تضخم جمهور القُراء
كتب «ف. ا. ماتيسن» في عام ١٩٤٨م يقول: «إن الشعر الأمريكي في هذه السنوات يمدُّنا بأكبر دليل على الفجوة بين ما تعلمنا أن نُسميه مدينة الجماهير وثقافة الأقلية.» وقد رأينا في الفصول السابقة أن الفترة بين الحربين العالميتين تمثل — على الأقل في شِعرها ونقدها — نمو ثقافة الأقلية إلى مستوى عالٍ من الدقة والإجادة. فبينما نجد أن الشعراء من أمثال «كمنجز»، و«والاس ستيفنز»، و«هارت كرين»، و«وليام كارلوس وليامز»، و«ماريان مور» قد أبدعوا في التحليل والمستويات والعودة إلى الأدب الكلاسيكي التي شقَّ طريقها النقد الجديد، نجد أن الشعراء من أمثال «روبنسن جفرز»، و«أرشيبولد ماك ليش» قد لاقوا صعوبةً في إيجاد مكانٍ لهم بين الجمهور والأقلية.
غير أن كثيرًا مما له أهمية قصوى بالنسبة إلى الأدب كان يحدث خارج نطاق هذا البرج، سواء كان من الصلب أو من العاج؛ فقد نطقت الصور المتحركة، وتعلَّم الراديو أن يرى، وأقيمت شبكات من الأمواج السلكية واللاسلكية كانت للإنسان بمثابة أعضاء التحسيس عند الحشرات. ولأول مرةٍ في التاريخ استطاع الفنان أن يتصل مباشرة بجمهور يبلغ تعداده مائة وخمسة وثمانين من الملايين، يستطيعون إن شاءوا أن ينصتوا إليه أو يعزفوا عنه. والجديد في الأمر أن هذا الاتصال الواسع النطاق بات ميسورًا للفرد الذي لا يخضع لأي لونٍ من الوان الضغط، لفردٍ لا يملك للعرض سوى موهبته أو شخصيته التي ينبغي أن تتوفر له؛ ومن ثم كانت لدَيه سلعةٌ لا بد من عرضها للجميع، وقد تكون هذه السلعة عملًا فنيًّا وقد لا تكون، وتتوقف قيمتها على ذوق الجمهور المستمع، وهو قد يكون رفيعًا في بعض الأحيان ولكنه منحط في أكثر الأحيان. إن جمهور المستمِعين قد يستجيب للعمل الجيد، ولدينا دلائل مبشِّرة تدل في بعض الأحيان على استجابة الجمهور للعمل الجيد تزداد بازدياد ما يقدَّم له من عملٍ جيد. إن اهتمامنا بوسائل إعلام الجماهير له ثلاثة أوجهٍ:
الوجه الأول: هو أننا نستخلص ونفحص ونستمع بخير ما أُنشئ لجمهور المستمعين. إننا نريد أن نُقدر الفيلم الجيد وأن نفهمه، وكذلك نريد أن نُقدر ونُدرك الأداء الجيد، وأنباء الرياضة المثيرة، والأخبار الهامَّة التي تُذاع.
والوجه الثاني: هو أن نتبين آلاف الآثار التي تتركها وسائل إعلام الجماهير على حياتنا اليومية، فنحن نتكلَّم لغةً موحدةً تقريبًا بسبب الراديو والتلِفزيون والأفلام السينمائية. وقد زاد استهلاك الأطفال للسبانخ منذ عشرين عامًا لأن شخصية كوميدية أوصت بتناوله، وقد تأثر أصحاب مصانع الملابس الداخلية لأن «كلارك جيبل» في أحد أفلامه ظهر بقميصه من غير الملابس الداخلية تحته.
والوجه الثالث: أن وسائل إعلام الجماهير تعكس عاداتنا، وتعرض لنا صورةً من تفكير الشعب، وتجسد الأساطير الأمريكية الكبرى، وقد ظهرت في مطلع القرن قصة «هوراشيو آلجر الصغير» الواسعة الانتشار في شكل مسرحية تُمثل الحلم الأمريكي بالنجاح الذي يُعَد جزاء الفضيلة: وإذا كان النجاح يبدو اليوم أشدَّ غموضًا وأبعد منالًا فنحن لا نجد علاج ذلك علاجًا جديًّا في مسرحية «آرثر مِلر» «موت بائع»، وفي قصة «سول بللو» «اغتنم فرصة اليوم» فحسب، وإنما نجد أيضًا في المسلسلة الفكاهية «سوبرمان» أسطورة جماهيرية ملائمة، وقد تحول «السوبرمان» بطريقةٍ سحرية من حالة العدم الخفيفة إلى رجلٍ من الصلب. إن تفسير الأساطير الشائعة في ثقافتنا الشعبية عمل مُستحَب يمارسه كثير من النقَّاد الجادين الذين يستطيعون أيضًا أن يكتبوا في فن الخاصة الرفيع. وقد ظهرت وسيلتا الإعلام الجماهيرية الأولَيَان في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، وتِلكما الوسيلتان هما الشريط السينمائي والصحافة الشعبية كما نعرفها. وكانت الصحف الشعبية في التسعينيات من القرن الماضي تُسمى الصحافة الصفراء، ومما له دلالته أنها كانت تُسمى كذلك لأن إحدى هذه الصحف كانت تنشر سلسلةً فكاهية تحت عنوان «الطفل الأصفر» وهي من أولى الفكاهات الحديثة. والتطور التالي الذي كان له أيضًا دلالته حدث بعد الحرب العالمية الأولى؛ وذلك باختراع الراديو والصور المتحركة. وقد صحبت التدهور الاقتصادي في الثلاثينيات من هذا القرن تسليةٌ مُخففة اتخذت شكل الكتب الفكاهية والكتب الشعبية الرخيصة. أما الفترة التي كانت أكثر نجاحًا والتي تلت الحرب العالمية الثانية، فقد أخرجت لنا التلفزيون والكتاب الرخيص الممتاز.
ولا يزال الشريط السينمائي أهم وسيلةٍ من وسائل الإعلام الشعبية، وقد كانت استديوهات الصور المتحركة منذ أمدٍ طويلٍ إحدى الصناعات الأمريكية الكبرى، وإنتاجها هو أهم ما ينقل صورة الحياة الأمريكية. وليس الشريط السينمائي وسيلة أدبية في المحل الأول؛ ويرجع ذلك إلى آلاف الأسباب ومنها أولوية الصورة، وتحكُّم المدير، ونظام النجوم، وطريقة التعاون بين الكتَّاب الذين لا يستطيعون السيطرة على المصير النهائي للكلمات التي يسطرونها. بيد أن الفنانين الخلَّاقين العظام في «هوليود» هم مع ذلك من رجال الأدب بمعنًى ما، لأنهم أبدعوا شخصيات وعُقَدًا مسرحيةً وصورًا؛ أبدعوا كل شيءٍ إلا الألفاظ. وتوقيع «شابلن» أو «يستركيتن» أو «د. و. جريفث أوجون هيوستون» ميزة لا تقلُّ عن توقيع «فتزجرالد» أو «فوكنر» في كتابة القصة. وأذكر هنا «فتزجرالد» و«فوكنر» لأنهما اشتغلا لعدة سنوات كُتَّابًا للشاشة، وقد قدر أصحاب الأعمال كتاباتهم للشاشة قدرًا عاليًا، ولكنهما فشلا في إظهار أيةِ صفةٍ مميزةٍ يمكن أن تعرف بها أفلامهم. وقد فاقهم نجاحًا — من ناحيةٍ أخرى — كتَّاب من الطبقة الثانية أو الثالثة، وذلك من حيث إمداد الأفلام بالقصص — وأعني كتابًا من أمثال «و. ر. بيرنت»، و«كلارنس بدنجتون كيلاتد»، و«راشيل هامت». مَن الذي كتب قصة «منتصف النهار»؟ لستُ أدري. ولمَ نجح صغار الكتاب هؤلاء حيث فشل «فتزجرالد» و«فوكنر»؟ ربما كان ذلك لأن الحركة عندهم كانت بسيطة وأساسية، وربما كان ذلك لأن كتابتهم كانت أشدَّ مرونة، وكانت أقرب إلى عقل رجال مثل «فرانك كوبرا» أو «جون هيوستون»، وربما كان أبقى أفلام «كوبرا» أثرًا في الذهن «مستر ديدز يذهب إلى المدينة» الذي أنشأه على أساس رواية ﻟ «كيلاند». وقد اكتسب «هيوستون» شُهرته بإخراج روايات ﻟ «بربنت» و«هامت» في أفلام سينمائية. وقد ظهرت على الشاشة قصة «هامت» «الصقر المالطي» في ثلاثة أشكالٍ، ولكنها لم تنل الإعجاب إلا مرةً واحدةً، وذلك عندما كان مديرها «هيوستون».
إن كثيرًا من أروع الأفلام الأمريكية يعرض لنا مغامرًا مُنفردًا باسلًا يواجِه أخطارًا غير منظورةٍ، ولا بد أن يكون لقاء المخاطر هذا من الأساطير الأمريكية الكبرى؛ فنحن نجده أولًا في أفلام «شارلي شابلن»، و«بوستر كيتن» و«هارولد لويد» الصامتة. ويمثل المتشرد عند «شابلن» ضحية من ضحايا الظروف، مُنتقمًا ولكنه شديد الحساسية. أما شخصية «كيتن» فكانت دائمًا مكتئبة، وشخصية «لويد» دائمًا مُتحمِّسة. وكلاهما يضع مزاجه الهادئ موضع التجربة حينما يصطدم بالظروف الاستثنائية. وقد أظهر «فرانك كوبرا» فيما بعد تسامحًا مع المميزات الخاصة لكل فردٍ، وهي خصيصة تمثل الأمريكي تمثيلًا صادقًا، ﻓ «كابرا» — كما فعل في قصة «مستر ديدز يذهب إلى المدينة» وقصة «(مستر سمث يذهب إلى واشنطن» — يروي دائمًا قصة شابٍّ ساذج يعارض نفاق المدينة ويتغلَّب عليه. كما أن غير هؤلاء من الأبطال ذوي القريحة يميلون إلى أن يكونوا شخصياتٍ أمريكية بحت — كرئيس العصابة، وراعي البقر، والشخصية البوليسية الخاصة — وقصص هؤلاء هي أيضًا روايات عن الاعتماد على النفس، وفي روايةٍ «عدو الجمهور» ورواية «صاحب الوجه المجروح» و«قيصر الصغير» نجد الاعتماد على النفس معارضًا للمجتمع فيلقى عقوبته، ولكن رئيس العصابة في الفيلم لم يكن بطلًا عابثًا، وقصة «الصقر المالطي» تمجد الشخصية البوليسية الخاصة، وقد يكون شعارها هو شعار أمين السر عند «ملفيل»، وهو «انعدام الثقة». وقد صارت القصة الغربية بمرور السنين أنجح الأفلام، والأفلام الغربية، سواء منها الهزلي والجاد، تتعلق بالبطل المنفرد، راعي البقر. ونذكر من بين أفلام الغرب الجادة «وقت الظهيرة»، و«المقاتل بالمدفع» وتمجيد «جون فورد» للنقابات الاضطرارية لمواجهة الكوارث — وهي مجموعة من الأفلام خير مثال لها قصة «عربة النقل».
وفي كل فيلم من هذه الأفلام يُواجه الرجل المنعزل أو الجماعة المنعزلة بلادًا جديدةً، وتجربة جديدة ويقترب كل بطل من حالة «شابلن» و«كيتن»، اللذَين يبدوان بريئَين من كل تجربة سابقة، والحياة مستجدة على كل منهم، مخاطرها غير المنظورة مُحيرة، معقدة، مُثبطة للهِمَم؛ فهؤلاء هنود في الكمين، وهذه إحدى نتائج الجرائم، واحتمالات الفساد، ونتائج التمتُّع بالشهرة المفاجئة.
أما عن الموضوعات العميقة، فإني أحسُّ أن الأفلام الأمريكية ما زالت في بداية الكشف عن هذا الميدان الجديد. ومنذ بضع سنواتٍ فقط ضعفت رقابة الفيلم التي فرضناها على أنفسنا فسمحت بفحصٍ كاملٍ لما نُسمِّيه «الموضوعات الناضجة»، ومن هذه الموضوعات الناضجة يجب أن نذكُر فيلمًا سباقًا عظيمًا، وهو قصة رجل أمريكي أسطوري ناجح، كان في صميمه طفلًا غرًّا، وتلك هي قصة «المواطن كين» لمؤلِّفها «أورسن ولز»، وقد كان هذا الفلم الناطق، الذي تمَّ بأداءٍ فني، هو الفيلم الأوحد الذي سيطر فيه رجل واحد على كلِّ شيءٍ، وربما دل امتياز هذا الفيلم على ميزة سيطرة عقل واحدٍ على جميع عمليات الإخراج السينمائي؛ فالتأليف والأداء والتصوير الفوتوغرافي هنا نماذج جديدة للتفوُّق. أما اليوم فأفلامنا الحديثة تتطلع إلى تنويعٍ عجيب من الموضوعات الجاد؛ مثل الحرب، والتحطيم الذري، والتحيُّز العنصري، وانحراف الأطفال، وإدمان المخدرات. وأفلامنا الهزلية كذلك، مثل «البعض يُحبونها ساخنة» و«شقة العازب» أشد نفاذًا وأكثر علمًا.
وقد يدل هذا التطور الجديد على تحول في الشخصية القومية الأمريكية، ولكنه يدل أيضًا على تحول في المكانة التي يحتلها الفيلم في حياتنا، فلم يَعُد التسلية المثالية للأسرة كلها، فهذه التسلية يؤديها اليوم لنا التلفزيون، الذي يدخل البيت مباشرةً ويبلغ جميع أفراد الأسرة. والفلم الجديد يستطيع — عند منافسته للتلفزيون — أن يزعم زيادةً في الصراحة، وهي صفة تعمل على رواجه، ويجاهد الفلم الجديد أيضًا أن يأخذ عن التلفزيون لقطاته المباشرة، فيعرض لنا الحوادث كأن آلة التصوير قد التقطتها عرضًا، ويحاول أن ينقل إلينا صورةً يمكن أن تكون موضع الثقة التامة.
ولكن صفة الوثوق هذه تتعلق أصلًا بالتلفزيون، فيما يعرضه من أنباء الرياضة، والاجتماعات السياسية، والمسابقات الحقيقية، حتى حينما يتنافس المتسابقون في مسابقاتٍ غير واقعية. ومن الواضح أن التلفزيون يجذبنا فوق كلِّ شيءٍ آخر لواقعيته ولما يعرضه من صور مباشرة والدراما فيه — كحوادثه الخاصة — تتَّصِف بواقعية التفصيلات الدقيقة، ونبرات الأصوات الصادقة، وأعمال البيت اليومية المتكررة. وبالرغم من هذه الاهتمامات العجيبة في المسرحية التلفزيونية، فقد أخرج هذا الجهاز لنا بعض الكتَّاب الموهوبين — من أمثال «بادي تشايفسكي»، و«جور فيدال»، و«وليام جبسن»، و«ريجينولدروز» — ولكن قلَّ من الممتازين من يكتب اليوم للتلفزيون، والظاهر أنه يترقب جيلًا جديدًا من كتاب المسرحية.
والأمل الراهن في التلفزيون هو في موضع قوة الفيلم الصامت عند أول ظهوره، في الممثلين الهزليين. وبينما كان الممثلون الهزليون الصامتون يجابهون المِحَن مُسلحين بسذاجتهم الطبيعية وحدَها، نجد أن الممثلين الهزليين في التلفزيون مُتعمِّقين في المعرفة. وفي ذهني الآن خاصة «فيل سلفرز»، و«سيد قيصر»، وغيرهما من الممثلين الناشئين أمثال «مورت ساهل»، و«شلبي برمان»، و«نيكولز وماي»، و«سلفرز» — مثل «الجاويش بلكو» — رجل موثوق فيه إلى حدٍّ كبيرٍ، يسير وفقًا للتقاليد الأمريكية التي ترجع إلى «ملفل دبو». وﻟ «قيصر» شخصيات مُتعددة، ولكنه ساخر قبل أي شيءٍ آخر، والساخر لا يمثل السذاجة وإنما يمثل الاستعلاء على ما يسخر منه — سواء كان ذلك فيلمًا أجنبيًّا، أو زوجًا مدنيًّا، أو محللًا نفسانيًّا — أما «ساهل» و«برمان» فيوحِيان بأنهما يعرفان كل حقائق الحياة اليومية، وأنهما ينفذان فيها ببصرهما ويعلوان عليها.
ولا يستطيع أن يزعم اليوم أحد أن الأداء التلفزيوني سوف تكون له أهمية ثابتة؛ فإن الأثر الاجتماعي المباشر ينحصِر في قصص الغرب التي يُحاكيها الأطفال على نطاقٍ واسعٍ. أما أحسن الممثلين الهزليين فهم يؤدُّون أساسًا للكبار، بل قد يكون أداؤهم للكبار وحدَهُم، وليس لدينا في الوقت الحاضر من يبلغ مبلغ الممثلين الهزليين للأطفال الذين شهدهم الجيل السابق، وليس لدينا من يماثل «جوبنر» صاحب العبارات الصبيانية، أو ما يماثل «إدي كانتور» الذي علَّم أطفالنا محاكاة أصوات صغار البط.
والتلفزيون كالراديو لا يشبع من استهلاك المادة، دون أن يكفل لها أي نوعٍ من أنواع الدوام. وربما كان أكبر الممثلين الهزليين للراديو، «فريد آلن»، الذي شكا من أنه في طريقه إلى «النسيان»، وكان «آلن» — وهو ساخر رقيق الحاشية — من أكثر الرجال الذين عرفَتْهم الحياةُ فكاهةً. فما الذي بقي لنا من إنتاجه؟ مئات من الأسطوانات التي لا يستمع إليها اليوم أحد، وكتابان، وكذلك انزوى في ظلامٍ نسبيٍّ أبرز اسمَين من كتَّاب المسرحية ممن أنتجت الإذاعة. ولكن موهبة طبيعية بين الحين والآخر تنطلِق في الراديو أو في غيره من وسائل الإعلام للجماهير. وأول اسم في هذا الصدد هو «أورسن ولز» الذي كانت برامجه التمثيلية تنمُّ عن إدراكٍ سليم وذوق رفيع. وقد أمسى «ولز» ذائع الصِّيت على غير انتظارٍ عندما كان يستمع إلى إحدى مسرحياته المستمعون في وقتٍ مُتأخِّرٍ فحسِبوا أن غزوًا قد جاء من المريخ، ولم يشترك في سلسلته — التي لم تلقَ رعايةً ما — نجم لامع. وفي مقابل هذا البرنامج — على موجةٍ أخرى — كان يُذاع أكثر البرامج شيوعًا في ذلك الحين. غير أن المستمعين بالرغم من ذلك كانوا ينصرفون جماعاتٍ جماعاتٍ عن هذا العرض المتنوِّع البراق لكي يُشاهدوا ما كان يجري في برنامج «ولز» المتواضِع. ولستُ أجد دليلًا أفضل من هذا للتعبير عن إيماني بالذوق الشعبي — إذا ما توفر له العرض الممتاز. ولدَينا أيضًا نوعٌ آخر من الصورة الناطقة «الأشرطة الكوميدية»، يَطَّلع عليه يوميًّا ملايين الأمريكان. وقد كفَّت الصور الهزلية منذ أمدٍ بعيدٍ عن أن تكون كوميديات مُتكررة، وهي اليوم تقدِّم لنا زادنا اليومي من القصص. وقلَّ منها ما يتصف بالحماسة أو الأصالة، وقد بات لها تأثيرٌ كبيرٌ على حياتنا القومية، وكان برنامج «كريزي كات» مفضلًا عند المثقفين. كما أن «المسرح الضيق» قدم لنا «بوباي» الذي كان يأكل السبانخ، كما قدَّم لنا «ومبي» الذي كان يأكل الهمبرجر. وكان «ميكي ماوس» فاتحةً لصناعة الصور الكاريكاتورية لصاحبها «والت دزني»، وكذلك برنامج «ليل آبنرفذ» في ذاته لأنه يقدِّم لنا الفلكلور الذي وُضِع ليلائم «مدينة روجباتش». أما برنامج «بوجو» وبرنامج «الفول السوداني» وهي أشرطة ناشئة نِسبيًّا، فهما من الدلالات المُبشِّرة لأنها كوميديات أدبية تستطيع أن تُجوِّز اختبار السخرية.
ونحن نتساءل: ما علاقة هذا كله بالأدب؟ لقد قدَّمَت لنا الأشرطة السينمائية، والتلفزيون، والكوميديات أدبًا تنقله إلينا الصور كما تنقله الألفاظ. والظاهر أن هذا التلازُم بين اللفظ والصورة أمر لا يمكن أن نغضَّ عنه الطرف، لأنا لا نأبه باللفظ وحدَه إلا قليلًا. وقد نشرت قصص الأفلام، ولكنها لم تجتذِب عددًا يُذكر من القُرَّاء. ونحن لا ننبذ المكتوب لأننا لا نُقدِّر أفلامنا ونُؤثِر أن ننساها، وإنما نفعل ذلك لأن الأفلام ذاتها يمكن أن تُشاهَد مرةً أخرى، لا في ألفاظ غير مُجسَّدةٍ، ولكن في صورٍ ناطقة. ومن عجب أن هناك اليوم — برغم ذلك — سوقًا محدودة لمسرحيات التليفزيون المكتوبة؛ وربما كان ذلك لأنها تختلف عن مخطوطات الأفلام في أنها مسرحيات رجلٍ واحدٍ، يمكن أن تُنسَب إلى مؤلِّفين متفردِين، وربما كان ذلك لأن برامج التليفزيون لا تتيسَّر مشاهدتها مرةً أخرى في أكثر الأحيان، وربما كان ذلك لأن كل امرئٍ يحسُّ أنه يستطيع أن يكتب مسرحيةً للتليفزيون، ولا يحتاج إلا أن يتعلم كتابة توجيهات التصوير.
غير أن الألفاظ وحدَها قد انتعشت سوقها بين الجماهير، كما انتعشت سوق الألفاظ مع الصور، فقد أمكن للطبعات الرخيصة أن تُقدم الكتب الجدية بقيمةٍ زهيدة، وهي تُباع بأعدادٍ ضخمة، لطلبة الجامعات، وللجمهور الذي لا يستطيع الحصول عليها من مكتبات الكلية. وفي قائمة حديثة لهذه الطبعات الرخيصة نجد ٩١٠٠ عنوان مطبوع، والعدد آخِذ في الزيادة. وهذه الطبعات الرخيصة لا تهدم الكاتب الممتاز ولا تُثبط همته، بل هي تزيد من جمهور قرائه. ومن بين أولئك الذين يفيدون من هذا التطور شعراء فَهمُهم عسير من أمثال «عزرا باوند» و«إ. إ. كمنجز»، ونقَّاد عسيرون من أمثال «بلاكمور» و«فرانسس فيرجسن». وقد أخذت اليوم المجلَّات الجديدة مثل مجلة «فرجرين» تحذو حذو الكتب الرخيصة، وأمست على الأقل إحدى المجلات الأدبية العتيقة مثل «مجلة الحليف» من المجلات ذات الطباعة الرخيصة. والنتيجة هي تشجيع انتشار الثقافة والمعاونة على إيجاد تلك المعايير الجدية التي يمكن أن نحكُم على فنوننا الشعبية بمقتضاها.