فن الشعر
إن القصيدة التي اتَّسمت في أمريكا ﺑ «الفكر العسير» خلال سنوات الهدنة الطويلة، كانت في الواقع — بطبيعة الحال — مُناقضة للفكر، كالشعر الحديث في أمريكا وأوروبا؛ فلقد هاجمت هجومًا مباشرًا ذلك الفصل الحديث بين «الفكر» و«الشعور» الذي نبَّه «إليوت» إليه الأذهان، وحاولت بشتَّى الطرق والوسائل أن تُحقق «الصورة» — وهي عند «باوند» «تلك الحقائق التي تمثل مركبًا من العقل والعاطفة في لحظة من لحظات الزمان.»
إن العمل الذي قام به أمثال هؤلاء الشعراء كان جزءًا من الجهد العظيم الذي بُذل لتجديد لغة الفئة التي تزعَّمت النظم في أوروبا منذ «ييتس» والرمزيين الفرنسيين، والتي ظهرت قبل ذلك بوقتٍ طويل في أمريكا ممثَّلة في «هويتمان» و«بو». ومثل هذا العمل لا يتطلَّب من الفكر بمقدار ما يتطلَّب من العناية. يقول «وردزورث»: «إن كل كاتب كبير أصيل يجب أن يخلق الذوق الذي يتذوَّقه به قارئه.» ويبدو أن هذا الشرط كان عند كثيرٍ من الشعراء الأمريكان المحدثين ضرورة لا مناص منها لكل كاتبٍ جاد، سواء كان عظيمًا أو غير عظيم. ينبغي لكل شاعرٍ ألا يكتفي بمجرد ابتكار القصائد، بل لا بدَّ أن يبتكر اللغة أيضًا، ومن ثم فإن مَشقَّة العمل الذي أدَّوه لا تختلف عن مشقَّة أي كلامٍ جديد.
وفي هذا الفصل سأحاول أن أقول شيئًا أُخفِّف به من هذه المشقة، وذلك ببحث ثلاثة من الشعراء الذين يُعدُّون نماذج لهذا الاتجاه: وهم «إ. إ. كمنجز»، و«وليام كارلوس وليامز»، و«والاس ستيفنز».
وأبدأ بمن يُسمُّونه «الفتى الشرير» في الشعر الأمريكي الحديث، وهو «إدوارد إستلين كمنجز». إن إنتاجه الأدبي — من النظرة الأولى التي لا يصدقها الرائي إلى أحرف الطباعة إلى آخِر كشف مشوب بالسخط لما يَعنيه — قد صِيغ صياغةً خاصةً تصدم العقل المحافظ، واتَّفقت حياته مع ما قام به من عمل. كان أبوه مُعلمًا في «هارفارد»، وقسيسًا في «بوسطن»، قضى ثلاثة أشهر في معسكر حجز فرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، مُتَّهمًا بالعصيان، وهي تجربة في أول وأفضل كتاب نثري له، عنوانه «الحجرة الفسيحة»، وعاش بعد الحرب حياة بوهيمية في «باريس» و«نيويورك» بينما كان يُكوِّن لنفسه سمعةً طيبة كشاعرٍ من شعراء الطليعة، وكاتب مسرحية ومُصور، وكانت دواوينه المتتالية تحمل عناوين عجيبة «أنا» و«البرد» باللاتينية. وقد أصدر كتابًا بغير عنوان بتاتًا، فكان من الجلي أنه شاعر يكرس نفسه لإظهار «الاختلاف البيِّن».
وإن من يُجشِّم نفسه مَشقَّة الإمعان في كلامه الفارغ يجد وراءه ذكاءً خارقًا، فإن الأحرف المطبعية التي تبدو كأنها صادرة من مجنون — على سبيل المثال — تنطوي على منهجٍ مُعين. فهذا الشاعر يستخدِم الطبوغرافيا (الأحرف المطبعية) في كثير من القصائد، كما تُستخدَم علامات التوضيح في النوتة الموسيقية لكي يرشد القارئ إلى الكيفية التي يُريده أن يقرأها بها: المسافات التي تدل على الوقف وانعدامها يدلُّ على الوصل، والأقواس وانعدام علامات الترقيم الأخرى تبعث الشعور المرهف بالترقيب، وحروف التاج من علامات التأكيد، إلى آخر ذلك. والغرض من هذا كله — وهو غرض جدِّي مشروع — أن يُرغمنا على أن نقرأ قصائده باعتبارها أداءً شعريًّا لا عباراتٍ نثرية. ويصدُق هذا كذلك على طريقته في التواء المعنى وقواعد النحو، وهو أحيانًا يختصِر العبارة في إيجازٍ شديد ليُحفز القارئ على التريُّث والتفكير، وأحيانًا أخرى يخترع ألفاظًا من عنده لا وجود لها في قاموس اللغة ليُشكك القارئ في معنًى من المعاني، كأن يقول «الأنسونية» بدلًا من «الإنسانية» ليُشكك القارئ في وجود الإنسانية. وقد اعتصر «كمنجز» عبقريته العظيمة ليدفعنا إلى التنبُّه إلى العناصر الأولى للشعر والصوت واللفظ، إن قصائده تدريب مُتشعِّب النواحي في فنِّ قراءة النظم.
وهو يبني قصائده بمهارة فائقة، بالرغم من مظهرها الاعتباطي في صفحات الكتاب، تلمس فيها أحيانًا ترديدًا وتكرارًا للكلمات الرئيسية، كما يُحوِّر العبارة عند تكرارها كالموسيقي البارع، ومع ذلك يبقى الكل كأنه تقطير للكلام الساذج الذي يلائم بساطة القصيدة. ومن الحيل التي يلجأ إليها التقديم والتأخير في العبارة الذي يصدم القارئ، ويؤكد ترتيب الألفاظ ترتيبًا غير مألوف في قصيدة الشعر، تصوير الحالة العقلية، وهو ترتيب قد يقع في الحديث العابر.
(وهنا يُورِد كاتب المقال مثالًا لذلك قصيدة عن الربيع، كل ما فيها من براعة التقديم والتأخير في الألفاظ مما يصدم القارئ ويُثير العجب في نفسه، وفي هذه القصيدة يُشبِّه الربيع باليد التي تظهر من مكانٍ مجهول تنظم الزهور في النوافذ وتضع كلَّ شيءٍ في مكانه الصحيح). وقصائد «كمنجز» — كهذه — كثيرًا ما يتعمَّد فيها التبسيط، وهو مختصٌّ في تجديد الكلشيهات، يتناول موضوعًا شعريًّا شائعًا كالربيع، وحَب الشباب، أو الطفولة، وبمهارته اللغوية يُنشئ صورةً حديثة مُهذبة مطابقة تمامًا للشعر الغنائي الساذج الذي نظمه «كامبيون» أو «بليك»، خالية من السخرية التي يُعالِج بها مثل هذا الموضوع شاعر حديث آخر، والقوالب التي يستخدِمها شائعة أيضًا، فإذا أنت أبعدتَ الستار الذي يُلقيه من أحرف الطباعة تكشَّفت لك مقطوعة غنائية أو شكلٌ آخر غنائيٌّ تقليدي.
وبالرغم من أن «كمنجز» يبدو في ظاهره أشدَّ المحدثين إثارةً، إلا أنه في الواقع أقلُّهم ثورة، وهو من أجل هذا أديب مُحدث يحسن البدء منه. يسوق مألوفه القارئ إلى قبول المستحدث، وبذلك يجد القارئ نفسه أكثر استعدادًا لقبول التجديد «العميق» الذي جاء به «إليوت» و«ستيفنز».
ويمكن أن يُعد «كمنجز» من حيث الوضع، والموضوع «آخر الرومانتيكيين الأنانيين»: عالمه ينقسِم قسمَين: «أنا» (و«أنت») و«أكثر الناس».
كتب «كمنجز» يقول: «إن الحياة عند أكثر الناس ليست … ماذا يعني أكثر الناس «بالعيش»؟ إنهم لا يقصدون العيش، إنما يقصدون التعدُّد الذي انتهت إليها الحالة السلبية المفردة التي سبقت الميلاد … إنما أنا وأنت بشر، الميلاد لنا لُغز نُرحِّب به أشدَّ الترحيب؛ وهو لغز النمو! اللغز الذي لا يحدث إلا إذا أخلصنا لأنفسنا … الحياة لي ولك نحن الخالِدين هي اللحظة الراهنة، واللحظة الراهنة مشغولة بكل أمرٍ إلى الحدِّ الذي يجعلها لا تعني شيئًا ولا تعني حتى أن تكون كارثة من الكوارث.»
وهذا تبسيط مسرحي زائد للتفرقة الرومانتيكية بين الذات و«المجموع الذي لا يحب، الذي يساوره الجزع دائمًا». في حين أن «نفسي» عند رومانتيكي أصيل مثل «والت هويتمان» تمتدُّ حتى تشمل العالَم، أما هنا فهي تنكمِش وتستبعده. «أنا» عند «كمنجز» أشبه ما تكون بفردوس مسحور مُنعزل عن المجموع بحيث تستطيع النفس أن تصدَّ عنها ما لا تُحب وتُنمِّي فرديتها؛ ومن ثم فإن قصائده تنقسم قسمين: أناشيد «بريئة» لحياة النفس، وسخرية لاذعة من «أكثر الناس». وبمرور الزمن أمست السخرية تدريجيًّا أشدَّ إيمانًا بالعدم وذلك كلَّما كرَّر «كمنجز» نبذه لكلِّ شيءٍ نبذًا تامًّا، أما «الأغاني الإيجابية» — من ناحية أخرى — فقد أخذت تكتسب القوة تدريجيًّا، وذلك كلما انتقل «كمنجز» من الشعر الضعيف الذي يمتلئ «بالأزهار» و«أوراقها» الغامضة إلى مجموعة من الوسائل الفنية المنظمة لإخفاء مدلولات الألفاظ النثرية، ونسج القصيدة من الأكاليل الباقية ذات الدلالة. ومضمون «كمنجز» ثابت ضيق وعاطفي —إن أردت — ولا يُباريه أحد من الشعراء المحدثين في استخدام اللفظ ليدلَّ دلالةً خاصةً. ومن الخير أن يُوجَد بين كثيرٍ من المحدثين المتشائمين بالمستقبل شاعر مرح متفائل مثل «كمنجز»، حتى بعدما يُدرِك القارئ أن «نَعَمَهُ» «نعم» المانعة و«لاءه» «لا» الجامعة، لا تُبقي إلا القليل سوى الميل إلى الاختيار بينه وبينهما في النهاية.
والمثال الثاني «وليام كارلوس وليامز» الذي سلك هو أيضًا سبيله الخاص باعتباره شاعرًا حديثًا، وابتكر لونًا من الشعر لا يخضع لقاعدةٍ غير ما يرسمه الشاعر. وربما كان من أسباب قوة «وليامز» النظام الذي فرضته عليه مِهنته، فقد كان يجمع إلى عملِه كشاعرٍ حياةً مهنية مليئة بالعمل كطبيبٍ في «باترسن» ﺑ «نيوجرسي».
وكثيرًا ما كان يُعالج أفقر المرضى، ويرى حقائق الحياة البيولوجية كما يراها الطبيب دون أن تحجبها عنه عاطفةٌ أو وهمٌ، واكتسب من ذلك خشونة لم تبلُغ حدَّ البرود وعدم الإحساس، وأضفت هذه الخشونة على شعره صلابةً وقوة.
وكان هدفه الغالِب عليه أن يُنشئ من لغة الحديث الأمريكية شعرًا، وهو يَعتبر هذا الهدف — بحق — استمرارًا للثورة ضد التقاليد التي ابتدعَها «هويتمان»، وربما كان أشدَّ الشعراء المعاصرين إعجابًا ﺑ «هويتمان»، وهو — ﮐ «هويتمان» — يصرُّ في إلحاحٍ على ما يقع على عاتق الشاعر الأمريكي خاصةً من عبءٍ فادح، وبلغ من ذلك حدًّا جعلَه يبدو مُتأخرًا في وقتٍ تخلَّى فيه الشاعر الأمريكي عن حاجته المراهقة إلى أن يؤكد اختلافه عن غيره.
وإذا كان «كارل ساندبرج» — الذي كان يشاركه الرأي — قد اتخذ طريقة «هويتمان» إلى حدٍّ كبيرٍ، فإن «وليامز» قد نبذ هذه الطريقة واستبدل بها «النظم الحر» الذي نادت به مدرسة «الصور الشعرية» التي ازدهرت شيئًا ما تحت قيادة «باوند»، وهو أيضًا ينشد «معالجة (الشيء) معالجةً مباشرةً» و«نغم العبارة الموسيقية، لا الوزن الشعري»، وهو يُشبه «روبرت هريك» إلى حدٍّ ما، لأنه كغيره من أتباع المدرسة التصويرية يريد أن يثق في دقَّة رمزه لإحدى الحقائق الصغرى حتى يرفعَها بغير وصفٍ إلى الدلالة الشعرية. وأشدُّ ما عُني به أن يعبر عن الموسيقى العجيبة الكامنة في عادات الحديث باللغة الأمريكية، وأن يطور الأشكال التي تختصُّ بها هذه الموسيقى دون اعتبارٍ لأي تقليدٍ من تقاليد الأدب الأجنبي، ولا يعدو تقسيم القصيدة عنده إلى أبياتٍ من الشعر أن يكون حيلةً يرغم بها القارئ على أن يسترسِل في قراءة عبارةٍ نثرية في ظاهرها في بطءٍ يُمكنه من ملاحظة كل عنصرٍ من عناصرها التوقيعية، ويتذوَّق نغمَها الفذ وهو يريد — كما يريد «روبرت فروست» — أن يلفظ «ما هو شاعري» لكي يدفعنا إلى سماع الشعر الكامن في الواقع.
وهو يتعرض — وبحق أحيانًا — كما تعرض «فروست» — إلى الحكم على قوله بأنه «ليس شعرًا». بيد أنه برغم ذلك شاعر فحْل لأنه كثيرًا ما يحيل الحديث بمهارةٍ فنية إلى موسيقى من ناحية، ولأن قصائده من ناحية أخرى لا تكتفي باقتناص الحقيقة، سواء في الحديث أو في الصورة، إنما هي تقتنص الحركات العابرة للعقل الخلَّاق ذاته؛ فهي رموز سيكولوجية صِيغت في كليات فنية، ومن ثَم فهي تعكس إحساسًا يجذب النفوس بدرجةٍ غير مألوفة. وأقول «إحساسًا» لأن «وليامز» لا يشوق القارئ كمُفكر، فهو ﮐ «هويتمان» لا يتَّصِف بالتفكير، والفكرة في شعره — كالفكرة في مسرحيات «أونيل» — إنما تَفضح المؤلف. أما القوة والدقة البالِغتان اللتان ينقل بهما الإحساس الذي يسود هذه القصائد من صورة إلى صورة، ومن صوتٍ إلى صوت، وفقًا لمنطق ذاتي قوي مثواه في أعماق النفس؛ أما هذا فيُكسِب القصائد ذلك الضرب من العمق والقوة الذي لا يقدر عليه إلا شاعر عظيم. وخير مثال لهذه القوة نجده في الدواوين الأولى لقصيدة «وليامز» المطولة «باترسن» التي حاول فيها على طريقة مقطوعات «باوند» — يمزج الموضوع بالصورة — أن يخلق نظامًا من الفوضى الشاملة التي عمَّت أمريكا في عصره. وقد أحرز في ذلك أحيانًا نجاحًا ملحوظًا.
ومقطوعته الغنائية التي أسماها «اليخوت» توضح بعض هذه الصفات. وتبدأ القصيدة بوصفٍ رائع للزوارق المتسابقة — أو اليخوت — ثم ينتقل فجأة عند بداية السباق إلى تصويرٍ سريالي ﻟ «هول السباق». وتستطيع العين — إن لم تستطع الأذن — أن تلحظ كيف أن لمسات التوقيع وتكرار حروف أبجدية بعَينها تؤكد في حذْقٍ شديد النمَط التوقيعي البارع، وعنوان القصيدة جزء منها.
[يصف الشاعر في هذه القصيدة صراع الزوارق مع البحر الصاخب الذي لا يرحم، وهي تشقُّ طريقها وسط الضباب فتبدو لامعةً من بعيد، تدفعها الريح فتنزلِق فوق سطح الماء مُسرعة، والملَّاحون في حركةٍ دائبة يوجِّهون الزوارق نحو الهدف المقصود، ويُشبه الشاعر الزوارق بالشباب الفتيِّ الذي تقرُّ به العيون. والبحر يتلمَّس منها مواطن ضعف يُهاجمها فيها ولكن هيهات له! فهي تتغلَّب على العواصف والأنواء، وعلى الموج الصاخب والطبيعة الغاضبة، وتنطلق في شموخ وكبرياء، البحر عدوها اللدود، والسباق معركة بينها وبينه، ويا لهول المنظر للمشاهد من الشاطئ! ولكن الزوارق تنتصر على الخصم العنيد، وتنجو منه في طمأنينةٍ وأمان بمهارة بارعة ورشاقة فائقة].
وآخر مثال نسوقه للشعراء «العسيرين» المحدثين وربما كان أعظمهم، «والاس سيتفنز». وهو —كالدكتور «وليامز» — لم يُخفف عن أولئك الذين كانوا يذرفون الدمع على النكبة التي حلَّت بالفنان في العالم الحديث، لأنه استطاع أن يوفق — بغير نزاعٍ أو أسف — بين حياته كمحامٍ في «نيويورك» وموظف بالتأمين في «هارتفورد بكنكتكت»، وهي حياة مُستقرة هادئة، وبين نظم القصائد التي كان رفاقه في العمل — إذا عُنوا بالاطلاع عليها — لا يعدونها هادئة بتاتًا. وإذا استثنينا الشعر استطعنا أن نقول إن «ستيفنز» لم يكن بوهيميًّا في أية ناحية من نواحي حياته، يقول: «إنه مما يُكسِب الرجل شخصيةً كشاعر أن تكون له صِلة يومية بعملٍ من الأعمال، ولستُ أعتقد أني فقدتُ شيئًا بعيشي حياة غاية في الترتيب والنظام.»
إن كل عمل قام به «ستيفنز» يدفعنا إلى الحكم عليه بأنه كان نظاميًّا هادفًا. ولا نستثني من ذلك الاتجاهات الشاذة التي ظهرت في أول وأفضل كتاب له «الأرغن الصغير»، فإن نظرةً عاجلة إلى محتويات الكتاب تكفي لأن تُنبهنا إلى أن الرجل يقصد أن يكون مخالفًا لغيره، فمن مُشتملات ما يحتويه الكتاب: «الكوميدي والحرف ج»، «الديدان عند مدخل السماء»، «الزينات النباتية للموز»، «إمبراطور المثلجات»، «ثلاثة عشر وسيلة للنظر إلى العصفور الصغير»، إلى غير ذلك. ومضمون هذه القصائد كثيرًا ما يكون غريبًا كعناوينها. ولكنا نستسيغ قراءته برغم ذلك، وقصائده — إذا أخذنا في اعتبارنا بعض أسرار الأعمال الفنية الحديثة والإمعان الذي تتطلَّبه هذه الأعمال — يمكن أن تُعَد من أكثر ما نُظِم في الشعر الحديث جديةً وجمالًا.
وأول شيء ينبغي لنا أن نتبينه هو أن «ستيفنز» هو «شاعر الشعراء»، أي أنه يهتم بالكيفية التي يكتب بها كما يهتمُّ بالمادة التي يُعبر عنها، بل لعل اهتمامه بالكيفية أشد. ويُعرِّفه «بلاكمور» كما جاء على لسان «لوجان بيرسول سمث» بأنه: «أحد أولئك الفنانين الذين يستمدُّون الوحي من ناحية الشكل في الفن الذي يمارسون، أكثر مما يهتمون بالناحية العاطفية، والذين يهتمون بالسيطرة التامة على مادتهم أكثر مما يهتمون بالتعبير عن مشاعرهم الخاصة أو بنواحي التنبؤ في دعواهم.» وقد كان للإيثار الواضح في فن التصوير التجريدي الحديث للناحية الشكلية على ناحية المادة المعروضة؛ كان لذلك أثر بالغ في شعر «ستيفنز»، ومن ثم فإن تفصيلات عالم الشعر عند «ستيفنز»، وصوره وألفاظه، كثيرًا ما كانت ثمينة غريبة، كما كانت «شاعرية» بشكل واضح، كأنه أراد أن يؤكد الفرق بين الفن والحياة.
وفي قصيدة له عنوانها «سيادة اللون الأسود» مثلًا نجد نمطًا من الألفاظ «المستخلصة» من الموضوع، كما تستخلص الصورة التكعيبية من الأشكال الهندسية في منظرٍ من مناظر الحياة الحقيقية. والنمط في هذه القصيدة مُتحرك والحركة الأساسية دائرية. والقصيدة برغم ذلك عرض لعاطفةٍ ما، وليست شعرًا «خالصًا». بيد أن الشاعر يُوجِّه اهتمامه الأساسي إلى الناحية الجمالية، والعنوان ذاته يلفِت النظر إلى الصفات التصويرية في القصيدة، وربما كان الموضوع ذكرى طفولة الشاعر. ونبات الشوكران الذي يشير إليه نبات أخضر داكن اللون غزير كان يُزرع عادةً حول المساكن في شمال الولايات المتحدة ليكون حاجزًا ومانعًا يصدُّ الريح، وكان من المألوف أيضًا في أيام طفولة «ستيفنز» في مزارع «بنسلفانيا»، حيث نشأ الشاعر، أن يحتفظ المزارع بطاووس أو اثنَين في الحديقة؛ ومن ثم فإن هذه التفصيلات التي وردت في القصيدة واقعية، وليست خيالية. والقصيدة ترتكز على الأشياء الواقعية، كأنها صورة من رسم «براك»، وهذه ترجمة القصيدة المذكورة:
وفي بعض قصائد «ستيفنز» نجد القصد مُتضمَّنًا في جوِّها — وإن لم يكن غامضًا — وهو «لا معقول» كالموسيقى، وكثيرًا ما يكون الغرض محددًا تحديدًا كافيًا، بَيْد أنه يصل بالوسيلة الشعرية، وبالصورة والرمز والصوت أكثر مما يصِل بالعبارة، ونلحظ ذلك خاصة في ديوانه الأول. ومما يُعيننا على إدراك مَراميه أن ندرك أنه — مثل «ييتس» وإن يكن أقلَّ منه درجة في الإصرار — يبني في شعره نظامًا كاملًا للرموز، أو نوعًا من اللغة الخاصة أو الاختزال الشعري، نستطيع إلى حدٍّ ما أن نُترجمه إلى أسطرٍ ذات معنى. فالشمس مثلًا، تمثل الحقيقة دائمًا بغير إخلالٍ، وهي «المصدر الذي لا يُفكر»، في حين أن القمر يعني الخيال وكذلك اللون الأحمر واللون الأزرق لهما دلالتان مُتشابهتان متعارضتان. والشاعر — وهو رجل الخيال — كثيرًا ما يُمثَّل باللاعب، وقد يكون هذا اللاعب «كوميديا» أو عازفًا على البيانو أو على القيثارة. والجنوب بلد الخيال والإسبان، وهم القوم المطمئنون فيه، في حين أن الشمال «نثر لا محيص عنه» وأبناء الشمال واقعيون.
هذه إشارات يسيرة لنوع الرموز التي نلتمِسها في شعره، والواقع أن «ستيفنز» يبني رموزه الخاصة لكل قصيدةٍ على حدة، ولها صور لا نهاية لها، وإضافات وأضداد، وهي أحيانًا أدوات للسخرية، وما نودُّ أن نؤكده هنا هو أن كل قصيدة عنده تُعزِّز الأخرى، حتى إننا نرى أن أفضل حلٍّ لمشكلة قراءة هذا الشاعر هو أن تُدمِن على قراءته حتى تُمسى لغته الخاصة مألوفة شفافة تنمُّ عما وراءها.
وثمة مفتاح آخر لشعر «ستيفنز»، وذلك أنه شاعر يعكس الشعر إلى حدٍّ كبيرٍ، أقصد أن الموضوع الذي اختاره لكثيرٍ من قصائده هو الشعر ذاته. ومثل هذا الاهتمام الزائد بالشعر أمر طبيعي لمثل هذا الشاعر الذي وصفنا. والأمر في حالته لا يؤدي إلى شكليةٍ قاحلة، وإنما يؤدي إلى إعادة التعبير عن الجمال بالطريقة الرومانتيكية إعادةً حديثةً لها أثرها في النفوس. وهو يبدأ من حيث بدأ الرومانتيكيون؛ يبدأ بالكشف الذي جاء بعد «كانت» والذي أظهر ضرورة إشراك الخيال في كل تصور أو معرفة بشرية.
فالعالَم الذي نقطنه عالم «نصفه من خلقِنا»، ونحن نخلق النظام الذي نُراعيه، فالشاعر إذن عند «ستيفنز» (كما هو عند «كولردج أوشلي») هو الصورة التي تجسد قوى الفكر الخلاقة التي يرتكز عليها كل نوع من أنواع الإدراك البشري. ولا يرى «ستيفنز» — كما يرى بعض الرومانتيكيين — أن العقل البشري يستطيع أن يخلق العالم الذي يُريده، وإن الأمر مُستحيل بغير قوانين الحقيقة الصارمة. ونظرة «ستيفنز» إلى الإنسان نظرة حديثة طبيعية، وهي ليست نظرة الرومانتيكيين التي يغمرها «الشعور الديني». ولكنه مثلهم يقرُّ بكرامة الشاعر وبتربيته النظامية، يقول: «إن ما يجعل الشاعر تلك الشخصية القوية التي يظهر فيها، أو التي ظهر فيها، أو التي ينبغي أن يظهر فيها هو أنه يخلق العالم الذي نتَّجِه إليه بغير انقطاعٍ وعلى غير وعي، وأنه يُكسِب الحياة ذلك الخيال السامي الذي لا نستطيع بغيره أن نطيقها.» يقول شاعره:
ومثل هذا القول يمكن أن يصدر عن كثير غيره من شعراء هذا العصر العظيم من عصور الشعور الأمريكي.