المسرح بغير جدران
أخذت الدراما الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تُحطم الجدران لكي تجد مجالًا أضيق في نطاقه. وهناك نوعان من الجدران المتحطمة؛ النوع الأول ذلك الذي يُحاكي «برودواي»، والنوع الثاني ذلك الذي يُحيط بالمجموعات الواقعية القديمة التي كانت تُقام في وقتٍ ما تحت قبةٍ تفصل ما بين خشبة المسرح والأوركسترا. وقد أُزيلت القبة ذاتها في كثيرٍ من الأحيان، ولا شكَّ أن من مميزات المسرح الأمريكي في الخمس عشرة سنة الأخيرة أن الإنتاج الإقليمي والجامعي بعيدًا عن «برودواي» كان له من الحيوية ما جعله يؤثر على «برودواي». ومما يميز هذه الفترة أيضًا التنوُّع الشديد في التجريب في الإخراج المسرحي.
وأقصد بالنطاق الضيق الذي أشرتُ إليه: الموضوع. وقد أمسى كتاب المسرحية الأمريكان منذ الحرب — إلى حدٍّ كبيرٍ — أشدَّ اهتمامًا بالفرد في ذاته، وضيَّقَت معالجتهم المجال الذي تتحرك فيه الشخصية الأولى في المسرحية حتى إنهم قلَّما يسمحون له أن ينتمي إلى مجموعةٍ أكبر من أُسرته. وتغلَّبَت الاهتمامات السيكولوجية على الاهتمامات الاجتماعية، وأضحت المسرحية النموذجية في سنوات ما بعد الحرب أقربَ إلى أن تكون دراساتٍ سيكولوجية، وربما كانت جنسية، تخرج في ملابساتٍ غير واقعية، وربما تعرض أول أمرَها بعيدًا عن «برودواي». وقد تبلغ في بُعدها «دالاس» أو «كليفلاند».
ولم يكن هذا النموذج الذي أجملْنا وصفه عامًّا شاملًا، فقد كانت هناك استثناءات تشذُّ عن هذا النطاق. ولا ينبغي كذلك أن يحسب القارئ أن مجرد وصف المسرح بعد الحرب يعني الإشارة إلى أنه جديد أو يدعو إلى العجب. فقد تعرض المسرح الأمريكي للموضوعات السيكولوجية بدرجةٍ قصوى في العشرينيات، كما أنه قام في هذه العشرينيات ذاتها بتجارب مسرحية جدِّية. وكثيرًا ما كان مسرح «برودواي» محلًّا للطعن أو مجالًا للمحاكاة من أحد المسارح الصغيرة، ولم يكن ما تلا ذلك إذن كشفًا عن كل شيءٍ لم يكن مُتوقعًا، إنما كان امتحانًا للطُّرق التي استخدم بها — وحوَّرها — مسرح ما بعد الحرب البناءَ التقليديَّ وطرائق وموضوعات المسرح الأمريكي، ووفَّق بينها وبين العصر الجديد.
وقد تواضعنا على أن نُطلق اسم «المجموعة التي بعدت عن برودواي» على تلك الزُّمرة التي اتفقت في النظر إلى رأيٍ جماعي أو اجتماعي، والتي انضم شملها لكي تُعبر عن هذا الرأي في وجه المسرح التجاري المنبوذ. ولم يكن المسرح الريفي — مثلًا — إلا مسرحًا لكتاب المسرحيات، مجموعة من الرجال والنساء يؤمنون بأن الدراما يمكن أن تكون — كأي لونٍ آخر — أدبيةً جادة. غير أن مسرح المدينة المنبوذ كان — برغم ذلك — يؤدي خدمةً طيبة؛ فعندما كانت أية جماعة بعيدة عنه — أو أية فكرةٍ — تقف على قدَمَيها، كان هذا المسرح التجاري يجتذبها إليه، بنفس الطريقة التي يبتلِع بها الحزبان السياسيان الكبيران في هذا البلد أي حزبٍ سياسيٍّ ثالث.
والأمر الفريد فيما يتعلق بالنشاط الذي ظهر بعيدًا عن «برودواي» منذ عام ١٩٤٥م هو أنه كان مغامرةً اقتصادية قبل كلِّ شيءٍ آخر، ذلك أن المجموعات التي ابتعدت عن «برودواي» كانت محترفة أكثر منها مُجدِّدة، ودخلهم له من الأهمية ما لِمِثلهم. وتظهر لك الناحية التجارية جليَّةً في النشاط الراهن الذي ابتعد عن «برودواي» إذا أنت أنعمت النظر في الطريقة التي تصل بها المسرحية إلى خشبة المسرح بعيدًا عن «برودواي»؛ فليست هناك جماعات نجد فيها الممثلين والموجهين مخرجين ومديرين أيضًا؛ بل قلَّما نجد جماعة مُتصلة دائمة. ومن الاستثناءات الواضحة «الجماعة في الميدان» التي قامت بعملٍ ذي أثر بالِغٍ منذ نجحت في إحياء مسرحية «تنسي وليامز» «الصيف والدخان» في عام ١٩٥٢م. وبالرغم من أن كثيرًا من الممثلين يظهر في أكثر من إنتاج لهذه الجماعة، إلا أن الجماعة هي — فوق كل شيءٍ آخر — استمرارٌ في الإدارة والتوجيه ما دام «جوزي كونترو» أحد الثالوث المنتج الذي يُهيمن على المؤسسة.
وكان المنتج بعيدًا عن «برودواي» في أكثر الأحيان — كنظيره في المدينة — يبحث عن المسرحية التي يُحبها أو التي يظن أن عددًا لا بأس به من رواد المسرح يُحبها، ثم يستأجر مسرحًا، ويجمع من يقومون بالأدوار، ويبحث عن مُوجِّهٍ وعن مُصمم، ويستأجر مختصًّا في الإعلان، ثم يؤدي العمل. ومما يدل على أن هذا العمل كان مُربحًا أحيانًا — وإن كان غير مُربح في أكثر الأحيان — أن المنتجين في «برودواي» من أمثال «روجر ستيفنز» مثلًا ينتقلون اليوم بعيدًا عن «برودواي» لإخراج أمثال هذه المسرحيات.
ولستُ أرمي من تأكيدي للدافع الاقتصادي لكثيرٍ من النشاط الذي كان يجري بعيدًا عن «برودواي» إلى أن أحُطَّ من قدْر هذا النشاط. كان هناك إنتاج مُنحَط من غير شكٍّ، غير أن ما سجَّله المسرح البعيد عن «برودواي» — على وجه العموم — في السنوات العشر الأخيرة أفضل وأشد تماسكًا مما صدَر عن هذا المسرح عند أول ظهوره. ولقد كان ما كسبه المسرح الأمريكي، بل الدراما الأمريكية من النشاط الخارج عن «برودواي» شيئًا كثيرًا؛ فقد يسر لروَّاد المسرح كثيرًا من روائع المسرح الحديث، من أعمال «أبسن» و«سترندبرج» و«تشيكوف» و«أوكيسي» و«لوركا». وهي مسرحيات لم تكن «برودواي» لتغامر بعرضها. كما قدم للجمهور الأمريكي المستمع كتَّابًا مَسرحيين ما زالوا في الميزان، من أمثال «بكت» و«يونسكو» و«جنيت» و«أداموف». ووجد في المسرحيات الأمريكية مزايا فشلت «برودواي» في إظهارها عند إخراجها للمرة الأولى. ومن المسرحيات التي لقِيَت جمهورًا عن طريق إخراجها إخراجًا وديًّا في المسارح الصغيرة مسرحية «أونيل» «رجل الثليج يقبل»، ومسرحية «وليامز» «هبوط أورفيس» ومسرحية «ترومان كابوت» «قيثارة الحشائش». كما أن النشاط الخارج عن «برودواي» أظهر أيضًا مجموعةً من أصحاب المواهب في التمثيل، ودفع بالممثِّلين من أمثال «كيم ستانلي»، و«جيسن روباردز الصغير»، و«جيرالدين بيج»، و«فرتز يفر»، و«أيرل هايمان» إلى الجمهور الأكبر في «برودواي» إلى دور السينما. وكذلك المديرون — ومن أشهرهم «كونتيرو» — وجدوا مجالًا للظهور بعيدًا عن «برودواي».
ويبدو أن هذه المسارح الصغيرة المزدهرة قد قدَّمت إلينا كلَّ شيءٍ سوى المسرحيات الأمريكية الجديدة. وهناك بطبيعة الحال استثناءات مثل «الفتاة على طريق فلامينيا» لمؤلِّفها «ألفرد هاي» وهي المسرحيات القلائل المؤثرة حقًّا التي ظهرت بعد الحرب، و«نهاية الإنسان» ﻟ «كالدر ولنجهام»، وكلاهما بدأ بعيدًا عن «برودواي». وفشَلُ هاتين المسرحيتين عند انتقالهما إلى المدن الكبرى في المسارح الضخمة دليلٌ آخر على أن بعض المسرحيات يتطلَّب مسرحًا صغيرًا، وجمهورًا محدودًا. وإدراك هذه الحقيقة هو الذي حمل «تنسي وليامز» على أن يُقدِّم مسرحية «فجأة الصيف الماضي» للإخراج بعيدًا عن «برودواي». و«وليامز» هو «وليامز» على أية حالٍ، وحتى «هايز» و«ولنجهام» لم يتقدَّما إلى المسرح مجهولَين، لأن مسرحياتهما مُقتطفات من رواياتٍ بلغت بالفعل مسامع القُرَّاء. وإذا كانت المسارح البعيدة عن «برودواي» تريد حقًّا أن تُقدم جديدًا للدراما الأمريكية، فلا بد لها من أن تجد كتَّابًا مسرحيين جددًا، كتابًا يستجيبون لقيودها ويتوسَّعون في حُريتها النسبية. وقد أخذ بعض الكتاب المسرحيين في الظهور في السنوات القلائل الماضية، ولعل «الصلة» ﻟ «جاك جلبرت» و«قصة حديقة الحيوان» و«الحلم الأمريكي» ﻟ «إدوارد آلبي»، و«الابن الضال» ﻟ «جاك رتشاردسن» ليست سوى طلائع لهذه الحركة الجديدة.
ويمكن على سبيل المجاز أن نقول إن المسرح البعيد عن «برودواي»، هو الأخ الأصغر ﻟ «برودواي»، أخ أقل ثراءً وأسوأ هندامًا، ولكنه أشد إلحافًا في السؤال، وربما كان كذلك أحدَّ ذكاءً. وإذا استرسلنا في المجاز قُلنا إن المسرح إقليميٌّ أشبه بابن العم الريفي الذي يثبت — بعد التحليل الدقيق — أنه أشدُّ تهذيبًا من ابن العم المدني، ومسرح الجامعة أشبَهُ بذي القربى البعيدة؛ محافظ في أكثر الأحيان، ولكنه قادر على أن يُقدم العجائب المستساغة. وبالرغم من أن «برودواي» تزعم أنها تتجاهل هؤلاء الأقرباء، إلا أنها قد تستعير منهم أيَّ شيءٍ — المسرح، وكاتب المسرحية، والممثل، والمدير، والوسائل الفنية في الإخراج — أيَّ شيءٍ وُضِع موضع التجربة وأثبت نجاحًا عمليًّا.
وأودُّ أن أُنبه إلى أن كلمة «الإقليمي» في عبارة «المسرح الإقليمي» لا تعني قيود الموضوع أو الإحساس الذاتي بالمكان الذي نقصده عادةً حينما نتحدَّث عن الأدب الإقليمي، إنما نعني بها تلك المسارح التي تزدهر خارج مدينة نيويورك؛ في «سان فرانسسكو» مثلًا أو في «لوس أنجلس»، أو في «كليفلاند»، أو «دالاس»، أو «هوستن»، أو «توببكا»، أو «ميلووكي»، أو «فيلادلفيا». ولا نعني بها المسارح الصيفية، وهي محاكاة باهتة ﻟ «برودواي»، ولا نعني بها جماعات الهواة الذين يُغرمون بتقليد آخر كوميديةٍ نجحت في العام السابق في نيويورك. إنما المسرح الإقليمي يتألف من تلك الجماعات المحترفة أو شِبه المحترفة التي تبذل جهدًا في أن تنقل إلى المدن الأمريكية في جميع أنحاء البلاد التماسُك الذي تتصِف به روائع المسرح الكلاسيكية والمسرحيات الجديدة. وكثيرًا ما يكون وجود هذه الجماعات غير مُستقرٍّ، فهي تتألف وتنفضُّ. وقيمة ما تقدمه يرتفع مرة وينخفض أخرى، وكثيرًا ما يتوقَّف ذلك على صفة المدير ونوع الجماعة وتاريخ العام، والجيد منها يمتدُّ تأثيره وراء المدن التي تُعرض فيها.
والمسرح الذي كانت تُديره «مارجو جونز» في «دالاس» مثالٌ طيب لذلك. وقد كان هذا المسرح يُرحب بصفةٍ خاصةٍ بالمسرحيات الجديدة وكتاب المسرحية الجدد. ولم يكتفِ هذا المسرح — في موسمه الأول في صيف عام ١٩٤٧م — بتقديم أحدث مسرحية ﻟ «تنسي وليامز» «الصيف والدخان»، بل قدم أيضًا كاتبًا مسرحيًّا جديدًا، هو «وليام إينج»، الذي أعاد كتابة مسرحية «بعيدًا عن السماء» بعد ظهورها بعشر سنواتٍ تحت عنوان «الظلام في الطابق العلوي». ويعد وفاة «مس جونز» في عام ١٩٥٥م استمر المسرح الذي كان يحمل اسمها، دون تأثير شخصيتها، وكان تأثيره خارج حدود المدينة ضيقًا محدودًا، واليوم نجد أن عشاق المسرح في جميع أرجاء البلاد يتطلَّعون مرةً أخرى إلى «دالاس»، يترقبون ما يتمخَّض عنه مركز مسرح «دالاس» الجديد. وجانب من هذا المركز مدرسة، وجانب آخر مخزن، وهو في مقرِّ مسرح «فرانك لويد رايت»، يُديره «بول بيكر»، الذي جذب من قبل إليه الأنظار خارج حدود ولاية «تكساس» بما أخرجه في جامعة «بيلور».
وقد اعترفت مؤسسة فورد أخيرًا بأهمية أمثال هذه المسارح الإقليمية للدراما الأمريكية، وهو اعترافٌ قد يُحرِّر بعض هذه المسارح على الأقل حتى تستطيع أن تسير دون الخضوع للدائنين. ولما تيسرت في عام ١٩٦٠م لمسرح آلي في «هوستن» ولنادي الممثلين في «سان فرانسسكو» ومسرح «فينكس» في «نيويورك» هِباتٌ تبلُغ مبلَغ ما منحته المؤسسة، فكَّرَت في العمل مع جماعات متفرغة. وأعتقد أن «مسرح أرنيا» في واشنطن الذي يُقدم له «فورد» منحةً تساوي مقدار ما يكسب سيحذو حذو هذه المسارح.
وكذلك أسهمت المسارح الجامعية في النهوض بالدراما الأمريكية. والحق أن كثيرًا من هذه المسارح تنقُصه إما الإمكانيات أو الخيال الذي يساعد على إجراء التجارب الجديدة، إلا أنَّ هناك بعض حالات استثنائية ناجحة. وقد أخرجت جماعة «كيرتيس كانفيليد» في «ييل» أولًا إحدى مسرحيات «ماك ليش»، ثم قامت بتمثيلها فيما بعدُ على المسرح الأمريكي في المعرض العالمي ببروكسل. أما النشاط المسرحي في «هارفارد» — على الأقل حتى افتتاح مركز المسرح الجديد هناك — فقد كانت تنقصه الإدارة الرشيدة، وبرغم ذلك فقد انبثق عن نشاط هذا المسرح المتنوع أخيرًا جدًّا كاتب مسرحي خيالي هو «آرثر كوبيت». وقد أدَّت مسرحية «كوبيت» «أبي، أبي المسكين، لقد حبسَتْك أُمي في الحمام، وأنا من أجلك حزين» إحدى جماعات الطلاب الجامعيين أول الأمر، وهي مسرحية قريبة الشبَه بمسرحيات «يونسكو»؛ موضوعها أمريكي، ونقدُها لاذع.
ولنترك الآن جدران مسرح «برودواي» المتداعِية، وننظُر إلى جدران الإعداد الواقعي للمناظر المتداعِية هي أيضًا. كانت «سيلست هولم» منذ عهدٍ غير بعيد ضيفةَ التلفزيون، فقالت إنها مثلت في المسرح المستدير الجديد، وكان مرةً على شكل ثلاثة أرباع الدائرة، ومرةً على شكل نصف دائرة، وأنها كانت في سبيل البحث عن شكلٍ جديد تقوم فيه بالتجربة. وفي هذه الفكاهة مغزًى لأن المسرح الأمريكي كان بسبيل تجريب أشكالٍ مُتعددة في السنوات التي أعقبت الحرب. كما أن «جلن هيوز» طوَّر في جامعة واشنطن في مسرحه المستدير ذي السقف المائل فكرة المسرح المستدير خلال الثلاثينيات من هذا القرن، ولكن هذا اللون من الإخراج — حيث كان المستمعون يحيطون بالممثلين إحاطةً كاملةً — لم يصبح شائعًا إلا في الأربعينات، وقد أخذت المسارح الصغيرة ومسارح الجامعات بهذه الفكرة لأنها بسَّطت بعض المشكلات المتعلقة بالمناظر والمكان، ومن دواعي إجراء هذه التجربة الاقتصادية — كما حدث في فندق أديسون بنيويورك — هو أن فتور نشاط النوادي الليلية عقب الحرب مباشرة أخلى المكان الذي أمكن تحويره بسرعة وبنفقاتٍ زهيدة إلى مسارح مُستديرة.
أما الميزة الدرامية لهذا اللَّون من الإخراج — كما يقول المؤمنون به — فهي أنه يُوجَد بين المشاهدين والممثلين صِلة يقطعها بالضرورة المسرح المرتفع. فإذا كانت المسرحية ملائمة، والممثلون قادرين حدث هذا التبادل، ولكن المسرح المستدير بالنسبة إلى بعض كتاب المسرحية مثل «إبسن أوشو» غير ملائمٍ، كما أن المسرح الخشبي المرتفع الضيق لا يلائم «شكسبير»؛ ومن ثم فإن المسرح المستدير لم يحلَّ جميع مشكلات المسرح كما ظنَّت «مارجو جونز» حينما أخرجت كتابها عنه في عام ١٩٥١م. وبمجرد ما شاع هذا الشكل من أشكال المسارح أخذ يتعرَّض للتعديل. «فالدائرة وسط المربع» مثلًا لم تكن قطُّ دائرة، بل كثيرًا ما كانت الدائرة ناقصة، تبلغ ثلاثة أرباع الدائرة فقط، لأن هذا الشكل أكثر ملاءمةً للإخراج، أما الدائرة الكاملة فلم تُستخدَم استخدامًا مُجديًا إلَّا في خيام الموسيقى التي تنتشر الآن في جميع أرجاء البلاد حيث يمزج المشاهدون في الصيف سرورهم بالكوميديا الموسيقية باستمتاعهم بلعب السرك.
أخيرًا أودُّ أن أقول إن عقلية الجمهور الذي انجذب إلى المسرح الأرضي أهم من المسرح ذاته؛ فبينما كان دُعاة هذا المسرح يجلبون المتفرجِين في دوائر، كان بعض المخرجين الآخرين يندفعون نحو الجمهور مُستخدِمين الممرات والمنصَّات، وكل الحيل الأخرى التي تعاون على تحطيم الجدار الرابع غير المنظور الذي يقع بين المتفرجين والممثلين. والمسرح بهذا الحجم وهذه الصورة كان له أثره في تصميم المعدَّات؛ ففي السنوات التي أعقبت الحرب مباشرةً تطلبت مسرحيات مثل «وفاة بائع»، و«عربة اللذة» إعدادًا إيحائيًّا أكثر منه واقعيًّا، ووُفِّقت فعلًا إليه، ففي مسرحية «البائع» مثلًا استطاع «جو ملزنر» بتصميماته المتنوعة الخيالية أن يُمكِّن الشخصيات من التنقُّل لا من غرفةٍ إلى غرفةٍ فحسب، بل كذلك من عامٍ إلى عامٍ، ومن حلمٍ إلى حلمٍ، وبدا عندئذٍ كأن الطرق التعبيرية التي شاعت في العشرينيَّات قد استؤنِست لكي تُلائم نوعًا جديدًا من المسرحية الأمريكية، نوعًا خفَّف من واقعيته بالرمز والحالة النفسية.
ومن سوء الحظ فيما أظنُّ أن انتكس هذا الاتجاه أخيرًا، وتوارت الحماسة وقوة الابتكار اللتان تميَّز بهما إعداد مناظر المسرح الأمريكي في الأربعينيات الأخيرة ليظهر مكانها — من ناحية — نوع من التلاعُب العصبي الذي يُمثله إعداد «ملزنر» لمناظر مسرحية «طائر الصبا العذب»، وتحلُّ محلَّه — من ناحيةٍ أخرى — واقعية عنيفة فوتوغرافية في الإعداد كما فعل «رالف أولزوانج» في المسكن الذي أعدَّه لمسرحية «زبيبة تحت الشمس».
وإذا كانت الآمال التي انتعشت أيام مسرحية «البائع» قد فترت قليلًا، وإذا كان من الجائز اليوم ألا نتمسَّك بالبساطة التي تحاول أن تحقق الشعور بالصواب عن طريق الإشارة والإيحاء، فإنه لم تَعُد هناك ضرورة على الأقل لكي يُحسَّ كاتب المسرحية الأمريكي ومُصمم المناظر بالخضوع المطلَق لنوعٍ واحدٍ من الإعداد يتحكَّم فيهما. فالمسرحية الآن تستطيع أن تتحرَّر وأن تنساب كالكوميديا الموسيقية، إذا تطلب الموضوع ذلك. وهناك في واقع الأمر ما يدعونا بشدةٍ إلى الظن بأن إخراج المسرحيات الموسيقية على خشبة المسرح وتصميمها سيكون من بين المؤثرات الفعَّالة في التخفيف من الواقعية على خشبة المسرح الأمريكي.
ومن العجيب أن التلفزيون هو أيضًا من بين هذه المؤثرات؛ فبالرغم من أن الدراما التلفزيونية واقعية صارمة، فإن واقعية هذا الجهاز ليست بحُكم الضرورة هي واقعية المسرح، فالمسرحيات التلفزيونية تتألَّف من مناظر دقيقة، والإخراج يسير سيرًا حثيثًا خلال مجموعة من أوضاعٍ صُغرى لا يجد الممثلون فيها مجالًا إلا للحدِّ الأدنى من الحركة في أقصر فترةٍ من الزمن. فإذا نحن نقَلْنا هذه الطريقة إلى المسرح أمسى ما كان واقعيًّا بحتًا شيئًا مُصطنعًا متكلفًا في الوضع والإضاءة. وحتى مسرحية تقليدية رُوعِيت فيها الطريقة القديمة مثل مسرحية «معجزة العامل» لمؤلِّفها «وليام جبسن» تتصف في الغالب بكثيرٍ من الانسياب. ولا يتردَّد المؤلف هنا في أن يسمح لنفسه بالمناظر القصيرة، والتغير السريع في الزمان والمكان، وتمثيل مَوقفَين في آنٍ واحدٍ على المسرح، وتعدُّد الأوضاع، وتنقُّلها، والإضاءة المفاجئة، وعدد ضخم من الحيل المسرحية تحت تصرف الكاتب. ولكن جانبًا من الرغبة في استخدام هذه الحيل على نطاقٍ واسع يرجع إلى محاولة تقريب مرونة المسرحية التلفزيونية إلى خشبة المسرح. ويؤكد هذا التشابُه بين خشبة المسرح والتلفزيون اشتغال عددٍ كبير من كتاب المسرحية المعاصِرين بالناحيتَين؛ مثل «بادي تشايفسكي»، و«رتشارد ناش»، و«جور فيدال»، و«شيمون ونسلبرج».
وبالرغم من أن المسرحية التلفزيونية تَستخدِم نوعًا من الحرية في التكوين، إلا أنها عادة تتقيَّد في الموضوع؛ فالشعور بضيق المجال الذي يكمن في طريقة الإخراج، والحاجة إلى تسليط الأضواء على شخصيةٍ واحدة، أو على مجموعة صغيرة من الشخصيات، يُرغم الكاتب التلفزيوني على معالجة المشكلات الفردية؛ فالمسرحية السيكولوجية إذن — دون المسرحية الاجتماعية — أصبحت هي المسرحية التي تتطلَّبها الدراما التلفزيونية، وكذلك أمست هي المسرحية التي تطلَّبَها المسرح في الاثنتي عشرة سنةً الماضية.
وبالرغم من أني أشرتُ إلى وجود علاقةٍ سببيةٍ بين التلفزيون والمسرح فيما يتعلق بالتأليف والإخراج، فإنني لستُ أرى علاقة أقوى من علاقة التشابُه في الموضوع. وربما كان من الحق أن نجاح الدراما التلفزيونية الحية في السنوات الأولى من الخمسينيات قد غذَّى ميلًا كان بالفعل قد ظهر على المسرح، ومن المؤكد حقًّا أن أولئك الكُتَّاب الذين انتقلوا من التلفزيون إلى «برودواي» جاءوا معهم بنوعٍ من الولاء للَون المسرحية التي كانوا يُقدمونها للشاشة الصغيرة. والأمر المهم — على أية حالٍ — هو أن المسرح الأمريكي بعد الحرب قد أحاط المسرحية السيكولوجية بحماسةٍ لم يألفها المسرح منذ العشرينيات عندما تسرَّب «فرويد» في نهاية الأمر إلى «برودواي».
وفي السنوات التي أعقبت الحرب مباشرةً كان هناك عددٌ من المسرحيات شاركت فيها ملابسات الموضوع الإضاءة المفاجئة في تصوير الشخصيات، كما نجد في مسرحيات مثل «القرار النهائي» ﻟ «وليام وستر هينز». غير أن المسرح الأمريكي —حتى مع هذا — كان قد كفَّ عن اهتمامه صراحةً بالمشكلات الاجتماعية. وكانت هناك مجموعة من المسرحيات عن علاقات الزنوج بالبيض — مثل مسرحية «الجذور العميقة» ﻟ «أرنود دسو» و«جيمزجو» — غير أن هذه المسرحيات كانت اجتماعيةً بالتلميح دون التصريح. ولما كان اهتمامها في أغلب الأحيان بأخلاط الأجناس فقد كانت عبارةً عن صورة من صور المسرحيات العامة المألوفة، التي تؤثر العواطف الخاصة على المشكلات العامة. وتُعتبر مسرحية «موطن الشجاع» لمؤلِّفها «آرثر لورنتس» نموذجًا للسنوات التي جاءت إثر الحرب مباشرة. ولما كان إخراجها في عام ١٩٤٥م فقد كانت قريبة العهد بالثلاثينيات، فاهتمَّت بمشكلة من المشكلات التي تمسُّ المجتمع في صميمه، وهي مشكلة اضطهاد السامِيِّين، ولكنَّها تطلَّعت إلى الخمسينات في مُعالجتها للمشكلة بطريقةٍ سيكولوجيةٍ بحت.
إن المسرحية العادية في الخمسينيات تهتم بمشكلات الملاءمة أو التوافق بين الفرد والبيئة. وكثيرًا ما نجد بطل المسرحية في موقفٍ عائلي حيث تكون الزوجة والوالد والولد خصومًا، يدفعونه أو يصرفونه عن الإدمان في الشراب أو الشذوذ الجنسي، أو الانهيار العقلي، أو الإدمان في تعاطي المخدرات، أو مجرد الملل. فإذا لم تكن هناك أسرة، كانت هناك مشكلة حبٍّ أو مغازلةٍ تقوم بتوتير الأعصاب أو التخفيف عنها. وكثيرًا ما يكون الحل جنسيًّا، فيتم إنقاذ البطل جنسيًّا عن طريق التدخُّل الطفيف. وأشهر مثالٍ لذلك بطبيعة الحال هو قصة «شاي وحنان» حيث أنقذت زوجة الأستاذ تلميذَه من بوادر الانحراف الجنسي بتقديم جسمها علاجًا له. وكذلك نجد أن كثيرًا من الحوار في المسرحية العادية مصوغ في التعابير السيكولوجية، والنغمة الغالبة هي الوعظ الذي لا مفرَّ منه.
وكثيرًا ما كان كتاب المسرحية الأمريكان مُعلِّمين ومُصلحين. وقد أمسى كاتب المسرحية في سنوات ما بعد الحرب، بعدما أضحت المسرحية الاجتماعية غير شائعةٍ، نوعًا من المرشد في شئون الزواج، الذي يصرُّ على أن الحُب — الذي يقصد به الجنس عادةً — يتغلَّب على كل شيءٍ. انظُر مثلًا إلى نهاية مسرحية «الظلام في الطابق العلوي» لمؤلِّفها «وليام إنج» فبعدما يفترق المسرح بكل أمرٍ مُعقد من الخيانة إلى التعصُّب ضد السامية يجد «إنج» حلًّا لجميع المشكلات في إرسال رد «بن فلاد» وزوجته إلى الطابق العلوي وأيديهما مُتشابكة. وقبل ذلك في المسرحية نجد المؤلِّف يعطي القرَّاء درسًا طويلًا موضوعيًّا صريحًا في شخصية أخت «مسزفلاد»، وهي شخصية تدعو إلى الاستهزاء، وإلى الإشفاق معًا، لا يسعها أن تتخلى عن الحديث عن برودها الجنسي، وما فعلت لزواجها وحياتها. وربما كان «إنج» — الذي يستر مُركباته العاطفية في غشاءٍ من الجدية — خير مثال للكاتب المسرحي في الخمسينيات، ومسرحية «الظلام في الطابق العلوي» — التي تهبط فيها الدراما السيكولوجية في نهاية الأمر إلى مستوى النصيحة الصحفية — ليست خير مثالٍ لمسرحياته فحسب، بل هي أيضًا أكثرها شيوعًا.
وحتى مسرحية «الرجل العاشر» لمؤلِّفها «بادي تشيفسكي» — وبالرغم من اختلافها الظاهري — هي إلى حدٍّ كبيرٍ على غرار نمط «إنج»، و«أندرسن» و«لورنتز». وبالرغم من الهزل الذي يُشبه الكوميديات الألمانية القديمة والذي نلمِسه في البحث عن «منيان» واستخدام التصوُّف استخدامًا غامضًا في عرض «دبك» فإن مسرحية «تشيفسكي» لا تزيد كثيرًا عن قرار العاشِقَين الشابَّين المعذبَين أن يتشاركا في الألم، وأن يجرِّبا القوى العلاجية الكامنة في «الحب». وليس من شكٍّ في أن كلَّ من شاهد مسرحية «منتصف الليل» ﻟ «تشيفسكي» أو مسرحياته التلفزيونية السابقة لم يُدهشه أن يجد عنده موضوعات سيكولوجية أكثر مما يجد موضوعاتٍ خارقة للطبيعة.
وأمست الكوميديا في أكثر الأحيان شبيهةً جدًّا بالدراما الجادة في السنوات التي أعقبت الحرب. واختفت — من الناحية العملية — الكوميديا الرفيعة، التي لم تألفها في الواقع قطُّ أمريكا، اللهم إلا في صورةٍ منحرفة في بعض مسرحيات «بهرمان» و«فيليب باري»؛ اختفت تمامًا إذا استثنَينا اللمحات التي نلمسها في مسرحية مثل «السرور من رفقته» التي ألَّفها «صموئيل تيلور». واختفت أيضًا الكوميديا الأمريكية الصادقة؛ المسرحية العاطفية القوية، التي تُشبه مسرحيات «كوفمان» و«هارت»، وبدا بعد الحرب مباشرة كأن «جارسون كانين» بمسرحيته «وُلد بالأمس»، ربما استمر في هذا الاتجاه. بيد أنه نقله إلى «هوليوود» في أفلامٍ سينمائية بلغت في الإجادة مبلغ «النوع المتزوج»، وهناك لقيت حتفها، وهي لا تُوجَد اليوم إلا في الكوميديات الموسيقية مثل «الرجال والعرائس». ولكن حتى هذه المسرحيات لا بدَّ لها من الكفاح لكي تجد لها مجالًا على المسرح إلى جوار المسرحيات الموسيقية ذات الهدف الأبعد. وإلى جوار المسرحية الأمريكية الجديدة التي تقوم على أساس الأوبرتا الأوروبية؛ أقصد الاستعراضات من أمثال «سيدتي الحسناء» التي وضعها «ليرنر» و«لووى».
واختفت بتاتًا تقريبًا الكوميديا الساخرة، وبخاصة تلك التي تسخر من السياسة. والمسرحية الوحيدة التي تجد فيها شوكة سخرية لاذعة مما ظهر في السنوات القلائل الأخيرة هي «زيارة إلى كوكب صغير»، وهي فكاهة مُسالمة من تأليف «جورفيدال». ومن عجيب الأمر أن هذه المسرحية هي صورة مطولة من مسرحية تلفزيونية. وكان هناك عدد من المسرحيات التي لا تستحقُّ الذكر هاجمت أهدافًا لا خطر منها مثل التماثُل في ضواحي المدينة. وكان هناك أيضًا فكاهات نجحت إلى أقصى حدٍّ، مثل «رقصة الوالتز في العيد المئوي» التي وضعها «جوزيف فيلدز» و«جيروم كودوروف»، وتبلغ هذه المسرحية قِمَّتَها عندما يركل البطل واجهة جهاز تلفزيوني.
وربما كان خير نموذج للكوميديا في هذه الفترة هي «لاعبان على الأرجوحة» ﻟ «وليام جبسن»، غير أنه من العسير أن نُميز بينها وبين المسرحية الجدية العادية. حقًّا إن بها عددًا كبيرًا من الفكاهات المقصودة، التي تُقدَّم غالبًا على أساس افتراض أن كلمة السباب الخفيفة مَدعاة إلى الضحك؛ وللبطلة فيها علاقة بعيدة غامضة بالبطل الكوميدي المكتئب الذي يألفه المشاهدون. حقًّا إن بالمسرحية هذا وذاك. غير أنها في الواقع مزيج من الحلو والمر، وهي عبارة عن نظرةٍ عميقةٍ إلى علاقة حُبٍّ بين زوجين لا انسجام بينهما، يحاول كل منهما أن يُخفي عزلته، وعندما يفترقان في نهاية المسرحية نجدهما أكثر ثراءً وكمالًا، وأشدَّ صلابةً في مواجهة التجربة التي يمرَّان بها — وتلك هي التربية بمعنى «إنج» — ومن المؤسف أنَّ «تنسي وليامز» صاحب الموهبة الحقيقية للكوميديا المضحِكة قد كتب مسرحية «فترة التسوية» لا تختلف كثيرًا عن مسرحية «جبسن»، بالرغم من وجود بادرةٍ من التهكُّم تسري في القصة فترفعها من مستوى الهبوط.
وربما كان «تنسي وليامز» و«آرثر ميلر» وحدَهما من بين جميع كتَّاب المسرحية الأمريكان في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية هما اللذان لهما حق التتويج باعتبارهما أكبر الكتاب الدراميين. ولا يمكن الحُكم لهما نهائيًّا بهذا الحق إلا بعد خمسين سنة أخرى على الأقل. غير أن احتمال احتفاظ «ميلر» بهذا الحق يفوق احتمال زميله «وليامز». ومهما يكن من أمرٍ فإن كليهما لا ينخرط تحت حُكمٍ عام يُطلق على هذه الفترة، كما يمكن أن ينخرط «إنج» أو «جبسن»، ولكن بالرغم من صفاتهما الفردية فإنهما ينتمِيان أيضًا إلى عهدهما. فـ «وليامز» — مثلًا — شديد الصِّلة بالاتجاه المعاصر الذي يهتمُّ بالمشكلات السيكولوجية، وإن كان يستخدم هذه المشكلات لكي يخدم أغراضه الخاصة، أبطاله يشكون الخيبة والعزلة كما يشكو أكثر الأبطال عند أكثر كتاب المسرحية المعاصرين، ولكنه — باستثناء «فترة التسوية» و«الوشم الوردي» — لا يحاول أن يُقدِّم لمشكلاته حلًّا، وهو ينتمي إلى عهده إلى حدِّ أنه يتطلَّع إلى كل ما هو صحيح، ومتوسط، ومنسجم. ويتضح ذلك حتى في مسرحية «عربة اللذة» حيث نجد أن نظرته الغامضة إلى «ستانلي» المخرِّب تُنقذ المسرحية من أن تكون معالجةً صريحة لنقيضَين يُمثل أحدهما «بلانش» والآخر «ستانلي»، الأول مثال للخير والثاني مثال الشر.
وليس من شك — على أية حال — في أن «وليامز» ينجذِب نحو أسرة «بلانش»، وهم ضحايا هذه الدنيا. إن أبطال مسرحياته جميعهم تقريبًا أغراب، تفصلهم عن العالم المألوف صفات كالحساسية (التي نجدها عند «بلانش») أو الطهر (كما نجد عند «فال زافير» في «هبوط أورفيس») أو الفساد الصارخ (كالشاعر الميت في مسرحية «فجأة في الصيف الماضي»). وهؤلاء الأغراب يجدون الفن والدِّين، وكل الفضائل الروحانية التي تجعل الإنسان في طبيعةٍ أعظم مما هو، والتي يُوضحها «وليامز» في استخدامه الواعي للأسطورة في المسرحيات الأخيرة، وفي الميل نحو الرمزية في الصور الهزلية التي رسمها في مسرحياته الأولى. ولا بدَّ من هلاك هؤلاء الأغراب أخيرًا في مجتمعٍ «عدم الصدق» فيه — وهو التعبير الذي جاء في مسرحية «قطة على سطح من الصفيح الساخن» — يَفضُل أكاذيب الفن والخيال الكبرى؛ حيث يحلُّ الاهتمام بالنفس محل تلك الصفة الجميلة التي لا تترك أثرًا؛ أقصد: الإشفاق.
وفي التصور المغرق في الخيال تكمن بذور القضاء على «وليامز» بيده، فالإشارات الكبرى لأبطاله وعُنف أغراضهم تَسُوق «وليامز» إلى الأخذ بقالب الميلو دراما، والفاصل بين هذا اللون من المسرحية والهزل جد رقيق.
إن موهبة «وليامز» الحقيقية في التصوير الهزلي إنما تزيد الأمر تعقيدًا. ومن المستحيل أن نأخذ الشاعر في مسرحية «فجأةً في الصيف الماضي» مأخذ الجد، قد يكون «سباستيان» قديسًا بالاسم، ولكن اللمحة التي نأخذها عنه من بين شفتَي أُمِّه تُوحي بالسخرية الكبرى؛ ذلك أن الرجل الذي ينطلِق باحثًا عن الله ويجمع الصبية هو الزاهد الذي يُقدِّر الجمال. والشاعر الذي ينظِم قصيدةً واحدة جيدةً في العام هو غاية الهاوي في الفن، وسواء كانت السخرية المستترة في مسرحية «فجأة في الصيف الماضي» مقصودة أو غير مقصودةٍ، فإن هذه المسرحية تُظهر صعوبة «وليامز»، وهي مشكلة الموازنة بين الكوميدي في «العروس الطفلة» والكاتب الميلودرامي في «عربة اللذة».
ومهما يكن من أمر فقد بات من الجليِّ في السنوات القلائل الأخيرة أن «وليامز» ليس من كتاب مسرحية الأفكار. وكل ما عنده لِينتَقِل إلى غيره هو حساسيته، وشعوره بالفزع من الدنيا شعورًا باطنيًّا شديدًا؛ هذه الدنيا التي يصفها في مسرحية «فترة التسوية» بأنها سجن لضعاف الأعصاب. والسؤال الذي نوجهه إلى الكاتب هو هذا: هل تُخلي الحساسية مكانها للإشارة التي تمثلها؟
وكذلك كان «آرثر ميلر» كزميل «وليامز» جزءًا من زمانه وأكبر من زمانه في آنٍ واحدٍ في تاريخ الدراما الأمريكية، ومسرحياته كمسرحيات مُعاصريه تتركز في جانبٍ يسيرٍ من الصراع الإنساني. غير أن «ميلر» لا يخلط البتة بين الجزء والكل، كل مسرحياته — حتى «البوتقة» — درامات عائلية تَستخدِم الأسرة محكَّ اختبار البطل. ومع ذلك فإن «ميلر» الذي يُعَدُّ كاتبًا اجتماعيًّا بمقدار ما هو كاتب سيكولوجي يصرُّ على أن يضع الأسرة في النص، ويصرُّ على الآراء المتعلقة بالمجتمع التي تتكوَّن منها الأسرة والفرد والتي تُمزقهما كذلك.
ومع ذلك فإن قوة «ميلر» ككاتبٍ مسرحي لا ترجع إلى قُدرته الواضحة على تجسيد شخصياته، إنما ترجع إلى الموضوع الرئيسي الذي يكسب مُؤلَّفاته المعرفة. إن أبطال مسرحياته جميعًا مُضطرُّون إلى أن يرَوا أنفسهم رؤية واضحة، وهو نوع من المعرفة يكون أحيانًا قاتلًا، وأحيانًا أخرى مدعاة للنصر. وفي كل حالةٍ من الحالات نجد الفرد في صراع مع صورةٍ المجتمع التي قد تحكم عليه. إن «جو كيلر» في مسرحية «كلهم أبنائي» و«ويلي لوما» في مسرحية «وفاة بائع» يقبلان الأساطير الأمريكية؛ الأول يقبل أسطورة علو مكانة الأسرة، والثاني يقبل أسطورة أهمية النجاح، وكلاهما تحطم بسبب عقيدته، ومن الحق أن «ويلي» يدرك قبل وفاته أن هنالك مسالك أخرى. أما «جون بروكتور» في مسرحية «البوتقة» و«إدي كاربون» في مسرحية «المنظر من فوق الجسر» فكلاهما يهتمُّ باسمه؛ أي بكرامته كرجل، الأول يُنقذ اسمه والثاني يفقِده بنفس العمل، وهو الثورة على الانسجام الذي تتطلَّبه الجماعة. ومن الواضح — مثلًا — أن «ميلر» في مسرحية «البوتقة» يُبدي إدراكًا قويًّا بصحَّة الصور التي يفرضها المجتمع على أعضائه أو يُخطئها، ولكنه يهتمُّ قبل كلِّ شيءٍ في مسرحيةٍ بعد أخرى بحاجة البطل إلى فصل نفسه عن الصور الخاطئة والبحث عن الصور الصحيحة.
إن «ميلر» و«وليامز» كاتبان مسرحيان يُعالجان السيكولوجيا بمعناها الشائع في ظاهر الأمر فقط، ولكن اهتمامهما بالفرد هو في الواقع أقرب إلى اهتمام كبار الكتاب المسرحِيِّين في العالم منه إلى اتجاه مُعاصريهم الذين وجَّهوا اهتمامهم إلى الباطن، لا لكي يتلمَّسوا المعرفة في نطاقٍ ضيق، ولكن لكي يتحاشوا الاضطراب في عالم الأفكار العظمى. وفي السنوات التي أعقبت نهاية الحرب نجد أن التطوُّرات التي حدثت في وسائل الإخراج وطرق العرض على خشبة المسرح جعلت ما كان تجريبيًّا سهل القبول. وبالرغم من أن هذه التطورات قد أحدثت ثغراتٍ عميقةً في الجدران المنيعة للمسرح الواقعي فإن قلةً صغيرة من كتاب المسرحية الأمريكان هي التي تشجَّعت على التسرُّب لكي تنفُذ ويعلو شأنها.
إن ما نحتاجه في الوقت الحاضر كتَّاب مسرحيون يُحبون المغامرة الشديدة. ربما كان لدَينا مسرح بغير جدران، ولكن ما نحتاج إليه هو مسرح بغير حدود.