أنا أربي نفسِي
في ١٩٠٩ قصدت إلى لندن بعد قضاء شهرين في مصر عقب عودتي من فرنسا. وهنا يجب أن أذكر أن السفر كان في ذلك الوقت حرًّا، فلا جوازات وتقييدات أو عراقيل حكومية. وكان السفر إلى باريس أو برلين أو لندن لا يختلف عندي من السفر إلى طنطا أو أسيوط. وأذكر أني أخذت إلى لندن باخرة قادمة من الهند عليها موظفون من الإنجليز في الحكومة الهندية، فقاطعوني حتى على المائدة حين يحتاج كل واحد إلى مناولة الملَّاحة أو إناء الماء أو غيره. ولم أنجح في حمل أحد من هؤلاء الإنجليز على الحديث معي ونحن على سطح الباخرة. وعُوملت كما لو كنت هنديًّا، أنا العبد وهم السادة. ولكني وجدت بعض الهنود الذين عزلوا أيضًا — اجتماعيًّا — مثلي، فكنا نتحدث معًا ونحن على وجدان بهذا الاستغراض الإمبراطوري. أجل لقد عرف الإنجليز نظرية «الشعب السائد» ومارسوها حين كان لا يزال الألمان مبتدئين في تفهُّم مغزاها يكتبون عنها فقط. وكان هذا أول اختباري للاستغراض اللوني؛ لأن أوروبا كلها لم تكُن تعرف هذا الاستغراض. وكنا نحن المصريين نجد الاحترام بل الإكرام في عواصم أوروبا إلا في عاصمتين: إستامبول حيث كان الأتراك ينظرون بالاحتقار إلى كل عربي، ولندن حيث كان الإنجليز على وجدان وَقِحٍ بسيادتهم للهنود والمصريين وسائر الأمم التي استولوا عليها.
وقد يسأل القارئ: لماذا لم أعُد إلى باريس بعد أن قضيت فيها نحو سنتين كانت بالطبع لا تكفي للتعلُّم؟
وللإجابة أقول إن باريس بعد أن بسطت لي آفاق الثقافة الأوروبية حملتني على أن أُسرِف في الطموح. فقد كنت في مصر أعيش في عزوبة ثقافية لا أقرأ غير اللغة العربية ولا أستنير عن شئون هذا العالم حتى بقراءة الجريدة العربية. وكان تعلمي للفرنسية بمثابة التزوج من الثقافة الأوروبية. وخشيت إن أنا بقيت في باريس أن أنسى اللغة الإنجليزية التي تعلمتُها بمصر. فأضمرت برنامجًا لتربيتي الذاتية، برنامج الحياة، هو أن أعيش في لندن سنة أو أكثر ثم أقصد إلى برلين فأتعلم الألمانية. وامتلاك هذه اللغات الثلاث يكفل الاتصال بالعالم المتمدِّن كله جملة وتفصيلًا من حيث الوقوفُ على معارفه واتجاهاته. وقد اختل هذا البرنامج فيما بعدُ؛ فإني وأنا في لندن شرعت في تعلُّم الألمانية، ولكن صعوبة هذه اللغة، وأيضًا سوء الطريقة التي اتَّبعها المعلم معي، كلاهما جعلني أكف عن الاستمرار في تعلمها. وبدلًا من أن أبقى في لندن سنة بقيت نحو أربع سنوات.
ورأيت وأنا بلندن أن أتخذ دراسة نظامية إلى جنب دراساتي الأخرى الاختيارية. ولم يكن لي من قصد في هذه الدراسة النظامية سوى الحصول على الشهادة للوجاهة لا للكسب؛ ولذلك لم أُبَالِ أية دراسة. والتحقت بلنكولنز إن، وهي أشبه بهيئة نقابية للمحامين في لندن تجهز الطلبة الملتحقين بها بدراسات قانونية ينتهي من يجتاز الامتحان فيها بالحصول على شهادة هي في الحقيقة رخصة بأن يكون محاميًا أو وكيل دعاوى. وقد كان اختياري لهذه الدراسة كارثة؛ فإني بعد أن درست الدستور البريطاني بشيء من الحماسة والتوسع وجدت سائر القوانين الإنجليزية لا تُطاق ولا تستحق العناء، وخاصة تلك القوانين التي تعالج مشكلات التجارة البحرية؛ ولذلك شملني فتور حال دون الاستمرار في الدراسة.
ولكن هذا الفتور في دراسة القوانين الإنجليزية كان يصحبه نشاط محموم في دراسات أخرى كنت أتهجد لها في الليل. كما كانت هناك فترات تطول أيامًا بلا دراسة ولكن في تأمُّل وفي امتحان ذاتي حين كنت أبحث عن مراسيَّ في هذه الدنيا المبلبلة. وأذكر أني — في إحدى هذه الفترات — وجدتني قاعدًا على الكرسي كأني قد سمرت به، وكأني نويت أني لن أبرح هذا الكرسي حتى أصل إلى قرار حاسم. ماذا أنا عامل في هذه الدنيا؟ من هم خصومي الذين يجب أن أكافحهم؟ من هم أصدقائي الذين يجب أن أؤيدهم؟
ووجدتني أفكِّر وأجيب. وأحيانًا يحتدُّ تفكيري فأسمعه كلامًا أنطق به. أجل، ليس لي مأرب في هذه الدنيا، فلست أبالي أن أكون ثريًّا، لا بل لست أبالي أيضًا أن تكون لي زوجة وأطفال. وإنما قصدي أن أفهم، أن أعرف كل شيء وآكل المعرفة أكلًا.
ثم عدت فقلت: ولكن لماذا؟ وأجبت: لأكافح.
أكافح الإنجليز حتى يجلوا عن وطننا، وأيضًا أكافح تاريخنا.
أكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد. وأكافح هذا الهوان الذي يعيش فيه أبناء وطني: هوان الجهل وهوان الفقر. أجل إني عدو للإنجليز وعدو لآلاف من أبناء وطني، لهؤلاء الرجعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات، وصارت هذه الأفكار همًّا يؤرق.
وعقب مقامي في لندن بأربعة أشهر فقط أُصِبْتُ بنزلةٍ شعبية فنهضت منها منهوكًا حتى نصح لي الطبيب المعالج بأن أعود إلى مصر كي أنتفع بشمسها، فوجدت أن العودة إلى مصر بعد شهور فقط قد تُحدث ارتباكًا كبيرًا في برنامجي. ولما كان الغرض هو ترك جو لندن أي الضباب والبرودة فإني فكرت في مراكش لقربها من إنجلترا. وقلت: أقضي بضعة أسابيع هناك وأعود في مارس حين يكون قد خف البرد. وتجهزت للسفر. وكانت الرحلة من لندن إلى جبل طارق حافلة بعناء الأمواج المضطربة في خليج بسكاي ونغاصة الإقامة مع الموظفين الإنجليز العائدين إلى مصر والهند وسائر الإمبراطورية. وكان هؤلاء ينظرون إلينا كأننا كلاب بل أشنع. ونزلت في جبل طارق حيث طاب لي أن أتردَّد على المراكشيين التجار وأتحدث معهم بالإنجليزية والعربية.
وقصدت إلى طنجة مدينة ابن بطوطة، وهناك قضيت نحو عشرين يومًا كان أعظم وقعها في نفسي أني اقتنعت بأن الشرق مُفلس وأن طراز الثقافة الذي يعيش به ويسترشد بقواعده يجب أن يتغير. فقد كانت الحكومة المراكشية تبيع الحشيش للأهالي وتحتكر الاتِّجار به تُؤْثِرُ بذلك ربحها على صحة السكان. وقد حدث أني خرجت مع الدليل لرؤية بعض الآثار الرومانية التي تبعد أميالًا عن طنجة. وكان كل منا على بغلة، ولما وصلنا إلى سفح تل نزلنا للاستراحة، فانطلقت بغلة الدليل وفرَّت فوق التل، فلما طلبت إليه أن ينهض ويدركها أجابني في برودٍ وطمأنينة بأن الحشيش «قطع» قلبه، وأني يجب أن أنهض أنا وأعدو وراء البغلة حتى أمسكها وأعود بها إليه. ونظرت إلى وجهه وتأملت شحوبه وتحقق لي أنه ليس هناك مفر من أن أستمع لكلامه. وقمت أجري خلف البغلة على التل. وقد احتجت إلى نحو نصف ساعة وأنا ألهث جهدًا حتى قبضت عليها وعدت بها لهذا الدليل الحشاش.
وقيل لي وأنا في طنجة إن الرقص ممنوع، ولكن الدليل أسرَّ في أذني بأنه على الرغم من هذا المنع فإني أستطيع أن أرى الرقص وأسمع غناء المغربيين، ولكن في مكان غير علني. وبعثني الاستطلاع على أن أستجيب لاقتراحه. وقصدت معه بعد الثامنة مساء إلى هذا المكان حيث وجدت فتيات عاريات لا تستر أجسامهن خرقة وهن يرقصن ويغنجن ويغنين أغاني مراكشية ويطربن الأجانب وبعض الوطنيين بهذا الابتذال الذي بعث في نفسي اشمئزازًا عظيمًا.
وكانت لغة المغاربة عربية بالطبع. ولكنها تنطق بلهجة تغاير لهجتنا في مصر حتى كنت أوثر التحدث بالفرنسية. فإذا لم يفهمها محدثي ألقيت عليه السؤال باللغة العربية الفصحى. وكان — بعد أن يتأملني في دهشة — يجيب بفهم على سؤالي. وقد كتبت عن رحلتي هذه مقالات بالمقتطف في ١٩٠٩ بعنوان: «أسبوعان في المغرب.»
وعدت إلى لندن منتعشًا مُعافى وقد فطمتني الزيارة للمغرب من أي أثرٍ باقٍ من الولاء للشرق. وشرعت أتعرف إلى ينابيع الثقافة الإنجليزية العصرية وأتتبع مناقشات الصحف. والتحقت بالجمعية الفابية التي كانت تنشر الاشتراكية بين المتوسطين والأغنياء دون العمال. وكانت هذه الجمعية في ذلك الوقت تجمع عددًا كبيرًا من المتيقظين للتطورات الاجتماعية والاقتصادية بزعامة برناردشو وولز. وكان الثاني قد تركها ولكن أثره كان باقيًا. ولم أنقطع منذ عرفت هذين المؤلِّفين عن دراسة مؤلفاتهما التي تُعَدُّ تربية عصرية في الاقتصاد والاجتماع والدين والأدب والعلم. وقد تربَّى عليهما جيل في أوروبا وأمريكا أصبح أفراده يقودون عصرهم ويرتادون المستقبل. وعرفت أيضًا جمعية العقليين. وكانوا يطبعون مؤلفات مبسطة رخيصة عن العلوم والمكتشفات التي تناهض العقائد الدينية المألوفة. وقد طبعوا الملايين من هذه الكتب التي كان يُباع الواحد منها بنحو ٢٥ مليمًا. وقرأت جميع مؤلفاتهم ومطبوعاتهم.
وكان المذهب العقلي يتفشَّى في أوروبا في تلك السنين ويجد أخصب تربة لنُمُوِّهِ في فرنسا. فقد كان في باريس جرائد يومية — مثل لو لانترن — تكافح الغيبيات. ولا أنسى مظاهرة هائجة ارتجت لها لندن وسائر العواصم الأوروبية حوالي ١٩١٠، فقد حدث أن رجلًا من هؤلاء العقليين يدعى فرانسيسكو فيرير أُعدم في إسبانيا. وكانت التهمة التي حُوكم من أجلها أنه دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية غير تهم أخرى خاصة بالجيش. ولكن التهمة الحقيقية كانت أنه كان ينشر في إسبانيا المظلمة مؤلفات الأحرار في أوروبا مثل فولتير ونيتشه وكوربتكين وروسو وتولستوي، ويترجم مؤلفات العقليين — وخاصة ما اتصل منها بنظرية التطور — إلى اللغة الإسبانية ويبيع هذه المؤلفات بأثمانٍ مخفضة حتى تصل إلى العامة. ورأى الكهنة والرجعيون أن هذه المؤلَّفات خمائر سوف تُقَوِّضُ سلطانهم وتلغي امتيازاتهم واحتكاراتهم. فدبروا له تهمة «قلب نظام الحكم عنوة» وأعدموه.
وهاجت أوروبا كلها لإعدام هذا الرجل، فكانت مظاهرات في كل مدينة بل في كل قرية. وكانت الخطب النارية في كل نادٍ ومحفلٍ استنكارًا لهذه الجريمة. وحضرت المظاهرة الكبرى التي سارت مواكبها في لندن وتجمَّعت أخيرًا في ساحة «الطرف الأغر» حيث أُلقيت الخطب من الأحرار والديمقراطيين في التشنيع بالحكومة الإسبانية واستبداد الكنيسة الكاثوليكية. وعقدت اجتماعات كثيرة بعد ذلك في هذا الشأن. ووصلت الأخبار من باريس في مساء ذلك اليوم بأن المظاهرات جُمحت وقُتل عدد من المتظاهرين الذين حاولوا الهجوم على الكنائس والأحزاب الرجعية. وصدرت الكتب العديدة في شرح الحركة العقلية التي كان يقوم بها فيرير ومحاكمته الجائرة التي انتهت بإعدامه. واتَّضح من هذه المحاكمة أن وكيل النيابة الذي شرح التهمة للمحكمة صرح بأنه لا يعرف من هو تولستوي الذي كان فيرير يتعب ويُنفق ماله في نشر مؤلفاته باللغة الإسبانية. ولما وثب الطاغية فرانكو إلى الحكم في ١٩٣٧، وحارب الديمقراطيين والاشتراكيين — بمعاونة الكهنة — وقتلهم ودمر المدن الإسبانية بمساعدة الطيارين الفاشيين من ألمانيا وإيطاليا؛ تذكرت فيرير، وتذكرت ما كان يقول الأحرار وقتئذٍ عن إسبانيا، وهو أن الفاصل بين أوروبا المتعلمة المتمدنة وبين أفريقيا السوداء هو جبال البرانس التي تفصل أيضًا بين فرنسا وإسبانيا …
وقد أنعشتني هذه المظاهرات وبِتُّ ليلتي وأنا أفكر في هذا الروح البشري في مدن أوروبا المتمدنة وقراها، هذا الروح الذي انطلق بالسُّخط واللعنة على الحكومة الإسبانية لأنها أعدمت رجلًا أوروبيًّا من أبناء القرن العشرين في حين هي أَصَرَّتْ على أن تعيش في القرون المظلمة وأن تكون أفريقيا متوحشة. وأخذت أُسائل: هل مثل هذه المظاهرات يمكن أن يوجد في مدن الشرق؟
وكانت من الأغلاط التي وقعتُ فيها أني آمنت بمذهب النباتيين فامتنعت عن تناول اللحم نحو عام كدت أموت من الهزال في نهايته. وكانت المطاعم النباتية في لندن كثيرة تقدم لزبائنها مختلِف الألوان الشهية التي تغني في الطعم عن اللحم؛ فلم أجد صعوبة في الكف عن ألوان اللحوم، ولكني هزلت حتى كدت أمرض.
والتحقت ببعض الكليات لدراسة العلوم المختلفة التي جذبتني، مثل المصرلوجية للأستاذ بتري، ومثل البيولوجية والجيولوجية والاقتصاد. وانغمست في هذه الدراسات كثيرًا.
وعلى الرغم من الشهرة التي تتمتع بها باريس بشأن حرية المرأة فقد وجدت أن المرأة الإنجليزية أكثر حرية. والشبان والفتيات يتحابون ويتغازلون جهرة في الحدائق العامة بل أحيانًا في الشوارع. ولكن الشلل النفسي الذي أحدثته التربية الشرقية فينا حال دون استمتاعنا نحن المصريين بهذه المسرات في لندن. واحتجتُ إلى مرانة طويلة قبل أن أجرؤ على المبادأة والسلوك الاستقلالي في الحب، ثم حانت فرصة.
ذلك أني كنت أصطاف في إحدى المدن الصغيرة على الشاطئ الشرقي لإنجلترا، فعرفت هناك فتاة إرلندية في سِنِّي أو أكبر قليلًا كانت تعمل في التدريس. وكانت تحنق على الإنجليز لسلوكهم الإمبراطوري في إرلندا كما كنت أحنق أنا على احتلالهم لمصر. وتوطدت بيننا صداقة على أساس هذا الحنق، ثم صارت الصداقة حبًّا فغرامًا. واستسلمت لي واستسلمت لها. وكنا نقضي ليالينا في غرفة واحدة، وكانت من الجمال بحيث تُحدِث فيمن يحبها أو في بعض ذلك العيب الأكبر الذي كان يعلله فرويد بمركب أوديب. وقد استطعت أنا بعد ذاك بعشرين سنة أن أشفي صديقًا عزيزًا إليَّ من هذا المأزق. ولكني لتعسي في ١٩١٠ كنت أجهل فرويد وأجهل السيكولوجية. وكانت إليزابيث جميلة تمتاز ببشرة غاية في النعومة والصفاء. وكانت مديدة القامة كنت أحس وهي قادمة إليَّ عن بعد أنها عَلَم يخفِق. وكان نشاطها يبدو في حركاتها كأن جسمها وذهنها يتفززان. وتناسقنا كلانا في التفكير والعواطف. فكنا نقرأ الجرائد معًا ونتفق على مغزى الأخبار.
وعدت إلى لندن وعادت هي إلى مدينتها في وسط إنجلترا. ولم تنقطع المراسلة بيننا. وعقد في لندن مؤتمر الشعوب المخضعة، وكان محمد فريد يمثل مصر، وكان دي فاليرا يمثل إرلندا. فجاءت إليزابيث وقضينا أيامًا في لندن حضرنا فيها اجتماع هذا المؤتمر الذي خطب فيه دي فاليرا باللغة الإرلندية التي لم يفهمها أحد. ولكنه أصر على ذلك كي يثبت حق أمته في ثقافة ولغة مستقلين، وتُرجمت خطبته إلى الإنجليزية. وكذلك خطب محمد فريد باللغة الفرنسية. وبعد هذه الزيارة القصيرة للندن عادت إلى بلدتها وتأكد لي عندئذٍ أن الزواج غير مستطاع لأني لن أبرأ. وبعثت إليها بذلك مع هدية غالية. وتزوجت هي بعد ذلك ولكني لم أرها وهي متزوجة.
وقد ملأ هذا الاختبار نفسي غمًّا ومرارة، ولكنه بعثني على الاستطلاع والدراسة للشئون الجنسية، فعرفت هافلوك أليس وأوجست فوريل قبل أن أعرف فرويد. بل إن هذا الاستطلاع الجنسي كان سببًا في استطلاعات ثقافية أخرى عديدة.
وكانت الحركة النسوية على أشُدها في لندن حوالي ١٩١٠. فكانت مظاهرات النساء للمطالبة بحقوق الانتخاب. وكان بعض هذه المظاهرات عنيفًا تشتبك فيه السيدات والفتيات مع رجال البوليس وكانت زعيمة هذه الحركة سيدة تدعى المسز بانكهرست، وكانت جرئية مقدامة تتخير الكلمات الجارحة عندما تصف رجال الحكومة الذين كانوا يعارضون هذه الحركة. وحضرت أحد هذه الاجتماعات وعجبت للحماسة بين الحاضرات المستمعات وهي حماسة تجلَّت عن جمع نحو خمسة آلاف جنيه في بضع دقائق للإنفاق على هذه الحركة.
وكان البيت الإنجليزي يمتاز برفاهية لا تعرفها البيوت في أي قُطر آخر في أوروبا؛ وذلك لارتفاع مستوى المعيشة بين الإنجليز بما كانوا ينهبونه من محصولات الأمم المُخضعة في إمبراطوريتهم أو يشترونه رخيصًا من هذه الأمم ويبيعونه غاليًا لهم ولغيرهم. وكذلك بما كان يرد إليهم من دخل آخر هو أرباحهم من الشركات التي يؤسسونها في الهند أو مصر أو غيرها. ولذلك كثيرًا ما كنت أجد منزل النجار في أحد المصيفات مؤثثًا بالرياش التي تُعَدُّ في مصر فاخرة لا يحصل على مثلها إلا موظف في الدرجة الرابعة.
وانتفعت كثيرًا باختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية، وكانوا — كما قلت — من الاشتراكيين، ولكنهم كانوا مع ذلك أماميين في شئون أخرى. وأيما حركة كانت تنتشر في الأدب، أو نظرية يقول بها العلميون، أو دعوة إلى بدعة جديدة في الدين أو الفلسفة، كنا نجد لها من يمثلها أو تمثلها في الجمعية الفابية؛ فقد كانت بها اجتماعات لبحث اليوجنية أي هذا العلم الجديد لترقية النسل. كما كان بها اجتماعات أخرى لدرس التطورات الاجتماعية أو الاقتصادية في ألمانيا أو فرنسا. وقد عرفت الأدب الروسي عن طريق هذه الجمعية كما عرفت إبسن. ولا أذكر شو أو ولز وكلاهما كان من أعلام هذه الجمعية.
وكان برناردشو في تلك السنين في شبابه أحمر اللحية يتعلق به الفابيون ويتكأكَئون حوله، وكان أول لقائي له في الحديث أنه رآني أتأمل رسمًا له على الحائط. فجاءني وقال: ما رأيك في هذا القذف؟ فقلت: إن الرسم جميل ولا يعد قذفًا. فلما عرف أني قبطي قال: أنت مونوفيزيت؟
فأربكني السؤال لأني لم أكن أعرف هذه الكلمة الضخمة. وتبادر إليَّ أن الكلمة تتعلق بالطعام النباتي؛ لأن برناردشو كان مقرونًا في ذهني إلى الطعام النباتي. وكنت قد داعبت الفكرة بأن اقتصرت أنا أيضًا على النبات وانقطعت عن اللحم جملة أشهر. وظننت أن الخطاب موجَّه إلينا كأمة لأن كلمة أنتم تقال في الإنجليزية للمفرد كما للجمع. وأنه قد حسب أننا مثل الهندوكيين نقتصر على الطعام النباتي. فقلت: لا، نحن نأكل اللحم أيضًا في مصر.
فانفجر بالضحك، وطلب إليَّ أن أبحث في المعجم عن «مونوفيزيت» وبحثت عنها ذلك المساء فوجدت أنها تتعلق بالغيبيات المسيحية. وأن الأقباط يؤمنون أن طبيعة المسيح البشرية قد اندغمت في طبيعته الإلهية، وأن له لذلك طبيعة واحدة أي مونوفيزيت. وأن هذا المعنى هو النقطة الجوهرية في الخلاف بيننا وبين الكاثوليك الذين يعتقدون أن طبيعة المسيح حين كان على الأرض كانت بشرية، وأن طبيعته الإلهية تبدأ من رفعه إلى السماء بعد صَلبه.
وكان برناردشو في تلك السنين «الطفل المدلَّل» في الصحافة والأدب. وكانت دراماته قد بدأت تغزو المسارح وأفكاره تستحيل إلى مذاهب تتشيع لها أو عليها الجماعات المفكرة. وقد غزا برناردشو عصره وأشعل نورًا كثيرًا ما كان يستحيل إلى نار، حين كان يجد جورًا إمبراطوريًّا أو ظلمات استغراضية أو تعصبية.
وقد كانت لندن حوالي ١٩١٠ في ثورة فكرية على التقاليد التي كانت تسود الأمة في العصر الفكتوري أي القرن التاسع عشر. فقد اختمرت في هذا القرن جملة خمائر في الاقتصاد والدين والاجتماع.
واتفق وجودي في لندن في الوقت الذي كانت قد شرعت فيه هذه الخمائر تُغَيِّرُ الآراء والعقائد والاتجاهات. وكان أعظم ما تركته في نفسي الثقافة العامة الإنجليزية في ذلك الوقت، هو الشك في القيم والأوزان الأخلاقية والروحية. وقد رأيتني أسير في لندن بلا قبعة احتجاجًا على العُرف مع أن الرأس العاري لم يكن وقتئذٍ مألوفًا كما هو في أيامنا. وكان إكبابي على دراسة كتب العقليين دليلًا آخر على هذا القلق الذي كان يشيع في الأوساط المتعلمة اليقِظة. وزادني قلقًا اختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية وكانوا على وجدان بالتغيُّرات الكامنة والقادمة يضعون أناملهم على نبض الثقافة الأوروبية ويتعرفون اتجاهاتها. وفي هذا العام ١٩٠٩ ألفت رسالة صغيرة دعوتها «مقدمة السُّبرمان» وأرسلتها إلى المرحوم جرجي زيدان محرر الهلال فطبعها لي بعد أن حذف بعض الفقرات الجريئة. وهي تدل القارئ على القلق العام لشاب مصري لم تزِد سِنُّهُ على ٢٠ أو ٢١ سنة، شاب مَسَّتْهُ بل كَوَتْهُ الثقافة الجديدة وقطعت ما بينه وبين الماضي وسددت نظره إلى بصيص من نور المستقبل.
وقد نفدت هذه الرسالة ولم أُعِدْ طبعَها، ولكني — بعد تنقيحات أو تلطيفات — جعلتها فصلًا من فصول كتابي «اليوم والغد».
ولا أنسى هنا أن أذكر المتحف البريطاني؛ فإن هذا المتحف — زيادة على ما فيه من الآثار القديمة التي تحوي مقدارًا كبيرًا من مخلفات الفراعنة — يحتوي أيضًا مكتبة بها نحو أربعة ملايين مجلد. وكنت أتردد كثيرًا على هذه المكتبة. بل لقد قرأت فيها بعض الكتب العربية.
وقد ذكرت شيئًا عن الاستغراض اللوني في لندن. ولكن هذا الاستغراض كان مع ذلك ضعيفًا. وكان لا يبدو إلا في بعض البنسيونات أو الفنادق التي كانت ترفض نزول الهنود فيها. وكنا نحن المصريين نعامُل أحيانًا مثل الهنود. وأحيانًا كنا نجد التسامح لأن لوننا كان قريبًا من لون الأوروبيين. أما في الريف الإنجليزي فلم نكن نجد شيئًا بتاتًا من هذا الاستغراض.
والريف في إنجلترا هو أجمل ريف في العالم كله؛ لأن الإنجليز لا يُعْنَوْنَ بالزراعة، فالجبل والسهل، والبحيرة والغابة، لا تزال جميعها على عذريتها لم تمسسها سكة المحراث إلا في نبذ صغيرة متباعدة؛ ولذلك يجد الزائر الجائل في الريف الإنجليزي الطبيعة الساذجة في صميم جمالها.
والريف في كل أوروبا يُعَدُّ مزارًا في الربيع والصيف حين ترغي الحقول وتزبد بفيض الحياة الهائجة. والقرية الأوروبية مبلطة الشوارع جميلة البناء تغسلها الأمطار حتى لتبدو عقب شؤبوبٍ من المطر كأنها صورة مزخرفة بالألوان الزاهية. وكل قرية — مهما صغرت — تحتوي الحانة والمطعم والفندق؛ ولذلك يستطيع الزائر أن يجد الراحة أسبوعًا أو أكثر. وقد انتفعت كثيرًا واستغللت هذه الحضارة القروية في تأمُّلات ومقارنات مع ريفنا الكالح الأسيف الذي لا يزال يعيش الفلاحون في قراه في جحور تحطم صحهتم وتجرئ المستبدين على انتهاك كرامتهم.
وأذكر أني في بعض زياراتي للريف البريطاني قعدتُ على العشب أتحدث إلى فلاح مسن، وكان قريبًا منَّا حقل قد نمت فيه الذرة وزكت ارتفاعًا وغصونًا. فسألت الفلاح: هل تشوون الذرة كما نفعل؟ فلم يفهم سؤالي، وعرفت أن الذرة تنمو في إنجلترا ولكنها لا تُثمر، أي إن الكوز أو القنديل لا يتكوَّن؛ لأن القمة التي تتألف من اللقاح الذكري لا تتم. وإنما تُزرع الذرة كي تصير مرعًى فقط للبهائم، وبرودة المناخ هي التي تمنع نمو الذرة إلى النضج.
وإيجار الفدان لم يكن يزيد على نصف جنيه أو جنيه. فمن يملك مائة فدان في إنجلترا لا يحصل إلا على خمسين أو مائة جنيه في السنة إيجارًا. أما الفلاح المزارع المستأجر فيحصل على نحو عشرة جنيهات ربحًا من الفدان. وهذا عكس ما نجد في مصر حيث أكثر الربح للمالك وأقله بل أقله جدًّا للمستأجر.
وزرت فلاحًا آخر في بيته، فوجدته يُرَبِّي نحو خمسين عجلًا يشتريها وهي في الأسبوع الثالث من عمرها، ثم يُرضعها في بيته بالبزازات؛ أي إنه كان يبيع قشدة اللبن ثم يأخذ المخيض ويخلطه بزيت القطن ويُرضِع بمخلوطهما هذه العجول. فيكسب ثمن القشدة أو الزبدة في حين أن العجل يجِد في الزيت عوضًا عنهما. فإذا فطم العجل حُبِسَ حتى لا يكاد يتحرك ثم يسمن بالغذاء المركَّز من كسب القطن وبعض البروتينات. والعجل المُسمَّن في إنجلترا يبلغ وزنه أحيانًا طنًّا كاملًا — ٢٢ قنطارًا — ويُباع لحمه بأغلى مما يُباع الضأن.
وقد كان تأملي للمزارع الأوروبية يبعثني على الاكتئاب كلما فكرت في فلاحينا في مصر؛ لأن المقارنة بين القرية الأوروبية والقرية المصرية إنما هي مقارنة بين النعيم والجحيم أو بين الجمال والقبح أو بين الكرامة والمهانة.