تربيتي العِلميَّة
لما تركت مصر إلى فرنسا في سنة ١٩٠٧ كان «التطور» من مركباتي الذهنية البارزة، بل المركب الأول؛ حتى إني حين هبطت باريس جمعت طائفة من الكتب التي تعالج هذا الموضوع، ولكني لم أستطِع فهمها وقتئذٍ؛ لأني أسأت الاختيار فلم أقتنِ الكتب الابتدائية أو بالأحرى لم أجدها. فلما قصدت إلى لندن وجدت العشرات من هذه الكتب الابتدائية. وكانت جمعية «العقليين» تنشرها وتبيعها بأثمان التراب بسعر ٢٥ مليمًا لكل كتاب. فأكببت عليها في دراسة مثابرة، مع استخراج الخلاصات وكتابة التعليقات. وقرأت كتاب داروين «أصل الأنواع». وليس في هذا الكتاب شيء يشق على الفهم. ولكنه يحتاج إلى التأمل الكثير. وداروين بعيد كل البعد عن التعبير المسرحي؛ إذ هو متواضع معتدل يكتب في حذر كأنه يخشى أن يؤمن القارئ بكل ما يقول. وهو الضد لنيتشه في الأسلوب. فإن نيتشه ناري سماوي، أما داروين فأرضي طيني. وأسلوب نيتشه عاطفي ذاتي حتى حين يهتدي إلى الحقائق الموضوعية. أما داروين فيكتب عن وجدان وتعقل؛ حتى لتُحس أنه ينفض عن نفسه عاطفته وذاتيته كما ينفض أحدنا الغبار عن شخصه.
وليس شك أن حبي لداروين وتحيُّزي لنظرية التطور — منذ نشأتي الثقافية — قد تركا أثرهما في أسلوبي الكتابي. فقد قيل إن الأسلوب يدل على الجانب الأخلاقي للمؤلف بل يكشف عنه. أي يدل على الاتجاه التفكيري وإيثار بعض القيم على بعض. وأنا أوثر أسلوب داروين: أسلوب المنطق الصارم والحذر والاعتدال على أي أسلوب آخر يوصف بأنه «أدبي». وكثيرًا ما وصفني الكتاب في مصر بأني لست «أديبًا»؛ لأنهم لا يجدون عندي تلك الزخارف والتزاويق المألوفة في غيري من الكُتَّاب. ومع ذلك فإني لا أُنكر سحر الأسلوب العاطفي. ولكني إذا كنت ألتذُّ السحر أحيانًا وأستمتع بما فيه من مهارة فإني أوثر عليه أسلوب التعقل والوجدان. وأذكر أني حين قرأت «من الأعماق» تأليف أوسكار وايلد أُعجبت بسحره. حتى إني عندما بلغت الصفحة الأخيرة عُدت فورًا إلى الصفحة الأولى أقرؤه ثانية كأني أستعيد لحنًا جميلًا وأنغامًا رائعة. ولكنه لم يترك في رأسي مركبات ذهنية كتلك التي تركها «أصل الأنواع» لداروين. فقد غيرني داروين. أما أوسكار وايلد وجون روسكين وكارليل من الكُتَّاب الذاتيين فقد نسيتهم؛ لأنهم جميعًا بعيدون عن الحقاق الموضوعية. وحين أقرؤهم الآن أشعر أنهم يخطبون أو يصرخون أو يتفصَّحون. فأجد اللذة العابرة في أسلوبهم ولكني أُحِسُّ أنهم ليسوا مفكرين أساسيين. والمفكر الأساسي عندي هو داروين الذي يتحدث في اعتدال وحذر. وأسلوبه هو الأسلوب الرصين. وأقرب الناس إليه في هذا الأسلوب هو برناردشو. وقد سبق أن قلت إن أحسن ما نقيس به الكاتب أن نعرف مقدار ما تركه لنا من المركبات الذهنية؛ لأنه على قدر هذه المركبات يكون تفكيره محوريًّا أو بذريًّا؛ أي إننا لا نأخذ منه المعرفة الجامدة فقط، بل نأخذ المعرفة النامية التي تنمو وتتشعع في الخلايا الرمادية من الدماغ فتتركنا ونحن نفكر ونشتبك في اشتباكات جديدة لا تفتأ تنبهنا إلى توسُّع وتعمق فإيناع. ومنذ ١٩٠٨ حين قرأت «أصل الأنواع» وأنا في هذا التوسع والتعمُّق. فقد درست البيولوجية والجيولوجية بل سيكلوجية فرويد بحافز من إيحاء داروين. كما أن داروين كان السبيل إلى التعرُّف إلى هربرت سبنسر. وكان داروين يصِفه بأنه «فيلسوف التطور» والحق أن سبنسر هو المسئول عن تعميم هذه النظرية ونقلها إلى المجتمع، ولا عبرة بأنه ارتكب أخطاء كثيرة في التفاصيل؛ فإن الأخطاء أحيانًا قد تكون منيرة مثل الإصابات؛ لأنها تفتح كوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل. فإذا كان الناظر إليها قد أخطأ الرؤية، فإن فضله لا يزال عظيمًا لأنه فتح الكوة. وهذا هو ما أراه في كثير من المفكرين مثل فرويد وسبنسر بل داروين نفسه. فقد نبهنا فرويد في خطئه عن «مركب أوديب» كما نبهنا سبنسر في خطئه عن سوء النظام الاشتراكي، وكذلك نبهنا داروين في خطئه عن تنازُع البقاء. وكل هذه الأخطاء كانت كوات جعلتنا نفكر ونبحث؛ لأنها فتحت لنا آفاقًا جديدة. وقد انتقلنا بها من الميدان البيولوجي إلى ميادين الاجتماع والدين والاقتصاد.
ومن الكتاب البذريين الأساسيين الذين تأثرت بهم، وما زالت المركبات الذهنية التي خلفوها في خلاياي الرمادية قائمة بل نامية: كارل ماركس. فقد وصلت إليه عن استغراض ضده من كتَّاب «الانفرادية» الذين يقولون بالمباراة الاقتصادية مثل هربرت سبنسر، وخرجت منه على احترام له واحتقار لهربرت سبنسر وأمثاله. ولكن هذا الاحتقار في هذه النقطة المعينة لم ينقص إكباري للقوة التفكيرية عند سبنسر. والحق أنها قوة عظيمة جدًّا. فإن نظرته شاملة وهو فيلسوف أكثر ممَّا هو عالم. ولكنه فليسوف بعيد عن الغيبيات. وقد احترف هذا الرجل التفكير احترافًا. حتى ليسأم الإنسان حين يقرؤه ويكاد يسائل: لماذا هذا الجد؟ لماذا يلهث ويعرق؟ ألا يفكر في إجازة يستريح فيها؟
والحق أنه لم يفكر في إجازة. وقد أصيب لهذا السبب بانهيار عقلي تألم منه نحو سنتين، وحتى بعد ذلك كان أحيانًا يطلب من ضيوفه ألا يتكلموا بل أن يبقوا في ضيافته أو رفقته صامتين …
وفي هذه السنين كدنا ننسى هربرت سبنسر. ولكن كارل ماركس يزداد بمرور السنين قوة بل حياة؛ فإن نظرياته تحيا في كل مكان في العالم، والأزمة العالمية الحاضرة هي أزمة الصراع المنتظَر، أو الوفاق المحتمل بين الماركسيين دعاة الإنتاج التعاوني وبين الديمقراطيين دعاة المباراة الاقتصادية. ولذلك لا يمكن أحدًا أن يصف نفسه بأنه مثقف إذا كان يجهل الماركسية ولو كان يكرهها؛ لأن الأزمة العالمية هي في صميمها أزمة ماركسية.
وقيمة الماركسية في فهم السياسة العالمية والتطوُّرات الاجتماعية والأخلاقية الحاضرة كبيرة جدًّا. ولكن لها قيمة أخرى في فهم التطورات التاريخية. والتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بأنه هو — لا فرويد — الأساس الصحيح للفهم السيكلوجي. فإن ماركس أثبت أن العواطف الاجتماعية — أي التي نكتسبها من المجتمع — أكبر قيمة وأبعث على التغيير والتطوُّر وأثبت في كياننا ممَّا نسميه العواطف الطبيعية؛ ولذلك لا يقتصر فضل ماركس على أنه جعل الاقتصاد علمًا؛ لأن الحقيقة أنه جعل كذلك الأخلاق والاجتماع والسيكلوجية علومًا. ولا يستطيع أحد أن يفهم هذه الثلاثة على حقيقتها الفهمَ الموضوعي إلا إذا كان ماركسيًّا.
داروين وماركس، كلاهما قد غرس في رأسي مركبات ذهنية، وجعلني أنظر إلى الدنيا وإلى الأحياء في استغراض علمي وتحليل اقتصادي وسيكولوجي. وعندما أستبطن إحساسي الديني أجد أن بؤرة هذا الإحساس هو «التطور». وهذا الإحساس الديني هو فهم وممارسة؛ فإني أفهم أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النبات، وأن الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل قبل نحو ٧٠٠ مليون سنة هي عنصرنا الأول، وأننا ما زلنا ننبض ونتغير في تجارب لا تنقطع، وأن سُنَّتنا هي لذلك سُنَّة التغيُّر، وجريمتنا هي لذلك جريمة الجمود. ونحن حين نجمد إنما نكفر بسُنَّة الكون مادة وحياة. ولكن إلى جنب هذا الفهم الديني يجب أن «نمارس» ممارسة دينية باحترام الحياة أيًّا كانت والتعرُّف إلى أشكالها وحمايتها من الأميين المستهترين بالطبيعة. هذه الطبيعة التي تكتسب في ذهني قداسة كلما فكرت في غابات أفريقيا أو الهند وما تحوي من تحف الحياة، أو كلما فكرت في غياهب المحيط الهادي أو الأطلنطي أو المحيطين القطبيين وما بهما من أحياء يحاول التجاريون — في غير شرف — أن يبيدوها بالإلحاح عليها في الصيد.
وكذلك لا أقرأ الجريدة اليومية ولا أسمع عن خبر سياسي أو مشروع لقانون جديد إلا وأنظر إليه بالاستغراض الماركسي من حيث دلالته على النوازع المختفية التي دفعت إليه، في حين أن الذي يجهل الماركسية يتطوَّح ويتخبط في تقديرات «شخصية» للممثلين السياسيين أو الحربيين. مع أن هؤلاء ليسوا سوى أدوات تأخُذ مكانها في دورة الآلة الكبرى، في حركة المجتمع الاقتصادي؛ ولذلك أيضًا أصبحت فكرة «البطل» في التاريخ من الفكرات التي كانت تتقهقر في وجداني كلما تقدمتُ في التحليل الاقتصادي. ولكن يجب أن أعترف أنها مع تقهقرها لم تنمحِ، وأنه لا يزال للشخصية قيمتها في تفكيري.
وفرق عظيم — بل عظيم جدًّا — بين شخص قد قرأ ماركس ودرس التفسير الاقتصادي للتاريخ، وبين آخر يجهله؛ لأن الأول الذي امتاز بالحاسة بالتاريخية التي اكتسبها من ماركس يجد في أخبار الجريدة اليومية من المعنى والمغزى ما لا يجده الثاني الذي يحسب أن الحوادث التافهة والخطيرة، والاتجاهات السياسية، والتطور والثورة والحرب والسلام، كلها أشياء تجري جزافًا.
ويأتي فرويد — بعد داروين وماركس — في إيجاد المركبات الذهنية التي عملت في توسعي وتعمقي. وعندي أن «مركب أوديب» الذي يُعَدُّ محور السيكلوجية الفرويدية هو خطأ، ولكنه خطأ منير؛ لأنه نبهنا — كأنه دسيسة عملية تحركنا إلى البحث والتنقيب في كهوف النفس المظلمة — إلى قيمة السنين الأولى أيام الطفولة في تكوين الشخصية. وقد وصفت أقوال فرويد بحق بأنها «سيكلوجية الأعناق». وهي كذلك وإن كنَّا نختلف كثيرًا عمَّا نجد في هذه الأعماق. ولولا فرويد لما كان هذا الجيش الذي يتألف من آلاف العلميين الذين يبحثون النفس البشرية في جميع الأقطار المتمدنة. وقد جمعت بين فرويد وماركس وخرجت منهما بأزكى الثمرات، بل فطنت إلى أن ماركس هو السيكلوجي الأساسي؛ لأنه يجعل وجدان الفرد ثمرة المجتمع.
وعبارة «التحليل النفسي» من العبارات التي تُعزَى إلى فرويد وهي «اللافتة» لجميع أنواع العلاج السيكلوجي، وليس ثمة شك في قيمة التحليل. ولكني أحس أن «التأليف النفسي» أهم وأنفع من التحليل، وإنه إلى الآن مهمل لأن السيكلوجيين مقيَّدون بفرويد.
وفي حياتنا العصرية لا يستطيع أحد أن يهمل التفكير العلمي؛ لأن الحضارة الصناعية السائدة هي حضارة العلم. وقد دأبت في دراسة العلوم التي تدور حول التطور أو الاقتصاد أو السيكلوجية أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة؛ ولذلك أستطيع أن أتناول كتابًا عن الهورمونات — أي مفرَزات الغدد الصماء — أو كتابًا عن الأيكولوجية — أي علاقة الحي بالبيئة — أو كتابًا عن مشكلات الوراثة، أو كتابًا عن جنون الشيزوفرينا، فأقرؤها جميعًا في رغبة وفهم ولا أجد ذلك الصدود الذي يجده غيري ممن لم يعنوا بالعلوم.
وكل هذه العلوم هي دراستي المستقلة؛ لأن ما حضرته من محاضرات في لندن لا يؤبه به. ومما آسَف عليه أحيانًا أني لم أجد المرشد حوالي ١٩٠٧ الذي كان يستطيع أن يعين لي منهجًا دراسيًّا في العلوم. ولكني — بعد التفكير — أسائل: هل يكون أفضل لي لو أني كنت قد انغمست في دراسة علمية تجريبية معينة؟ ألم تكن مثل هذه الدراسة مانعة بطبيعتها الاختصاصية من ألوان أخرى من الثقافة الموسوعية التي أتمتع بها الآن؟ إني لا أكاد أعرف اختصاصيًّا في علم ما، نجح في أن يكون موسوعيًّا ينطلق في سهولة ويسر إلى رياض الفلسفة والأدب والاجتماع، مع أن كل هذه الميادين — فضلًا عن العلوم — قد ألِفتها وجُلت — بل نقبت — فيها وفكرت في تناسقها، وسرت فيها بروح المتعلم الذي يربي نفسه في بُعدٍ عن الاغترار والزهو. فإذا اعتبرت القيم — قيم الحياة لا قيم التخصص الثقافي — فإني أجد أني نجحت في تربية نفسي أكثر مما لو كنت قد تخصصت؛ لأن المتخصص في الجيولوجية أو البيولوجية أو الأيكولوجية قَلَّمَا يفكر في دراسة أفلاطون أو قراءة الجاحظ أو دراسة الحضارة الفرعونية. ولكني أنا بالاتجاه الموسوعي الذي اتجهته قد درست هذه العلوم، في غير تخصص، ولكن مع الاستطلاع الدائم لغيرها من الثقافة؛ حتى إني أقدِّر — مثلًا — عدد المؤلفات التي قرأتها عن حضارة الفراعنة بما لا يقل عن أربعين أو خمسين كتابًا. ولم أترك كلمة مطبوعة للجاحظ لم أقرأها. وكذلك أستطيع أن أؤلف كتابًا عن جوتيه أو الإصلاح الزراعي في مصر أو المسألة الهندية بأيسر عناء.
ولذلك يرى القارئ أني درست لا للثقافة، بل للحياة، وقد حملتني دراستي العلمية على أن ألتفت كثيرًا إلى المراحل البعيدة التي قطعتها العلوم المادية، كالطب والهندسة والكيمياء والميكانيات والطبيعيات، مع تأخر العلوم الاجتماعية التي حال دون التفكير الحُرِّ فيها وتغيير قواعدها تقاليدُ وشعائر وسنن وقوانين تعمل كلها لتجميد تطورنا الاجتماعي. فالاجتماع — باعتباره علمًا — يعيش على مستوى التفكير في ١٦٠٠ أو ١٧٠٠ ميلادية، بل هو في أقطار آسيا وأفريقيا يعيش على مستوى سنة ١٠٠٠ للميلاد، في حين أن الكيمياء أو الطب يسبقانه بنحو ٣٠٠ أو ٤٠٠ سنة؛ ولذلك نحن لا نعيش المعيشة العلمية في بيوتنا ولا يسود حكومتنا النظام العلمي. ولو أنه كانت هناك تقاليد وشعائر وسنن وقوانين للكيمياء مثلًا — كما للمجتمع — لبقي هذا العلم على مستواه حين كان كل هَمِّ الكيماوي أن يُحيل الرصاص إلى ذهب. كما أننا لو استطعنا التخلص من تقاليدنا ومن الاستغراضات التي تخدم بعض الهيئات والطبقات لكان في مقدورنا أن نرتفع بالاجتماع إلى مستوى العلوم التجريبية المادية.
ولهذا أيضًا نجد أن الطالب الذي يدرس الطب نقول له في صراحة إنَّ الذباب ينقل عدوى الرمد أو الدوسنطاريا، أو إن لحم البقر الذي أصيب بالدرن تنتقل عدواه إلى آكله من البشر، ولكنا لا نقول لهؤلاء التلاميذ أو الطلبة إن الأجور المنخفضة التي يحصل عليها العمال في مصر تُفشي بينهم الدرن والعمى والموت؛ لأننا نخشى هنا الاستغراضات الامتيازية والاحتكارية والاقتصادية. ونخشى أن نصرح للفلاحين بأن كثيرًا من الغيبيات التي يؤمنون بها خرافية.
ذات يوم في ١٩١٨ كنت قاعدًا في الريف إلى قناة صغيرة في ظل شجرة وإلى جنبي فلاح قد بلغ الثمانين. وكنت أتأمل يرقات الضفادع وهي تسبح. فسألت الشيخ عنها فاتضح لي أنه لا يعرف أنها ضفادع صغيرة. ثم تشعب الحديث إلى النبات فقال: «إن لكل نبتة من هذه الأعشاب التي تنمو على شطوط القنوات ملكًا يحرسها.» ولما نهضت أخذت أفكر في هذه الرواسب الثقافية التي انحدرت إلينا عن الفراعنة والكلدانيين والبابليين، وجعلتنا نعيش في غيبيات تحملنا على النظر المخطئ لحقائق هذا العالم وتباعد بيننا وبين النظر العلمي الموضوعي. وقلت في نفسي: هذا الرجل غيبي يؤمن بأن العالم حافل بالأرواح التي تحرس الناس والحيوان والنبات؛ إذن هو من خصوم داروين.
ولكن هذا الفلاح المُسِن يمثل في سذاجته المركَّزة جهل الرجل العادي والمرأة العادية. وكلاهما يعيش بذهنه على رواسب قديمة من العقائد؛ حتى إن فكرة «القرينة» عند الفراعنة لا تزال حية في أيامنا. أجل! لقد ذكرت الآن؛ فقد كنت طفلًا لم أتجاوز السابعة أو السادسة، وكنت قد غضبت وصرخت ورفست وأنا على العشاء. فقالت لي أمي تخيفني: «دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.»
وكانت تعني بأختي هذه «قرينة» الفراعنة. وقصدت إلى الفراش ونمت بلا عشاء. وإذا بي أحلم أن فتاة قد حضرت وهي تحمل سوطًا ترفعه في الهواء كي تتحفز لضربي، فصرخت في النوم. وأقبلت إليَّ أمي في فزع فأيقظتني وحضنتني وجاءتني بكوبٍ من الماء شربت منه جرعة. ثم أخبرتها عن الحلم، فأخذت تقبِّلني وهي تبكي: «حقك عليَّ يا ابني، أنا كنت بضحك، مفيش أخت، مفيش أخت.»
ولكن مجتمعنا لا يزال في أسر هذه القرينة أو ما يشابهها من العقائد التي تتخذ أحيانًا أسلوب البحث العلمي. كما نرى مثلًا في أولئك الذين يزعُمون أنهم يستجلبون الأرواح فتنقر على المائدة وتتحدث عن العالم الثاني … وهذه العقائد تعيش كأنها كابوس للمجتمع تعمل على تجميده وتخويفه حتى لا يتطور. ودعاة الروح هؤلاء لا يختلفون عن تلك الأم الساذجة التي تقول عندما يعثر طفلها: «وقعت على أختك أحسن منك.» تمدح الأخت وتسترضيها حتى لا تصيب طفلها بأذى …
وهذه القرينة أو هذه الأخت التي أفزعتني في نومي، وهذه الملائكة التي تحرس النباتات عند ذلك الفلاح المسن، هي ضباب العقل الذي كان يجب أن يقشعه العلم. وقد انقشع أو كاد في أمريكا وأوروبا. ولكنه لا يزال يخيم علينا؛ لأن الثقافة العلمية لا تزال بعيدة عنا لم نتنفس هواءها الصافي.
وهذه الثقافة العلمية هي ما أَفْتَأُ أرجو أن أجعلها أسلوبي في الحياة الشخصية والاجتماعية. ولكني لم أخطئ قط ذلك الخطأ المألوف بأن أجعل العلم غاية إذ هو وسيلة فقط. أما الغاية فيعينها الأدب والفن والفلسفة. أي إن غاية العلم هي الدين الذي نكسبه من الأدب والتاريخ والفن والفلسفة. أي كيف نعيش في مجتمعنا أصلح العيش وأروحه وأقصده وأشرفه.
وقد وضعت كتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» ولي مأرب هو مكافحة الغيبيات الشائعة، ونشرته كله مقالات في «البلاغ» قبل طبعه كتابًا؛ كي أصل إلى أكبر عدد من القراء. ومن الذكريات السعيدة أني وقفت ذات يوم إلى دكان صغير لا تزيد مساحته على ثلاثة أمتار مربعة أشتري لابني بعض الحلوى، فعرفني البائع وأخبرني أنه قرأ كتابي هذا وفهمه.
ولو أني وجدت التشجيع لأرصدت حياتي لإخراج كتب شعبية مثل «نظرية التطور» و«العقل الباطن» ونحوهما. وكثيرًا ما كنت أتحسر حين كنت أرى مؤلفات العقليين في لندن. فإن كتاب «أصل الأنواع» الذي زلزل به داروين الثقافة الأوروبية كان يُباع بأقل من خمسة وعشرين مليمًا.
وحوالي ١٩٣٠ وجدت أنا والأستاذ فؤاد صروف الفرصة سانحة لإيجاد حركة علمية شعبية في مصر. فعقدنا العزم على تأليف «المجمع المصري للثقافة العلمية». وكانت الغاية منه أن يضم جميع المهتمين بالثقافة العلمية ونشرها بين الجمهور. ونجحنا في المشروع نجاحًا لم نكن ننتظره، وعقدنا الاجتماع السنوي الأول له وألقيت فيه محاضرة سيكلوجية عن طبيعة التفكير في ضوء الأحلام في قاعة الجمعية الجغرافية. ولكني في ذلك الوقت كنت أمارس نشاطًا سياسيًّا مركزًا في مكافحة إسماعيل صدقي (باشا) حين ألغى الدستور واستبدل به غيره، واتفق مع المستعمِرين والمستبدِّين على إعادة الحكم التركي الشركسي الذي حاول عرابي أن يحطمه. وأدى نشاطي هذا في السياسة إلى طردي من المجمع.
وكان من حظنا السيئ أننا اخترنا معظم الأعضاء من الموظفين؛ ولذلك حين اختير حسين سري (باشا) رئيسًا لاجتماعه الثاني أرسل إليَّ خطابًا يفصلني من المجمع «مع الشكر». وكان وقتئذٍ وكيلًا لإحدى الوزارات، فوافق جميع الأعضاء «الموظفين» ولم يشِذ غير واحد — غير موظف — هو الأستاذ إسماعيل مظهر. وجاء في عقب طردي الصديق زكي أبو شادي يعتذر إليَّ بأنه لم يجرؤ على مخالفة «وكيل وزارة»؛ ولذلك أعطى صوته ضدي ووافق على طردي، على أنه يعرف أنه ليس من حق المجمع أن يفصلني لنشاطي السياسي. واتجه المجمع بعد ذلك وجهة اختصاصية غير شعبية؛ ولذلك لم ينتفع به الجمهور كثيرًا.
وعندما أقارن بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية أجد أن القيمة العظمى للأولى أنها تحريرية؛ لأن التفكير العلمي يسير على نهج ارتقائي: هذا سيئ فيجب أن نبحث عن الحسن، وهذا أحسن ولكن يجب أن ننشد أحسن منه بالاكتشاف والاختراع. والتفكير الارتقائي هو بطبيعته تفكير علمي. وهو لم ينشأ في أوروبا إلا بعد أن اتَّجه الأوروبيون وجهة علمية في القرن السابع عشر. أما قبل ذلك فلم يكُن هناك من يقول بأن الشعوب يجب أن ترتقي وتتغير. وقد يرد هنا عليَّ بأنه كان هناك طوبَويون يتخيلون حالًا سعيدة للبشر غير حالهم الحاضرة. ولكن الفكرة الارتقائية لم تنبت قط في هذه التربة الطوبوية، وإنما نبتت من البذور العلمية.
والثقافة الأدبية إذا لم تجد الحافز من العلوم تركد، وقد كان هذا شأنها في العصور الوسطى: وسط زراعي راكد يعيش في ثقافة أدبية راكدة محافظة. أما الآن فالعالم المتمدن يعيش في وسط صناعي متحرك، يعيش في ثقافة علمية متحركة متغيرة.
ومن هنا قيمة التوجيه العلمي في الثقافة العربية الحاضرة. بل يجب أن يرتفع هذا التوجيه إلى مقام الدعاية.