المجتمع والرواية
إن ظهور المذهب الطبيعي في الرواية الأمريكية كان هو التيار السائد في القصة الأمريكية في الربع الأول من هذا القرن، فقد فتح الطريق لكلِّ ما تلا ذلك، ورفع الأدب الأمريكي بوجهٍ عامٍّ من صبغته الوطنية الإقليمية إلى مرتبة الأدب العالمي.
ولكن الحركات الأدبية لا تخضع البتة لهذا التقسيم التاريخي السهل الذي يُريدنا المؤرخون أن نأخذ به. وقد أَلِف المؤرخون أن يُحدِّدوا تاريخ ظهور المذهب الطبيعي في الأدب الأمريكي بعام ١٩١٠م، ومع ذلك فقد نشر «تيودور دريزر» — رائد هذه الحركة، والمنشئ الحقيقي للواقعية الأمريكية الحديثة وباعثها الأول — «الأخت كاري» قبل ذلك بعشر سنواتٍ، أي في عام ١٩٠٠م، ونشر «فرانك نوريس» «ماك تيج» — وهو وصف واقعي رائع للطبقة الوسطى المتخلِّفة في الحياة الأمريكية — في عام ١٨٩٩م، وكذلك نشر «نوريس» «الأخطبوط» — وهو قصة عن زراع القمح في كاليفورنيا، سبقت قصة «جون ستانيبك» «كروم الغضب» — في عام ١٩٠١م.
ولنذكُر في هذا الصدد أيضًا أن «ستيفن كرين» كتب «ماجي، أو فتاة الطريق» في عام ١٨٩٣م، و«شارة الشجاعة الحمراء» في عام ١٨٩٥م، ويُضاف إلى رواد المذهب الطبيعي في الأدب هؤلاء «جاك لندن» الذي أدخل تأثير «دارون» و«نيتشه» في القَصص الشعبي الرقيق في أوائل السنوات العشر الأولى من هذا القرن، كما نشر لندن كتابين آخرَين معروفين — وهما «الكعب الحديدي» في عام ١٩٠٧م، و«مارتن إيدن» في عام ١٩٠٩م — وهما من ثمار الاشتراكية التي نادى بها صراحةً حينما كان لا يزال في ذلك العهد أكثر القصاصين الشعبيين إيرادًا. ومن عجبِ أيضًا أن كاتبة نيويورك الأرستقراطية «إديث هوارثن» — وهي من السيدات العظيمات في تاريخنا الأدبي — هي التي أخرجت تلك القطع الرائعة التي تهكَّمت فيها في وقتٍ مبكرٍ على ثروتنا الغربية الجديدة، (وسبقت بها «عادات البلاد» التي نُشِرت في عام ١٩١٣م) تلك القطع التي كان لها من التأثير على «سنكلير لويس» ما جعله يُهدي إليها أحسن رواياته «بابت». وهؤلاء الكُتَّاب وهذه الروايات جزء من التاريخ الباكر للحركة الطبيعية أو الواقعية في القصص الأمريكي، ومن الأفضل أن نعتبر عام ١٩١٠م — الذي نُعيِّن به عادةً بداية هذه الحركة — ذروة أو قمة المرحلة الأولى منها. أما نقطة البداية الحقيقية للواقعية الحديثة فقد كانت في أوائل أو أواسط السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي، وتبلُغ نهايتها في إحدى السنوات التي تقع بين عامي ١٩٤٠م، ١٩٥٠م، بحيث يبلغ مدى الحركة كلها زهاء الخمسين عامًا.
ويجب أن نذكر أيضًا أن الروائي الأمريكي «وليام دين هاولز» بدأ يركز اهتمامه في المظالم الاجتماعية التي نشأت عن الرأسمالية منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وقد سبقت واقعية «هاولز» — برغم خِفتها في بعض الميادين — المذهب الطبيعي عند لندن، و«نوريس»، و«دريزر»، كما أن واقعية العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن أعقبت صميم الحركة الطبيعية، التي كثيرًا ما جهلها حتى الروائيون المتأخِّرون أنفسهم. ونحن نتساءل: ما هذا «الصميم» في المذهب الطبيعي الأمريكي؟ من الميسور أن نعرض مبادئ الحركة عرضًا شاملًا، ولكن من العسير جدًّا أن نرى هذه المبادئ وهي تفعل فِعلها في عمل الروائيين الأفراد، إلا إذا أخذناها مِقياسًا صارمًا نُقوِّم به كل كاتب، فنُهمِل — أو لا نُدرك البتة — تلك الصفات الشخصية المزاجية الفنية التي تجعل لكلِّ كاتبٍ نظرته الشخصية إلى الحياة.
ومهما يكن من شيءٍ فإن الرواية عمل فني وليست بحثًا علميًّا، وهي مُتدفِّقة عضوية في طبيعتها، متنقلة وغامضة في مضمونها في كثيرٍ من الأحيان، وبذلك تختلف عن «النظام» الفلسفي، أو الموعظة الخلقية، أو العرض المنطقي. وحتى الروائيون الفرنسيون في القرن التاسع عشر الذين صاغوا مبادئهم عن المذهب الطبيعي وأثَّروا في أدبنا، قلَّما ساروا في قصصهم وفقًا لنظرياتهم، وإن فعلوا أثاروا السخرية والضحك. وقد كان «إميل زولا» أحسن الكُتَّاب الذين صاغوا هذه القاعدة؛ قاعدة «الأدب العلمي» الجديد، وجعل محوره دراسة البيئة والوراثة: وهو أدب «يُستبعَد السحر منه.» ومن ثَم لم يدخل في نطاقه «غير المعقول». وأكدت هذه الحركة الجديدة الأسباب الطبيعية لتلك الظواهر التي لم تُقدِّم الميتافيزيقا لها من التفسير إلا ما كان من وراء الطبيعة. والهدف الرئيسي من هذه الحركة هو تطوير طريقة من طرق البحث التجريبي نتناول بها مصير الإنسان في عالمٍ ليست له شخصية مُعينة ولا اتجاه خُلقي مُعيَّن.
هؤلاء الطبيعيون الأوروبيون الأوائل كانوا كذلك يحاولون أن يُحطموا الخرافات والأهواء لينفُذوا منها إلى العادات والتقاليد المتراكمة التي تتكوَّن منها قشور أية مدنيةٍ من المدنيات. وكانت «مادية» هذه الحركة الجديدة احتجاجًا على الاستخدام الخاطئ للقِيَم الروحية، أو استخدام القِيَم الروحية التي تُضيِّق ولا تُوسع مجال الفكر الإنساني. أما «الحتمية» وهي أضعف نواحي المذهب الطبيعي فهي محاولة لدراسة البيئة الاجتماعية بقصد إدراك ثمارها. قال «سنت بيف» في عرضه ﻟ «مدام بوفاري»: إنني أشعُر بكم في كل مكان يا علماء التشريح والفسيولوجيا في حين أن جميع رذائل البشرية وفضائلها هي عند المؤرخ الفرنسي «تين» نتائج لعمليات كيماوية. ما أشد انخداع المفكِّرين والفنانين في أواخر القرن التاسع عشر في العلم! وهذا هو العلم عَينه الذي يجد اليوم — في منتصف القرن العشرين — تبريرًا قويًّا لاختراع المزيد عن القذائف القاتلة التي تودي بحياة الملايين.
وأحب أن أوجِّه النظر إلى أن «زولا» كان في الواقع خياليًّا مُستترًا وراء نظرياته «العلمية» عن المذهب الطبيعي، وقد تأثر «دريزر» — مثلًا — ﺑ «بلزاك»، ولم يتأثر البتة ﺑ «زولا» كما كان «هنري جيمس» في الطرف الآخر من الأدب الأمريكي. والفارق في «تطبيق» المذهب الطبيعي بين «فرانك نوريس»، و«جاك لندن»، و«ستيفن كرين»، و«دريزر» أو من لفَّ لفَّه، يبلُغ من الضخامة مبلغ الفارق في المزاج بين هؤلاء الكُتَّاب جميعًا. حقًّا لقد بدءوا جميعًا بعقيدةٍ مشتركةٍ في فكرة غير واضحة المعالم عن التقدُّم العلمي المتطور، غير أن «جاك لندن» — مثلًا — كان شخصًا آخر خياليًّا مُستترًا أقرب إلى «إدجار آلن بو» منه إلى رفاقه، وتصوره للعالَم «دارويني نيتشي» في صميمه — كان صارمًا شديدًا مائلًا نحو الشر مُكتئبًا ساخرًا، بل وهادمًا في النهاية لنفسه، أما العالم الأدبي عند «دريزر» فقد كان — على نقيض ذلك — عالَم تأمُّلٍ ورقةٍ وحنان، لأن خير أعماله — بالرغم من تأكيده للماديَّة والحتمية، أي على القوى الوحشية العمياء للطبيعة وعجز الإنسان — يموج بالإحساس بالغموض وتقديس الحياة.
غير أن «دريزر» كان شخصيةً مُتناقضة معقدة، وهو كغيره من كبار الكتاب لا يخضع للتحليل السهل العاجل. وقد وصمت قصته «الأخت كاري» بأنها دنيئة أو غير خُلقية في السنوات الأولى التي تقع بين عامي ١٩٠٠م و١٩١٠م. وكانت حكايةً قصيرة مؤثرة عن فتاةٍ ريفية وصاحبة صالون في شيكاغو، وقد انحدر «دريزر» من أحطِّ أوساط المجتمع الذي صوره بدقةٍ بالِغة وأمانةٍ صادقة. ويرجع بعض الاعتراض على كتابته في أول الأمر من غير شك إلى أنه يمثل الصبغة الجديدة التي صبغ بها المهاجرون إلى هذا البلد لون ثقافتنا فهدَّدت سيطرة الأنجلو ساكسون الرقيقة المهذبة على آدابنا القومية، ويرجع بعض الاعتراض أيضًا على روايات «دريزر» الأولى إلى مجرى معالجته للموضوعات الوضيعة المبتذلة الشعبية مثل أوساط الناس، وبينما هو يتعرض لهذه الموضوعات التافهة — أي لظروف الحياة التي سادت في أمريكا في السنوات العشر الأولى من هذا القرن — نراه يؤكد بغير هوادة العناصر الجنسية في الطبيعة البشرية التي سادت أيضًا بلا مِراءٍ الحياةَ العامة في أمريكا، بل بلغت المستويات العُليا في أدبها الحاد.
أما روايته الثانية «جنى جرهارت» التي نشرها في عام ١٩١١م فقد بناها على حُبٍّ غير مشروعٍ نشب بين رجلٍ من رجال الأعمال الأثرياء وبطلة أخرى لم تُصب شيئًا من الثقافة ولكنها تدعو برغم ذلك إلى الإعجاب. (وهؤلاء البطلات اللائي صوَّرهن في رواياته الأولى تمتد أصولهن — بهذه المناسبة — إلى حياة أخواته ومُستقبلهن) وهكذا كانت الحياة الأمريكية في حقيقتها. ومن بين الكُتَّاب جميعًا كان لدَيه ذلك الإحساس الأوروبي على أشُدِّه إزاء المرأة — وهو التقدير والإعجاب والمحبة لهنَّ كنساء — وهي صفة نادرة في أدبنا القومي. وفي رواية «رجل المال» التي نشرها عام ١٩١٢م، و«العملاق» التي نشرها في عام ١٩١٤م يضرب على وترٍ جديدٍ كل الجدة في حياته بل وفي تاريخ أدبنا بأسرِه. فهنا نجد دراساتٍ للبناء الاجتماعي الجديد الرأسمالي الذي أخذ بسرعةٍ عجيبةٍ يُحوِّل المجتمع المختلط من المدينة والريف إلى صورة جديدة، وهو ذلك «المجتمع الريفي» الذي نشأ فيه «دريزر».
وهاتان الروايتان — وهما حلقتان من سلسلة ثلاثية كان يزمع نشرها — كانتا من خير قصص «دريزر» بالرغم من إهمالهما في بلادنا. (أما رواية «الرواقي» وهي الحلقة الأخيرة من السلسلة الثلاثية فقد نشرت بعد موته في عام ١٩٤٧م، وهي أقل منهما جودةً). وبنشره رواية «العبقري» في عام ١٩١٥م دخل معركةً كبرى جديدة ضد الرقابة على الأدب القومي، ووضع أساس فترةٍ جديدةٍ من الحرية الجنسية كانت نهايةً حقيقية للتزمُّت في أدبنا.
وفي السنوات العشر التي تقع بين «العبقري» و«مأساة أمريكية» التي نشرت في عام ١٩٢٥م أخرج «دريزر» سيلًا من القصص القصيرة والمسرحيات والمقالات واليوميات، والجزء الأول من سيرة حياته الذي نشره بعنوان «كتاب عن نفسي». أما رواية «مأساة أمريكية» فكثيرًا ما تُعَدُّ أعظم رواياته، وهي حكاية بطل ريفي غربي آخر — حكاية روح صغيرة أخرى — وقعت فريسة للثراء و«النجاح»، وقد كان ذلك هو النمط السائد في المجتمع الأمريكي — كما رآه «دريزر» — وعلى من يقع اللوم حينما قَتل بطل الرواية الفتاة التي كانت سلواهُ في شبابه لأنها تقِف الآن عقبةً في سبيل زواجه من الأوساط المالية؟ على من يقع اللوم حقًّا في كل ما تعرِض له قصص «دريزر»، حيث تعصف بالفقراء والعاجزين دائمًا رياح أمزجتِهم وميولهم، أو تنقضُّ عليهم تلك القوى الاجتماعية العالمية الأكبر التي لا تعبأ البتة بحاجات الفرد أو بآلامه؟
كان «دريزر» ينظر إلى العالم كأنه دوامة مظلمة مُدوية تبتلِع الفرد في جوفها السحيق، غير أن نغمة التشاؤم هذه لم تخل من أمل، فهو يعطف على مأساة الإنسان، ويحس إحساسًا رقيقًا إزاء ضحايا الحياة، وكثيرًا ما يُعجَب إعجابًا شاعريًّا بكل ما في الوجود من جمالٍ، برغم ما قد ينطوي عليه هذا الجمال من عنفٍ وما يُضمِر من قساوة. كان لدَيه — كما كان لدى «هوثورن» — ذلك الإحساس بالمأساة الذي لا يعرفه إلا كبار الفنانين.
ثم إنه فتح الباب للواقعِيِّين الذين جاءوا بعده، من «شروود أندرسن»، و«ألن جلاسجو» إلى «سنكلير لويس»، غير أن الحركة الواقعية في الأدب الأمريكي الحديث بدأت مرحلةً جديدة عندما دخل فيها «ﻫ. و. منكن» — أول فيلسوف طبيعي عظيم في العشرينيات من هذا القرن — و«سنكلير لويس». كان الطبيعيون السابقون من «كرين» إلى «دريزر» مُكتئبين في نظرتهم، عبروا — كما جاء في مؤلفات «شروود أندرسن» أو «ولاكاثر» التي سبقته — عن الآلام المكبوتة العقيمة التي عانى منها أساسًا أبناء الغرب من الجهَّال والمتواضِعين والريفيين في العالم الجديد، وفعل ذلك أيضًا إلى حدٍّ ما «لويس» في رواياته الأولى، فكانت رواية «الطريق العام» كتابًا سيطر في عام ١٩٢٠م على العالم الأدبي وأشاع الحرارة في أدب الثورة، وهي قصة مدينة أمريكية غربية جرداء وبطلة حاولت أن تُصلحها، وكانت هذه البطلة خيالية عاجزةً عن مُجابهة الموقف؛ ولكنها أمست آنئذٍ رمزًا وطنيًّا، وهذه الفتاة الثائرة، «كارول كنيكوت» — كما قال لويس — كانت تُعبر عن روح الإمبراطورية الحائرة التي نُسمِّيها «الوسط الغربي الأمريكي»، وهي كشخصية نورا عند «إبسن» هزت الثقافة الأمريكية اللاهية.
وبعد ذلك بعامَين نشر «لويس» قصته «بابت» وربما كانت خير مُؤلَّفاته، فقدَّم للعالم لونًا جديدًا من ألوان الثقافة. وقد نفهم اليوم أن هذه القصة الشهيرة كانت حلمًا مُزعجًا — سريالية في فكرتها الأساسية أكثر منها واقعية — حلمًا يصور رجل الأعمال الأمريكي الصغير في عالم المستقبل الذي تم تقنينه من جميع النواحي. وتنتمي «بابت» في الواقع إلى مجموعة القصص الخيالية التي تُهاجم «العوالم المثلى» في القرن العشرين من قصة «أولدس هكسلي» «العالم الطريف» إلى قصة «جورج أورول» التي نشرها تحت عنوان «عام ١٩٨٤م». ومن الطريف أن نرى كيف أن «لويس» قد أقحم نفسه في المستقبل، أو حاضر المستقبل على الأصح. فمُنذ بداية القصة في حجرة نوم البطل — «وهي سلبية نظيفة كقطعة من الثلج الصناعي» — إلى خاتمة موضوعها حيث تتمُّ الصفقة الحقيقية الأخيرة الكبرى، نجد أن هذا الكتاب إنما كان صورةً شعريةً رائعةً لمجتمعٍ لا يفكر إلَّا بالعقل الجماعي. إنه «جحيمنا» الوطني الذي يُصيبنا من الحياة الآلية التي سيطرت على البلاد، أو هو «نهاية الدورة» حيث يقطن العالم عنصر جديد من الكائنات البشرية فُصِّل تفصيلًا ورُكِّب تركيبًا صناعيًّا.
ولكن «جورج بابت» لم يكن سعيدًا في هذا العالم الذي تسود فيه العلاقات البشرية المصطنعة، كما أن «سنكلير لويس» قد استخف بهذا العالم من قبل، وهذا هو مغزى الرواية. ثم وصف «لويس» بعد ذلك رجل الأعمال الأمريكي الحقيقي وصفًا فيه شيء من العطف في روايته «دُ دز ورث» التي نشرها في عام ١٩٣٩م. وكذلك استعرض مجال البحث العلمي في رواية «أروسمث» في عام ١٩٢٥م. وبعد ذلك بعامَين جال جولةً كبرى في رواية «إلمرجانتري» في الديانة البدائية والديانة الحية في الولايات المتحدة. أما من حيث التكوين الفني فقد كانت هذه الرواية من تلك الروايات التي لم تُصِب ما أصاب غيرها من نجاح. ولكنه يخفي خلف إحساسه بالهزل والكوميديا نِقمته على الحطِّ من شأن الروح الإنساني، وثورته الخلقية على أيِّ إفساد للقِيَم الإنسانية المشروعة. وفي رواية «إلمرجانتري» أجزاء تُوحي بخير ما في «بابت»، وهي تتَّصِف أيضًا بالصنعة السريالية وبما وراء السخرية. وفي هاتَين الروايتَين يقرن الكاتب بين نغمة العطف وعنصر السخرية الاجتماعية القاسي المرير الذي عالج به كل عيوب الحياة الأمريكية الحديثة وحماقاتها. إن «سنكلير لويس» قد رفع النقاب عن كل أوهامنا القومية في ميادين العمل، والدِّين، والعِلم، والسياسة، والإصلاح الاجتماعي، بل وحُبنا للناس. ذلك كان ما يهدف إليه لويس، وقد أصاب الهدف.
أي ميدان من ميادين الحياة الأمريكية في العشرينيات من هذا القرن لم ينظر إليه «لويس» (مع منكن أو رنج لاردنر) بعينٍ ناقدة حاقدة، ولم يتطلَّع إليه بنظرةٍ حاسدة؟ إن الوظيفة الكبرى لأدبنا طبقًا للتقاليد العظمى للديمقراطية الحرة الأمريكية من «توم بين» و«توماس جفرسن»، من «إمرسن»، و«ثورو»، و«ملفل»، و«والت هويتمان»، حتى كُتَّاب العشرينيات هؤلاء؛ كانت دراسة ظروف حياتنا الطبيعية والاجتماعية، وأن نُصوِّب عليها رؤيا الأفراد الموهوبين منا، ثم عرض نتائج الدراسة بأقصى حرية.
لقد كان أدبنا دائمًا أدب احتجاج، ونقد، وثورة، وسوف يكون يومٌ قاتم في ثقافتنا وفنوننا إذا تخلى الروائيون عندنا عن ميراثهم هذا الوطني العميق.
وبهذا الاهتمام بناحية السخرية في بلادنا أكثر من الاهتمام بناحية المأساة فيها في العشرينيات نجد أن الحركة الواقعية بفرعَيها تتدفَّق في آنٍ واحدٍ، فأنت تلمس في الروايات الشهيرة ﻟ «جون دوس باسوس»؛ «ثالوث الولايات المتحدة»، وفي مسرحيات الجنوب الأقصى القاتمة ﻟ «وليام فوكنر»، العناصر المختلطة للإيمان الشديد بالعدالة الإنسانية وللعرض الساخر اللاذع للمجتمع الأمريكي، وهذه الزمرة من كُتَّاب القصة المتأخرين، ومن بينهم «إرنست همنجواي»، و«سكوت فتزجرالد»، وغيرهما من أعضاء «الجيل الحائر» المعروفين، هذه الزمرة هي التي رفعت الحركة الطبيعية إلى ذروتها، وأدبنا القومي إلى مرتبة الأدب العالمي. كانوا قومًا شديدي الحساسية بالجمال، هؤلاء القوم الذين عاشوا في العشرينيات، يمثلون القمة والنهاية، ولا يمثلون البداية كما كان الناس يحسبون في عهدهم لهذه الحركة في أدبنا، ولا يزالون حتى اليوم يكوِّنون الصورة السائدة للثقافة الأمريكية في رأي العالم.
ولكن الفن يتذبذب دائمًا — كما يقول «أوتو رانك» — بين قطبَي الفرد والمجتمع. فلمَّا حلت الصدمة المفاجئة للأزمة الكبرى التي وقعت في العشرينيات، اتجه أدبنا بكُلِّيته مرةً أخرى إلى مشكلات المجتمع العاجلة، ثم عاد إلى الهدف القديم والمعنى الأول للحركة الطبيعية السابقة.
وعندئذٍ نجد أن «جون ستاينبك» في رواية شهيرة أخرى في ذلك العهد عنوانها «ثمار الغضب» نشرها عام ١٩٣٩م يعرض عرضًا مسرحيًّا كارثة «الأوكي» أو الفلاحين في الغرب الذين فقدوا مزارعهم. وليس من شكٍّ في أن هذه الرواية لا تزال قوية متينة باقية، مفتاحًا لعهدها، وتاريخًا ملحميًّا من بعض الوجوه لسنوات الأزمة في ثقافتنا الغربية الزراعية. وفي سلسلةٍ معروفة أخرى من الروايات وصف الكاتب الجنوبي «توماس وولف» وجه الأُمَّة خلال سنوات النضال الاجتماعي: أمل الحياة الأمريكية وواقعها من موطنه الجبلي إلى أعلى مستويات المجتمع في نيويورك، ثم مرة أخرى إلى أحياء بروكلن الفقيرة. وهناك روائيون آخرون في الثلاثينيَّات مثل «جيمس فاريل»، كرسوا جهدهم لدراسة الفقراء الذين لا يملكون شيئًا في مجالات ثقافتنا التي ارتدَّت إليها المأساة مرةً أخرى. وما فتئ ثالوث فاريل «ستدز لونيجان» الضخم الثقيل، الذي كتبَه فيما بين عامي ١٩٣٢م، و١٩٣٥م عملًا فريدًا في نوعه، في حين أن روائيًّا آخر، مثل «إرسكين كولدول»، يُوجِّه اهتمامه إلى «البِيض الفقراء» في الجنوب. وبمثل هذه المؤلفات تتمُّ الحركة الأدبية، التي نُسمِّيها الحركة الطبيعية، دورتها الكاملة وتعود مرةً أخرى إلى أهدافها وأغراضها الأولى. وبذا يمكن أن نقول إن الحركة في عمومها قد كملت.
وربما لم يكن من سبيل المصادفة أنَّ الصوتَين الأدبِيَّين اللذَين ارتفعا في الولايات المتحدة في الأربعينيات — صوت المغفور له «رتشارد رايت» وصوت «هنري ميلر» — كان كلاهما بمعنًى ما من «الكُتَّاب السُّفليين». تحدث رايت أروع حديثٍ له عن الزنوج الأمريكيين في الجنوب، الذين لم يجدوا من قبلُ مثل هذا الصوت القوي الصريح في أدبنا. أما «هنري ميلر» — على نقيضه — فقد سار شوطًا إلى الأمام في طريق الثورة الجنسية في آدابنا، وقد مدَّ الآن «ميلر» «ثورة البدن» المشهورة التي كان لها من الأهمية في تاريخ الحركة الطبيعية ما لِنَقدها الاجتماعي، إلى حدِّ الشهوة الجامحة الساخرة التي هزأت من كل قيودنا ومُعتقداتنا الأنجلوساكسونية التي تمسَّكت بها الطبقة الوسطى، بل هزأت من كل الأهداف والقِيَم في المجتمع الحديث عامةً.
وعلى مستوًى أشد محافظةً على القديم نجد روائيًّا مثل «جون أوهارا»، وآخر مثل «جيمس جولد كوزنز»، يسيران شوطًا إلى الأمام بطريقة الطبيعيِّين وبسلاحهم القاطع؛ سلاح السخرية الاجتماعية، كما احتفظ «جون هرسي» بالضمير الأدبي الأمريكي. ومع ذلك فقد كان «رايت»، و«ميلر» أقوى صوتًا وأعمق أصالةً في الأدب في حدِّ ذاتهما لأنهما اختارا بالغريزة أن يكونا من «الكُتَّاب السفليين»، وهما يُحدِّدان النهاية الحقة للحركة الأدبية العظمى — سمِّها الطبيعية، أو سمِّها الواقعية، أيهما شئت — التي لبثت نصف قرنٍ في الآداب الأمريكية، والتي أدَّت واجبها وتركت أثرها، وربما أحسَّا أيضًا بالحاجة إلى الهبوط إلى أسفل — كما أحسَّت الشخصيات القديمة في الأساطير اليونانية — لعلهما أن يجدا مصادر جديدة للحياة، واتجاهاتٍ جديدة للأدب.
ولا أقل من أن يأمل المرء أن يَخرُج ذات ربيعٍ مُقبل، أو في نهضةٍ قادمة أو في حركة إحياء في الأدب الأمريكي، أو في عالمٍ أصفى من عالمنا اليوم، الورثةُ الأدبيون خلفاء المذهب الطبيعي الواقعي من مَخبئهم الخفي لكي يُعالجوا من جديدٍ قضايا زمانهم الحقيقية، ولكي يخرجوا سلسلة أخرى من الروايات كأفضل ما جمعنا في ظل هذه الحركة خلال الخمسين سنة الماضية.