تمدين الفكاهة
إن التطورات التي حدثت في المجتمع الأمريكي في مُستهلِّ هذا القرن لم تبلُغ في أي لونٍ من ألوان الأدب المعاصر في أمريكا ما بلغَتْه في الفكاهة؛ فلقد كان كتَّابُنا الفكاهيون الكبار حتى العشرينيات من هذا القرن ريفيين أو غربيين في نزعاتهم، أما فيما بعد العشرينيات فقد كانوا مدنيين في اتجاهاتهم مُخالِفين بذلك من سبقوهم.
في أوائل القرن الثامن عشر خلق «بنيامين فرانكلين» شخصية «رتشارد سوندرز» الفقير الذي استطاع أن يقود صفًّا من الشخصيات الفكاهية التي تمتَّعَت بشعبيةٍ كبيرة، بعثت الغبطة خلال قرنَين من الزمان بين القُرَّاء في جميع أرجاء البلاد، بل وكثيرًا ما شكَّلَت القرارات السياسية ذاتها. وكان «رتشارد» الفقير يتَّصِف بالصفات الأساسية لهذه الشخصيات، كان رجلًا ريفيًّا، وأحبَّ الحكماء الفكاهِيِّين إلى النفوس هم الذين يَدلُّون بلهجاتهم وموضوعات حديثهم على القرى التي منها جاءوا أو الأصول التي ينتمون إليها. كان «رتشارد» الفقير أُمِيًّا، ولكنه كان حاذقًا مُجربًا في شئون الدنيا فاستطاع أن يُدلي بالعبارات الفطنة التي لقِيَت استحسان جمهورٍ يُقدِّس ما يُسمِّيه «إحساس الخيول»، وكذلك كانت الحال مع الفكاهيين الذين جاءوا من بعدِه واستعملوا اللغة الدارجة، ومنهم «دافي كروكت» وهو عضو الكونجرس الأسمر الذي عاش على الحدود، وكان هناك «هوزيا بجلو» الفلاح اليانكي الذي رسمه «لول»، والذي قال عنه مُبدِعه إنه يجسد «الإدراك العام الذي يُحييه الضمير ويُشيع فيه الحرارة». وكان هناك «جوش بيلينجز»، رجل شديد الحياء من «أوهايو»، رسمه «ﻫ. وشو»، وعقيدة «جوش» هي في لغةٍ عامية «عليك أن تكون حكيمًا قبل أن تكون ذكيًّا». وكان هناك «مارك توين»، الذي خلق «هك فن» ذلك المشرَّد من «إقليم مسوري»، و«هانك مورجان» ذلك اليانكي من كونكتيت — وكلاهما كما قال «مارك توين» جاهل بما تحويه الكتب، موهوب في ذكائه، يستطيع أن يضرب في العالم بذكاء.
وآخِر عملاق في موكب رجال الفكاهة الوطنية «رول روجرز»، ذلك الراعي الذي وُلِد في «أوكلاهوما»، وهو يقول: «لقد أكثرتُ من الطعام، وذلك لأني بقيتُ ريفيًّا.» وبفضل تنوُّع وسائل التعبير — الصحف النقابية، والصور المتحركة والراديو — فإن «رول» فاق في شُهرته كل من سبقه في هذا الاتجاه، وبموته انتهى الموكب. وقد مات ميتة رمزية مُلائمة في عام ١٩٣٥م في حادث اصطدام طائرة، ومنذ ذلك الحين برز في الصف الأول بعض رجال الفكاهة القدامى. فأحرز «هاري جولدن»، بصفةٍ استثنائية، نجاحًا باهرًا، وكان كثيرٌ مما يُبشر به يلائم العهد، فأعانه ذلك على اتساع شهرته، وراجت له في وقتٍ واحد ثلاثة كُتب تحوي تعليقاتٍ فكاهية، ولم يظهر — برغم ذلك — في ربع القرن الذي تلا وفاة «روجرز» أي فكاهي من نوعِه لدَيه ذرة من بروز.
وكان «روجرز» خلال سنواته الأخيرة نشازًا فعليًّا في عصره، وكان وجوده دليلًا على أن التقاليد الفكاهية القديمة في طريق الزوال. وقد أدَّى انتشار التعليم إلى اعتقاد كثيرٍ من الأمريكيين أن المعرفة العلمية التي كان يسخر منها الفكاهيون القُدامى أفضل لبلوغ الحكمة من الإدراك الفطري. ولم يعد عدم التوافق بين الجهل ونفاذ البصيرة — وضع الفكاهة القديمة — أمرًا مؤكدًا. وحلَّت محلَّ المدنيات الريفية والساحلية التي تربى في أحضانها الفكاهيون باللغات العامية مدنية المدينة التي لا تحترم من يتحدَّث باللغة الدارجة. وبدأت في الظهور فكاهة من نوعٍ جديد وطراز مختلف.
والمجلة التي تعهَّدت إلى حدٍّ كبير نمو هذه الفكاهة الجديدة — حتى قبل بدايتها في عام ١٩٢٥م— أبت أن تهتمَّ بالقُرَّاء في المدن الصغيرة والقرى، وقد كانت لهم فيه من قبل أهمية كبرى بين جمهور المهتمِّين بالفكاهة.
جاء في دليل مجلة «نيويوركر» أنها ليست بالمجلة التي تُحرَّر للعجوز الشمطاء، ولن تهتمَّ المجلة بما يدور في خلدِها، إنما «النيويوركر» صراحةً هي المجلة التي تُنشَر لسكان المدن، ومن ثم فسوف تتفادى عاملًا من العوامل التي تعوق أكثر المطبوعات الوطنية، إنها تتوقَّع توزيعًا وطنيًّا ضخمًا، ولكنه يعتمِد على الأفراد ذوي الاهتمامات المدنية.
وسيطر على «النيويوركر»، «هارولد روس» مؤلِّف هذا الدليل، وكان رئيسًا لتحريرها، وهي المجلة الأمريكية الفكاهية الهامة الوحيدة منذ عام ١٩٣٩م، وظل صاحب النفوذ فيها حتى وفاته في عام ١٩٥١م. فلم يكن من العجيب إذن أن يكون هذا التصريح الذي جاء في الدليل نبوءةً صادقة عن تاريخ المجلة، ولم يكن من العجب أيضًا أن تجتذب «النيويوركر» أربعةً من أبرز الفكاهيين وترعاهم، وهم جميعًا من أصحاب الذوق المدني الصريح.
وهؤلاء هم «كلارنس شبرد داي» (١٨٧٤–١٩٣٥م)، و«روبرت بنشلي» (١٨٨٩–١٩٤٥م)، و«جيمس ثيربر» (١٨٩٤–١٩٦١م)، و«سدني جوزيف برلمان» (١٩٠٤م– …) وقد بلغوا جميعًا الصفَّ الأول في العشرينيات وما زال لهم من يقدرونهم من القُرَّاء، وهم لم ينفصِلوا عن الماضي تمام الانفصال — ولم يحاول ذلك أي رجلٍ من رجال الفكاهة — إلَّا أنهم كتبوا على الرغم من ذلك فكاهةً تستند إلى فروض وأساليب مؤكدة تختلف كل الاختلاف عن أساليب الفكاهيين القُدامى، وكذلك استخدموا حيلًا فنيةً جديدةً.
وكان «داي» ابن سمسار في شارع «وول ستريت»، واشتغل في البورصة بعد تخرُّجه من جامعة ييل، ثم التحق بالأسطول الأمريكي خلال الحرب الأمريكية الإسبانية، ثم أصبح صحافيًّا، وكاتب مقطوعاتٍ ومقالات وكتب. ولم يهتد إلى أفضل أساليبه الذي جذب إليه الجمهور إلا بعد أن كتب سلسلةً من الذكريات العائلية لمجلة «نيويوركر» وغيرها من المجلات. وراجت في التوزيع «الإله وأبي»، و«الحياة مع أبي»، و«الحياة مع أمي» التي نشرها في أعوام ١٩٣٢م و١٩٣٥م و١٩٣٧م، وضربت الرقم القياسي في إقبال الجمهور على المسرحيات التي وُضِعَت على أساس هذه الكتب الثلاثة. وكذلك نجح الفلم السينمائي الذي صوَّر مناظرها نجاحًا مُنقطع النظير.
و«الأب» كما صوَّره «داي» ربما كان من الممكن أن يُصبح فيلسوفًا عمليًّا من طرازٍ قديمٍ لو أنه نشأ نشأةً ريفيةً وتعلَّم أن يلفظ الحُكم بأسلوبٍ فَكِهٍ.
وهو — ﮐ «رتشارد المسكين» — وصل إلى آراءٍ ثابتة فيما هو حقٌّ وصواب على أساس الفكر النافذ والتجربة، وهو يقف مواقف تنمُّ عن الشجاعة، ويُعلن عنها صراحةً، وهو يضيق بأولئك الذين «يكثرون من اللفظ في الحديث ويُبدون انحطاطًا في السلوك في شئون التجارة والسياسة.»
«كان ساخطًا عليهم، يُطالب بإبعادهم … وكان يصطدم مرتَين كل يومٍ بانتظامٍ بما تنشُره الصحف. وشقَّ عليه أن يرى لماذا خلق الله كل هؤلاء الأغبياء … وحاولتُ أن أُغريه، بقبول الدنيا كما هي، وأن يلائم بين نفسه وبينها، ما دام يشقُّ عليه أن … يُغير وحدَه الدنيا بأسرِها. واستمع أبي إلى هذا الحديث مُرتابًا …».
إن الإله نفسه لا يُخيف هذا الرجل الفذ المشعث: «والظاهر أنه تخيل إلهًا على صورته، إلهًا لا يُقدِّر العاطفة قدرًا كبيرًا، ويُقيم للقوة والكرامة وزنًا كبيرًا. إن الإله والأب، كانا دائمًا يتَّفِقان في النظرة.»
والشبَه بين الأب والكهان الريفيين القُدامى واضح جدًّا، ولكن اللون الذي يُصوره به الكاتب يتبايَن تبايُنًا تامًّا مع اللون الذي اختاره المؤلفون في القرن التاسع عشر الذين صوَّروا شخصياتٍ مُشابهة؛ ذلك أن المؤلفين المتقدِّمين — مثل «مارك توين» وهو يصور «هك فن» — كانوا يعجبون بمثل هذه الشخصيات ويتَّفِقون معهم في آرائهم. أما «داي» — رغم إعجابه بصورة «الأب» — فيعتبره شخصيةً عجيبة ولَّى عهدها، وهو يتشكك في معاييره، ويسخر من أحكامه، ويتهكَّم على أساليبه البائدة. إن «خصوم» قصة «الأب» في أكثر المواقف هم أفراد أُسرةٍ متسامِحة في تفكيرها، لا تحمل تبعةً في أعمالها، إنهم لا يعرفون ما هم فاعلون، وهم يتعثَّرون ويُخطئون، ولكن «الأب» يفشل في الحصول على ما يريد، والأسرة تُكافح في سبيل النصر، و«الأم» خاصة بتساهُلها، وتسامحها في الحق وعدم تقيُّدها بالقواعد والأخلاق، تغلب «الأب» دائمًا بفطنتها. والتبايُن واضح بشكلٍ خاصٍّ في أحد المواقف التي تلجأ فيها الأم إلى حيلةٍ أمريكية (يانكي) قديمة، وهي تخوض معركةً في النضال الدائم بينها وبين «الأب» بشأن نفقات البيت. وقد أفلحت هذه الخدعة قديمًا لأن مُخترعها استطاع بمكره أن يُصمِّم الحيلة. وأما الأم فقد استطاعت — على عكس ذلك — أن تنجوَ من أزمة الموقف بطريقةٍ أخرى لأنها بضَعف منطقها لا تستطيع بالطريقة الأولى أن تتغلَّب على زوجِها في ذكاء التصرف. ولا يترك «داي» مجالًا للشكِّ في أنه يؤثر طريقة «الأم» في تصريف الأمور.
وكذلك «بنشلي»، و«ثربر»، و«برلمان»، يصورون — كما فعل «داي» — شخصياتٍ مختلفة، ولكنهم يثورون أيضًا ضد المعايير القديمة. إن أسلاف الفكاهة لهذا الثالوث، في القرن التاسع عشر، كانوا كالسيوف المصلتة على الشخصيات التي تمثل البداوة الطبيعية. كانت هذه الشخصيات ساذجة، منحرفة في تفكيرها. وقد أمسك «هوزيا بجلو» سيف النقد — مثلًا — في شخص «بيرد» و«فريدم ساون»، وهو وغْدٌ غَبي فاجأته صيحة الحرب التي هاجمَها «هوزيا» هجومًا شديدًا، وقد وُفِّق «مارك توين» حينما أطلق على هذه الزُّمرة اسم «البلهاء الملهمون»، وسمَّاهم غيره «الكوميديين المتأدبين». وقد أخطئوا الحكم على المشكلات الجارية بمقدار ما أصابت الشخصيات التي تُمثل الإدراك الساذج.
يقول «برنارد دي فوتو»: «إن الكوميديين المتأدِّبين يُقدِّمون أنفسهم كأشخاصٍ بلغوا أقصى حدٍّ في الحماقة، في حين أن الكوميديين الحديثين يقدمون أنفسهم أشخاصًا بلغوا أقصى حدٍّ من «النورستانيا»، وليس هناك بينهما من فارق آخر.» وقد يكون هذا حقًّا، ولكن الفارق ثوري خطير.
كان «روبرت بنشلي» من أهم المحررين في «النيويوركر» وغيرها من المجلات والصحف، كما كان عاملًا من عوامل مكاسب الناشرين الذين نشروا مجموع مقطوعاته في خمسة عشر كتابًا، بل ومكاسب شركات السينما التي صوَّرَت نحو خمسين قطعةً صغيرةً ألقى فيها بعض المونولوجات. وكان «بنشلي» دائمًا يلعب دَور «العصبي الشديد» في كتاباته الشعبية الشائعة، وفي الأدوار التي مثَّلها على الشاشة، والشخصية التي يَرسُمها تَلقي العقبات عند قيام صاحبها بأعمال بريئة يودُّ أن يؤديها، كأن يترك حفلًا عندما يريد، وأن يُدخن سيجارة، وأن يلبس رداءً أبيض، وأن يلتقط زهرًا، إلى غير ذلك. وقد أمدَّت خيبة الرجاء هذه الشخصية بأنواعٍ مختلفةٍ من الشذوذ والعقد تبيَّنَت في عمل صاحبها. ولا يعجب القارئ أن يجد هذه الشخصية المزعومة تستنكِر أعراض الجنون في حين أنها تتصِف بها جميعًا.
ويقول «ابن بنشلي»: «إن في بعض هذا الكلام مُبالغة، ولكنها مُبالغة لا تبلُغ ما يظن الناس.» كان «بنشلي» كاتبًا ذاتيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ، وأكثر ما كتب يتأثر بأحاسيسه نحو نفسه، وهذا الكاتب الحديث إذن يُبالِغ، كما كان يفعل الكُتَّاب القدامى، ولكن بينما كان هؤلاء يُبالِغون في الصعاب التي يتحتَّم عليهم التغلُّب عليها وفي قُدرتهم على مواجهة هذه الصعاب، كان «بنشلي» يُبالِغ في تفاهة مشكلاته وفي عجزه عن علاقاتها، وكانت مشكلات المؤلف تُشبه مشكلات شخصيته الكوميدية التي رسمَها، وقد رسم «بريانت الثالث» صورة جانبية لهذا الكاتب الفَكِه، ووضع للصورة عنوانًا فرعيًّا قال فيه «دراسة في الفشل المهني»، ويذكر أن فكرة «بنشلي» عن نفسه هي فكرة رجل تذِلُّه وتهزمه التوافِه دائمًا: «… إنه لا يرى نفسه أستاذًا للكوميديا الممتازة، وإنما ضحية للتراجيديا المنحطَّة. وإذا كان «الملك لير» قد فقد عرشًا فقد فقد «بنشلي» وظيفته، وإذا كان قلب «روميو» قد تحطم، فإن رباط حذاء «بنشلي» قد انحل، وإذا كان هؤلاء قد انعدموا فقد انعدم هو كذلك، وليس لأسباب مذلَّتِه نهاية.» إن فكاهة «بنشلي» تستخدِم دائمًا أسباب المذلَّة هذه، وفشل الشخصية المزعومة، في مُعالجة توافِه المشكلات، وهو يتحدَّث عن العمل في «مجال الجنون». ويلاحظ «بريانت»: «أن كل صفحةٍ من صفحات كتُبه تزخَر بسقطاتٍ تدعو إلى الحيرة، وتؤدي إلى الجنون. إن الجنون يتغلغل في مجال فكاهته إلى درجةٍ تجعل من الضروري إعادة القراءة لإدراك ما تنطوي عليه الفكاهة من ظواهر أخرى.»
ولم يكن من غير المألوف في الفكاهة السابقة أن تجد انحرافات أخفَّ من هذه، مؤقتة، أو حتى عنيفة ودائمة. وكم من أديبٍ فكاهي دفع الجمهور إلى الضحك من «بلاهتهم الملهمة». ولكن الفارق بين الشخصية المزعومة وشخصية مُبدعها كان مفارقةً هامة. وقد تلاعب «رسل لول» بالفوارق بين نفسه — وهو رجل عاقل منطقي سليم في نظراته — وبين «بيرد» و«فريدم ساوين» — وهو على جنون خفيف، غير منطقي، سقيم في نظراته. وقد أدى هذا التباين إلى السخرية، وأدَّت السخرية إلى الفكاهة. وكما ابتعد «كلمنز» عن «باب فن» صاحب الرأي الخاطئ عندما كان «باب» يمتدح التفرقة العنصرية، مُخالفًا في ذلك رأي «كلمنز»، نجد أن كثيرًا من الكوميديين الأدباء يجعلون الإشارة بالضمير «أنا» في كتاباتهم على خلافٍ واضح كوميدي ساخِر مع خالِق هذا الضمير.
كان الاتجاه الجديد لا يؤكد الفوارق، وإنما يؤكد المشابهات، ﻓ «بنشلي» يُبالغ فيما يعتقد أنه صفاته الخاصة. والمتوقَّع من ذلك أن القارئ بدلًا من أن يشعُر بالاستعلاء على الشخصية الكوميدية، يرى نفسه فيها ويعطف عليها. فيقول لنفسه «إن هذا الشخص يعاني ما أعاني من خيبة وعجز ومخاوف.» وهو يتَّصِل بالشخصية المزعومة عن طريق شعوره بالضيق من كل فردٍ يُلاقيه، ويجد عنده ثقة بذاته؛ من الخبراء الأكفاء، من الانتهازيين، من سيدات النوادي، من العلماء. كل أولئك السُّذَّج الذين يتكيَّفون مع البيئة (وربما كانوا مخدوعين في أنفسهم). و«الأب» عند «كلارنس داي» شخصية تنتمي قطعًا إلى صفِّ الخصوم، وينحاز «بنشلي» مع «الأم».
أما «جيمس ثربر» فقد اشتغل في عدة صحف قبل أن يلتحق ﺑ «النيويوركر» في عام ١٩٢٧م، ويبقى بها حتى وفاته. وقد نشر عدة كتبٍ شعبية واقتحم شارع «برودواي» ودُور الصور المتحركة.
وبحْث «ثربر» في طبيعة الفكاهة يدلُّ لأول وهلةٍ على اتفاقه مع «بنشلي»:
«إن الأمور التي نضحك منها مُريعة أثناء وقوعها، ولكنها تدعو إلى الاستهزاء بعد انقضائها، ومن الناس من يضحك لأنه مرَّ بمثلِ هذا الموقف، واعتقد أن الفكاهة هي أفضل ما يقرب من المألوف، أو من ذلك المألوف الذي نحس فيه بالذلة والغم والأسى. الفكاهة ضرب من ضروب الفوضى العاطفية تُروَى في أناةٍ وهدوءٍ على سبيل الذكرى، إن ما نألفه ألفةً شديدةً ينطوي على الضحك، والناس قد يضحكون من شعورهم بالإشفاق على أنفسهم شعورًا رقيقًا، كما يضحكون من شعورهم بالاستعلاء.»
إن الإذلال، والفوضى العاطفية تُذكِّر بالمغامرات الطائشة التي يقوم بها صاحب الضمير «أنا» في مقطوعات «بنشلي». والتطابق الذي يحدث بين القارئ والشخصية التي تُعاني إنما هو تطابُق مُعين. ويضيف إلى ذلك «ثربر» أن الحوادث «تُروى في هدوءٍ وأناةٍ على سبيل الذكرى.» وهذه ملاحظة نافِذة تنطبق أيضًا على طريقة «بنشلي» في رواية خبراته العاطفية.
ومن الأمثلة الطيبة لذلك جانب من قصة «ثربر» لما حدث في «مدينة كولمبس» بولاية «أهايو» يوم تحطَّم السد، قال:
«إن الوسيلة الوحيدة الممكنة لفرارنا كانت هروبنا من المنزل، وهي خطوة كان الجد يُعارض فيها أشدَّ المعارضة، ملوِّحًا بسيفه العسكري القديم، وقد زمجر صائحًا «هيا أيها الأبناء!» وقد مرَّ في ذلك الحين المئات من الناس بجوار بيتنا مذعورين مولوِلين، منادِين «اتجهوا شرقًا! اتجهوا شرقًا» فاضطررنا إلى إخماد صوت الجد بضربه بلوحة الكواء، ولما كان هذا الرجل العجوز بحجمه الثقيل البطيء عائقًا لنا — وكان يربو في طوله على ستة أقدام ويزن ما يقرب من مائة وسبعين رطلًا — فقد سبَقَنا في نصف الميل الأول كل من كان بالمدينة فعلًا، ولولا أن الجد قد ثاب إلى رُشده عند مُلتقى طريق «بارسنز» بشارع المدينة، لأدركتنا من غير شكٍّ المياه المتدفِّقة وغمرتنا — لو كانت هناك بقية من مياه تتدفق.»
أي خراب هذا؟! ومع ذلك فإن المؤلف يُبدي في تدوينه للحوادث هدوءًا وسكونًا بالِغَين! وليس هناك ذكر لموقف الراوي. وبطريقة «همنجواي» التي يحكم بها الانفعال، نراه لا يكتب عما يثور من عواطف، وإنما يكتب عن الأحداث التي تبعث العواطف. ومن المفارقات الهامة ما نلمسه من حوادث جارفة من ناحية، والموضوعية في وصفها من ناحية أخرى.
ولما كانت هذه القطعة المختارة قد وردت فيما يزعم الكاتب — مداعبًا — أن يكون سيرةً لحياته، عنوانها «حياتي والأوقات العصيبة»، وتستنِد على الأقل إلى خبراته الشخصية، فإن ذلك يوحي بأن «ثربر» يميل مثل «بنشلي» إلى أن يُطابق بين نفسه وبين ضمير المتكلِّم الذي يحكي الرواية بشتى الطُّرق الرئيسية. ووصف المؤلف «للفكاهيين» يدل على أنهم يتأهَّلون لكتابة الفكاهة على طريقة «ثربر» بعيشهم كما تعيش شخصياتهم:
«إنهم يحيون حياة … توثب وفزع … وهم يبرعون في التغلغل في المشكلات الصغيرة: إنهم يقتحمون بيوتًا غير بيوتهم، ويجرعون طلاء الأثاث على أنه دواء للمعدة، وهم يسوقون سياراتهم في حدائق الزهر التي يملكها كبار الجيران، والتي نالوا عليها الجوائز …
«إن مثل هذا الكاتب يسير قلقًا أنى توجَّه، مُستعدًّا إلى الثورة والصياح إذا سقط إناء الفطير أو ارتفع إزار امرأة. وإشاراته هي انعكاسات مُضحكة لرجلٍ لم يتكيَّف مع البيئة، وراحته هي السكون المؤقت لرجلٍ أخذته الحيرة … وهو يُكثر الكلام في صغائر الأمور، ويُقلل من الكلام في عظائمها.»
هذا هو ما يميز «الكاتب الفَكِه»، وهو أيضًا ما يُميز الشخصيات الرئيسية ومغامراتها في مقطوعات «ثربر». ويصور «ثربر»، بوصفه فنانًا مصورًا، أمثال هذه الشخصيات: رجاله «خائبون هاربون، وهم يجاهدون أحيانًا جهادًا غامضًا في سبيل الخروج من مأزقٍ دون أن تراهم عَين (من حجرة، أو موقف، أو حالة عقلية). وفي أحيانٍ أخرى تراهم حيارى، وهم أقل شأنًا وأضعف نخوةً من أن يتحركوا.» وهم كشخصية «بنشلي» في حيرةٍ من أمرهم دفعهم إليها الناس والأجسام التي لا حياة فيها.
ويشهد «بنشلي» ﻟ «برلمان» بالقيادة في «ميدان الجنون». وكان «برلمان» نجمًا آخر من نجوم «نيويوركر»، وقد رسم رفيقه على صورة رفيقَي «بنشلي» و«ثربر»، وهو أيضًا قد أدركه الفشل وخيبة الأمل، وهو أيضًا عاجز في عالم معادٍ، غلبَه الترابُط الحر بين الأفكار أكثر مما غلبهما. يقول: «تسرَّب اللون من وجهي، إلى أذني، إلى المصعد، ثم خرج من قسم السيدات والآنسات إلى قسم أدوات المنزل.»
ولشخصيته المزعومة صفتان: إنها أولًا تحاول أن تختال وأن تتسلَّط، إنها شخصية رجل أقل من العادي في محضره، ولكنه يخدع نفسه فيحسب أنه كالكلب الأنيق. تسمعه في تواضُع يقول: «إنني أُمثل اليانكي أحسن تمثيلٍ، ذلك اليانكي الذي يُشبه «جاري كوبر»، ويُغني ﮐ «فرانك سيناترا» ويرقص مثل «فريد أستير»، وهو يصف نفسه ﺑ «هذا الرجل الذي تغلَّب بمجرد اتزانه وجاذبيته على كل ما يعوق الجمال الأثيري …» وبرغم أنه رجل محدود الذكاء إلا أنه يحاول أن يُوهِم السامع بعِلمه، وهو يحشر في صفحاته عبارات فرنسية وألمانية وإيطالية لها جرس ورنين، وكلمات أجنبية يصف بها الملابس والأطعمة الغريبة.
والصفة الثانية لشخصيته المزعومة هي أنها قد تأثَّرت أبلغَ الأثر بوسائل الإعلام الجماهيرية، فهي شخصية رجل يعتقِد في الإعلانات التي اخترعها الخداعون في شارع «ماديسون»، وهو يظنُّ أن العالم الخيالي الذي تصِفه مجلَّات القصص الجارية والسينما والتلفزيون حقيقة واقعة، والمتعة والروعة في أسلوبه هي أنه يضرب دائمًا في مجالات وسائل الإعلام الجماهيرية غير المعقولة. يقرأ الإعلان ويتبع إرشاداته بثقةٍ تامة، ويقرأ القصة أو يُشاهد فيلمًا مُتحركًا في السينما ثم يؤلِّف الخيالات التي تفوق في إغراقها واستحالتها ما اطلع عليه أو شاهده. وكثيرًا ما تكون هذه الخيالات مصاغةً في عبارات أو جُملٍ في قالب الكليشيه، فهو يزعم: «أن أصفى الجواهر يتلألأ على رقاب السيدات اللائي يطفئن بجمالهن بريق الجواهر، وإذا لم يحرس كلًّا منهن أدونيس حقيقي، فالحارس على الأقل من أصل إغريقي.» ثم يقول في مكان آخر: «لم تهتز عضلة واحدة في فكِّي الأسفل، عندما مرَّ موكبنا الصغير بمجموعة من رعاة البقر يستلقون خارج «صالون الفتاة الذهبية»، وقد سكتوا منذ زمانٍ طويلٍ عن ملاحظاتهم النافذة قبل أن أَصِمَهم بقولي «هؤلاء الخنازير».
والقارئ يرى في هذه الشخصية المزعومة — كما يرى عند قراءته ﻟ «بنشلي» و«ثربر» — رجلًا يُشبهه أشدَّ الشبه». إن تصوُّر «برلمان» للمستقبل الذي يريده الإنسان لنفسه هو — من بعض النواحي — أفزع من أيِّ شيءٍ آخر، وهو ترجمة هزلية لما صوره «هكسلي» في كتابه «العالم الطريف» أو «أورويل» في كتابه «١٩٨٤م».
ولم يكن هو الكاتب الوحيد في هذه المجموعة الذي ترتبط شخصياته الهزلية بشخصيات القصص الأكثر جدية. قد أشار «بيتر دي فريز» منذ سنوات إلى التشابُه العجيب بين الرجل الصغير الذي رسمه «ثربر» وشخصية «ألفرد بروفروك» التي صورها «ت. س. إليوت» — «فكلاهما يتَّصِف بنفس الشعور بالتورُّط، ونفس الانغماس في الجزئيات المرهقة، ونفس الشعور بحِطة النفس، ونفس الحرص، ونفس الخوف، أو أن شخصًا — بإيجاز — سيُفاجئه بسؤال.» ونستطيع أن نمدَّ في المقارنة حتى تشمل شخصيات كثيرة في القصص الحديثة فإن شخصية «سين أوفولين» تظهر كأنها شخصية نقيض البطل.
إنه يصوَّر دائمًا وهو يتحسس طريقه متحيرًا، غاضبًا، ساخرًا، خائب الرجاء، منعزلًا في محاولاته اليائسة لكي يفرض مُعتقداته الشخصية التي تسمو على أوضاع المجتمع. وسواء أكان ضعيفًا، شجاعًا، ذكيًّا، أم مرتبكًا، فهو دائمًا يسير وحدَه. وإلى ذلك يرجع السبب في أن الكُتَّاب — في العشرينيات الفاصلة — شرعوا عامِدِين، في حفر كهوفٍ خاصة، أو مآوي ضد الغارات الجوية لهم وحدَهم، ومن هناك بدءوا يؤلِّفون هزليات خاصة، أو رثاء، أو صورًا خيالية وأساطير، في سبيل ملء الفراغ المتخلف عن وفاة البطل الاجتماعي بالعصاة الذين لا ينتمون إلى المجتمع، والشواذ، وصغار المتنبِّئين، أو — في إيجاز — بالمنحرفين و«نقائض الأبطال».
وتتضح العلاقة بين فكاهة «ثربر» ونظرته الجادة إلى الإنسانية إذا عرفنا ما ذكره «ثربر» في أسلوبٍ غير فكاهي عن رأيه الخاص في الإنسان.
«لقد زعم الإنسان دائمًا لسبب عجيب أنه أرقى صورة من صور الحياة في الكون، وليس هناك بطبيعة الحال ما يستنِد إليه هذا الرأي. إن الإنسان ليس إلا أرقى صورة من صور الحياة فوق كوكبه، ويرتكز تفوُّقه على قاعدة هزيلة عارضة، ذلك أن لدَيه القدرة على الكلام المنطوق، ومن هذه القدرة — في بطء ومشقة — طوَّر قُدرته على التفكير المجرد، والتفكير المجرد في حدِّ ذاته لم ينفع «الإنسان» بمقدار ما نفعت الغريزة الحيوانات الأدنى، والإنسان بتخلِّيه عن الغريزة والتِماسه العقل تطلَّع إلى ما هو أعلى من تحقيق الأهداف الطبيعية. لقد تقدم في أفكاره وآرائه، وسار في حياته كالقرد بهذه الآراء. لقد نبذ الحياة التي أعدَّته لها الطبيعة، وبتحركه في مجال الفكر والخيال العجيب المعقَّد أمسى أقل المخلوقات تكيفًا فوق هذه الأرض، ومن ثم كان أشدَّهم حيرة. ولا مراء في أن الإنسان أبعد عن معرفة الحق من أي حيوانٍ آخر حتى أدنى الحشرات.»
وأودُّ أن أقول إن فكاهة «ثربر» ومُعاصريه تمثيل هزلي للإنسان في هذا الموقف العابس، أجل إنه عابس إذا فهِمنا الفكاهة فهمًا حرفيًّا، لأن دعابة هذا النقد الذاتي لا ينبغي أن تؤخَذ بحرفيتها، وقد كانت الفكاهة الأمريكية الوطنية دائمًا مُطهرًا من الهموم والاضطرابات النفسية — كفاح أُمَّةٍ ديمقراطية في سبيل البقاء، والمشقَّات التي لاقاها المهاجرون الأوائل، ومآسي الحرب، والانقلابات التي صاحبت الانتقال من مجتمعٍ زراعي ريفي إلى مجتمعٍ صناعي مدني — وعاونت الفكاهة في هذا صحافة حرة؛ وبهذا المعنى يكتب «داي» و«بنشلي» و«ثربر» و«برلمان» بأسلوبٍ جادٍّ قديم، وكذلك كانت مزاعمهم ومعتقداتهم مُتفِّقة مع معتقدات عصرهم، غير أن اختلاف طبيعة مزاعمهم والتطوُّر العظيم في معتقداتهم أدَّى بهم إلى أن يكتبوا الفكاهة في أسلوبٍ يختلف اختلافًا شديدًا عن أسلوب الماضي.