إعادة كشف أمريكا بالنقد
قال «فان ديك بروكس» في عام ١٩٢١م: «إن أمريكا لم تأخُذ بنصيبها الفعَّال من النقد الذاتي إلا منذ عهدٍ قريبٍ جدًّا، وكأن حركة النقد قد ظهرت بين عشيةٍ وضُحاها.» وهذا النقد الذاتي الجديد لم يكن علامةً من علامات زوال الأوهام، وإنما كان — في ظنِّ «بروكس» — دليلًا على إيمانٍ جديدٍ، إيمان الأمريكان المحدثين بقُدرتهم على تشكيل مصيرهم، «إيمان بالقُدرة على التحكُّم في الظروف، كما تحكَّمَت فيهم من قبل الظروف.» كان الإيمان القديم يقوم على أساس الفرض بأن كل شيءٍ في الطبيعة يتلاءم مع مصلحة الجنس البشري، وأنه من الخير – من أجل هذا — أن نمكِّن للحوادث والأفكار من أن تسير في مجراها، وكانت هذه الفلسفة تتفق تمام الاتفاق مع حضارة في سبيل الانتشار والتقدُّم.
ولما بلغت هذه الحضارة أقصى حدود القارة، ولما استنفدت — على الأقل — بعض مصادر الثروة الطبيعية الضخمة كالأخشاب، ولما فرضت القيود الشديدة على الهجرة إلى البلاد؛ لمَّا تم ذلك كله، أصبح مما لا مناصَ منه ظهور فلسفةٍ جديدة ناقِدة.
وكانت أولى الخطوات في تطوير هذه الفلسفة الجديدة قبول فكرة النقد ذاتها، وكان «بروكس» أول من وصف مُعاصره «راندولف بورن» «بالمجدد في الأدب» باعتباره زعيمًا لدَيه الشجاعة لكي ينقلِب على تقاليد الأدب في القرن التاسع عشر، ويُعلن ثورة الشباب الأمريكي في القرن العشرين.
وكان هذا الشباب يرى أن هذه التقاليد تعتمِد على أوروبا أكثر مما ينبغي، وبخاصة على إنجلترا، وقد كتب «بروك» في عام ١٩١٤م يقول: «إن تَواضُعنا الثقافي هو العقَبة الكبرى … إننا بتوجيه أبصارنا نحو أوروبا لا نكفُّ عن خنق أي نبوغٍ وطني قد ينشأ في هذه البلاد.»
وكان «بروكس» في هذا الوقت يُنادي بنبذ تلك المعايير الأدبية التي جعلت من «كوبر سكوت» آخر في أمريكا، ومن «بريانت وردزورث» آخر في أمريكا، وحوَّلت شعر «لنجفلو» الصافي الرقراق إلى مجرد ترجمةٍ مُستقاة من الأغاني والحكايات الرومانسية الإنجليزية والجرمانية. وقد شعر — كما شعر قبل ذلك بسنواتٍ عدة «إمرسن» و«هوثورن» — بضرورة كشف أمريكا لماضيها المُفيد وحاضرها الحي. وكان «والت ويتمان» من بين الكتَّاب الأمريكان الأوائل جميعًا أقربَ من سار على الدرب. وكان الأمريكان آخِر من استجاب لما تحدَّاهم به «ويتمان».
وربما كان «ﻫ. ل. منكن» أكثر المجدِّدين في الأدب تلونًا وأشدهم قوة، وهو ابن صانع سجاير في «بلتيمور»، وقد تعلم الكثير عن أمريكا لاشتغاله مُراسلًا للصحف التي تصدر في هذه المدينة التي اتخذها لنفسه موطنًا مدى الحياة. وحاولَ أن يكتب عن «نيتشه»، فأتاح لنفسه فرصة التعبير عن آرائه الهدامة للقديم، ولمَّا أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «سمارت ست»، ثم «أمريكان ميركري» بعد ذلك، توفر له منبر يُهاجم منه المقدَّسات والمحرَّمات والتقاليد المرعِيَّة التي ظن أنها تخنق الحياة الأمريكية خنقًا.
ولم يكن «منكن» أول من نبَّهَ إلى أن التزمُّت هو أسُّ البلاء، ولكنه لم يفتأ يُبشِّر بذلك بنفس الحماسة التي بشَّر بها غيره من قبل. والرأي عنده أن الأمريكان ورثوا عن أسلافهم الجادِّين مثاليةً حجبَت عنهم فرصة التعرُّف إلى حقائق الحياة، ومادية حالت دون إيجاد الفرصة لتحقيق المثُل، ولكن الأمريكان كانوا في ظن «منكن» يتعلمون بسرعةٍ يشهد بها كتَّاب من أمثال «تيودور»، «ودريزر».
ومقال «منكن» عن «دريزر» — وهو المقال الذي لا يزال أقوى وأصح دفاع عن هذا الأديب العملاق الذي اختلفت فيه الآراء، أمسى نقطة الارتكاز للحرب النقدية التي ثارت في هذا العهد، وقد شهر سلاح النقد المقلِّدون والمجدِّدون في الأسلوب على السواء، مؤيدين أو معارِضين لقضية «دريزر». وانتهى أحد النقاد — وهو «ستيوارت شرمان» — بإعادة النظر في موقفه الأول، وتحريره مقالات مُقنِعة في تأييد القضية ومعارضتها، ذلك لأن «دريزر» كان قد ذكر منذ عام ١٩٠٠م في روايته «الأخت كاري» التي وُئدَتْ بعد ميلادها، أن الحياة في أمريكا الحديثة قد تكون مأساةً حقيقية، وأن الخير لا يُثاب دائمًا، والشر لا يُجازى، في أمور الناس.
وأوضح «منكن» أن واقعية «وليام دين هولز» المتفائلة الصريحة السابقة لم تُصِب كبد الحقيقة إطلاقًا. وتحت تأثير زعامة «دريزر» وريادته حثَّ «منكن» جميع الشباب من الروائيين الأمريكيين أن يُعالجوا الدوافع الأساسية البشرية — وهي الجنس وكسب المال — دون التغاضي عن النتائج القبيحة المؤلِمة لحماقة الإنسان. ويثبت «همنجواي»، و«فوكنر»، و«ميلر»، و«كيرواك» أن الأجيال التالية من الروائيين الأمريكان قد تعلَّموا الدرس بنجاح.
وكان هذا لونًا من النقد الأدبي يُطلِق الطاقات المكبوتة أكثر مما يُوجِّهها أو يَهديها. وكانت الضرورة إليه مُلحَّةً وقتَ ظهوره – أي قُبيل الحرب العالمية الأولى — بَيْد أنه كان خياليًّا في أساسِه، تأثُّريًّا، مُلهمًا، أكثر مما كان نقدًا يهدف إلى إصدار الأحكام أو التقويم. ولعل المبدأ النقدي الوحيد الذي قدَّمه للحياة الفكرية هو أن الإيمان بأن الأدب — لكي يكون صحيحًا معتمدًا — يجب أن يكون تعبيرًا مباشرًا عن المجتمع الذي يُنشئه. وهذه واقعية بمعنًى أصدق من الواقعية التي عرَفَها الكتَّاب الأمريكان السابقون، حتى «مارك توين». وكان ذلك نداءً للكتَّاب المحدثِين لكي يبدءوا من جديدٍ من جذورِ الخبرة، وأن يجعلوا من الأدب نقدًا عميقًا للحياة، وهو ما ينبغي أن يؤدِّيَه الفن العظيم دائمًا. إن النقد الأدبي والنقد الاجتماعي — على الأقل في هذه المرحلة من مراحل اليقظة الأمريكية — لا يمكن أن ينفصلا.
والناقدان اللذان كان لهما تأثير ملحوظ، واللذان تمخَّضت عنهما هذه النظرة إلى النقد هما المؤرخ «فرنون بارنجتن»، والصحافي المتحرِّر «إدمند ولسن».
ولما أخرج «بارنجتن» كتابه «التيارات الكبرى في الفكر الأمريكي» في عام ١٩٢٧م هزَّ به القرَّاء والعلماء على السواء، وأعاد تشكيل تاريخ الأدب الأمريكي كله كما كان معروفًا، وكان السائد حتى آنئذٍ أن الأدب الأمريكي لم يكن سوى جزءٍ من الأدب الإنجليزي، لأنه مكتوب — إلى حدٍّ كبيرٍ — باللغة الإنجليزية، وأشار «بارنجتن» أولًا إلى أولئك الكتَّاب الذين ظهروا في فترة الاستعمار وفترة الثورة في التاريخ الأمريكي، والذين أنشئوا — من خبرتهم بالحدود الجديدة ومن مُناقشتهم حول المبادئ الأساسية للمجتمع الإنساني — فلسفةً اجتماعية أمريكية مُتميزة، وهذه الفلسفة عنده هي النظام الديمقراطي الزراعي الواقعي الذي بشَّر به «توماس جفرسن». ثم شرع يصنف الكتَّاب الأمريكان طبقًا لعلاقتهم بهذه النظرية، مُؤيِّدين أو معارِضِين.
وكانت النتيجة تعديلًا في الأوضاع، فصعد إلى القمَّة كتَّاب من أمثال «كوبر»، «وثورو»، «وويتمان»، و«مارك توين»، الذين تعرَّضوا مباشرةً للخبرة الأمريكية، وهبط إلى الحضيض كتَّاب من أمثال «بو»، و«جيمز»، و«لول»، و«لنجفلو»، الذين أولَوا الآراء المجردة والمُثُل العُليا اهتمامهم، وكان ذلك ضربًا من ضروب التفسير «للماضي الذي يمكن الإفادة منه» وهي الفكرة التي بشَّر بها بروكس، وغيره من الكتاب، وهي توجيه أساسٍ جديد للتفكير الأمريكي بشأن التراث الثقافي الأمريكي الخاص.
وكان لا بد من انقضاء عشرين عامًا، حتى تستطيعَ جماعة من مؤرِّخي الأدب وناقِدِيه تعمل على أساس العلاقة بين الأدب والمجتمع التي وضع قواعدها «بارنجتن» بعد إدخال شيءٍ من التعديل عليها، أن تُصدِر في «تاريخ الأدب في الولايات المتحدة» حكمًا جديدًا كل الجدة على الاتجاهات الفلسفية والفنية والسياسية والاجتماعية. وكان لا بد من إعادة النظر في تعريف الثقافة قبل أن يستطيع المرء أن يصِف التعبير عنها أو يحكم عليه خلال السنوات الطويلة التي تطوَّر فيها.
وكانت القوى التي دفعت النقَّاد المؤرخين من الأمريكان إلى هذه الآفاق العريضة من الصدق والحق هي — إلى حدٍّ كبيرٍ — المعارك المذهبية التي نشبت في الثلاثينيَّات التي سبقت اشتعال الحرب العالمية الثانية. وقد صدق «بارنجتن» في إيمانه بأن الأدب الأمريكي يجب أولًا أن يُفهَم على أنه التعبير عن الحضارة الأمريكية؛ ولكنه أخطأ في فهمه لهذه الحضارة كما تطوَّرَت في القرن العشرين، فلم يكن بالإمكان أن تبقى القوى العالمية — التي اتجهت نحو التمديُن والتصنيع — حيةً وفقًا للمُثُل التي يحتويها تراثٌ زراعي استِعماري، وسرعان ما اضطُرَّ «المجددون في الأدب» إلى مواجهة هذه القضية الجديدة: وهي أنه إذا كان لا بد للأدب أن يُعبِّر عن مجتمعه، فأي نوع من أنواع المجتمع تستطيع الولايات المتحدة — ويجب عليها — أن تصنَعَه لنفسها الآن؟ لقد تحدَّت قوى الفاشية والشيوعية الهائلة للتراث الديمقراطي تحدِّيًا شديدًا، وضلَّ كثير من الشعراء والروائيين وكتاب المسرحية الأمريكان طريقَهم الأدبي في محاولة الانضمام إلى جانبٍ من الجوانب في قضايا ذلك الوقت التي كانت سياسيةً في أساسها.
وربما كان «إدمند ولسن» من بين نُقَّاد الأدب الأمريكان خيرَ من شقَّ طريقه خلال المعارك المذهبية التي ثارت في الثلاثينيات. وبالرغم من أن «ولسن» قد تأثر بالنظريات السيكولوجية والاجتماعية المتطرفة إلى الحد الذي دفعه إلى كتابة المقالات الممتازة عن مذهب فرويد والمذهب الشيوعي، إلا أنه لم ينسَ قطُّ واجبه كناقدٍ أدبي وناقد للأدب الأمريكي الحديث، وقلَّ من نُقاد الأدب الأمريكان الذين تعرضوا لهذه الحقبة من يستطيع اليوم أن يقوم بما قام به «ولسن»؛ أقصد أن يجمعوا مقالاته في مجلَّدات مُرتَّبة وفقًا لتواريخ ظهورها ليقدِّموا سِفرًا تاريخيًّا للأفكار. وسرُّ نجاحه أنه كان موهوبًا دائمًا في مَيله إلى الكتب الصحيحة لأسبابٍ صحيحة، ومن ثَم استطاع أن يُدوِّن سجلًّا رائعًا لأهداف النقد الكبرى.
ومن قوانين الطبيعة القديمة أن كلَّ فعلٍ له ردُّ فعل مساوٍ في قوته ومُضاد في اتجاهه. وليس التاريخ الأدبي استثناءً من هذه القاعدة، ولا بدَّ لحركةٍ فعالة قوية كحركة «المجدِّدين في الأدب» أن تؤدي عاجلًا إلى ردِّ فعلٍ نقدي أقوى أثرًا تنتهي بمعايير كلاسيكية جديدة وضوابط وأشكالٍ جديدة.
ومن الناس الذين تبادل معهم «منكن» قراع السيوف «إيرفنج بابت» و«ج. أ. سبنجارن»، وكلاهما أستاذ للأدب الحديث — الأول في «هارفارد» والثاني في «كولمبيا» — وكلاهما من أصحاب النظريات الأدبية أكثر منهما من نقَّاد الأدب. وبالرغم من أن «بابت» و«سبنجارن» من الثائرين المتحمِّسين ضد القرن التاسع عشر كأي فردٍ من أفراد «المجدِّدين في الأدب»، إلا أنهما يختلفان عن «بروكس» و«بورن» و«منكن» في إصرارهما على المعايير الخلقية والجمالية دون المعايير السياسية والاجتماعية عند الحكم على الأدب. كانا إلى الفلاسفة أقرب منهما إلى مؤرِّخي الأدب، ونقدهما تأمُّلي فقهي.
وإنما هو «جورج سنتايانا» الذي طابق بين الحركة الإنسانية الجديدة التي دعا إليها بابت، وما أسماه «التقاليد المهذَّبة» وهي آخِر اتجاهٍ من اتجاهات المثُل التي سادت القرن التاسع عشر. وكان على حقٍّ في إحساسه بأن «بابت» و«بول ألمر مور» وأتباعهما يتفقون مع من سبقَهم من أصحاب المثُل في الكفاح ضد عالمٍ من القوانين الطبيعية التي ليس لها سند من العقل.
وتكاد المجموعتان أن تتفِّقا في معارضتهما ﻟ «منكن» و«دريزر» وأكثر المجدِّدين في الأدب، غير أن المنادِين بالحركة الإنسانية الجديدة يختلفون عن سابِقِيهم في أنهم كانوا أقسى قلوبًا وأشد اعتداءً، في حين أن المنادِين «بالتقاليد المهذبة» من النقاد لمعوا فقط في الضوء الخافت الذي تخلَّف بعد وميض «إمرسن».
وكان ألد أعداء «بابت» من أطلق عليهم اسم «الرومانتيكية القديمة» و«العلم الجديد». فجهرَ بأن النقد «ربما كان شيئًا أكثر مما أرادنا «منكن» أن نعتقد، أن الناقد الجاد أكثر اهتمامًا بتحقيق معيارٍ صحيح للقِيَم — بحيث يرى الأمور نسبيًّا — منه بالتعبير الذاتي». وقد أنكر نقد «منكن» باعتباره «ترفيهًا عقليًّا رفيعًا».
وكان يعتقد أن الرومانتيكيين قد أطلقوا الفرد في عالمٍ خلوٍ من المعنى يهيم بغير قانونٍ أخلاقيٍّ أو عقلٍ يسترشِد به. وزاد العلماء المحدثون الاضطراب تعقيدًا بإثباتهم أن القانون الطبيعي قادِر على كل شيءٍ فوق أنه خلوٌ من المعنى. ولم يَرُق ﻟ «بابت» انحراف الأدب الإنجليزي والأمريكي لأكثر من قرنٍ من الزمان حتى أمسى الأمريكان على الأقل في حمأةٍ من الانفعالات والاستجابات الحسية.
فكيف السبيل إلى الخلاص؟ إن ذلك لا يكون بالنكوص من العِلم إلى الدين لأن ذلك معناه أن نستبدل قاعدةً عشوائية غير إنسانية بغَيرها. إن الإنسانيين في العصور الوسطى قد ثاروا ضد الأوامر التي تُمليها عقيدة مُتحكِّمة، ولجئوا إلى البحث العلمي لتعزيز قدرة الإرادة البشرية. والآن أصبح العلم أيضًا تحكميًّا، وتعرضت الإرادة البشرية للخطر مرةً أخرى. والواجب إزاء ذلك أن نردَّ البندول إلى وضعٍ مُتوسطٍ. وعلى الإنسانيين في عالم ثُنائي أن يجدوا طريقًا يستطيع الإنسان فيه أن يُوجِّه شئون الإنسان دون تقديسٍ لسلطة فوق الإنسان أو أدنى منه.
وقد بلغت الحركة الإنسانية الجديدة قِمَّتها في صورتها المتطرفة العقائدية في عام ١٩٣٠م، واستنفدت أغراضها تقريبًا، غير أنَّ تأثيرها في إعادة التفكير في مشكلات الأدب والأخلاق الأساسية كان شديد الوقْع بعيد المدى. ولم يكن فضل «إيرفنج بابت» وزملائه على التفكير النقدي الأمريكي في هجومهم على «منكن»، والمجدِّدين في الأدب بمقدار ما كان في إحاطتهم بخير ما في الفكر النقدي والأدب الكلاسيكي الأوروبي، وقد ضمُّوا قواهم — رغمًا عن إرادتهم — إلى المجدِّدين في الأدب لتحرير الأدب الأمريكي من صِلته الوثيقة — المعوقة لنموِّه — بتقاليد «الأدب الإنجليزي». وقيل إن تلاميذ «بابت» في «هارفارد» كانوا يتندَّرون بإحصاء إشاراته إلى الأدب العالمي، وقد أحصَوا ذات مرةٍ سبعين منها خلال ساعةٍ واحدةٍ. وأمكن للمصادر الكلاسيكية لنظريات الأدب والنقد في فرنسا وألمانيا أن تتدفَّق — كما فعلت أيام «إمرسن» — في الوعي الأمريكي الخلَّاق دون أن تُصفَّى أولًا عن طريق النقاد البريطانيين والمجلات البريطانية.
كما أن حركة النقد في أمريكا — وهي حركة أساسية ثورية — قد أدَّت هي الأخرى دورَها في إيقاظ الوعي القومي الأدبي، واشترك العلماء والمحدثون في معركةٍ أدبيةٍ جديدة.
وبرزت من المعارك التي دارت في تلك الأيام مدرسة جديدة ثالثة في النقد الأدبي، وهي طريقة للتفكير كانت في ذلك الحين أضعف أثرًا من طريقة «المجددين في الأدب» والإنسانيين الجدد، ولكنها ربما سرعان ما أصبحت أهمَّ الطرُق جميعًا لِما أسهمت به فيما أُطلِق عليه فيما بعد اسم «النقد الجديد». تلك كانت التأثرية الجمالية التي بشَّر بها «سبنجارن»، وهو تلميذ من تلاميذ «النهضة» والناقد الإيطالي «جروتشي»، وقد استمدَّ «سبنجارن» آراءه من المصادر عينِها التي استمدَّ منها الإنسانيون الجدد، وهي التيار الرئيسي الذي تجرى فيه التقاليد الأدبية الأوروبية الكلاسيكية، بيد أنه وصل إلى نتائج مختلفة بعض الاختلاف، فأكد أن وظيفة الأدب الأولى ليست هي التعبير عن مجتمعِه وزمانه كما زعم «المجدِّدون في الأدب»، وليست القِيَم الأخلاقية الأساسية لجميع العصور كما زعم «الإنسانيون الجدد»، وإنما هي عملية الخلق الخيالي في حدِّ ذاتها. وردَّد صدى «جوته»، و«كارليل»، و«سنت بيف»، فوجَّه النظر إلى العمل الفني في ذاته وفي علاقاته بمؤلِّفه وقارئه، باحثًا عما حاول الشاعر أن يفعل، وكيف حقَّق آماله، وكيف قُوبِل، غير أنه أضاف إلى ذلك قوله: «إن نوايا الشاعر يجب أن يُحكَم عليها في لحظة العمل الخلَّاق، كما تنعكس في العمل الفني ذاته، ولا يُحكَم عليها بالآمال الغامضة التي يُتَصوَّر أنها نواياه الحقيقية قبل أو بعد أن يتمَّ إنجاز العمل الخلاق.»
وليس من شكٍّ في أن هذه النظرة إلى النقد الأدبي هي في أساسها رومانتيكية، تصِل ما بين «سبنجارن»، و«بروكس»، و«منكن» أكثر ممَّا تصِل بينه وبين «بابت» و«مور»، غير أن نتيجتها المباشرة كانت لفتَ الأنظار إلى العمل الفني دون أيِّ شيءٍ آخر مما أحاط به؛ وبذلك مهَّد الطريق للنُّقَّاد التحليلِيِّين النظامِيِّين الذين ظهروا فيما بعد.
ومن ثَم ترَون أن جميع القضايا الكبرى التي يستطيع النقد الأدبي بحقٍّ أن يتعرض لها قد تم طرحها قبل عام ١٩٢٠م، ودارت حولها المعارك العنيفة غير أن أهم ما أسفرت عنه هذه الحركة النقدية لم يكن في تنمِيَتها لمدرسةٍ متميزةٍ في النقد الأدبي — بالرغم من أنها قد قامت بذلك فعلًا — وإنما كان في تقديمها القواعد الأساسية لنهضةٍ أدبية جديدة، فلم يعُد الكاتب الأمريكي في العشرينيَّات والثلاثينيات يُحسن «التواضُع الثقافي» الذي رثا له «بروكس» و«بورن» في عام ١٩١٥م. وأصبح في إمكانه أن يضرب في مجتمعِه الخاص، كما فعل «تيودور دريزر»، و«سنكلير لويس»، و«جون دوس باسوس»، في قوةٍ وثقةٍ بالنفس كالتي كانت عند «سويفت» أو «فلتير»، وأصبح في إمكانه أن يبحث عن الأمور الحتميَّة المؤسِفة في الحياة كلها، كما فعل «فوكنر» و«أونيل وولف»، وذلك في حدود خِبرته الخاصَّة دون أن يتعرَّض لخطر الإقليمية في التفكير، وأصبح في إمكانه أيضًا أن يستجيب لدوافعه الغنائية الخاصة، كما فعل «فروست» و«إليوت»، دون أن يمتدَّ بصرُه إلى اللغة والمعرفة والتجربة الأولى وتقاليد عصره لكي يستعيد صورةً من صور التعبير.
إن الأدب الأمريكي يمدُّ جذوره إلى أعماقٍ أشدَّ سُحقًا وإلى آمادٍ أكثر في الماضي بُعدًا، استطاع في النهاية أن يكشف عن أموره الخاصة التي يقول فيها كلمتَه وطرقَه الخاصة في التعبير عنها. حقًّا لقد بلغ الأدب الأمريكي «سِن الرشد».