أوروبا كلها كنيسة حية كالكنيسة الفرنسية.
والحانة — على الرغم من اسمها وشهرتها — هي في باريس والمدن والقرى مؤسسة اجتماعية للسَّمَرِ بين الرجال أو بين الرجال والنساء. وكثيرًا ما يجد فيها الزائر الطعام إلى جنب الشراب. ومع أن في فرنسا آلاف الحانات، ومع أن الأطفال يشربون الخمر، فإني لا أذكر أني رأيت طوال إقامتي في فرنسا في ١٩٠٨ و١٩٠٩ رجلًا سكران. ولعل مرجع ذلك أن الفرنسي يأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويعمل وله في كل ذلك مأرب فتى يحمله على أن يتأنَّق في معيشته. فهو يتجنب السُّكْر عن تأنُّق وفن كما يجِد في التمالك كرامة ولياقة. والمائدة الفرنسية — بأوانيها وزهورها — هي متعة فنية للعين كما هي لذة للذوق بمهارة طهاتها.
وبَدَهِيٌّ أن لتماسك العائلة الفرنسية نتيجة هي أن فرنسا أقل أقطار العالم كله طلاقًا. وأن البيت الفرنسي يشبه في كثير من الأحيان متحفًا يحوي كثيرًا من التحف القديمة والطُّرَفِ الغالية. والجيل الجديد يرِث عن الجيل السابق تقاليد في البيت هي الشعائر الاجتماعية التي يتعارف بها الأفراد كما يرِث الأبناء تراث الآباء من أثاث مادي أو ذكريات روحية.
وتعلمتُ اللغة الفرنسية في سرعة عجيبة. وقد هبطت وحدي بلا معونة على طريقة، وجدت بعد ذلك أن المربين التفتوا إليها، هي أن الجملة — دون الكلمة — هي التي تُحفظ وتُستذكر. وحين كنت أزور باريس كنت على الدوام أُعنَى بحضور إحدى الدرامات. وقد أتيح لي أن أستمتع برؤية سارة برنار وهي تمثل «العقاب الصغير» ولكنها كانت في كهولتها قد ذهبت عنها لمعة الشباب مع بقاء البراعة الفنية.
ودأبتُ في قراءة الجرائد الفرنسية اليومية، وكانت تُباع بأثمان التراب. وتعرفت إلى الأحزاب الفرنسية وشغفت بقراءة الأومانيتية التي كانت تعبر عن آراء الاشتراكيين. وكانت الاشتراكية رؤية جديدة حملتني على أن أذكر الطبقة الفقيرة في مصر وأجعلها موضع اهتمامي. وأكسبتني الجرائد الفرنسية العقلية السياسية الأوروبية، واستطعت أن أفهم كثيرًا في ضوء المذهب الاشتراكي. وكانت جرائدنا في مصر «محلية» قد أنهكها الكفاح للاستقلال وحال بينها وبين دراسة الشئون العالمية؛ ولذلك انتفعت كثيرًا بهذه النظرية الواسعة، وخاصة لأن إقامتي في فرنسا صادفت تلك السنوات التي سبقت الحرب الكوكبية الأولى. فكانت الخمائر تختمر لمن يتشمم الأخبار ويتنسم الطوالع.
ومع أن اللغة الفرنسية هي لغة الإفصاح والإيماض، لغة الأدب الحر الذي يمتاز بعبقرية خاصة في الدقة والوضوح، ومع أن باريس بؤرة الآداب الأوروبية بل شعلة الثقافة التي تعشو إلى ضوئها عيون الأوروبيين، ومع أن فرنسا لا تزال في وجداني فكرة أكثر ممَّا هي قطر، فإني — لاتجاهي العلمي — وجدتني في مستقبل أيامي أميل إلى قراءة الكتب الإنجليزية وأوثرها على الفرنسية؛ لأن الإنجليزية تعبر عن نزعة عملية تحقيقية كثيرًا ما نجدها بعيدة أو غائبة عن المزاج الذهني الفرنسي، ولذلك أعزو تربيتي أو بالأحرى معارفي الثقافية إلى الإنجليزية أكثر ممَّا أعزوها إلى الفرنسية.
وإذا سألني القارئ: هل وجدتَ في الإنجليزية أديبًا له مرانة الفن ودقة الحس وأناقة التفكير وجمال التعبير مثل أناطول فرانس؟ أو هل وجدت أديبًا في الإنجليزية له حكمة فولتير وثورة روسو وجنونهما المقدس في خدمة الحق والفن؟ فإني أجيب بلا، بل إني أعترف أن هناك آخرين غير أناطول فرانس وفولتير وروسو ممَّن أثمرتهم الثقافة الفرنسية ولا يوجد من يضارعهم من أدباء الإنجليز أو الأمريكيين. ولكن ميزة الكاتب الإنجليزي، وأَسْمَى كُتَّابِ الإنجليز عندي هو برناردشو، ميزته أنه يلصق بالحقائق، وله قدم ثابتة في الأرض حتى حين يرتفع رأسه فوق السحاب. ومع أني ما زلت إلى الآن أؤثر الجريدة الفرنسية في القاهرة على الجريدة الإنجليزية، ولا أترك نزعة أدبية فرنسية تفوتني؛ فإني حين أحتاج إلى دراسة، تطالبني بالهرس والطحن، أعمد إلى الكتب الإنجليزية.
وفضلُ فرنسا عليَّ أنها جعلتني أوروبي التفكير والنزعة. وقد تركت باريس في نفسي إحساسًا بأنها عاصمة العالم المتمدن. ولم يتركني هذا الإحساس إلى الآن، بل إني أرى من الحق أن نصف المصري أو الألماني أو الروسي أو الصيني الذي استشبع بالثقافة الفرنسية بأنه «فرنسي»، كما كان يوصف سكان البحر المتوسط من الرومان والمصريين والمشارقة بأنهم «هلِّينيون» إذا استشبعوا بالثقافة الإغريقية ونزعوا النزعة الأتينية. لأن إغريقيا لم تكن وطنًا جغرافيًّا للإغريق فقط بل كانت أيضًا وطنًا ثقافيًّا لغيرهم من أبناء الأمم المجاورة. وكذلك فرنسا ليست الآن وطنًا جغرافيًّا للفرنسيين وحدهم، وإنما هي وطن كل مثقف درس الثورة الفرنسية وأحب باسكال وروسو وعرف كلود برنار وأناطول فرانس. ولا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا القول عن أي قطر آخر. لقد فتحت لي فرنسا الآفاق الأوروبية التي لا تزال تنبسط أمامي فتكسب حياتي مغزًى حتى حين أعيش في وسط ليس له معنى فضلًا عن مغزى. وأي عزاء أكبر من هذا؟