النقد الجديد
كان النقد الأمريكي الحديث نتيجة البحث عن وسيلةٍ أشدَّ صرامةً لتعريف الصفات الخاصة لعملٍ من أعمال الفن الأدبي، وكانت الثورة على الرومانتيكية — على النظرة الرومانتيكية التي ترى أن وظيفة العمل الفني هي التعبير عن شخصية المؤلف، وإن وظيفة الناقد هي تسجيل استجابته الوجدانية الخاصة بالعمل الذي قام به المؤلف — كانت هذه الثورة إحدى التيارات التي أمدَّت هذه الحركة بالحياة. وهذه الحركة الكلاسيكية الجديدة ترى أن العمل الأدبي يتميَّز بدقة الصورة وبالنظام. وكان أولئك الكُتَّاب من الجنوب الأمريكي الذين يرثون لحالة الفردية الفوضوية التي اتَّسمَت بها المدنية الصناعية الحديثة، ويأمُلون في إقامة نوعٍ من النظام أكثر احتفاظًا بالتقاليد، في الفن وفي الحياة؛ كان أولئك الكُتَّاب يستجيبون كجنوبيين لمشكلات الجنوب الخاصة، ويؤكدون إحساس الجنوب بالتقاليد وبالنظام في وجه ما كانوا يَعُدُّونه اضطراباتٍ فاسدة تتصِف بها الحياة الصناعية في الشمال. وكانت حركة إصلاح الأراضي في الجنوب في العشرينيات حركةً رجعيةً مقصودةً لأنها أرادت أن تستردَّ المُثُل والمعايير التي تسود أسلوب الحياة عند التصنيع. وهذا الاتجاه كان ملموسًا في النقد الأدبي في مجلة «الهارب» التي أسَّسها «جون كرورانسم» و«آلن تيت» في عام ١٩٢٢م، والتي كانا يُحرِّرانها بالتضامُن فيما بين عامي ١٩٢٢م و١٩٢٥م.
وفي الوقت عينه كانت هناك حركة مناهضة للرومانتيكية منشؤها مصادر أخرى. وكان الناقد والفيلسوف الإنجليزي «ت. ا. هيولم» قد كتب — في السنوات التي سبقت مباشرةً وفاته في الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٧م — سلسلة من المقالات هاجم فيها الذاتية والغموض في الأدب الرومانتيكي، وبشر «بالصور الجافة القوية» في الشعر كما بشر بالموضوعية والنظام في الفن عامةً. وكان «هيولم» يعتقِد أن الإنسان بالطبيعة فاسد أو محدود، ولن يستطيع — تبعًا لذلك — أن يُنجز شيئًا ذا قيمةٍ «إلا باحترام النظم الخلقية، والبطولية، والسياسية». ومما يترتب على هذه العقيدة عنده التخلِّي عن التفاؤل الرومانتيكي فيما يتعلق بطبيعة الإنسان وإمكانياته. وقد أثرت آراء «هيولم» في «ت. س. إليوت»، وانعكست في مقال «إليوت» — الذي كان له أبلغ الأثر — الذي نشره تحت عنوان «التقاليد والموهبة الفردية» الذي كان أول ظهوره في عام ١٩١٧م. في هذا المقال ذكر «إليوت» «… إن الشاعر ليست له شخصية يعبر عنها، وإنما لدَيه وسيط مُعين، وهو وسيط فحسب وليست شخصيةً بأي معنًى، وسيط تتَّحِد فيه الانطباعات والتجارب بطرُقٍ خاصة غير متوقعة. والانطباعات والتجارب التي تهم الإنسان قد لا تجد لها مكانًا في الشعر، وتلك الانطباعات والتجارب التي قد تكون لها في الشعر أهميتها قد تلعب دورًا مهملًا في الإنسان، أو في شخصيته.» وقد نبذ «إليوت» رأي «وردزورث» في أن الشعر يتخذ أصوله «من العواطف التي يستعيدها الشاعر في هدأته.» وأكد أن الشعر ليس إطلاق العاطفة على سجيَّتها، وإنما هو هروب من العاطفة، إنه ليس تعبيرًا عن الشخصية، إنما هو «هروب من الشخصية». وهنا نجد أن الاهتمام بالصناعة، بالعمل الفني باعتباره ترتيبًا للصور، له دلالته أكثر مما هو اهتمام بالأثر العاطفي للعمل الأدبي في قارئه أو في معناه عند الكاتب بالنسبة إلى سيرة حياته، وهكذا كان النقَّاد الجنوبيون. وأصر «إليوت» على أن ننظُر إلى الشعر كشعرٍ في حدِّ ذاته لا كشيءٍ آخر، فهو ليس سيرةً لحياة فردٍ وليس تاريخًا، بل وليس جزءًا من تاريخ الفكر، إنما هو نمَط من أنماط المعنى لا يُحَدُّ بزمان، ينظر إليه على أكمل وجهٍ، كأنه مُعاصر ولا يندرج تحت اسمٍ مُعين.
وهذه النقطة الأخيرة تُمثل تطورًا آخر في آراء «إليوت» قام بها النقَّاد الأمريكان في الثلاثينيات، ولكنه تطوُّر في الحركة ذاتها. وسواء كانت هذه الحركة مُستمدَّة من أيديولوجية «الهاربين في الجنوب» وهي أيديولوجية رجعية يحس بها أصحابها أو مُستمدَّة من إصرار «هيولم» على الدقة والنظام، أو من دعوة «إليوت» إلى انعدام الشخصية في الفن، فقد كان من أهدافها الأساسية إنقاذ عمل الفن الأدبي من التاريخ والسير، واكتشاف صفة التفرُّد فيه. أما ما الذي يميز الاستخدام الأدبي للغة — وبخاصة الاستخدام الشعري لها — عن الوسائل الأخرى لاستخدام اللغة، وأما ما هو ذلك الأمر الذي تنفرد به القصيدة، فهي الأسئلة التي اهتمَّ النقد الحديث — كما أُطلق عليه — خاصة بالإجابة عنها.
غير أنه لا يكفي أن نقول إن الشعر ينبغي أن يتميَّز بالوضوح ودقة التصوير من ناحيةٍ، وبانعدام الشخصية من ناحيةٍ أخرى.
فقد أوحى تأثير الشعر الرمزي الفرنسي — الذي تسرَّب عن طريق «إليوت» وبوسائل أخرى — بأن الصورة مهما اتَّضحت ومهما دقَّت ينبغي أن تُوضَّح في نمط التصوير العام، بحيث تكتسب ظلالًا من المعنى أخفى كثيرًا (وكذلك أدق كثيرًا) من أي شيءٍ يمكن بلوغه بالكتابة النثرية العادية. ثم إن تأثير الشعراء الإنجليز الميتافيزيقيين في القرن السابع عشر — هذا التأثير الذي أخذ يزداد باطراد منذ نشر طبعة «جريرسون» الكبرى لقصائد «جون دن» في عام ١٩١٣م — قد أضاف معيارًا جديدًا، وذلك هو الخاطر السريع. وقد أكد «إليوت» في مقاله الشهير عن الشعراء الميتافيزيقيين في عام ١٩١٣م أن الفكر والشعور عند هؤلاء الشعراء يسيران معًا، في حين أن الفكر والشعور قد انفصلا عند الشعراء المتأخِّرين. قال «إليوت»: «إن الفكرة عند «دن» هي التجربة فهي تُعدِّل من حساسيته. في حين أن «تنيسون» و«براوننج» هما كذلك من الشعراء، وهما يُفكران، ولكنهما لا يحسَّان فكرهما فورًا كما يحسُّ المرء عبير الورد مباشرة.» وهذا التقدير الجديد للشعراء الميتافيزيقيين الإنجليز كان معناه تقديرًا جديدًا للصلابة الفكرية في الشعر، ولاستخدام سرعة الخاطر استخدامًا جديًّا. وفي القرن التاسع عشر انتقلت سرعة الخاطر في أكثر الأحيان إلى الشعر الهزلي، واعتبرت حيلة التورية وما إليها من قبيل التفكُّه لا تصلُح للشعر الجاد. ولكن النقاد اليوم يتطلَّبون من الشعر نسيجًا فكريًّا أشد صلابةً، مع استخدام التورية وما إليها من حِيَل، كما كانت تُستخدَم في القرن السابع عشر، للتعبير عن السخرية والآراء الغامضة التي تحتمِل أكثر من معنًى.
وتأتي السخرية مع سرعة الخاطر. وقد لخَّص «روبرت بن وارن» — وهو جنوبي النشأة اشتُهر كروائي وشاعر وناقد — جيلًا بأسرِه من النقاش الذي دار حول أهمية السخرية في الشعر في محاضرةٍ عنوانها «الشعر الخالص والشعر الزائف» ألقاها في «برنستون» عام ١٩٤٢م، وقد أصر على أن الشاعر في قصيدة غزلية مثلًا لا ينبغي له أن يكون جادًّا في سذاجة فيما يتعلَّق بنقاء مشاعره وغزارتها، وإنما ينبغي له — إن أراد لقصيدته النجاة من أن تُؤخَذ مأخذ الهزل والتهكُّم — أن يُضمِّنها أيضًا نوعًا من التعبير التهكُّمي الذي يقابل جدِّية القصيدة. فالحب نقي وجميل وعاطفي، ولكنه إلى جانب ذلك شهواني، وبدني وكوميدي. وإذا كان الشاعر لا يُبرهن البتة على إدراكه لهذه الأوجه الأخيرة، تعرض للسخرية. ويوازن «وارن» بين الفردوس الذي حلَّق فيه شعراء الحب للعهد الفكتوري بفردوس فيرونا عند «شيكسبير» حيث كان «روميو وجوليت» يتبادلان العهود العاطفية، في حين كان «مركوشيو» في الخارج يُرسِل نكاته الفاجرة. ويتساءل «وارن»: «على أي شرط يتسامح الشاعر مع «مركوشيو»؟» هناك طرق عدة كما يقول. إذ المهم أن يحتم الشاعر على نفسه التسامح مع «مركوشيو»؛ بمعنى أن يضمن عباراته العاطفية الرئيسية عبارات أخرى تهكُّمية مُضادة لها، ولا ينبغي أن يكون الشاعر بطلًا ساذجًا لقصائده، وذلك ما كان عليه «شلي» في نظر النقد الجديد؛ ولذلك كان «شلي» في الشعر أدنى مرتبةً من «دن» أو من «بوب» أو من «جرارد مانلي هوبكنز» لأن هؤلاء الشعراء جميعًا يلجئون إلى الفكاهة والسخرية بطريقةٍ ما لكي يدخلوا على المعنى الظاهري تعديلًا أو يُضفوا عليه تعليقًا.
ولقد أدركت الحركة الجديدة إلى حدٍّ كبيرٍ الوسائل التي ابتذلت المعنى بها وسائل إعلام الجماهير؛ ولذلك زعم «آلن تيت» في مقال له تحت عنوان «الإيجاز في الشعر» نشرَه في عام ١٩٣٨م «إن كثيرًا من الشعراء يندفع نحو اختراع لغاتٍ خاصةٍ، أو لغاتٍ ضيقةٍ جدًّا.» وذلك «لأن الحديث العام قد أُثقِل إلى حدٍّ كبيرٍ بشعور الجماهير.» ويذكر «تيت» في هذا المقال أن المتعة الأدبية في القصيدة لا تنحصر في مجرد نقلها بطريقةٍ سهلةٍ اتجاهًا من اتجاهات المعاني يسير نحو نتيجة معينة هي «سر» الموضوع كله. ولا تنحصر ببساطة في مجرد تجسيدها للعاطفة التي ملكت على الشاعر نفسَه في تاريخ حياته، إنما امتداد القصيدة — ولا أقول الإيجاز — وحركتها المنطقية من نقطةٍ إلى أخرى، ومن ثم إلى خاتمتها، وكذلك الهدف من القصيدة — ولا أقول الإيجاز فيها مرةً أخرى — والشحنة العاطفية عند الشاعر، وتطوُّره في البلاغة والبيان؛ فإن هذا وذاك أقل أهمية مما يُسمِّيه «التوتر» أو كما قال «الصورة المنظمة كاملةً لكل امتدادٍ وكل هدف نلمسه فيها.» إن التركيب الكامل لمعنى الشعر يتجاوز حركة الفكر التي يمكن التعبير عنها نثرًا، كما يتجاوز تطور الاستعارة عند أي حدٍّ من الحدود. ويُصرُّ «آلن» على أن الشعر ليس مجرد إيصال المعاني والاتجاهات الفكرية، إنما هو وضع المعنى في نمطٍ مُركبٍ لكي يُقرأ ويُقدَّر باعتباره نمطًا مركبًا لمعنًى من المعاني.
وشبيه بهذا الرأي ما نجده عند «جون كرو رانسم» في مقاله: «الشعر، أو ملاحظة على الجوهر» الذي نشرَه في عام ١٩٣٤م. يقسم «رانسم» الشعر ثلاثة أنواعٍ. هناك «الشعر الفيزيقي» الذي يحاول أن يصل إلى الصفات الدقيقة للأشياء باستعمال ذلك النوع من التشبيهات القوية الواضحة الدقيقة، الذي نادى به «ت. ا. هيولم»، والذي نادى به كذلك — إلى حدٍّ ما — شعراء التصوير الذين تفرَّعوا من «هيولم». ولكن العرض الدقيق للاستجابة الإنسانية للأشياء المادية — بالرغم من أنه لون من ألوان النشاط له قيمته — ليس في الواقع مُرضيًا؛ فهو يتقيَّد بحدودٍ غاية في الضيق. وأما النوع الثاني من الشعر عند «رانسم» فهو ما يُسمِّيه «الشعر الأفلاطوني» وهو الشعر الذي يهدف إلى إثارة القارئ لكي يقِف موقفًا خُلقيًّا مُعينًا. وهو لا يَعتبر هذا «الشعر الزائف» شعرًا مُطلقًا، ويتهم «شلي» و«تنسن»، وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر، بابتكار هذا اللون. أما النوع الثالث فهو «الشعر الميتافيزيقي» وهو الشعر الذي يَستخدِم المجاز والكناية وغير ذلك من ضروب البيان لكي يدفع القارئ إلى تصويرٍ بديع مُثير لموضوع الشعر.
وفي موضعٍ آخر يُميز «رانسم» تمييزًا له أثره وله أهميته بين «النسيج» و«التكوين» في القصيدة، النسيج هو نوع التعبير في نقطةٍ مُعينةٍ، مُعزَّزًا بكل نوع من أنواع البديع والبيان الملائم، وذلك لكي يُجسد الشاعر صفات الأشياء التي يشير إليها بكاملها. أما «التكوين» فهو المادة التي يمكن التعبير عنها نثرًا.
فالبحث العلمي عند «رانسم» كله تكوين، لا نسيج فيه؛ فهو يُعالج العموميات، ولا يتعرض للخصوصيات. أما الشعر ففيه تكوين، وفيه نسيج، ولا يكون التكوين ذا معنًى حقًّا وشعريًّا حقًّا إلَّا بإجراء القصيدة خلال العقد والخصائص في النسيج المحلي وهي تتقدَّم خطوةً خطوةً، والتشابُه بين هذه النظرة ونظرية «تيت» الخاصة «بالتوتر» هو جزء من التشابُه العائلي بين كل أولئك النقَّاد المحدثين الذين يُهمهم فصل الصفات الخاصة المميزة للخطاب الشعري عن نظائرها في الخطاب العِلمي أو التاريخي. وبالرغم من أن أكثر هؤلاء النقَّاد يهتمون بالفن الأدبي عامةً، فإنهم يؤثرون في أغلب الأحيان أن يُوضِّحوا آراءهم بالإشارة إلى الشعر الغنائي.
وفي نفس الوقت كان «ا. ا. رتشاردز» في إنجلترا يُطوِّر نظرياتٍ عن طبيعة المعنى الشعري وما يميزه عن المعنى العلمي؛ نظريات كان لها أكبر الأثر على كل حركة النقد الحديث. زعم «رتشاردز» في كتابه «العلم والشعر» الذي نشرَه في عام ١٩٢٦م أن الشعر لا يُعالج الحقيقة العلمية أو التاريخية إنما هو يُعالج ما أسماه «الحقائق المنتحلة»، و«الحقيقة المنتحلة صادقة إذا هي لاءمت موقفًا مُعينًا أو أدَّت له خدمةً ما، أو إذا هي وصلت بين المواقف المطلوبة لأسبابٍ أخرى.» وقد ميز «رتشاردز» بين ما أسماه «المعنى الاستشهادي» الذي يتعلق بالعلم وأنواع أخرى من الكتابة الإخبارية، و«المبنى العاطفي» الذي يتعلق بالشعر، ووظيفته لا تنحصر في إيصال الحقائق أو الأفكار، وإنما تنحصِر في إيصال حالةٍ من حالات الوعي لها قِيمتها. وقلَّ من النقَّاد فيما بعد من أخذ بهذا الجانب من جوانب التفكير عند «رتشاردز» — الذي شرحه في كتابته «أصول النقد الأدبي» في عام ١٩٢٤م — غير أن البحث في الوسائل التي تؤدي اللغة بها عملَها، وهي الوسائل التي أدَّت ﺑ «رتشاردز» إليها آراؤه، فقد كان له أبلغ الأثر.
وعند محاولة «رتشاردز» توضيح رأيه في «المعنى العاطفي» وشرحه، أشار بقراءة النصوص الأدبية بطريقةٍ أدقَّ وبحسٍّ مُرهف بدرجةٍ تفوق ما كان حتى آنئذٍ شائعًا بين النقَّاد. وأدخل في نطاق النقد الأدبي دراسة معاني الألفاظ، أو ما أسماه «معنى المعنى»، وبذلك عاون على تشجيع المعالجة التحليلية الدقيقة لكل قصيدةٍ على حدةٍ، وهي المعالجة التي تميز بها النقد الحديث. وقد رأينا من قبل كيف أن النقاد الجنوبيين — تشجعهم تقاليد النقد التي نبعَت من «هيولم» و«إليوت» — أصرُّوا على الكشف عن سرِّ صناعة الفنان الأدبي في تفصيلٍ دقيق. وبذلك مارسوا نوعًا من النقد التحليلي الصارم وشجَّعوه، وبتأثير «رتشاردز» ظهر دافع جديد إلى نفس هذا النوع من التحليل الصارم، فلا عجبَ إذن إذا تميز النقد الحديث بالوسائل التحليلية الدقيقة. وإذا كانت الكتابات النقدية ذات الطابع الشخصي المتراخي التي تميَّز بها كثير من بحوث النقد في القرن التاسع عشر ومُستهل القرن العشرين، واستخدامها للعموميات على نطاقٍ واسعٍ، قد تعرَّضت للهجوم الشديد من كُتَّاب النقد الذين يمثلون الاتجاه الأمريكي في العصر الحديث.
دراسة الصناعة عند الكاتب: بذلك يسَعُ المرء أن يصف جانبًا كبيرًا من «النقد الجديد». ما الذي يجري في العمل الفني الأدبي — وبخاصة في القصيدة؟ كيف تعمل اللغة فيها؟ وكيف يُستخدَم التصوير؟ وأي معنًى عامٍّ تُحققه وبأية وسيلة؟ هذه هي الأسئلة التي يسألها النقد الجديد، وهو يسألها دائمًا بقصدٍ خفيٍّ هو إظهار كيف يكون العمل الفني الأدبي «هو نفسه ولا يكون شيئًا آخر»، لا يختلط قطُّ بأنواع الكتابة العادية، الوصفية أو الإخبارية، أو الهادفة إلى غرض مُعين. ومن أكثر النقاد الجدد تنوعًا وحدة ذهن، الذين يدرسون فن الكاتب بنوعٍ من الفطنة — أو حتى المسرح الذي يجتذب النفوس بدرجة قصوى — «ر. ب. بلاكمور»، ومجموعات المقالات النقدية الكثيرة ﻟ «بلاكمور» تبحث في الوسائل التي يمكن للصناعة أن تحول بها الأفكار إلى معانٍ شعريةٍ، والعلاقة بين الأفكار، والخيال، والصناعة.
والنقد الجديد — بتأثيره على الدراسة الأكاديمية للغة الإنجليزية — عاون على الحطِّ من قيمة طريقة الاستعراض بما تتضمَّنه من تعميمات تاريخية كبرى، وعلاجه للأدب باعتباره وثائق في تاريخ الأفكار، وركز الاهتمام في الوصف المفصل التحليلي لعملٍ مُعين، وتدفَّقت من المطابع خلال العشرين سنة الماضية كتب النصوص التي تهدف إلى تدريب الطالب على الوصف التحليلي. ومن الكتب التي اشتُهِرت في هذا الباب «فهم الشعر» ﻟ «روبرت بن وارن» و«كلنث بروكس» الذي نشر عام ١٩٣٨م لأول مرة. وكان «كلنث بروكس» كاتبًا من كُتَّاب النقد الجديد له خطره، ومن أكبر دعاة هذا النوع من النقد. وفي كتابه «الشعر الحديث والتقاليد» الذي نشر في عام ١٩٣٩م عالج الشعر الإنجليزي من الزاوية التي تتَّخِذ معيارًا لها الاستخدام الرمزي للصور الشعرية، وتركيب الترتيب، والسخرية والمتناقضات، وهي معايير تدين كثيرًا للآراء النقدية ﻟ «هيولم» و«إليوت» وجماعة الهاربين، و«أ. أ. رتشاردز»، والناقد الإنجليزي «ف. ر. ليفيز». وكان من نتيجة ذلك أن مجد كل شاعر سار في طريق التقليد «الميتافيزيقي الرمزي»، وغضَّ من شأن أولئك الذين لم ينهجوا هذا السبيل. وفي الدراسات النقدية التي قام بها فيما بعد أظهر «بروكس» مزيدًا من التزمُّت في التقدير — شأنه في ذلك شأن النُّقاد الجدد الآخرين — ولكنه حتى عندئذٍ لا يُبدي إعجابًا بشاعرٍ لا يستطيع أن يُبرهن على أنه يميل إلى السخرية والمتناقضات. وفي مقال عنوانه «لغة التناقُض» ظهر في عام ١٩٤٢م وأعيد طبعه في عدة مجموعات من مختارات النقد يصر «بروكس» على أن «من المعاني ما يكون تناقُض اللفظ فيه هو اللغة الملائمة التي لا محيصَ عنها في الشعر، إنما هو العالم الذي تتطلب لغته لغةً خالصةً من كل أثرٍ من آثار التناقُض. ومن الجلي أن الصدق الذي يُعبر عنه الشاعر لا يمكن بلوغه إلا في صيغ التناقُض اللفظي». واستطرد في كلامه يُبين أن هناك تعبيرًا عن موقفٍ من المواقف المتناقضة، وأن قوة القصيدة إنما تنشأ عن الموقف المتناقِض، ويكون ذلك حتى في قصيدةٍ قد تبدو غاية في البساطة والاستقامة في ظاهرها، مثل مقطوعة «وردزورث» الغنائية «على قنطرة وستمنستر».
ويزعم «رتشاردز» أن العالم يستخدم المعنى الاستشهادي، في حين أن الشاعر يستخدِم المعنى العاطفي. والبحث العلمي في رأي «جون كرو رانسم» يستخدِم التركيب ولا يستخدم النسيج، في حين أن الشعر يستخدمهما معًا. والعالم — عند «بروكس» — بحاجةٍ إلى لغةٍ خالصة من التناقُض، في حين أن الشاعر لا يَستغني عن اللفظ المتناقض. وهنا يستطيع المرء أن يلمس الاهتمام المشترك بالتفرقة بين العِلم والشعر؛ تلك التفرقة التي كانت ظاهرة هامة من مظاهر النقد الحديث في نظرياته ومعالجته. والظاهر أن الغرض المختفي في النفوس هو أن الشعر — في عصر العلم — لا يستطيع أن يُنافس العلم على صعيدٍ واحدٍ مشتركٍ. وإذا أردنا دفاعًا سليمًا عن الشعر فلا مناصَ لنا من أن نُبين أنه — بل إن الأدب الخيالي عامةً — شيء منفصل تمام الانفصال، سواء في طريقته في تناول اللغة أو في قيمته.
ومن نتائج هذا الإصرار على تفرد الطريقة الأدبية — والطريقة الشعرية خاصة — في استخدام اللغة أن نشبَ شيء من الصدام بين المؤرخ الأدبي والناقد الأدبي؛ إنما يهتمُّ الناقد بتركيب المعنى في قطعةٍ مُعينةٍ من الفن الأدبي، في حين أن المؤرخ يسعى إلى أن يضع أحكامًا عامة عن الأعمال الأدبية في عصرٍ من العصور وعلاقتها بالثقافة التي صدرت عنها، وليس بوسع المؤرخ إلا أن ينظر إلى الأعمال الأدبية باعتبارها وثائق في تاريخ الفكر بمعنًى ما، وهو أيضًا على وعي بالمعاني المتغيرة للكلمات، وإلى أي مدى لا يمكن تقدير معاني الأعمال الأدبية التي كُتبت في الماضي تقديرًا كاملًا دون بعض العلم بالعادات العقلية التي تسود ذلك العصر. أما النقاد الجدُد فيميلون إلى أن ينظروا إلى القصيدة باعتبارها تركيبًا معنويًّا لا يحدُّه زمان يمكن تحليله دون الإشارة إلى المعاني الخاصة للكلمات في لحظةٍ معينةٍ من الزمان. وقد أزعج ذلك بعض الباحثين من الأدباء المحافظين الذين ظنُّوا أن النقد الحديث يزعُم لنفسه التحرُّر الكامل من مُقتضيات التاريخ. وقد اتضح لنا الآن أن النقَّاد الجدُد لم يقصدوا البتة أن تكون لهم هذه الحرية، بل إنهم لينظرون إلى أي بحثٍ تاريخي فيما كانت تَعنيه بعض الكلمات في وقتٍ مُعينٍ، كما ينظرون إلى أي نمطٍ مُطابق من أنماط الفكر التي تتعلق بالعصر الذي صدر فيه العمل الأدبي؛ ينظرون إلى ذلك باعتباره أساسًا سابقًا من أُسس النصِّ لا مندوحة عنه (كجمع المخطوطات قبل طبعها، أو كتعلم اللغة الأجنبية قبل أن يستطيع المرء أن يقرأ نصًّا في هذه اللغة). إنهم يعتبرون هذا اللون من ألوان النشاط ضرورة لا بد منها، ولكنها من الضرورات «التي تسبق النقد». إنما النقد عندهم يبدأ بالبحث في الطريقة التي تعمل بها الألفاظ في نموذجٍ معينٍ من نماذج الفن الأدبي.
ومن نتائج الطريقة التحليلية للنقَّاد الجدد، ومما تُوصَم به، أنها تردُّ الشعر كله إلى معادلة من المعادلات (كالتناقُض اللفظي، أو «التركيب والنسيج») وأنها تضع مجرد القُدرة النادرة على التحليل في المحل الأول. وإذا اجتهد الناقد بدرجةٍ كافية استطاع أن يُبرهن على أن أي نصٍّ فيه تناقُض لفظي أو فيه سخرية. ومن ذا الذي يُحدِّد النقطة التي يكفُّ عندها الناقد عن أن يُطالع ما هو موجود فعلًا في النص ليبدأ في مطالعة البراعة الخيالية في المعاني التي ليست كائنةً في العمل الأدبي بأي معنًى من المعاني؟ ولقد كان للناقد الإنجليزي «وليام إمبسون» — الذي بدأ حياته تلميذًا ﻟ «رتشاردز»، والذي أخرج تحليلاتٍ للمعاني في الأعمال الأدبية فيها جاذبية وبراعة — تأثير بالِغ على الشباب من النقَّاد الأمريكيين الجدد. غير أن الباحثين الأمريكان عارضوا تفسيرات «إمبسون» على أُسسٍ تاريخية وفي حدود التقاليد المرعِيَّة التي كان يكتب في ظلِّها المؤلفون الذين يتعرض لهم بالنقد.
إن الألفاظ التي عزاها إليها، والتحليل الذي يزعم أنها تحمله هذه المعاني يُبعدنا عن العمل الأدبي نفسه ولا يدعونا إلى الغوص فيه.
ولقد قيل إن النقد الجديد شجع بعض الأفراد الذين ليس لدَيهم علم حقيقي بماهية الأدب على ممارسة القدرة على التحليل، وأنه شجع على استخدام الألفاظ المتكلَّفة، ونقَلَ النقد إلى مجال تخصصٍ فني رفيع بحيث لا يمكن للقارئ العادي أن يقرأه أو يتذوَّقَه، فلا يقرؤه إلا النقاد الآخرون.
كما قيل أيضًا — ولعل هذا الذي قيل هو أخطر التُّهَم التي وُجِّهت إلى النقد الجديد — إنه تجاهل تمامًا علاقة الأدب بالحياة، والوسائل التي يُلقي بها الأدب الضوء على الحياة، والنظرات الثاقبة والسرور الذي يبعثه الأدب في القُراء، وهبط بالأدب إلى مستوى فكِّ الألغاز المعقدة التي لا يهتم بها إلا الإخصائيون.
كما قيل أحيانًا إن النقَّاد الجدُد في اعتراضهم على الأفكار الخاطئة السوقية، وعلى الخلط بين الاستخدام الشعري والاستخدام العلمي للغة، وعلى الخلط بين الشعر والفصاحة أو بين الأعمال الأدبية والأعمال التي تهدف إلى التربية الخلقية المباشرة، قيل إنهم ربما تغالوا ووقفوا موقفًا ربما دلَّ على أنهم يرَون أن الهدف النهائي للفن هو الحث على تحليل الناقِدين، وأن وظيفة الناقد هي تدريب النقَّاد الآخرين على تدريب النقَّاد الآخرين في تتابع أكاديمي مُجدب للمُحلِّلين النابِغين الذين يتبادلون الحديث فيما بينهم.
إن كل حركةٍ نقديةٍ يمكن أن يُبالَغ فيها إلى درجةٍ مُضحكة، وقد مارس «النقد الجديد» مختصُّون، مُغالون، ضيِّقو الأفق. ثم إن موقف النقد لا يمكن أن يأمُل في قول الحق كل الحق عن طبيعة الفن عامةً أو عن عملٍ مُعينٍ من حيث نوعه ومعناه. ولكن الحركات النقدية المثمرة تلفت النظر إلى بعض أوجه الفن التي غمرها النسيان أو لم تُفهَم حتى الآن حق فهمها. إن الثورة الحديثة على الرومانتيكية الزائلة كانت ضرورة، والإصرار على دقة التحليل، وعلى قراءة النصوص «قراءةً فاحصةً» كان علاجًا صحيحًا للتعميمات المهلهلة التي كثيرًا ما كانت تدخل في باب النقد في بداية هذا القرن. والنقد الجديد بصيحته التي نادى فيها قائلًا: «انظر إلى العمق نفسه! وافحص النص!» علَّم القرَّاء أن يُقدروا الأعمال الأدبية مباشرةً ولا يُقدروها عن طريق «أحكام» ثم هضمها أو عن طريق تواريخ مُدوَّنة تُنبئهم قبل الرجوع إلى النص — في عباراتٍ عامة جدًّا — عن الصفات التي يلتمسونها في الأعمال الفنية. ولئن كان الوقت الذي كان الطلاب يستطيعون فيه أن يؤدوا امتحانًا في الدراسة الأدبية بمجرد استذكارهم لقوائم من الصفات التي يمكن أن تُطبق على كُتَّابٍ مُعيَّنين، لئن كان هذا الوقت قد فات، فإن ذلك يرجع إلى حدٍّ كبيرٍ إلى فضل النقد الجديد. وربما لم يكن من الحق أن كل الشعر الجيد يقوم على أساس تناقُض ظاهري بين المعنى والمبنى، أو لم يكن من الحق أن التركيب والنسيج هما دائمًا صلب القصيدة الشعرية. إلا أنه من الحق أنَّ إدراك العمل الفني وتقديرَه قدرَه الصحيح يقتضيك أن «تقرأه». إن النقد الجديد قد عَلَّم جيلًا بأسرِه أن يقرأ، وإذا كان أحيانًا يدعو إلى القراءة من السياق الإنساني الذي يُكسِب وحدة المكتوب معنى، فربما كان الخطأ هنا ضرورة لا محيص عنها في حركةٍ ظهرت لتُعارِض — إلى حدٍّ كبيرٍ — الاندفاع الرومانتيكي.
إن «النقد الجديد» — كما استُخدِم على وجه العموم لفترةٍ ما — كثيرًا ما اقتصر في معناه على ذلك اللون من الوصف التحليلي الصارم لبعض الأعمال الأدبية، مع قراءة النص قراءةً فاحصةً، وذلك نتيجةً للثورة الكلاسيكية الجديدة في هذا العصر الحديث. غير أن هناك أوجهًا هامة أخرى للنقد الأمريكي الحديث هي أيضًا جانب من النقد الحديث في تعريفه الأعم. فالاهتمام بالطريقة التي تعمل فيها اللغة في الشعر أدَّى إلى دراسة الاستعارة ومكانتها من التعبير الشعري، وارتبطت دراسة الاستعارة عند بعض النقَّاد بدراسة الأساطير، ودراسة الأساطير بدَورها تقدَّمَت بتقدُّم الدراسات الأنثروبولوجية والسيكولوجية، ودراسة مكانة الأساطير والرموز في الحضارات البدائية وفي الأدب القديم ارتبطت بدراسة معاني الألفاظ والدراسات النقدية للطريقة التي تعمل بها اللغة في الشعر. ونشر الأستاذ «إرنست كاسيرر»، وهو ألماني المولد، كتابه «فلسفة الأشكال الرمزية» الذي أخرجه فيما بين عامي ١٩١٣م و١٩٢٩م. وفي هذا الكتاب أمدَّنا بأساسٍ فلسفي — يرجع فيه إلى «كانْت» إلى حدٍّ كبيرٍ — لهذه الدراسة الجديدة للأساطير والرموز. وطورت «سوزان لانجر» نظريات «كاسيرر» في كتابها «الفلسفة بمفتاح جديد» الذي نشرته في عام ١٩٤٢م، وهو كتاب قوي التأثير يبحث في الأساطير كطريقةٍ من طرق المعرفة، وقد طبقت السيدة «لانجر» هذا التحليل في كتابها الذي نشرَته بعد ذلك تحت عنوان «الشعور والشكل» في عام ١٩٥٣م على عرض النظرية الرمزية إلى الفنون، وهكذا تضافرت الدراسات الأنثروبولوجية والسيكولوجية، ودراسات معاني الألفاظ، والآراء النقدية، على تشجيع الناحية التي أُطلِق عليها اسم «الأسطورة والاستعارة» في النقد الجديد. وكذلك رجع الكتاب إلى دراسة الفلكلور والطقوس لإلقاء الأضواء على الطرق التي تعمل بها لغة الشعر، ولشرح ما تدلُّ عليه بعض العُقَد الأساسية الخاصة في المسرحية والرواية.
وتستند مدرسة «الأسطورة والاستعارة» إلى مذهب «كارل يونج» في علم النفس أكثر مما تستنِد إلى مذهب «فرويد». فإن نظرية «يونج» عن الذاكرة العنصرية واللاوعي الجماعي، وفكرته عن «النماذج التاريخية» — التي يقصد بها النماذج التي تستمدُّ قوَّتها من تاريخها الطويل في اللاوعي الجماعي — أثبتت أنها مثمرة بصفةٍ خاصةٍ للنقد الأدبي. وقد أخرجت «مود بودكن» في إنجلترا في عام ١٩٣٤م كتابًا تحت عنوان «نماذج الشعر القديمة» بحثت فيه بعض الوسائل التي تُعلل بها هذه النماذج والمواقف القديمة الأثر الذي تتركه بعض الأعمال الفنية الأدبية العظمى. ومنذ ذلك الحين أخذ كثير من النقَّاد الأمريكان يُطوِّرون هذا اللون من ألوان التحليل، فنشر «رتشاردتشيس» في عام ١٩٤٩م كتابه «البحث عن الأساطير» وفيه يرى أن كل شعرٍ حقيقي ضرْب من ضروب الأسطورة، وهذا النوع من أنواع البحث يُعين بصفةٍ خاصةٍ عند معالجة الكتَّاب الرمزيين الذين يلجئون إلى استخدام الأساطير بصورةٍ واضحةٍ من أمثال «هرمان ملفيل» و«ناتانيال هورثون». كما أنه استُخدِم أيضًا استخدامًا فعَّالًا عند البحث في «شكسبير»، وبخاصة في مسرحية مثل «الملك لير» التي نجد فيها عناصر أسطورية قوية. وخطر هذه الطريقة هو أنه من الممكن أن تبسط الأمور، وترد الأعمال الأدبية العظمى المعقدة إلى ما يعادل الأساطير البدائية، وتجعل «الملك لير» معادلةً لحكاية فلكلورية أو أغنية من أغاني الأطفال. وقيمة هذه الطريقة — من ناحية أخرى — ترجع إلى الإشارة إلى الأنواع الرئيسية من المعاني والاهتمامات البشرية التي يمكن أن نجدها في الأعمال الأدبية، كما ترجع إلى تأكيد العلاقة المتصلة بين الأدب والموضوعات الأساسية في جميع التجارب الإنسانية. وهي من هذه الناحية توازن الوسائل الفنية الشكلية التي يُنادي بها النقَّاد الجدُد الذين يشتدُّ اهتمامهم بإظهار الغامض من المعاني وإبراز النماذج المعنوية المعقدة. وفي محاورة عن «الأسطورة» التي نشرتها جمعية الفلكلور الأمريكية في عام ١٩٥٥م نجد مُلخصًا لجانبٍ كبيرٍ من العمل الذي أدَّاه النقد الحديث بوصلِه دراسة الأساطير دراسةً أنثروبولوچية وسيكولوچية بنقد الأدب.
ومن الخطأ أن يُعتقَد — عند البحث في تطور الوسائل الفنية للتحليل في النقد الجديد والحث على القراءة الفاحصة أو استخدام الأساطير للبحث عن الاستعارة في الشعر والعُقَد في المسرحيات — أن النقَّاد يعملون معًا في مدارسٍ، كل مدرسة منها تلتزم طريقتها الخاصة التزامًا شديدًا. وليس من شكٍّ في أن بعض النقاد جامدون في نظراتهم وطرائقهم، ولكنا نجد عند غيرهم طرائق مُتنوعة تُستخدَم في آنٍ واحد، أو طريقةً معينةً تُستخدَم بشكل خاص وبصورة شخصية. وقد اختلف «رانسم» مع «رتشاردز» في رأيه عن ضرورة السخرية في الشعر، كما اختلف مع «إليوت» في رأيه عن الطريقة التي يعمل بها الشاعر. ويختلف «تيت» و«رانسم» مع «رتشاردز» في تحليله للمعنى الشعري. كما أن هناك فروقًا كثيرة أخرى بين النقَّاد المحدثين، فلكل منهم صوته الخاص به — الاحتشام الزائد في التعبير عند «رانسم»؛ والمتعة في الكشف عن حيل الصناعة في الكتابة عند «بلاكمور»؛ والجمع بين المرارة والحرارة عند «تيت»، والتشويق البداجوجي عند «كلنث بروك»، واستخدام المشابهة استخدامًا ماهرًا عند «روبرت بن وارن».
وهناك أصوات فردية أخرى بين النقَّاد الجدد؛ فهناك بحوث «كنث بيرك» المعقَّدة في العلاقة بين السيكولوجيا والفصاحة، والأشكال الأدبية. وهي بحوث تُمثِّل تطورًا مبدئيًّا لبعض الاتجاهات الحديثة، كما أن مهاجمة «إيفور ونترز» لشعر «إليوت» ونقده وإصراره على التركيب المعقول للقصيدة يُبين نوعًا آخر من الكلاسيكية الحديثة يختلف عن النوع الذي أشرتُ إليه من قبل. وكذلك الجمع بين البحوث الاجتماعية والسيكولوجية الذي نجده في نقد «إدمند ولسن»، وهو جمع على أساس عريض، يُقدِّم لنا شيئًا أقل درجةً من الناحية الفنية ولكنه أكثر جاذبيةً للقارئ العادي من إنتاج النقد الجديد الذي يتميز به. كما أن «ليونل تريلنج» ناقد آخَر له تأثيره، أفاد من النظريات التحليلية التي طوَّرَها النقَّاد الجدد بينما كان ينشئ نوعًا من النقد يربط بين الأعمال الأدبية الفنية بطريقةٍ إنسانيةٍ كبرى والاهتمامات الثقافية العامة، وكذلك تعلَّم «تريلنج» الكثير من علم النفس الحديث.
إن جانبًا من النقد الحديث الشائق قد تطور جنبًا إلى جنب مع حركات موازية في الأدب الخلاق. وكثير من النقاد الجدد شعراء وروائيون كذلك «فروبرت بن وارن»، و«آلن تيت» شاعران روائيان في آنٍ واحدٍ، و«رانسم» شاعر، وكذلك «إيفور ونترز»، ومِن ثَمَّ فإنه بينما أصبح النقد الحديث أكثر تخصُّصًا وأشدَّ إمعانًا في وسائله الفنية عما كان عليه في أي وقتٍ مضى في كل الأقطار التي تتكلم الإنجليزية، إلا أنه قد أدى وظيفته مع ارتباطه الشديد بالعمل الخلاق. فمقالات «ت. س. إليوت» في النقد تُصوِّر المثُل الشعرية التي كان يمارسها في شعره، كما أن قصائد «جون كرو رانسم» التي تتميز بالفكاهة الهادئة والشكل الجميل تُبين ذلك الجمع بين الخيال المحكم والاستعارة الدقيقة الذي يُنادي به في نقده.
وكذلك كتب «رتشارد بلاكمور» قصائد تُبين أنه يُنفِّذ في شعره نظرياته في الصناعة الفنية التي تعرض لها في مقالاته النقدية. ولقد قيل — وبحق إلى حدٍّ ما — إن الناقد الذي هو في الوقت عينه كاتب مُبتكر يميل إلى أن يُدافع فقط في نقدِه عن ذلك النوع من الابتكار الذي يتفق وموهبته الخلاقة، ومن ثَم فإن الإشادة بالتقليد الرمزي الميتافيزيقي في الشعر ورفعه فوق كل تقليدٍ آخر يمكن أن تُرَدَّ إلى أن النقَّاد والشعراء الذين أحيوا هذا التقليد وأضفوا عليه كل ما ناله من تقديرٍ كانوا جميعًا يميلون بطبعهم إلى اتِّباعه في الشعر الذي نظموه.
وقد ساعدت روح العصر والحاجات النفسية والعاطفية في النصف الأول من هذا القرن على إيثار هذا الاتجاه، فارتبط بمشاعر العصر العميقة الحطُّ من شأن الرومانتيكيين وارتفاع شأن الميتافيزيقيين والرمزيين؛ الحط من شأن «شلي» و«تنسن» وارتفاع شأن «دن» و«هوبكنز»، و«إيثار إميلي دكنسن» في الشعر الأمريكي على «والت هويتمان». ومن الوجهة المثالية يمكن القول إن الناقد الحق يجب أن يعلو على التغيرات التي تطرأ على النماذج الأدبية، ويُقوِّم خير ما أنتج وفقًا لمختلف المذاهب. أما إذا ما ارتبط الناقد ارتباطًا وثيقًا بحركة الخلق والابتكار في عهده، كما ارتبط النقَّاد المحدثون، فإنه يمسي من غير شكٍّ مدافعًا عن هذه الحركة وشارحًا لها، ومن ثم نجد أن «وردزورث» في مُقدمته للطبعة الثانية من «القصص الغنائية» يُقدِّم نظريةً في الشعر يُبرِّر بها الشعر الذي يقرضه، وكذلك فعل «إليوت» و«تيت» و«رانسم» مثلما فعل «وردزورث». كان لا بد ﻟ «وردزورث» من الحط من قدْر الشعر الإنجليزي في القرن الثامن عشر لكي يعمل بِحُرية على الطريقة التي تتفق وعبقريته، وربما كانت معارضة النقد الجديد للرومانتيكية تمثل نفس هذا الشعور الذي تبعثه الرغبة في الابتكار.
ومهما يكن من أمرٍ فإنا نستطيع أن نزعم ونحن واثقون أن القرن العشرين في أمريكا قد أثبت أنه أعظم فترةٍ في النقد عُرفت في تاريخ الأدب البريطاني أو الأمريكي، فإن أقوى العقول ابتكارًا اتجهت نحو النقد — وحقًّا ما زعم «رتشارد بلاكمور» — مع شيء من المبالغة التي يمكن التسامح فيها. إن أقوى وجه يدل على الابتكار في الأدب الأمريكي هو نقد الأدب، وليس من شكٍّ في أن النقاد العاديين العديدين الذين مارسوا طرق النقد الحديثة الفنية لم يكونوا من أصحاب العقول الخلَّاقة. غير أنه من التعسُّف أن نحكم على حركة من الحركات بأتباعها العاديِّين.
إن النقد الجديد — في أعلى مستوياته — يكشف عن طبيعة المعنى الأدبي بألوانٍ جديدة من الوعي، ويتعمَّق بتطلُّع شديدٍ في دقة ورقَّة مشكلاتٍ كان النقاد السابقون يحسبونها ألغازًا لا تُعالَج إلا في حدود الإعجاب والتقدير العام. وربما أخطأ الناقد إذا هو اعتقد أن كل ما يتعلق بالأدب الخلَّاق يمكن تفسيره بالتحليل الوصفي. غير أن العقل الحديث إذا خُيِّر بين النقيضَين: الإصرار على البحث عما يجري في العمل الفني، أو تنمية القدرة على الاستحسان والتعجُّب بغير رابطٍ، فهو يختار الاتجاه الأول بكل تأكيد.
ثم نعود إلى لفظة «كلاسيكي» مرة أخرى. من الكلاسيكية أن نعتقد أن العقل الباحث يمكن أن يُفسر كل شيءٍ، ومن الرومانتيكية أن نعتقد — من ناحيةٍ أخرى — أن الحقائق الأساسية عن الفن هي ألغاز لا يمكن إدراكها إلا بالبداهة. والنقد الجديد يؤمن بالعقل الباحث كل الإيمان، وطبيعة بحثه ترجع إلى حدٍّ ما إلى إصراره على التفرقة بين الفن الأدبي وغيره من أنواع الكتابة الأخرى، ومن ثم فهو يميل لا إلى أن يبحث في «كل» صفات الفن الأدبي، وإنما يبحث فقط في صفاته التي تميزه عن غيره؛ ولذلك نرى أن «كلمنت بروكس» — كما ذكرنا — يصرُّ على أن الشعر كله لفظ ظاهره يختلف عن مقصوده، ولا يبحث بحثًا كافيًا إذا كان ليس من الضروري أن يكون شيئًا آخر غير ذلك لكي يكون شعرًا. والنقاد لا يبحثون — بوجه عامٍّ — فيما يشترك فيه الأدب الخيالي مع أنواع الكتابة الأخرى.
وإذا وازنَّا بين مزايا النقد الجديد ومثالبه، رجحت المزايا بدرجةٍ كبرى. وقد ذكرتُ من قبل أنه علَّم جيلًا بأسره أن «يقرأ». وأودُّ أن أضيف أيضًا أنه علَّمه كذلك أن يتدبر «المعنى»، وأن يُوجِّه التفاته إلى ما يَعنيه فعلًا أي عمل من الأعمال الفنية الأدبية. وإذا كان لا يضيء مباشرة الطرق التي يكتشف الفن بها معنى التجربة، فهو كثيرًا ما يفعل ذلك بطريق غير مباشرٍ بزيادته لعِلمنا بالطريقة التي تؤدي اللغة بها وظيفتها في الأدب. وقد اخترع الناس اللغة استجابةً للحاجات البشرية، ومن ثَم فالأمر في النهاية هو أنه كلَّما اشتدَّ عمق تقديرنا للطريقة التي تعمل بها اللغة زاد فهمنا للناس. والنقَّاد الجدد — بإصرارهم على دراسة الصناعة — لم يأبهوا لتعمُّق البحث فيما قد يترتب على ذلك.
النقاد الجدد يُحدثوننا عن ماهية الأدب، وكيف يعمل، ويَكِلون إلينا أن نستنبط لماذا كان الأدب أمرًا هامًّا، ويكفيهم هذا العمل المجيد.