مقدمة المحرر
مر الأدب في الولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن العشرين بحركةٍ خلَّاقة أنتجت — بعدما بلغت درجة الاتزان في الفترة التي تقع بين الحربَين العالميتَين — بعض الروائع الأدبية التي صدرت عن هذه القارَّة في كلِّ تاريخها.
ولم يحدث هذا غير مرةٍ واحدةٍ قبل ذلك، حينما ازدهرت الحركة الرومانسية بين عامي ١٨٣٥م و١٨٥٥م على ساحل الأطلانطي فيما أخرجه «كوبر» و«إبرفنج»، و«بو»، و«إمرسن»، و«هوثورن»، و«ملفيل»، و«ويتمان». أما الآن فقد جاءت الدفعة من كل أرجاء القارة، من الأطلانطي إلى الباسفيك، ومن الحدود الكندية إلى الحدود المكسيكية. وقد زاد عدد الكتاب واشتد تنوعهم؛ فهنالك «مارك توين»، و«هنري جيمز»، و«دريزر»، و«فروست»، و«لويس»، و«أونيل»، و«إليوت»، و«فوكنر»، و«همنجواي»، وكثيرون غيرهم.
وفي كلتا الحالتَين كانت الحركة الأدبية في أمريكا جزءًا من اليقظة الخلَّاقة في أوروبا، غير أنها كانت تتميز بشكلٍ واضح عن نظيرتها في إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وروسيا، وإسكنديناوة، ذلك لأن حضارة الولايات المتحدة تختلف اختلافًا شديدًا عن الحضارة في أوروبا، ووجه الخلاف هو أنها — حتى عهدٍ قريبٍ جدًّا — كانت دائمًا في حالة تطور وارتقاء. إن الثقافة الأمريكية — وأعني نمط طريقة الحياة كلها — ثقافة منقولة، وهي نتيجة لتأثير ثقافةٍ متقدمة في مساحاتٍ من الفضاء آخِذة في التضاؤل. ولم تكن الحال كذلك بالنسبة إلى ثقافات أوروبا، حيث كان الناس يُقيمون في نفس الأمكنة لأكثر من ألف عامٍ، وأُتيحت لهم الفرصة لتطوير صِفتهم الوطنية والثقافية من منشئها البدائي خلال مراحل التقدم المختلفة حتى بلغت طور المدنية المعقدة التي نعرفها اليوم.
وقد استقرَّ على ساحل الأطلانطي خاصة مزارعون مُتعلمون من خيار الطبقة الوسطى، جاءوا من أواسط إنجلترا، ونقلوا معهم اهتماماتهم الأدبية. ولبث الأدب الأمريكي خلال قرنَين يُصاغ على غرار طريقة الروائيين والشعراء والنقَّاد وكتاب المسرحية الإنجليز في الكتابة؛ وذلك بالرغم من أن الأدب الأمريكي قد جاهد جهادًا جريئًا ليروي الخبرات الجديدة في القارة الجديدة، من الرسائل التي كانوا يَبعثون بها إلى مواطنهم إلى الملاحِم النثرية. ونتيجة لآثار الحرب الأهلية الهدامة، ولامتداد الحدود، والموجات الهائلة من الهجرات الجديدة من القارة الأوروبية، وانتقال الحياة الاقتصادية في أمريكا من الأساس الزراعي إلى الأساس المدني والصناعي؛ نتيجةً لذلك كله انهارت الثقافة القديمة، وبدأت في الظهور ثقافة جديدة، تُمثل في هذا الظهور أوروبا عامةً وليس إنجلترا وحدَها أساسًا.
ولما أشرف القرن التاسع عشر على نهايته، بدأت الحركة الطبيعية — التي بلغت بالفعل درجةً رفيعة في الآداب الفرنسية والإسكنديناوية والروسية — تجد لها صدًى لدى مجموعة جديدة من الكتَّاب الأمريكان، وكان الكثيرون منهم من الغرب الأوسط والغرب الأقصى والجنوب. ونافست سان فرانسيسكو، وشيكاغو، وسانت لويس، ونيو أورليانز، مدنَ الساحل من بوسطن إلى تشارلستن باعتبارها مراكز ثقافية. وكان «مارك توين» أول كاتبٍ أمريكي له أهميته وُلِد غربي المسسبي، ولكنه لم يكن آخر الكتَّاب من هذه المنطقة، وكان «هنري جيمز» أول من أقام في أوروبا إقامةً دائمةً دون أن يُضحِّي بصفته وخصائصه الأمريكية الأساسية. وقد بات الأدب الأمريكي بالحركة الطبيعية قاريًّا من ناحيةٍ وعالميًّا من ناحيةٍ أخرى.
وليس هنا مجال المحاولة لتعريف «المذهب الطبيعي»، ولكنَّا ينبغي أن نذكُر أنه نتيجة لجُهد الإنسان الحديث في مراجعة آرائه في الطبيعة وفي نفسه طبقًا لما يبدو أنه قد تعلمه من العِلم الحديث، لا بد أن تكون للكاتب وجهةُ نظرٍ يُفسِّر بها آراءه وخبراته، ويربط بينها وبين الحقائق الأبدية، ولم تَعُد الفروض القديمة وافيةً بهذا الغرض. وهذه الثورة الفكرية والعاطفية قد احتدم أوارها في الولايات المتحدة بسبب ما لازم المجتمع الأمريكي من عدم الاستقرار وسرعة التطور. ولما حل عام ١٩١٠م كانت هناك أساليب وصور أدبية جديدة في سبيل التطوُّر، فشهِد نصف القرن التالي ارتقاء المذهب الطبيعي وازدهاره ثم تدهوره في الأدب الأمريكي، وصاحَبَتْه حركة نقدية عنيفة سيطرَت عليه ووجَّهته.
هذه هي القصة التي يحاول هذا الكتاب أن يَرويها، أو على الأقل أن يُناقشها. وبالرغم من أن الكتاب من إخراج أيدٍ كثيرةٍ، إلا أنه قد كُتِب وفقًا لخطةٍ واحدةٍ شاملةٍ كاملةٍ، وقد قدَّم كل كاتب من كتَّاب الفصول المتعددة في هذا الكتاب الجزءَ الذي أسهمَ به بحريةٍ كاملةٍ في الرأي، ولكن في حدود إطار تاريخي ومذهبي ثابت. وقد يكون من المبالَغة أن نقول إنهم جميعًا يتفقون مع كل ما ذكرنا في الفقرات الأولى من هذه المقدمة، ولكنهم لم يجدوا الخطة شديدة التقييد لتفكيرهم وتعبيرهم، ومن ثم فإن ذلك يُعَد دليلًا على درجةٍ كبيرةٍ من إجماع الرأي بين مُؤرِّخي الأدب من الأمريكان في العصر الحاضر. ولم يكن الأمر كذلك في الأربعينيات من هذا القرن حينما وضع تفسير تاريخي مُشابِه — بصفةٍ مؤقتةٍ إلى حدٍّ ما — باعتباره الإطار الذي يدخل فيه «التاريخ الأولي للولايات المتحدة»، ولكنا اليوم نُسلِّم بوجود نهضةٍ أدبية ثانية في الولايات المتحدة فيما بين عامَي ١٩١٠م و١٩٤٠م وبأن لها صفةً عامة؛ نُسلِّم بذلك في داخل الولايات كما يُسلِّم به غيرنا في الخارج. وقد تكون طبيعة هذه الحركة وموعد بدايتها ومداها وأهميتها موضع البحث والنقد والاختلاف في الرأي. ولكن الحقيقة التاريخية بأن هناك حركةً أدبية كبرى في أمريكا في هذه الفترة لم تعُد محلًّا للجدل والتساؤل.
ونحن نسير في هذا الكتاب وفقًا للخط البياني للتطوُّر عند مُعالجتنا لهذه الحركة. فالفصول الأولى تُعالج الفترة فيما بين عام ١٩١٠م وعام ١٩٢٥م على وجه التقريب، حينما كان القصص الجديد والشعر والدراما الحديثة تتَّخِذ صورتها، والحركة النقدية في بدايتها، والفنون الأدبية تعالج — بوجهٍ عام — في فصول مُنفصلة، كما أن كبار الكتاب الذين وقع عليهم الاختيار يدرسون دراسةً مُطولةً، حتى إن كان ذلك على حساب العرض العام، ومن ثَم فقد يبدو للقارئ أننا أهمَلْنا بعض الكتاب من ذوي المكانة الأدبية، أو اكتفَينا بذِكرهم عرضًا، في حين أننا تعرَّضْنا لقليلٍ من الكتاب أكثر من مرةٍ، ولكنا لم نقصد أن يكون الكتاب تاريخًا أدبيًّا مُحددًا، إنما هو سلسلة من مقالاتٍ تاريخية مُتصلة، يقوم بعضها على بعضٍ، ومُرتَّبة ترتيبًا تاريخيًّا ومنطقيًّا إلى حدٍّ كبير.
وما كتبناه عن النهضة ذاتها بعد ذلك – فيما بين عامي ١٩٢٥م و١٩٤٠م على وجه التقريب — عولج بنفس الطريقة. وفي الفصول الأربعة الأخيرة حاولنا على الأقل أن نفتح موضوعَ ما حدث منذ الحرب العالمية الثانية وما يمكن أن تَعنيه. ومن الواضح أن الحافز إلى الحركة الطبيعية الأولى قد انتهى أثره بحلول عام ١٩٤٥م، بالرغم من أنَّ كثيرًا من كبار كُتَّابها كانوا ما يزالون على قيد الحياة يكتبون، كما أن الأثر الواضح للنقد الجديد قد أدَّى كذلك مُهمَّته. وقد ذكر كتَّاب هذه الفصول الأربعة جميعًا، دون أن يجتمِعوا أو يكون بينهم اتفاق سابق، أنهم يُحسُّون انهيارًا شاملًا في الموضوع والشكل على السواء، كما يحسُّون بداية ظهور نوعٍ جديدٍ من الفردية، أشد اتصالًا بالتأمُّل الذاتي — وربما كذلك بالأشكال الأوروبية للوجودية — منه باللَّون الأمريكي التقليدي الذي أطلق عليه «إمرسن» اسم «الاعتماد على النفس». ويبدو الآن أن الأفكار والعواطف أشدُّ تبلبلًا واضطرابًا مما كانت عليه، وأن الأشكال والصور الأدبية الجديدة أكثر انحلالًا، والتجريب في الحياة وفي الأدب يقوم على نطاقٍ واسعٍ في نفس الوقت الذي يبحث فيه الكتَّاب من الشباب خاصة — بجدٍّ — عن القِيَم والموازين. ويبدو أن انهيار تلك القوى التي خلَقَت وشكَّلت نهضتنا الأدبية الثانية لا يتَّجِه نحو الركود الأدبي، وإنما يتَّجِه نحو إطلاق الطاقات الجديدة، ونحو الحاجة إلى صِيَغٍ جديدة وقواعد جديدة. لقد كانت الفترة فيما بين عامي ١٩١٠م و١٩٦٠م فترة محصول أدبي وافر، ولكنها انتهت بإلقاء بذورٍ جديدة لعلَّها أن تُثمر ثمرًا جديدًا.