ميراث الفلكلور
من الدلائل الأولى على هذا الوعي الذاتي الجديد، شدة الاهتمام بالقصص والأغاني الشعبية الأمريكية. إن شعوب العالَم لها لونان من الأدب: المكتوب والشفوي، ويتألَّف الأدب المكتوب من المادة التي تظهر في الكتب، ويقرؤه الأشخاص الذين هُم على شيءٍ من التعليم، أما الأدب الشفوي فيتألَّف من المادة التي تنتقِل من فردٍ إلى آخر عن طريق الكلام جيلًا بعد جيلٍ. والأدب كله شفوي عند الجماعات البدائية، كالهنود الأمريكان أو البوشمان الأفريقيين. أما في مجتمع كالمجتمع الأمريكي في القرن العشرين فالجانب الأكبر من الأدب مكتوب، وذلك بالرغم من أن جانبًا كبيرًا من المادة «كالأغاني، والقصص، والأساطير، والألعاب، والأناشيد، والفكاهات، والأمثال، والأحاجي، والخرافات» يتعلَّمه الناس عن آبائهم وجدودهم وأصدقائهم — وهو أدبٌ لم يُكتَب ولن يُكتَب. هذه المادة هي «الفلكلور» عند الأمة الحديثة المتحضرة. ومن الواضح أن الفرد كلَّما قلَّ تعلُّمه في المدارس زاد احتمال احتفاظه بما يعرف من الأدب الشفوي، إلا أن أرقى المواطنين المتعلِّمين يحفظ شيئًا من الفلكلور.
ولكل الشعوب ميراث من الفلكلور الفني، وليست أمريكا في ذلك استثناء، إلَّا أن أمريكا بلد على مستوًى رفيعٍ من التعليم العام، وفيها شبكة واسعة من وسائل الاتصال بالجماهير، وكلما زاد عدد الأمريكيين الذين يقرءون، والذين يستمعون إلى الراديو، ويشهدون التلفزيون، قلَّ منهم من يأبَهُ بالاحتفاظ بالفلكلور في ذاكرته. ومن ثَم فإن الولايات المتحدة خلال الخمسين سنة الأخيرة قد أبدت اهتمامًا مُتزايدًا مطَّرِدًا في هذا اللون من التراث الثقافي الذي أخذ في الاختفاء. وقد شرع الجامِعون الأمريكان يَعملون بجدٍّ وحماسة للكشف عن أكبر قدرٍ ممكنٍ من الفلكلور الوطني قبل أن يُنسَى كله، والاحتفاظ به. وقد أدَّوا هذا العمل أداءً حسنًا على وجه الإجمال، وأكثر الفلكلور الفني المتنوِّع في الولايات المتحدة مُدوَّن اليوم في الكتب أو على الأشرطة والسجلَّات، يمكن الرجوع إليه في أرشيف المكتبات. والناشرون يجمعونه ويُوزعونه على نطاقٍ كبيرٍ، والمدارس والكليات تُعلِّمه وتُحلِّله. والكُتَّاب يُوضحونه ويُبيِّنون مواضع الجمال فيه.
ومهما يكن من أمرٍ فإن الفلكلور كأوراق الأشجار أو قواقع البحار؛ إذا أبعدتَها عن بيئتها الطبيعية ذبلت، وفقدت جمالها الكامل. إن الفلكلور لا يترعرع إلا إذا كان حديثًا شفويًّا، حيث يَتبادله الناس، ويستمعون إليه دون تدوينه في صيغةٍ لا تقبل التعديل. وهم إذ يَروونه أو يتغنَّون به من الذاكرة، وإذ يَتعلَّمونه ويحفظونه، يُحيونه. وهو يتنوع ويتطور بنسيان الناس لجانبٍ منه، وإضافة جانبٍ إليه، وتحوير أجزاءٍ منه لكي يَتَّفق وخيالهم.
وهذه العملية التي نُسمِّيها «الاختلافات الشفوية» هي الدم الذي يبعث الحياة في الفلكلور، فإذا ما تعثَّرت العملية بالطباعة أو بالتسجيل فإن هذا الجانب من الفلكلور يتوقَّف عن الحياة، كما أن ورقة الشجرة التي نضغطها بين دفَّتي كتاب، أو القوقعة التي نضمُّها على النضد، لم تَعُد «هي ذاتها»، ومن ثَم فإنه مهما يكن من مصير الفلكلور الشعبي في أمريكا، فلا بدَّ من مواجهة الحقيقة، وهي أن الفلكلور الأمريكي يَذوِي فوق هذه الأرض حيث يزداد عدد المواطنين الذين يَستخدمون الكتابة ووسائل الإذاعة العامة كطريقةٍ للتعبير عن مشاعرهم إزاء الحياة.
وليس معنى فقدان الفلكلور لحيويته في الولايات المتحدة أنه عديم الأهمية، لأنَّا ما زِلنا نرى فيه أحلام ومخاوف ورغبات القوم الذين أنشئوا هذا البلد من الأرض الفضاء، أو الذين هاجروا إلى هذه البلاد لكي يبدءوا حياةً جديدة. ولما كان أكثر هؤلاء الناس من الجزر البريطانية فمِن المتوقَّع أن يكون الجانب الأكبر من الفلكلور الأمريكي بريطانيًّا في أساسه، شأنه في ذلك شأن الأمريكان أنفسهم. ومن الحق أن أقوامًا من بلدانٍ كثيرة أخرى قد عاونوا على بناء أمريكا، غير أنه من الحق أيضًا أنهم قد اختلطوا — عند مجيئهم إلى هذا البلد — بالبريطانيين، وسمحوا لتُراثِهم الوطني أن ينسلِخ عنهم على مرِّ السنين، فالفلكلور الزنجي على سبيل المثال كان في أصلِه خليطًا من عناصر مغربية وإفريقية، ولكنه يتأثر اليوم بجميع ضروب المادة البريطانية. بيد أنَّا يجب ألا ننسى أن الفلكلور الذي جاء مع المهاجرين من الفرنسيين الذين أقاموا في الجنوب الغربي، والمهاجرين إلى المدن حيث يتجمع كثير من الآسيويين والأوروبِيِّين وسكان الجزر؛ يجب ألا ننسى أن الفلكلور الذي جاء به هؤلاء لا يزال حيًّا لم يتأثر بالتقاليد والأنماط الإنجليزية والأمريكية.
إن أمريكا مُتنوعة للغاية من الناحية الثقافية، وهي أيضًا أمَّة أتت إلى الوجود حديثًا وعلى عجَل، وفي أمَّةٍ كهذه من الخطر أن نُصِرَّ على أن الفلكلور الوطني — حتى ما يقوم منه على أساس بريطاني — موجود بأي معنًى حقيقي. ومما لا رَيب فيه أن جامع الفلكلور يُعَد جريئًا إذا هو حاول أن يُعالج الفلكلور الأمريكي ككُل، ومن الأفضل أن نتبع خطوطًا مُعينة في التقسيم، وربما كان العنصر هو أهم ما يميز هذه الخطوط، كتلك الخطوط التي رسمَتْها جمعية الفلكلور الأمريكية عند تأسيسها في عام ١٨٨٨م؛ فقد قسَّمَتِ الجمعية الفلكلور الأمريكي إلى هذه الأجزاء: (١) بقايا الفلكلور الوطني، (٢) الفلكلور الزنجي، (٣) الفلكلور الهندي الأمريكي، (٤) فلكلور جماعات عنصرية حديثة لا تحمل معها ثقافات قديمة (كالفرنسيين والإسبان والسويديين ومن إليهم). ومثل هذا التقسيم يُحدِّد تحديدًا دقيقًا ميادين العمل الأساسية التي راعاها علماء الفلكلور الأمريكان في القرن العشرين.
ومهما يكن من أمرٍ فإن هذا لا يعدو أن يكون تقسيمًا مبدئيًّا. وكل الجماعات الشعبية في أمريكا قد تأثروا بمراكزهم الاجتماعية والاقتصادية، وبمستوياتهم التعليمية، وعلاقاتهم بوسائل الإعلام الشعبية. ماذا تقبل الجماعات المختلفة وماذا تنبذ؟ ما هي ارتباطاتهم المحلية؟ إلى أي حدٍّ يعتمدون على تُراثهم وعاداتهم التقليدية الخاصة؟ هذه العوامل وأمثالها تُسبِّب امتزاجًا ثقافيًّا مُعقدًا داخل الولايات المتحدة، يبلُغ من التشابُك حدًّا لا يمكن تصوُّره.
ويترتب على ذلك أنه يتحتَّم على الباحث أن يأخذ في اعتباره التقسيم الإقليمي والمهني إلى جانب التقسيم العنصري؛ فحيثما تُوجَد جماعة — ذات صبغةٍ جنسيةٍ ولُغوية متميزة — في نوعٍ من أنواع العُزْلة الثقافية، نجد أن هذه الجماعة تُنمِّي لنفسها صفاتٍ إقليمية قد تكون أشد وضوحًا من الصفات العنصرية.
وهذه هي الحال مثلًا بالنسبة إلى البِيض الجبلِيِّين البريطانِيِّين، وإلى الزنوج الأفريقِيين الأمريكيين الذين يُقيمون في الجزر الساحلية عند جورجيا وكارولينا الجنوبية، وإلى الهولنديين في بنسلفانيا، والفرنسيين في لويزيانا، واليانكي في إنجلترا الجديدة. والأمر كذلك أيضًا حينما يتَّجِه نشاط الجماعة نحو العزلة التي تمتدُّ خلال فتراتٍ طويلة. ومن هذا القبيل من يشتغلون بالملاحة، وقَطع الأخشاب، والنقل النهري، وحفر الترع، والرعي، ومدِّ السكك الحديدية، والتعدين، بل وأعمال الكشف. وبالإضافة إلى ذلك نجد أن الإقليمية والمهنة كثيرًا ما تتَّحِد مع الخصائص العنصرية فتتمخَّض عن فلكلورٍ خاصٍّ متميز كأغاني العبيد في الجنوب، وتقاليد المورمون، والعبارات التي يشرب نخبَها زنوج المدن الشمالية، والعقائد الروحانية التي يعتنِقُها البيض الجبليُّون في الجنوب، وأغاني شيكرز.
ومن الحق الذي لا جِدال فيه — من ناحية أخرى — أن كُلَّ إقليمٍ، وكل مهنة، وكل جماعةٍ عنصرية، قد احتفظت بقدْرٍ من الفلكلور الأصيل الذي لا يمكن فصلُه من الثقافة المحلية. فقد نشأت قصص عن أسماء البلاد، وعن المنازعات المحلية والولاء المحلي، وعن الظواهر المحلية؛ وذلك حيثما أدرك الناس أنهم يختلفون عن غيرهم. وكثيرًا ما يتلوَّن هذا الفلكلور المحلي بالتاريخ، كما حدث في الجنوب، حيث نجد أنَّ لكلٍّ من أيام الاستعمار، والزراعة، والحرب الأهلية، والتعمير، رموزها الخاصة بها، وأبطالها وأساطيرها.
ولو أرَدْنا حتى أن نصف في إيجازٍ الأشكال الأدبية المتعددة التي اتَّخذها الفلكلور الأمريكي لكان ذلك عملًا شاقًّا طويلًا؛ فإن قائمة أنواع الأغاني الشعبية وحدَها في الولايات المتحدة تشتمل على ثلاثة ألوان من الأغاني القصصية أو القصص الشعري الأنجلو أمريكي، كما تشتمل على الرواية الإسبانية «كوريدو»، وأنواع لا حصرَ لها من أغاني الرقص واللعب، والشعارات الزنجية، والأغاني الحزينة والروحانيات والابتهالات الزنجية، وأغاني العمل المتنوعة، وأناشيد وروحانيات البيض، والأغاني والصلوات الهندية البدائية، وأغاني الحبِّ العديدة الأوروبية والبريطانية، وكذلك تشتمل قائمة أنواع القصص الشعبية «المارشن» الأوروبي، وقصص الزنوج والهنود عن المحتالِين، والقصص الفرنسية والإسبانية عن الأغبياء، والأساطير المحلية عن الأشباح وأسماء البلاد وجميع أنواع الظواهر الجغرافية، وكل الأقاصيص، والأساطير الهندية البدائية، والحكايات الرمزية العديدة التي تجمَّعَت عند أفراد الشعب. وهناك بالإضافة إلى ذلك خُرافات وأقوال وأمثال وفكاهات تختصُّ بها كل مهنةٍ أو مجموعة عنصرية أو إقليم، بجانب متنوعات لا حصر لها من الألعاب والرقص والأناشيد وما إليها. إن أشكال الفلكلور لا يختلف بعضها عن بعض إلا قليلًا في جميع أرجاء العالم، وما تجده في الولايات المتحدة يكاد أن يكون هو بِعَينه ما تتوقَّع أن تجده في أي أمة أوروبية، إذا استثنَينا الموسيقى الشعبية الزنجية والقصة الطويلة الشائعة عند السواحل. أما السِّمة التي يتميز بها الفلكلور الأمريكي فهي ليست في الشكل بمقدار ما هي الترابُط الوثيق بين الجماعات الإقليمية والجماعات العنصرية، وفي التأثير المتواصل الذي ينشأ عن الطباعة وعن التجارة، وفي طبيعة المجتمع الأمريكي التي تتميَّز بدَوام التغيُّر.
لا جدال في أن «أمريكا» هي بوتقة انصهار العالَم، ففي «أمريكا» خلطت الشعوب من جميع الأجناس، والمذاهب، واللغات، دماءها وثقافاتها وآمالها.
والفلكلور بمعناه الحق يرمز لهذه الوحدة. وهناك صفة ديمقراطية لا مراءَ فيها في كَون الأدب الشفوي الأمريكي أعقَدَ من أن يُوصَف وصفًا مُبسطًا، وأن الأغاني والقصص الأمريكية تنتقل من جماعةٍ إلى جماعةٍ مُتجاوزةً الحدود العنصرية واللغوية والحواجز الفعلية.
والواقع أن ازدياد الاهتمام بالفلكلور في أمريكا يتناسَب تناسُبًا طرديًّا مع ازدياد النفوذ الأمريكي عبر العالم، وخلال الأعوام التي أحاطت بالحربين العالميتَين كانت الولايات المتحدة تُعنَى بتراثها الخاص كما تُعنَى بتعريف نفسها للشعوب الأخرى.
وقد أشبع الباحثون والكُتَّاب ورجال الفن رغبة الجمهور في معرفة جِيرانهم ومعرفة أنفسهم، وكان مركب الفلكلور مَعينًا لذلك مُلائمًا لا ينضب.
ربما كان أفضل الطرق لإدراك شيوع الفلكلور في أمريكا ما بين عامي ١٩١٠م و١٩٥٥م أن ننظُر إلى الأشخاص المهتمين بالفلكلور أنفسهم، وهم — كما يتوقع القارئ — خليط من الناس. الأنثروبولوجيون والزوجات والمؤرِّخون ومُعلِّمو الأدب المحترفون، كل هؤلاء نالوا تدريبهم بالهواية أو بالاشتغال بالجمع، أو التجارة أو بالبحث، أو بهذه الوسائل الأربع مجتمعة. وهم ذوو أُسسٍ وأذواق مُتنوعة. وهم كمجموعةٍ لا يُحسُّون إلا بقدرٍ ضئيل من روح الجماعة.
فنظرة الهاوي مثلًا تعتمِد عادةً على غرامِه بالتاريخ المحلي، أو بالبيئة الطبيعية المحلية، وفي حُبه للفلكلور إغراق في الخيال، وهو قد يحنُّ إلى «الأيام السعيدة» الخالية وقد يكون لدَيه غرامٌ بموطنه الأول أو سلالة أسلافه، الفلكلور هوايته، وهو — بحق — يصرُّ على أن يبقى الفلكلور هواية دائمًا. والهاوي شديد الارتباط بالجامع، الذي هو في حقيقته الهاوي الذي نزل إلى الميدان، والجامع يسرُّه أن يتَّصِل بالناس، وهو يتصيد الفلكلور لأغراضٍ ميدانية كتلك التي يبحث من أجلِها الصائد عن الحيوان.
وقلَّما يشتدُّ اهتمامه بمعنى ما يعثُر عليه. وخير عهوده كان في السنوات الأولى من القرن العشرين، حينما أدرك الناس لأول مرةٍ أن الفلكلور الأمريكي آخِذ في الاختفاء.
وهناك إلى جانب هؤلاء، تجار الفلكلور، والباحثون فيه، أولئك يُسيطر عليهم حُب المال، وهؤلاء تتحكم فيهم الرغبة في كشف حقيقة الحياة الأمريكية والثقافة الأمريكية. وكلاهما يهتمُّ أولًا بالفوائد التي يمكن أن تُستمدَّ من المادة التي حصل عليها جامع الفلكلور. وكلاهما يقف عند حدٍّ مُعينٍ من هذه الفوائد. وتجار الفلكلور يتفقون مع الهواة ويعيشون على حنينهم، ولكنهم كثيرًا ما يعتدون على الباحثين لأنهم يأبَون أن يحتفظوا بالمواد التي حصلوا عليها على صورتها الحقيقية، فهم يُحورون الفلكلور ويُزينونه حتى يُكسِبوه أكبر جاذبية من الناحية التجارية. ومعايير التاجر تختلف كلَّ الاختلاف عن معايير الباحث، فالباحث عند الهاوي والتاجر على السواء يفتقر إلى الروح، ويفتقر إلى التقدير السليم ببحوثه وتصنيفاته التي لا تنتهي. والباحث يتأثر بنظام الامتحان البغيض في الجامعات فينظر بعَين الازدراء إلى الهاوي والجامع والتاجر، ولا يتَّفِق معهم وإن كان لا يُنكر ما هو مَدين به للجامع.
وفي الفترة التي تقع بين عامَي ١٩١٠م و١٩٥٥م ازدهرت هذه الاتجاهات الأربعة جميعًا وطوَّرَت خصائصها. فأخرج الهواة والتجار والجامعون كتابًا تلوَ كتاب، وتسجيلًا تلوَ تسجيل، عن الفلكلور الذي يتعلق بكل مجموعة ممكنة في أمريكا من الناحية العنصرية أو الإقليمية أو المهنية. أما الباحثون فقد سبروا غور التواريخ المعقَّدة للقصص الشعرية البريطانية مثل قصة «الفتاة التي نجت من حبل المشنقة»، والأغاني الزنجية الأمريكية مثل أغنية «جون هنري»، والأساطير الهندية مثل «الزوج النجم»، والعادات الفرنسية مثل «لاجوياني» وما إلى ذلك. وقد اقتتلت هذه الجماعات حول شرعية إعادة تنظيم هذه الأغاني الشعبية، وحول الارتباطات المقدَّسة للأساطير والأقاصيص، وحول المجموعات الفلكلورية التي تستطيع أن تزعم أنها هي التي ابتدعت هذه الأغنية وتلك اللعبة. وكان نتيجة ذلك فيض من الكتب المتنوعة التي تزخر بها المكتبات، وإصدار أربع صحف كبرى ناجحة وعددٍ عديد من الصحف الصغرى التي تُعالج الفلكلور، ووفرة من التسجيلات للأغاني الشعبية والرقصات الشعبية، وتطوير سريع للدراسات لكل وجهٍ من أوجه الفلكلور الأمريكي والعالمي في جميع المدارس والكليات الأمريكية.
ومن المؤكد أن كل ما لدى الأمريكيين من علم الفلكلور قد وصل إليهم عن طريق الاتصال بالتجَّار الذين امتدَّ أثرهم إلى جمهورٍ ضخم كبير. أما ما قام به الجامعون والباحثون — وهم أولئك القوم الذين يُعنَون عنايةً بعيدة المدى بالأدب الشعبي — فلم يرُقْ إلا لعددٍ ضئيل وكأي عملٍ آخر ذي صبغةٍ عالميةٍ. والنتيجة هي أن الجمهور الأمريكي ربما اطلع على قدْرٍ كبيرٍ من التراث الشعبي في السنوات الأخيرة، إلا أنَّ أكثر الأمريكيين ليست لدَيهم إلا فكرة غامضة عن ماهية الفلكلور الحقيقية، فقد اطلعوا على الفلكلور لا كما صدر أصلًا عن أفراد الشعب، ولكن بعدما دخل عليه شيء من التعديل الذي يكفل رواجه في السوق. والفلكلور موضوعي في أكثر الأحياء، لا يتعرض للحُكم الخلقي، لاذِع حينما يكون في حالته الطبيعية، والأغاني الشعبية غالبًا ما تؤدى بنغمٍ عتيق يشقُّ على المرء الاستماع إليه، وكثير من مادته الروائية فُحش بذيء، ولكنه عندما يُعرَض على الأسطوانات الفوتوغرافية الأمريكية أو فوق رفوف المكتبات في أمريكا، لا نجد منه إلا اللون العاطفي، الخلقي، الحاذق. وقد تحوَّرت الموسيقى إلى الصيغ المألوفة، واكتسَت بالعناوين التجارية، واستتر فيها الفاحِش البذيء. ومن ثم فإن كثرة الأمريكيين لا تعرف إلا القليل عن القوة والطاقة والأصالة التي تكمُن في فلكلورهم، ولا يرَونه إلا شيئًا غريبًا، مُسلِّيًا ليست له إلا قيمة عابرة.
وإذا نظرنا إلى ما حدَث من الوجهة التجارية للأغنية الأمريكية الشعبية في الخمسين سنة الأخيرة تكوَّنَت لدَينا فكرة صحيحة عما تعرض له الفلكلور الأمريكي في جميع صوره منذ الحرب العالمية الأولى. وقد تختلف التفصيلات في القصص الشعبية أو في الخرافات، ولكن النمَط لا يختلف كثيرًا بين شكلٍ وآخر.
قامت في القرن العشرين ثلاث حركاتٍ تجارية كبرى دعَت إلى إثارة الاهتمام الكبير في إنشاد الأغاني الشعبية في الولايات المتحدة؛ أولاها الحركة الجبلية، ذلك أن شركات التسجيل أدركَت بعد الحرب العالمية الأولى أن الجمهور يودُّ أن يشتري تسجيلات الأغاني التي يُنشدها الشعب في الريف، فقصدوا الجهات الريفية وسجلوا أغاني المنشدين، وكانت كثرة هؤلاء المنشِدين من البيض البريطانيين سكان الجبال من أقاليم أوزارك وأبلاشيا الجنوبية، وكانت الأغاني التي ينشدونها أغانيَ شعبية أصيلة أمريكية إنجليزية. بيد أن مندوبي الشركات سرعان ما أدركوا أنه من الأيسر لهم أن يأتوا بالريفيين إلى المدينة أو أن يحملوا المُغنين في المدينة على تقليد الأسلوب الريفي، ومن هذا التقليد نشأت عادة الإنشاد الجبلي حتى إن أكثر الأغاني التي ينشدها المغنون الجبليون هي من تأليف المشتغلين بالموسيقى، روحها عاطفي وخلقي، على وتيرةٍ واحدةٍ، في حين أن الأغنية الشعبية جافة، لا تراعي قواعد الأخلاق، متنوعة الوتيرة. وألوف الألوف من هذه الأغاني تؤدَّى وتُنشَد عن طريق وسائل الإعلام الأمريكية. وهي تغمر الريف الجبلي حتى إن المغنِّين الجبليين ليؤثرونها اليوم على الأغاني التقليدية ذاتها. وبالرغم من أن النشيد الجبلي كثيرًا ما يعني في ذهن الجمهور الأمريكي الغناء الشعبي، إلا أن العلاقة بينهما اليوم بعيدة جدًّا، إلَّا في حالاتٍ نادرةٍ.
والحركة الكبرى الثانية هي حركة العمال، ففي أُخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اكتشف رؤساء نقابات العمَّال أنَّ الأغاني الشعبية لها جاذبية كبرى لدى العمال في المصانع والمناجم وهم يُناضلون في سبيل رفع مستواهم. وسرعان ما لقي إنشاد الأغاني الشعبية التي تتعلق بمشقَّات الحياة، كما لقِيَت إعادة صياغة الأغاني الشعبية بحيث تُعالج مشقَّات الحياة، وتأليف الأغاني بالطريقة الشعبية، سرعان ما لقيَ ذلك التشجيع باعتباره وسيلة للاحتجاج على أصحاب الأعمال الكبرى، وعلى استغلال كبار رجال الأعمال للعمال. وفي أواخر الثلاثينيات انتشرت هذه العادة الجديدة، عادة إنشاد الأغاني الشعبية الملائمة والتي وُضِعت لتُناسِب المقام، من نقابات العمال إلى جمهور أكبر يهتمُّ باحتجاجٍ أعمَّ ذي صبغةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ.
وبتأثير الاتجاهات الموسيقية السائدة الشعبية بلغت هذه الأغاني جمهورًا أكبر، وبدأت في نهاية الأمر تُنافِس الموسيقى الراقصة والأغاني الجبلية الموضوعة في اجتذاب المشترين للأسطوانات والمستمِعين للراديو والتلفزيون، وما إن حلَّ عام ١٩٥٠م حتى كادت كل جماعةٍ ترتدي الزي الريفي وتُطلِق على نفسها اسم جماعة شعبية أن تؤدي هذه الموسيقى، وهي على ثقةٍ من الشغف بها دائمًا ومن وفرة عدد المستمِعين إلى أدائها.
وأخيرًا جاء الجاز إلى محطات الإذاعة والتلفزيون الأمريكية وعلى العالم أجمع، هذا الجاز الذي بدأ في نيو أورليانز خليطًا من النداءات والروحانيات الميدانية الزنجية والأغاني الحزينة الريفية والمدنية والفِرَق الموسيقية الأوروبية، وأساليب البيانو المتنوعة. وحيثما يُعزَف الجاز تُنشَد الأغاني الحزينة، وهذه الأغاني صورة صادقة من صور الأغاني الشعبية الأمريكية. ولما كانت هذه الأغاني قد نشأت عن عزف الزنوج وغنائهم — وخصوصًا المغنُّون في الشوارع في مدن الجنوب وقراه — فهي تُعبر أصلًا عن حزن ومشقَّات السود المنعزلِين في عالم الرجل الأبيض. ثم تناول البِيض هذه الصورة فيما بعد ليُعبِّروا عن متاعبهم وآلامهم. ولما رحل الزنوج والسكان الجبليون إلى الشمال واشتغلوا بالترفيه أتَوا معهم بالأغاني الحزينة، وشاعت هذه الأغاني في الإذاعة وفي النوادي الليلية، وقلَّدَها البِيض والسُّود على السواء وأعادوا كتابتها، كما عاشت في صورتها الشعبية في أحياء الزنوج في المدن الكبرى وفي مزارع الجنوب.
ومهما يكن من أمر، فإذا كنا نريد أن نستعرض تاريخ شكلٍ من الأشكال الفنية، كالأغنية الشعبية، وإذا كنَّا نُريد أن نُتابع التطور التجاري المستمر للفلكلور الأمريكي من عام ١٩١٠م إلى عام ١٩٥٥م فلا مندوحةَ لنا عن النظر أيضًا في شكلٍ آخر — كالقصة الطويلة — لكي نُدرك الخصائص الأمريكية الأساسية التي تظهر برغم المميزات الإقليمية والمهنية والعنصرية. وقد تطوَّرت القصة الطويلة في ريف أمريكا وعند السواحل في مُستهلِّ القرن التاسع عشر، وهذه الصورة الفنية الأمريكية البحت، صورة الحكاية — وأقصد بها قصة التجربة الشخصية المرسلة المتشعِّبة — تظهر عرضًا في أسلوبٍ عفويٍّ بحدٍّ بالِغ برغم الحوادث التي لا يتصورها العقل. وكثير من التفصيلات التي تُروَى ليس له بالقصة علاقة، وكثيرًا ما تنتهي القصة بالسخرية والعبث. والغرض هو في الواقع تشويق المستمِع. ومصادر قصاص القصة الطويلة هي الحكايات المضحكة، والأعاجيب، والمشكلات المحيرة.
لا مراء في أن القصة الطويلة ظاهرة أمريكية فذَّة، وهي نتيجة صادقة للأجناس والجماعات العديدة التي تدفَّقت على الساحل الغربي، أبطالها نوعان: اليانكي الواقعي، وصفاته الجد والمثابرة والاقتصاد والخبرة العملية والمكر؛ والمشاغب الغربي، وصفاته الشجاعة، والقوة العضلية، والقدرة الوحشية والمهارة الحيوانية.
وهؤلاء الأبطال يُمثلون مغامرات المتشرِّدين المنطلقِين، وهم نتيجة ورمز لمجتمعٍ اجتُثَّ من جذوره. وفي الخط الدقيق الذي يفصل تنفيذ القانون من خرق القانون عند الساحل، نجد أن الرجل الآثم «الطيب»، والرجل الطيب «الآثم» كلاهما مَوضع التمجيد. «فديفي كزوكت» مثلًا يخدع صاحب البار ويُغالِطه في عدد أقداح الشراب، ويُشوِّه الأشجار ويجرِّدها من قشورها، ويصارع الدِّيبة، ثم ينتهي به الأمر بالكونجرس. و«مايك فنك» يشاغب، ويشرب، ويقطع الطرُق على ضفاف «المسيسبي»، ولكنه يُعاون رجلًا أمينًا لكي يشقَّ طريقه في الحياة. «ووايلدبل هيكوك» ينقش أحرف اسمه على أعمدة البرق وهو راكب حتى يموت رميًا بالرصاص في ظهره.
هذه هي القصص التي ترِد في الفلكلور الأمريكي والتي يعرفها الجمهور حق المعرفة ويُقدرها أكبر تقدير. والمثل الأعلى عند السواحل هو الرجل الفذ صاحب الموارد التي لا تنفد والذي يعشَق الحياة الخلوية، وهو يُفضِّل كثيرًا تلك الشخصيات التي نلمسها في «المارشن» الأوروبي، وفي قصص الحيوان الزنجية، وفي الأشكال الروائية الأخرى التي يُقدِّمها الشعب. ولقد كانت أمريكا دائمًا تفخر بمُمثليها النجوم، وعُمَّالها الماهرين، وأبطالها الشهوانيين المشاغِبين. وهي تذكُر بالثناء والتقدير دائمًا أبطالها الذين نشئوا عن قصصها الطويلة. وإنك لتجِد الولايات تتنافَس في أن تكون كلٌّ منها مَوطن «بيكوس بل»، أو راعي البقر الذي يدعو إلى العجب، أو «بول بنيان»، أو قاطع الأخشاب الفائق المهارة. والزنوج يُسمُّون أبناءهم باسم «جون هنري» صاحب الشهرة في صناعة الصلب، كما أن الولائم والحفلات تُقام تكريمًا ﻟ «جون آبلسيد» زارع التفاح، أو «كيسي جونز» شيطان السكك الحديدية.
وبالرغم من الانتشار التجاري للأغاني الشعبية وللقصص الطويلة انتشارًا واسعًا في الولايات المتحدة، ومن ثَم كانت أكثر ألوان الأدب الشعبي شيوعًا، إلا أن ذلك لا يعني أن الصور الأدبية الأخرى لم تنتشِر أيضًا، فأكثر الأمريكيين يألفون «المارشن» المعروف في العالم القديم، والمأخوذ عن البِيض الجبلِيِّين، وعن الفرنسيين والإسبانيين. وهم أيضًا يألفون حكايات الألغاز المنقولة عن زنوج أفريقيا، وكذلك حكايات الألغاز الصادرة عن الهنود الأمريكان. كما يألفون ألعاب الرقص المشتقَّة من رقصات السواحل وحفلات الألعاب فيها، وهم يعرفون العادات والخرافات المحلية، التي تروي قصص البحث عن الكنوز وتفجير ينابيع الماء بالسحر، والتنبُّؤ بالجو، والوصفات العلاجية، والتحكُّم في الحظ. وهم يروون أيضًا بعض الألغاز والأناشيد والنكات، كما يروون الأساطير التي تنمُّ عن خصائص الجماعات الوطنية التي ينتمون إليها. وقد شهد بعضنا «لوس باستورز» وهي مسرحيات العصور الوسطى الإسبانية التي لا تزال تُمثَّل في الجنوب الغربي، وكذلك حفلات رأس السنة الفرنسية أو (الجوياني)، أو غيرها من الحفلات التقليدية. وقد شاعت في الولايات المتحدة الولائم الشعبية والحفلات الشعبية المتنوعة. ويشهد كلُّ عامٍ الجماعات العنصرية أو الإقليمية أو المهنية وهي تعرض عاداتها وأزياءها، وتروي حكاياتها، وترقُص وتُنشِد أغانيها، باذلةً جهدها لكي تُحقق مزيدًا من التفاهُم وتبادل الاحترام في هذه الأمة التي تنتمي إلى شعوبٍ متعدِّدة. ونضرب لذلك مثلًا «الحفل الشعبي الوطني» الذي يُقام في الجنوب كل ربيع، فهو يضمُّ مُمثِّلين وباحِثين، وهواة الفلكلور من جميع أرجاء البلاد، ويذاع على نطاقٍ واسع في الصحف والمجلات في حين أن كلَّ جماعةٍ من الجماعات — كقاطعي الأخشاب أو الفنلنديين، أو البِيض الجبليين، أو قبائل الهنود الحمر — تُقيم كل شهرٍ نوعًا من أنواع الإحياء أو الاحتفال.
ويستطيع المرء من هذا العرض للفلكلور في «الولايات المتحدة» من عام ١٩١٠م إلى عام ١٩٥٥م أن يستنبط بروز موضوعات ثلاثة؛ «أولها» أن الفلكلور الأمريكي هو عرض مُعقَّد مُتشابك جدًّا للقوى الإقليمية والمهنية والعنصرية؛ و«ثانيها» أن كثرة الشائع من الفلكلور الأمريكي يتَّصِل برغبتنا في شرح أنفسنا للعالم؛ و«ثالثها» أن الفلكلور آخِذ مع انتشاره في خضوعه للتجارة. وإن المرء ليُدرك أن الفلكلور الأمريكي قد تطوَّر في عصر الطباعة وعصر التغيُّر الوطني السريع حين كانت دوافع الحنين إلى الوطن والمباهاة المحلية شديدةً قوية، فترتَّب على ذلك شدة شغَف الأمريكيين بالاحتفاظ بأكبر قدرٍ من تُراثهم للأجيال القادمة. وقد حرصوا أكثر مما حرص غيرهم في أي بلدٍ آخر على التقاليد المحلية، والذكريات، والتحف القديمة. وبالرغم من أن هذا الاحتفاظ كثيرًا ما كان يقوم على غير أساسٍ، فإن محصول الفلكلور الأمريكي كان وفيرًا إلى حدٍّ مُذهِل.
وهذا المحصول يرمز للأمة الأمريكية حقًّا. إنَّ أمريكا بلد جديد، شاب، واسع، تنعكس فيه تغيرات سريعة من الحياة الزراعية إلى الحياة المدنية، والقوم خليط، وكذلك ثقافتهم. وفي أمريكا أمكن للرجل أن يكون بطلًا معبودًا في حياته، ورواة القصص الأحياء يلمُّون في ذاكرتهم بتاريخ مجتمعٍ برُمَّته أو تاريخ مهنةٍ بأسره كمهنةِ حفر الترع أو الملاحة النهرية. إن مثل هذه الأمة هي كل شيءٍ لكل الناس، ومن العسير جدًّا أن يكون لها طابع واحد، والفلكلور فيها يسحر أشدَّ السحر، وقد يستحيل تحديده.