القصص الحديث: المغامر والرحالة
إن القصص الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية غني من حيث الكمِّ، ولكنه من حيث النوع مُضطرِب متناقِض؛ فقد صدر عدد من الروايات التي تتميز بالوضوح الفني أكثر مما صدر في أية فترةٍ سبقت يبلُغ مداها خمسة عشر عامًا. ولكنَّا لا نستطيع أن نجد بين هذه الروايات ما يبلُغ مَبلغ القوة الحاسمة عند «فوكنر» أو «همنجواي» أو حتى روائي مثل «سكوت فتزجرالد»، كما يستطيع المرء أن يجد مستوى هؤلاء الكتاب بعد ظهور رواياتهم الأولى بنحو خمسة عشر عامًا.
ولكن قدرة الجيل الروائي الحاضر تدعو إلى الإعجاب بطريقته الخاصة، وهي تنمُّ عن مقدار ما درس واستوعب من أعمال «فوكنر» الروائية وغيره من الكتاب: تنمُّ عن مقدار ما اكتسبه هؤلاء أول الأمر عن طريق تجاربهم في الشكل واللُّغة والنغَم الروائي، مما تجمَّع فأصبح مصدرًا وطنيًّا أساسيًّا.
ومن الجليِّ أن صغار الكُتَّاب قد التحقوا بالمدرسة، ولكنهم في كثيرٍ من الحالات لم يُغادروا المدرسة قط؛ بل وفي كثير من الأحيان حقًّا لبثوا فعلًا في الجامعات التي اختاروها لأنفسهم، مُثابرين على دراسة «فوكنر» وتقليده، يُعلِّمون الأدب لجيل أصغر منهم، ويُعلمون ما يُسمَّى — مع العجب — ﺑ «الأدب الخلاق».
غير أن هذه الدراسات لم تتمخَّض إلا عن القليل مما هو خلَّاق فعلًا، ما خلا بعض أعمالٍ أكثر جودة، صِيغت في عناية، وكُتِبت عن بينةٍ، ولكنها تتحصَّن في نفسها، وتخلو عادةً من الحياة. وبرغم ذلك فقد بدأ يظهر في ذلك الوقت نوع آخر من الرواية: نوع مختلف ولكنه ليس أقلَّ تمسكًا بالتقاليد على طريقته الخاصة. ويمثل هذا النوع خير ما في القصص الأمريكي بعد الحرب، وهو يميل في ظاهره — مقابل القصص الذي يتميز بمجرد تقليد القديم — إلى أن يكون مُهلهلًا في شكله، وأن يكون استطراديًّا بل وغير مُستوفٍ تركيبه، محشوًّا بجزءٍ كبيرٍ من الصور الممزقة، وطريقة جديدة من العلاقات الأدبية. ولا نلمس في هذا اللون كذلك أي أثر ﻟ «فوكنر» أو «همنجواي». وربما كان من واجبنا ألا نتوقَّع ذلك، بيد أن الأسماء التي نذكرها بالتقدير هنا قد أبقت على فنِّ القصص حيًّا في أمريكا خلال الأوقات الفنية العصيبة، وذلك لأن أصحابها أدَّوا ما كان يؤديه دائمًا غيرهم من الروائيين الذين يفوقونهم كثيرًا: فهم يعطوننا صورة نعرفها عن الاضطرابات الحيوية في الحياة المعاصرة، وهي في الوقت عينِه صورة مبدئية (أو صورة قصصية) تُمكِّننا من الكشف وسط هذه الاضطرابات عن دلالةٍ حية. ومن بين الأسماء التي تستحق شيئًا من التقدير أذكر خاصة هؤلاء: «سول بيلو»، و«ج. د. سالنجر»، و«رالف أليسن»، و«جاك كرواك»، و«جيمس ببردي»، و«نورمان ميلر» وسأقول كلمةً في كل منهم.
هناك بطبيعة الحال تبايُن شاسع بين هؤلاء الكتَّاب، وهم يأتون من جهاتٍ مُتعدِّدة من البلاد، ولكلٍّ منهم ماضيه الخاص: بينهم اليهودي والبروتستانتي والزنجي والأبيض والمدني والريفي العريق. وتنمُّ أعمالهم عن تنوع شديد في ظاهر المادة، وفي مركز الاهتمام، والقصد، والنغمة. وهم — كغيرهم من أقدَرِ الكتاب في أي جيلٍ أمريكي — يُبدون نوعًا من الصفات الخاصة التي تُميزهم عن غيرهم تمامًا. وهم على خلاف نظرائهم في أي جيلٍ أوروبي خاص لا يمكن أن ينطووا جميعًا تحت عنوانٍ واحدٍ مميز؛ لكن من عجب الأمر أن التفرد العنيد في حالتهم هو أحد العناصر التي يشتركون فيها جميعًا اشتراكًا قويًّا؛ بل إن رواياتهم — إلى حدٍّ كبيرٍ — تجعل هذا التفرُّد موضوعها، وهذا التفرُّد هو ما تهدف إليه شخصياتهم في الروايات وأشخاصهم كمؤلفين في عزمٍ وتصميم. رواياتهم تدل على تقبُّل التجارب وتأثرٍ عميق مقصود بالحياة، مع إحساس بالقلق وعجَلة شديدة وإن تكن غير محدَّدة الهدف. وكأن هؤلاء الروائيين، والشخصيات التي خلقوها، قد تزعزعوا من أثر التاريخ الطويل العنيف الذي مرَّت به أمريكا (ويجب أن نذكر أن أمريكا لم تتعوَّد التاريخ حتى عهدٍ قريب)، في حين أن العالم الذي تتحرك فيه — في الوقت عينه — الشخصيات التي خلقوها، خليط عجيب حقًّا من الفوضى والتناسُق؛ فوضى من الأسس الثقافية المقلقة، وتناسُق هو الاستجابة الرتيبة لضعاف القلوب لمحنة الفوضى. وكِلا الظاهرتين — الفوضى والتناسُق — الخصم اللدود للشيء الذي كانت له عند أحسن الكتَّاب بعد الحرب مكانة خاصة؛ وهو ما أسماه «والت هويتمان» «التشخيص» وما عرَّفَه تعريفًا بليغًا بأنه «مبدأ الفردية، فخر الإنسان، وعزلته الجبارة — هويته — شخصه.»
وإذا قلتَ إن مثل هذا التشخيص صفة مميزة عنيدة، فذلك لأن العناد الصادق من مطالب الفردية في هذه الأيام. ويُحتمَل أن تَظهر الفردية التي نصل إليها ونتشبث بها صفةً مميزةً خالصة في العين ذات الجفن الثقيل التي ينظُر بها المؤمنون بالتناسُق.
وقد يكون من الملائم أن أذكُر «والت هويتمان» في هذا الصدد، ذلك لأن من الصفات البارزة عند «بيلو» و«سالنجر» ومعاصريهما مَيلهم إلى الرجوع إلى بعض كبار كتَّاب القرن التاسع عشر، يلتمسون لدَيهم المعونة والتأييد؛ فهم يرجعون إلى «هويتمان»، وكذلك إلى «مارك توين» و«هرمان ملفل» بنفس المقدار. وقد انجذب «بيلو» و«سالنجر» إلى البطولة الزلقة وإلى التوقيع العامي في «هكلبري فين» أكثر من انجذابهما إلى أي شيءٍ آخر، كما أن «هولدين كولفيلد» الذي يبلغ من العمر ستة عشر عامًا وهو من شخصيات «سالنجر» في روايته «الصيد في حقل الشعير» هو بعينه شخصية «هاك»، جاءت في وقتٍ متأخِّر، هي «هاك» متمدِّن من طبقةٍ عُليا، المال يملأ جيوبه، ولكنه كذلك لا يزال مثل «هاك»، مراهق في الحياة، يُواجه صدمات الحياة وإغراءها مرةً أخرى بنفس ذلك الخليط من السذاجة والبراعة والإيمان العميق الذي لا يتزعزع. أما «رالف أليسن» فقد وجد لدى «ملفيل» الفوضى المظلِمة الشديدة، وهي نظرته إلى التجربة الحديثة، ووجد لدَيه أيضًا الرمزية السحيقة الكبرى التي يُعبر بها عن رأيه. أما «جاك كرواك» و«نورمان ميلر» فقد عادا إلى الروح الشاملة — الخيالية والحسِّية في آنٍ واحد — التي تميز بها «والت هويتمان»، بل إن إحدى قصائد «هويتمان» الشهيرة، وهي «أنشودة الطريق المفتوح» قد أمدَّت «كرواك» فعلًا بالعنوان الذي اتخذه لأحسن رواياته، وهي «على الطريق»، كما أمدَّته قطعًا بالدافع إلى كتابة القصة.
والحق أن كثيرًا من الروايات الأخرى في هذه القائمة المختصرة التي أُقدِّمها يمكن أن نُسمِّيها «على الطريق» دون أن نُجافي حدود الدقة، والواقع أنه إذا كان الروائيون المعاصرون قد رجعوا إلى «هويتمان» و«ملفيل» و«مارك توين» يستمدُّون منهم الوحي، فإنما يعود ذلك إلى أنهم يلتمِسون لدَيهم النموذج، أو التعبير الوطني الأصيل عن الإحساس بالتجربة في الفترة التي أعقبت الحرب؛ وأقصد تجربة الحياة وكأنها على الطريق، الحياة التي قد تكون أحيانًا رحلةً اعتباطية على طول طريقٍ مفتوح طويل غايته أبعدُ من مدى البصر، طريق يخدع أحيانًا ويُمنِّي بالأمل أحيانًا أخرى. وهي رحلة لا يتمكَّن منها إلا أولئك الذين يحتفظون بقُدرة على قبول التجربة والتأثر بها. ويستطيع المعاصرون أيضًا أن يجدوا لدى «هويتمان» و«توين» و«ملفيل» تلك الصفة اللازمة، ذلك التشخيص، تلك الحرية، التي هي — في الرواية المعاصرة — إما شرط للرحلة ضروري، أو هدفها الذي يكاد أن يكون مقدسًا.
واختيارهم هذا (للرحلة) لكي تمثل الحركة في رواياتهم هو الذي يُبرِّر إلى حدٍّ كبيرٍ هلهلة التكوين النسبية التي أشرْنا إليها من قبل، فروايات «بيلو» وغيره استطرادية في طبيعتها، تنظمها سلسلة من اللقاءات الإنسانية التي كثيرًا ما تكون مُتقطعة لا اتصال بينها. وهي روايات مغامرة — إذا توسَّعنا في معنى هذه العبارة القديمة التي كان يُقصَد بها مغامرة الأوغاد — كما كانت في الواقع رواية «هكلبري فين»، وكما كانت «أنشودتي» ﻟ «والت هويتمان»، إذا نظرنا إليها بعَين الحاضر، هي حكايات في أسلوب فَكِهٍ تروي المغامرات الاعتباطية التي قام بها فِتية ذوو شباب جمٍّ خلال أسفارهم.
ولست أقصد أن أقول إن القصص الأمريكي بعد الحرب الذي كان له أبلغ الأثر قصص مغامرات بغير استثناء؛ فإن كثيرًا من الكتَّاب ممن لا نرتاب في موهبتهم ساروا على الدرب التقليدي القديم لكي يكشفوا في عُمقٍ عن موقفٍ أو مجتمعٍ ثابت مُعين، ولكي يُعالجوا بالطريقة التقليدية دسائس عويصة لا رحلات سطحية ويُعالجوا تكوين العلاقات وانحلالها داخل نطاق الشبكة الإنسانية المغلقة. هذه كانت طريقة «جيمس جونز» في قصته الوعرة القوية عن دسائس العشق والحرب في قاعدة حربية أمريكية، وهي القصة التي عنوانها «من هنا إلى الأبد». وهي طريقة «وليام ستايرون»، ذلك الكاتب المثقف المهذب — وسط الأنغام المتباينة — في صورته عن متاهات المجتمع المظلمة، في الجنوب الأمريكي، والقصة عنوانها «أرقد في الظلام».
وهذه هي أيضًا طريقة «نورمان ميلر» النموذجية في روايته «العراة والموتى» عن المحاربين في المحيط الهادي التي لقيت مبالغة في التقدير، كما كانت تتَّصف بالمغالاة في التحرير؛ وكذلك في روايته التي لم تنل ما نالت الرواية الأولى من الشهرة وبُعد الصيت. وإن تكن أشد أصالة بالرغم من قصر الحكاية فيها، «ساحل بار باري»، إذ تقِف الحركة فيها عند حدِّ التوتر والانحراف الذي يقع في فندقٍ صغير حقير في «بروكلين»، ولكنني ذكرتُ «ميلر» في قائمة من يمثلون قصة المغامرة لأنه الاستثناء الذي يؤيد القاعدة. أما عمل «ميلر» الوحيد الذي يُحقق في الواقع أمَلَه العظيم فليس البتة رواية أو قصة، إنما هو مُجلد عنوانه «إعلان عن نفسي» نشره في عام ١٩٥٩م، وهو نوع من السيرة الشخصية الأدبية، أو سلسلة من يَومياتٍ اعتباطية مُرتبة ترتيبًا زمنيًّا، وهي مُذكرات خاصة، ونظرات في النقد الأدبي، ومقالات صحفية، ومقتطفات من روايات لم يُرِد إتمامها أو هي في سبيل الإنجاز. وبينما كان «ميلر» في الروايات الفنية أشدَّ تمسكًا بالقديم وأقل إجادة، فهو في «إعلان عن نفسي» مُغامر صريح. وهو بهذه الصفة يجد الشكل الذي كانت قُدراته الاستثنائية بحاجةٍ إليه. وفي سرده لسيرة نفسه وروايته في السيرة لقصة الباحث الشاب النشِط الذي يمرُّ بعددٍ من التجارب والمقابلات (وبخاصة في المجال الأدبي الفوضوي بنيويورك) وهي تجارب مُتقطعة لا صِلة بين بعضها وبعض في كثيرٍ من الأحيان، يُواجِهنا بحكاية تُشبه على الأقل حكاية «كرواك» «على الطريق». والواقع أن العنوان الذي اختاره «ميلر» هو صدى مقصود ﻟ «هويتمان» كما كان عنوان «كرواك»، فإن «ميلر» يُذكرنا بقصيدة «هويتمان» الطويلة «أنشودتي».
ولكن إذا كان كتاب «إعلان عن نفسي» وكتاب «على الطريق» مع الروايات الكبرى ﻟ «سول بيلو» و«رالف أليسون» و«ج. د. سالنجر» و«جيمز بيردي» هي من روايات المغامرة بالمعنى الواسع للكلمة، بمعنى أنها حكايات استطرادية عن رحلاتٍ اعتباطية، فهي أيضًا روايات مغامرة بالمعنى الضيق، فهي تتركَّز في مغامرات الأشخاص الذين يمكن اعتبارهم «مُغامرين»، أي مُتشرِّدين أو خارجين على القانون. وهم يَبدون لنا مُخالفين للنُّظم والعادات التي يأخذ بها مجتمع الطبقة المتوسطة. إنهم أفراد ينظر إليهم المواطن العادي المحافظ الطائع للقانون بعين الريبة والحيرة. وقد يخالفون القانون فعلًا، كلصوص السيارات عند «بيلو» و«كرواك»، أو كالبطل الذي ليس له اسم في قصة «أليسون» «الرجل الخفي» الذي يُحرِّض بشدة على إنشاء منظمةٍ سياسية انقلابية، وقد يكونون مخالفين للشرائع. أهم صفاتهم العجز أو العزوف عن السلوك طبقًا للقانون الخلقي والاجتماعي الصارم السائد؛ مثل التلميذ الشارد الحسَّاس المتحدي في قصة ﻟ «سالنجر»، أو البطل الأسمى في قصة «مالكولم» ﻟ «جيمس بيردي»، وهو شابٌّ فريد لا يتحدَّى التقاليد بمقدار ما يسعد بجهله إيَّاها.
مثل هذا العدد الضخم من المارقين على القانون — سواء بالفعل أو بالعقيدة — هو في حدِّ ذاته تعليق واضح على هذه الفترة، وهي فترة كان لها — على أية حال — أثرها في الروائيين المعاصرين. ومن الجليِّ أن هؤلاء الخوارج يتشكَّكون في القِيَم التي يتمسَّك بها الجمهور، والنُّظم التي يتشبثون بها، والسلوك الذي تقرُّه أغلبية زملائهم الأمريكان. ولكني أودُّ أن أورد هنا ملاحظتَين: الأولى: أن الاتجاه السائد في رواية المغامرات المعاصرة هو الكوميدي، والأشخاص المغامرون أنفسهم ليسوا مُجاهدين، وليسوا من الأبطال التراجيديين أو المضحِّين بأنفسهم، وليسوا كذلك من المصلحين، إنما هم أشبه بطراز «شارلي شابلن»، كوميديون مُتحركون، يثيرون الضحك والإشفاق في آنٍ واحدٍ من تشرُّدهم وتحدِّيهم.
والملاحظة الثانية أن هؤلاء الأشخاص ليسوا مجرد متشرِّدين أو ثائرين، إنما هم يظهرون في النهاية بمظهر الرحَّالة كذلك، يتنقَّلون في أرجاء عالَمٍ غامض مُعاد، عالم فوضوي ومُتناسق في آنٍ واحد، كل منهم يسير نحو هدفٍ خاصٍّ به، وكأنهم يحجُّون إلى كعبة الشرَف والمكانة والإيمان. والكعبة في هذه الروايات تبقى مُختفية عادة، ولكنها توحي بالشعور بالهدف — وإن يكن هدفًا غير مكشوف — في كل لقاء من لقاءاتهم، كما تُكسِب الرواية التي يتحرك فيها هؤلاء المغامرون شكلًا، وإن يكن شكلًا ناقصًا في أكثر الأحيان.
ولمَّا كان هؤلاء الجوالة في روايات «جاك كرواك يبدون أدنى درجة من درجات الهدف فإن رواياته هي القائمة التي ذكرناها أقلُّها كمالًا في الشكل؛ ولذا كانت صفتها الأدبية أقلَّها تحديدًا. وربما كان ذلك هو ما قصد إليه «نورمان ميلر» في كتابه «إعلان عن نفسي» حينما قال عن «كرواك» «إنه يفتقر إلى النظام وإلى الذكاء، والإحساس الروائي.» بالرغم مما عنده من نشاطٍ وحُب جمٍّ للغة يبلُغ حدَّ العشق. والنشاط ملموس في كل أجزاء «على الطريق»، وعشق اللغة هو الذي يُحيط هذا النشاط بهالةٍ من التقديس. وهذا هو الكتاب الذي استمدَّ منه «الشباب الثائر» الاسمَ الذي أطلقوه على أنفسهم، وليس ذلك فحسب بل هو الذي ربط هذه الحركة (بطريقةٍ مهما تكن غير مقنعة) بالتبرك، أو بحالةٍ من حالات التقديس. ولكن حتى هذا «الشباب الثائر» من رجال وسيدات، الذين يقومون برحلاتٍ جنونية، والذين يشربون النبيذ، ويرقصون، ويتحابُّون، وهم يتجوَّلون في أنحاء البلاد جيئةً وذهابًا، من «نيويورك» إلى «سان فرانسسكو»: حتى هؤلاء يُعبِّرون عن العبث الشديد من النشاط الذي يبذلون. يقول أحدهم إن الوظيفة النبيلة الوحيدة في هذا العهد هي مجرد أن «يتحرك» المرء، يذكر الراوي «إني استرسلتُ في أفكاري وسقتُ عربتي على طول الخط الأبيض على الطريق المقدَّس، وحيدًا في الليل. ماذا كنت أفعل؟ إلى أين كنت أسير؟» وهذا الضلال في الطريق الذي يدعو إلى الذهول لا يرجع إلى أشخاص الرواية فحسب، بل يعود إلى أمريكا ذاتها. ونجد البطل يسأل في فصاحة «إلى أين أنتِ ذاهبة يا أمريكا في هذه العربة التي تلمع في ظلام الليل؟»
ومثل هذا التساؤل تلمسه في «مغامرات أوجي مارش» ﻟ «ول بيلو»، غير أن هذه الرواية الضخمة الفسيحية تستطيع — مع العجب — أن توحي بمعنًى من معاني الهدف الإيجابي بتأثير الإنكار المتكرر. ويرجع جانب من قوة «بيلو» الفنية إلى خلطِه الماهر بين التقاليد الأدبية الأنجلو أمريكية وبعض التقاليد الجرمانية، و«أوجي مارش» منقول عن هذا الفلكلور الجرماني، وهو يُشير إلى الشخص المضحِك الذي يروح ضحيةَ سلسلةٍ من المغامرات الفاشلة. ولكن «أوجي» خلال كل هذه المغامرات يصرُّ على أن يقول «لا» لكل إغراء يُلاقيه، والأشخاص الذين يَلتقِي بهم (في شيكاغو والمكسيك، وفي المحيط الهادي أثناء الحرب) يحاولون دائمًا أن يستولوا عليه، ويجنِّدوه لغرضهم، ويُحوِّلوه إلى عقيدتهم؛ يتَّخذونه ولدًا أو يَكسِبونه زوجًا. غير أن «أوجي» يشقُّ طريق النجاة من هذه المواقف، لأنه — وإن عجز عن تحديد غايته المقدسة — يستطيع أن يُدرك كل انحرافٍ عنها فيبتعِد عنه. «أوجي مارش» — في عالم شغوف باستغلال الآخرين بطريقةٍ شيطانية — رجلٌ ليس من اليسير أن يُستغل. وفي كل مأزقٍ كوميدي يتورَّط فيه نراه يحتفظ بما يُسمِّيه «هويتمان» «الكبرياء والعزلة التامة للكائن البشري في نفسه». ويلخِّص الموقف رجل اسمه «إينهورن» حينما يقول ﻟ «أوجي»: «إنني أكتشف فيك على حين غرةٍ صفةً معينة وتلك هي ما لدَيك من (عناد).» وهذا حق في ظن «أوجي»، فهو يقول: «عندي عناد، ولديَّ رغبة شديدة في المقاومة وفي أن أقول (لا)!»
ويحاول العالم أيضًا أن يستغل الشاب «هولدن كولفيلد» في رواية «سالنجر» «الصيد في حقل الشعير» حيث يتجوَّل «هولدن» ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ مُخترقًا «نيويورك» بما فيها من فوضى وتناسُق. غير أن هذا المراهق المفكَّك الأوصال سُوقي اللفظ خفيف في حركته خفَّة «أوجي مارش» عند هروبه من الشباك المغرية التي يحاول أن يُوقِعه فيها أولئك الذين يقع بين أيديهم — مُومسًا كانت أو امرأة من المجتمع المتزمِّت، ساقية في بار أو مدرسة في مدرسة — ومن العجَب أن هذا الغِرَّ الساذج الذي خلقه «سالنجر» كانت لدَيه فكرة عن هدفه الحقيقي في الحياة أوضح مما كان لدى أبطال «بيلو»، و«كرواك» برغم كبرهم عنه سنًّا، وبرغم أنهم يفرضون شخصياتهم. ويرجع ذلك أساسًا إلى أن رغبته لم تتقيَّد بالتمسُّك بشخصيته، إنها حياة رحيمة، وفي شيء من المراوغة والاستعادة يصِف «هولدن» فكرته (لأُخته فوبي) بأنها نوع من الحلم الذي يراوده. يقول: إنني لا أكفُّ عن تصوير هؤلاء الصغار، الذين يلعبون في حقل الشعير الفسيح هذا وفي غيره من الأماكن ألوف الصغار من حولي، وليس بينهم كبير غيري، إنني أقِف على حافة جبل، أتوهَّم السقوط، فماذا أفعل؟ إنني أتشبَّث بأي مخلوقٍ يتسلَّق الجبل، أقصد إذا كان يعدو ولا ينظر إلى أين يتَّجِه، عندئذٍ أخرج من مكان ما وأُمسك بتلابيبه، هذا كل ما أفعله طيلة يومي. أصيد في حقل الشعير وفي كل مكان، وأنا أعلم أن ذلك حماقة، غير أن هذا هو الأمر الوحيد الذي أُحب فعلًا أن أقوم به.» ويكاد «هولدن» أن يتسلق الجبل بنفسه عدة مرات، ولكنا نشعُر أنه يُحقق مطامعه، فهو يُصبح الصائد في حقل الشعير.
وهذه النقمة التي تُثير فينا الرأفة، هذا الاختلاط الفعال بالآخرين، نادرٌ نسبيًّا في القصص الأمريكي المعاصر، كما كان دائمًا كذلك في القصص الأمريكي التقليدي. إن الاستجابة الأمريكية المألوفة لملمَّات التجارب كانت دائمًا تؤكد جانب الشخصية، تؤكد انعزال النفس البشرية انعزالًا تامًّا باعتبار ذلك أشجعَ أملٍ في عالمٍ تسوده الفوضى الهدَّامة كما يَسوده الانسياق الخاطف، ونعود إلى هذا الأمل في رواية «جيمس بيردي» «مالكولم» التي يخاطب فيها أحد أشخاص الرواية غيره في غضبٍ قائلًا: «ابتعِد عن روحي!» كما نجده ممثلًا في نهاية رواية «الرجل الخفي» ﻟ «رالف أليسون»، وذلك عندما يتخلى راويته الزنجي فجأةً عن مجهوده الطويل في تحسين نصيب الإنسان بالعمل السياسي الجماعي، وينتهز الفرصة — خلال ثورةٍ عنصرية عنيفة في حي «هارلم» بنيويورك — ليختفي في جُحر، ويبقى تحت الأرض، حيث يعيش بعيدًا عن المجتمع مُعتمدًا على قدراته وحدَها، مُتفكرًا في انهيار آماله الاجتماعية العريضة انهيارًا تامًّا مريرًا مُثيرًا للسخرية.
غير أن قصة «مالكولم» وقصة «الرجل الخفي» تعوِّضان — من ناحيةٍ أخرى — نبذهما لجوانب كثيرة من الحياة المعاصرة بالطريقة التي يتعرَّف بها الكتابان على الجوانب الهامة في الحياة ثم الكشف عن خباياها؛ فإن «بيردي» و«أليسون» كليهما (كلٌّ بطريقته التي تختلف عن طريقة زميله تمامًا) يدفعان بأبطالهما من الشبَّان العاجِزين إلى درجةٍ مُضحكة لا في وجه مجرد أفرادٍ متنوِّعين ومواقف متنوِّعة، ولكن في وجه أفرادٍ ومواقف تمثل المصادر الكبرى للقوة والقيادة في عصرنا الذي نعيش فيه. ففي «مالكولم» — وهي رواية مُبتكرة إلى حدٍّ بعيدٍ تكاد أن تكون مجموعة تشبيهات كلها سخرية — نجد أن الأشخاص الذين نُلاقيهم يمثلون على التوالي الفن والمال والدِّين (أو التديُّن على الأصح) والجنس والقدَر والموت.
أما «رالف أليسون» فيُوسِّع الرقعة، ولا يفتأ يدفع ببطلِه وسط مواقف مُضطربة إلى درجةٍ قصوى، مواقف تنمُّ عن القوى المعاصرة للعنصر والتربية والتكنولوجيا والجنس والسياسية.
وفي الكتابَين نجد نوعًا من الترتيب المنطقي في العناصر التي نُلاقيها، ومن ثم فهي أنماط من المواقف في التجارب التي يمرُّ بها أشخاص الرواية. وليس تصميم الرواية ثابتًا قاطعًا وهو تصميم — على أية حال — محفوف بالتهكُّم المظلِم.
إنه تصميم يُفسر مقدرات البطل بإبراز العلاقة الواهية بين الالتزام الخلقي والمواقف؛ وهي واهية على الأقل بالنسبة إلى مصادر القوة والقيادة المعاصرة. غير أن هذا الإبراز إنما يؤكِّد في الحقيقة الالتزامَ الخلقي لهؤلاء الأبطال الكوميديين، فيؤكد ضِمنًا الالتزام الخلقي للمؤلِّف.
ويُبين لنا كتاب من أمثال «جيمس بردي» و«رالف أليسون» — عند معالجتهم لهذه الأمور المحيرة — كيف يستطيع القصصي — حتى في عالم خضعت فيه قواعد الأخلاق لعوامل الانحلال وحُب الامتلاك — أن يُحقِّق قواعد الفن القصصي، تلك القواعد الفنية الباطنية التي نُسمِّيها «الشكل» والتي ينبغي أن تتوقَّف عليها دائمًا حياة الفن القصصي، وعن طريق «الشكل» والقاعدة التي خلقوها بفنِّهم القصصي نستطيع — من جهةٍ أخرى — أن نُحسن قياس الفوضى التي تعمُّ عالم الواقع الذي لا بد لنا من استمرار العيش فيه بأيةِ طريقة من الطرق.