الجيل الحائر
في وقتٍ ما في أوائل العشرينيات من هذا القرن، قالت «جرترود ستين» — وهي تُوجِّه أحد منلوجاتها التي لا تنتهي إلى «إرنست همنجواي» من مَسكنِها برقم ٢٧ بشارع «دي فليروس» — إن «همنجواي» ومُعاصريه كلهم «جيل حائر». وهكذا أطلقت وصفًا على هذه الفئة من الكُتَّاب اللامِعين الذين ظهروا على المسرح الأمريكي في السنوات العشر التي تلت الحرب العالمية الأولى، والذين لا يزالون يُسيطرون على قصصنا، كما يدل على ذلك مجرد سرد أسمائهم. وتشتمل هذه الفئة على «همنجواي» نفسه، و«وليام فوكنر»، و«ف. سكوت فتزجرالد»، و«جون دوس باسوس»، وغيرهم.
و«الجيل الحائر» اسم مُضلِّل إلى حدٍّ ما لا يدل عليهم تمام الدلالة، كما هي الحال دائمًا — على الأرجح — في كل اسمٍ يُعبر عن حُكم عصرٍ على نفسه. وما تصفه هذه العبارة هو شعور هذا الجيل بأنه لا يستطيع أن يقبل شيئًا ما تقريبًا من التقليد الموروث، أو شيئًا من الأحكام الخلقية القديمة، أو الفروض السياسية السائدة بأمريكا في عهدهم. وقد شعروا بأن عليهم أن يبدءوا من جديدٍ في صياغة قاموس للسلوك الشخصي يستطيعون أن يعيشوا وفقًا له، وأن يُنشئوا صورةً جديدةً عن أغراض المجتمع الأمريكي يستطيعون تقديسها، يقول بطل قصة «همنجواي» «والشمس تشرق أيضًا»: «كل ما أريد أن أعرفه هو كيف أعيش (في هذه الدنيا)، وربما لو عرف المرء كيف يعيش فيها تعلم من ذلك مغزاها.»
بهذا المعنى إذن — أعني أن كل أرضٍ مطروقة عديمة الجدوى، ولا بد من الكشف عن أرضٍ جديدة لهم — كان هذا الجيل حائرًا.
ولم يكن هذا الجيل حائرًا بأية حالٍ من الأحوال بمعنى أنه أحسَّ اليأس في هذا الموقف الجديد. بل على العكس من ذلك كان هؤلاء الكُتَّاب مُشبَّعين بالحيوية والتفاؤل الذي يمثل الروح الأمريكية؛ بالرغم من أنه كان من التجديد في العشرينيات أن يتحدَّث المرء عن زوال ما يُحيط بالحياة من أوهام. ولم تكن سُخريتهم مما أسموه إقليمية الآداب الأمريكية والنفاق الشديد في الحياة العامة الأمريكية في عهدهم إلا سخرية الفرد الواثق من مثَلِه الأعلى. وربما لم ينجح «سنكلير لويس» في هجومه الساخر على «الشارع الرئيسي» إلا نجاحًا جزئيًّا، ولم يكن ذلك لأن «لويس» شكَّ في أن الإقليمية الذميمة «للشارع الرئيسي» يمكن التغلُّب عليها، وإنما حدَّ من نجاحِه عجزُه عن تصور مجتمعٍ ذي ثقافةٍ جديدةٍ يمكن أن يحلَّ محل «الشارع الرئيسي». إن ما يخلق رجال السياسة الخائنين، وزعماء العمَّال الأغبياء، ورجال الأعمال الأنانِيِّين الذين تزخَر بهم الولايات المتحدة كما تخيَّلها «دوس باسوس»؛ إن ما يخلق هؤلاء ليس اليأس، وإنما هو الأمل. إنهم مِن خلْقِ خيالٍ يشتعل رجاءً في إمكان تحقيق العظمة في الحياة الأمريكية.
ويكاد كل كُتَّاب «الجيل الحائر» أن يهاجموا عيوب الحياة التقليدية في عهدهم. ولم يتمكن القصص الأمريكي من أن يتصوَّر أن أمريكا قبل الحرب تتألف من قوم ليسوا أسوأ — إن لم يكونوا أفضل — منَّا، إلا في وقت متأخرٍ، في رواياتٍ كتلك التي كتبها «لويس أوكنكلس» أو في المؤلَّفات الحديثة ﻟ «جيمس جولد كوزنز» غير أن خير كُتَّاب الجيل الحائر قاموا بعملٍ أسمى من مهاجمة العالم الذي شبُّوا فيه؛ إنهم اجتهدوا أيضًا في الكشف عما سمَّاه «هنري جيمس» «المكان الطيب العظيم» الذي كانوا جميعًا على ثقةٍ من وجوده في زاويةٍ من زوايا الحس الأمريكي، وفي معرفة الطريقة التي يُسيِّرون بها حياتهم كي يعيشوا هناك عيشةً ناجحةً، فكانت كل الروايات الجيدة الأمريكية — بمعنى له أهميته — منذ الحرب العالمية الأولى — من «هذا الجانب من الفردوس» ﻟ «فتزجرالد في» عام ١٩٢٠م إلى «أسير العشق» ﻟ «كوزنز» في عام ١٩٥٧م — أشبه شيء بالرواية الإنجليزية «رحلة الحاج». وقد قال «فتزجرالد» عن بطل روايته الأولى «جاتسبي العظيم»: إن «جاتسبي» لدَيه حسٌّ مرهف لآمال الحياة، ومن العسير أن نجد تعبيرًا أفضل من هذا نصف به موقف الكُتَّاب في هذا الجيل، فإذا كانوا حيارى فهي حيرة المكتشِفين لا حيرة الضالِّين.
ونستطيع الآن أن نرى إلى أي حدٍّ كان للحرب العالمية الأولى أثر في هذا الازدهار للمواهب في العشرينيات، ربما كانت أمريكا إبان ذلك قوةً عالميةً لفترةٍ ما، ولكن الحرب هي التي أرغمت الأمريكان على أن يُدركوا أن بلادهم كانت جزءًا من الثقافة الغربية عليه تَبِعَته. والأثر المباشر — الأثر الذي عُرِف في كل مكان — لهذا الكشف هو أنه جعل أكثر الأمريكيين المتنبِهين ساخِطين على ضيق أفق الحضارة الأمريكية، إلى حدِّ أنهم آثروا العيش في أمكنةٍ أخرى. ومنذ عام ١٩١١م قام «هارولد ستيرنز» بأحد الأعمال الرمزية في هذه السنوات العشر من القرن العشرين، فبعدما ألف حوارًا أطلق عليه اسم «الحضارة في الولايات المتحدة» انتهى منه إلى أنها لا تعني إلا القليل. رحل إلى باريس وحذا حذوه عدد مُذهل من كُتَّاب العصر. غير أن دلالة العمل الذي قام به «هارولد ستيرن» لم تكن في بقائه طيلة السنوات العشر في «القبة» بباريس. إنما كانت في تأليفه «الحضارة في الولايات المتحدة»؛ فلقد كانت أوروبا لهؤلاء الكُتَّاب جميعًا وسيلةً لغاية، كانت شيئًا يستعينون به على الكشف عن الإمكانيات الكامنة فيهم كأمريكان.
وما دامت أمريكا — كما تخيَّلَت نفسها — حاجزًا إقليميًّا كان من العسير على أكثر الأمريكان الموهوبين أن يأخذوا الأمور مأخذًا جديًّا، فكان بضعة الكُتَّاب الكبار الأمريكان الذين ظهروا في القرن التاسع عشر جميعًا — مهما يكن أصحابهم — بعيدِين عن مجتمعِهم، سواء رحلوا فعلًا كما فعل «هنري جيمس»، أو رحلوا مجازًا كما فعل «هوثورن وملفيل». ولكن كتاب العشرينيات ذهبوا إلى أوروبا لكي يكتشفوا الوعي الأمريكي بالتجربة الجديدة.
وأهم ما يدل عليه هؤلاء الكُتَّاب إذن هو اعتقادهم — الذي وصل كلٌّ منهم إليه مُستقلًّا وشارك فيه الآخرين — أن من الممكن للأمريكي الذي يكتُب من الخبرة مباشرة أن يُخرج الروايات العُظمى، وعندما كان «سكوت فتزجرالد» طالبًا في «برنستن» في عام ١٩١٦م قال لزميله في طلب العلم «إدمند ولسن» «أريد أن أكون واحدًا من أكبر الكُتَّاب الذين عاشوا. ألستَ تريد ذلك؟» وإذا كانت هذه الأمنية فيها مُغالاة مُضحكة، إلا أنها تنطوي أيضًا على كثير من الجد، كما يدل على ذلك إلحاح هذا الدافع على «فتزجرالد» خلال حياته كلها. ومن الواضح أنه كان يعتقد أنَّ بإمكانه كأمريكي أن يكون كاتبًا عظيمًا. ولم يكد هذا الشعور أن يُوجَد في أمريكا قبل عهده بالرغم من — بل ربما كان بسبب — العقيدة المذهبية المنتشِرة بأن الديمقراطية الأمريكية كانت تجربةً اجتماعية جديدة كل الجدة وتجربة ناجحةً جدًّا في كثيرٍ من النواحي.
ثم ظهر فجأةً شباب يحسُّ إحساس «فتزجرالد» بإمكانيات التجربة الأمريكية في جميع أرجاء الولايات المتحدة في أوائل العشرينيات. وقد كان «فتزجرالد» نفسه فتًى أيرلنديًّا كاثوليكيًّا من الجيل الثاني نشأ في «سنت بول بمنسوتا»، وكان «جون دوس باسوس» ابنًا لمحامٍ ناجح في نيويورك، وكان أبوه مُهاجرًا برتغاليًّا. أما «إرنست همنجواي» فكان ابنًا لطبيبٍ من إحدى ضواحي شيكاغو التي تقطُنها الطبقة المتوسطة، وظهر «وليام فوكنر» في منطقة غابات تقع شمالي «المسسبي»، حيث عاشت أُسرته ما ينيف عن مائة عامٍ، ومهما تكن نشأتهم، فقد كانوا جميعًا يؤمِنون بأهمية التجربة الأمريكية، وأحسُّوا أنهم عندما نبذوا فكرة آبائهم الضيِّقة عن هذه التجربة، باتوا أحرارًا في قول الحق؛ الحق الخفي الخاص عن هذه التجربة.
فكان هدفهم الأساسي إذن أن يُحدِّدوا مَعالم الوعي بتجربةٍ أرهفت الحسَّ بآمال الحياة التي آمنوا أنها كانت ثمرةً خاصة للتجربة الأمريكية، وأرادوا أيضًا أن يتعلَّموا كيف يعيشون بإملاء هذا الوعي. ولأنهم كانوا يُدركون أن ما يحاولون تعريفه كان إحدى ثمار التجربة الأمريكية، سعَوا إلى تحقيقه في تفصيلات الحياة الأمريكية، وترتَّب على ذلك أن شاعت في رواياتهم — إلى حدٍّ لا يُطاق أحيانًا — تفصيلات الحياة الأمريكية. ومنذ أن فرض القرن السابع عشر على الثقافة الغربية ما يُسمَّى أحيانًا بالثنائية الديكارتية، تحتَّم على العالم الغربي أن يعيش مُوزَّعًا بين الفكر والطبيعة، بين حياة الوعي الباطنية، والحياة الخارجية للعالَم الطبيعي والاجتماعي. وكأن المجتمع الأمريكي كان مطبوعًا بنظريات القرن السابع عشر، فكان من نتائج ذلك أن بروز هذا التوزيع بين حياة الوعي الباطنية والحياة الخارجية للمجتمع كان بدرجة ملحوظة. ومن المشكلات المعقَّدة التي واجَهَها الروائيون الذين نحن بصدَدِهم وصْل الفجوة التي تفصل بين الشعور القوي بآمال الحياة الذي أحس به أبطالهم، ودوافع المجتمع الذي ظهر فيه هذا الشعور وكان لا بدَّ له أن يسعى إلى التحقيق.
ومن ثم فإن كِتاب «الولايات المتحدة» ﻟ «دوس باسوس» مثلًا يحتوي على تصوُّرات ثلاثة، ينفصل كل منها عن الآخر تمام الانفصال، ولكلٍّ منها طريقته الشكلية الخاصة في التعبير.
هناك أولًا «شريط الأنباء»، الشعارات المرقَّعة بحيث تخلق كلًّا مُتصلًا، العناوين الصحفية، ونتف من الأغاني الشعبية. وهي تمثل الوعي المتوسط العام في المجتمع، وهي نوع من الفلكلور الساذج.
وإليك نموذجًا يمثل فترة الحرب العالمية الأولى:
وإلى جانب «شريط الأنباء» هذا يضع «دوس باسوس» ما يُسمِّيه «عين العدسة» يُعبر فيه عن الإدراك الحسي المباشر للشعور الشخصي الباطني الغزير، شعور «دوس باسوس» من غير شكٍّ. وإليك نموذجًا يصِف اليقظة في الصباح.
ضوء النهار يخرج من السكون الوردي …
وخيوط النور النابضة الخافتة التي تتسلَّل إلى ظُلمتي الحلوة تزداد حمرةً، وتنفُذ إلى دمائي الحارة التي تثقل الجفون الناعسة، فيتراءى لي من الألوان، الأزرق والأصفر والقرنفلي.
وبين هذين الطرفين: الإحساس بالتجربة العامة غير الشخصي، والإحساس الخاص الفذ، نجد العنصر الثالث من عناصر الرواية؛ سرد الحوادث، وهو يعرضه في أسلوبٍ جافٍّ مُحايد، حتى إنه كثيرًا ما يكون إلى التقرير الاجتماعي أقرب منه إلى القصص الخيالي.
وبالرغم من أن الروائيين الآخرين في هذا العهد لم يُظهروا في مؤلَّفاتهم بوضوحٍ إحساساتهم الموزعة، كما فعل «دوس باسوس» عندما خصَّ كل لونٍ من ألوان الشعور بطريقةٍ مُعينةٍ من طرق التعبير، إلا أن هذا التوزيع في الإحساس لم يختفِ البتةَ من مؤلَّفاتهم. فهناك مثلًا فجوة بين الفقرات التي وردت في قصة «همنجواي» «لمن تُدَقُّ الأجراس» التي تُعبِّر عن إحساسه الخاص العميق بالتجربة، مثل وفاة «سوردو»، والفقرات التي تعرض تاريخ الحرب الأهلية الإسبانية. إن وفاة «جوردان»، عندما تبلغ الرواية ذروتها، صورة رائعة لإيمان «همنجواي» بأن أعلى مثلٍ من أمثلة الفضيلة الشخصية إن هو إلا «نعمة مكبوتة»، ولكنه شعور يكاد أن يكون منفصلًا تمام الانفصال عن تلك المشاعر التي ثارت في نفس «روبرت جوردان» بشأن القِيَم التي تتعرَّض للخطر في الحرب الإسبانية الأهلية.
ويكون «همنجواي» أكثر نجاحًا حينما يعزل شخصياته عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي شكَّلتها، ثم يُشير إلى هذه الظروف بتعليقه على الشخصيات كما يفعل في رواية «والشمس تشرق أيضًا». إن بطل هذه الرواية يعرف في الحقيقة الشيء الكثير عن صورة الدنيا بكشفِه رويدًا رويدًا «كيف نعيش فيها»، كما يعرف أي المواقِف يقف إذا أراد أن يحتفظ باحترام نفسه. والعبارات الأولى من الكتاب، بما تحويه من إشاراتٍ برَّاقة دقيقة عن صفة المجتمع الأمريكي، تُوضِّح طريقة «همنجواي» في هذا الكتاب:
«كان «روبرت كون» في وقتٍ ما بطل ملاكمة من الوزن المتوسِّط في برنستن، ولا تظنُّوا أنني أتأثر بهذا الوصف للبطل كثيرًا، ولكنه كان يعني الشيء الكثير لكون أنه لم يأبه فقط بالملاكمة. بل لقد كان يمقُتها، غير أنه تعلَّمَها في مشقةٍ وتَعلَّمها تعليمًا كاملًا، لكي يُعوض بها الشعور بالنقص والخجل الذي كان يحسُّه عندما يُعامله الناس كيهودي في برنستن.»
وفي هذه العبارات الثلاث إحساس نافِذ بالمواقف الاجتماعية الأمريكية، إحساس بالتمييز الطبقي المعقَّد في جامعات الشرق الكبرى، وإحساس بصحَّة نوع التجربة اليهودية في الأوساط العُليا في الحياة الأمريكية. وهناك أيضًا فَهم واضح لاهتمام الأمريكان بالرياضة، فإنه لا يُنكر في حذرٍ التأثر بصفة البطولة في الملاكمة لزميله في الكلية «كون» إلا أمريكي — كأن هذه الألقاب الرياضية لا تبلُغ في أهميتها إلا مبلغ تلك الألقاب الواردة في «ثبت الأشراف لبيرك» — وهو في الوقت عينه يُشير بالتهكُّم الظاهر عند المنكِر للبطولة إلى العبث الصبياني الذي يبدو في اهتمام الأمريكان بالرياضة البدنية.
ومما له دلالته أن «همنجواي» أشد ما يكون نجاحًا عندما يبدأ من الإحساس الخاص للبطل بالتجربة، ثم يسير خارجًا عنه إلى الأحكام الاجتماعية العامة. وليس من شكٍّ في أن هذه الطريقة تجعل من المستحيل عليه أن يُقدم رأيًا اجتماعيًّا منظمًا، كما يفعل «دوس باسوس» في «الولايات المتحدة»، ولكنها تعني أن الآراء الاجتماعية التي يُقدمها تتَّفِق مع الحقيقة الأساسية في الكتاب، وهي الإحساس الشخصي للبطل بالتجربة. وقد حاول «فتزجرالد» في رواية «جاتسبي العظيم» أن يمدَّ هذه الطريقة، وربما وصل إلى حدِّ المبالغة في هذا المد.
فهو منذ البداية يجعل بطلَه أبعد مثاليةً من بطل «همنجواي» فيما يتعلق بإمكانيات الحياة الشخصية، بل إنه يبلغ من المثالية حدًّا يجعله لا يُطيق التهكُّم بتاتًا. فإن «جاتسبي» يعيش — كما يقول راوي القصة — طبقًا لصورة أفلاطونية عن نفسه، وهو رجل التزم — دون تأهيل — بتصوُّره للحياة المثالية، وهو يموت عندما ينهار هذا التصوُّر. وهكذا ترى أن «فتزجرالد» رفع مثالية بطلِه الأمريكي إلى الحدِّ الأقصى، وبالَغ في الإحساس بآمال الحياة، ومن المُستحيل أن يعرض مثل هذا البطل عرضًا مباشرًا. إنه قد يبدو غير معقولٍ أو مجنونًا، كأبطال «همنجواي»، أو حتى ﮐ «همنجواي» ذاته الذي كان يتصوَّر نفسه أحيانًا أحد هؤلاء الأبطال. وقد حاول «فتزجرالد» أن يتغلَّب على هذه الصعوبة بعرض بطلِه عرضًا غير مباشرٍ، عن طريق راوية. وعلى الراويةِ أن يُقدِّم السخرية، وهو يُتقِن هذه الطريقة إتقانًا رائعًا، ولكنا لا بدَّ أن نعترف في النهاية أنه يُريدنا أن نقِف إلى جانب البطل تمامًا، وأن نعتقد أن الحياة لا تُطاق بغير مثالية «جاتسبي» المتطرفة. ولما تحطم حلم «جاتسبي» في النهاية، يقول لنا قائل: لا بدَّ أن نطلع إلى سماءٍ غير معروفة من خلال أوراق مُفزعة، ثم ارتعد عندما وجد أن الوردة شيءٌ قبيح، وكيف أن ضوء الشمس يخلو من الجمال وهو يسطع فوق رُقعةٍ من الأرض لا تكاد أن تلمس فيها خضرة. إنه عالم جديد، مادي ولكنه غير حقيقي …»
ثم إن «فتزجرالد» قد حاول أن يطابق بشكلٍ واضح بين مثالية «جاتسبي» الشخصية والمثالية الاجتماعية التي كانت مصدر المجتمع الأمريكي، والتي كانت لا تزال عنده الهدف الوحيد الذي يمكن احتماله، وهو يختم الكتاب بمنظر الراوية جالسًا على الشاطئ خلف بيت «جاتسبي» المهجور، مُتطلعًا إلى جزيرة «لنج ساوند» مُتأمِّلًا صورتها عندما وقعت أعين الملاحين الهولنديين عليها لأول مرةٍ قبل ذلك بثلاثمائة عامٍ.
يقول الراوي: «… لا شك في أن الإنسان قد أصابه الذهول في لحظة عابرة مسحورة إزاء هذه القارة، واسترسل في تأمُّل جمالي لم يُدرك مداه ولم يرغب فيه، وهو يواجه لآخِر مرةٍ في التاريخ شيئًا يتناسَب مع قُدرته على التعجب. وفي جلستي هذه أتدبر العالم القديم المجهول، فكرت فيما عند «جاتسبي» من عجب …»
هذه محاولة جريئة خلابة لوصل الفجوة التي تقع بين الإحساس الخاص بإمكانيات الحياة الأمريكية، والإحساس العام بماهيتها، ولكن الثمن جسيم، وبالرغم من كل ما في رواية «جاتسبي العظيم» من واقعية ظاهرية براقة، فهي قصة خيالية، تكاد أن تكون قصةً من قصص الجن لا يتحول فيها البطل وحدَه بل البشرية كلها إلى الابن الأصغر المهمل، إلى سندريلا مُذكر يحطِّم رقَّته الطبيعية عالم جامد لا يكترث به.
إن روايات «دوس باسوس» و«همنجواي» و«فتزجرالد» هي خير ما يُمثل العصر، إنها روايات تراجيدية، بمعنى أن أبطالها ينهزمون أمام مجتمع لم يُحقق — أو على الأقل لمَّا يحقق — صورة الكمال التي ترجع إلى القرن الثامن عشر المتفائل، وهي الصورة التي يلتزمون جميعًا بها، ولكن أحدًا من هؤلاء الأبطال لم يشكَّ قطُّ فيما أسماه «فتزجرالد» صورته الأفلاطونية عن نفسه، وصورته المثالية للحياة الشخصية، وهؤلاء الأبطال يؤثرون الموت على التهاون في هذه الصورة المثلى — كما فعل «جاتسبي» و«روبرت جوردان»، أو يؤثرون الزوال من هذه الدنيا — كما يفعل بطل قصة «فتزجرالد» «ما أرقَّ الليل!» الذي يختفي في هدوءٍ في مكانٍ ما في أعلى ولاية نيويورك، أو كما فعل بطل قصة «همنجواي» «وداعًا للسلاح» الذي خرج وترك المستشفى وقفل راجعًا إلى الفندق تحت وابل المطر كما جاء في العبارة الشهيرة التي اختتم بها الرواية، وبالرغم من فشل هؤلاء الأبطال جميعًا من الناحية العملية، إلا أنهم «لا ينهزمون» كما وصف «همنجواي» مرةً أحد أبطاله، ولكنهم أيضًا يعيشون في عزلةٍ تامةٍ، وقد تخلَّوا جميعًا عن المجتمع كما فعل بطل «وداعًا للسلاح» الذي عقد صلحًا منفصلًا، وذلك لكي يحتفظوا بكمال صورتهم عن أنفسهم.
وبالرغم من أن روايات «فوكنر» تهتمُّ كلها بما يُسميه «غير المقهور» إلا أن أبطاله لم يتخلَّوا عن مجتمعهم، إن «غير المقهور» عند «فوكنر» ليس فردًا يعيش طبقًا لما يمليه عليه حلمه الخاص عن نفسه، كما كان «غير المقهور» عند «همنجواي». إن «غير المقهور» عند «فوكنر» هو مجتمع بأسره، مجتمع أولئك الجنوبيين الذين انهزموا هزيمةً ماديةً في الحرب الأهلية الأمريكية منذ مائة عامٍ، إلا أنهم أبَوا أن يُسلِّموا معنويًّا، غير أن «فوكنر» يمثل هذا المجتمع بكلِّ المثالية الخيالية والإحساس بالعظمة الذي يُضفيه معاصروه على أبطالهم، وعندما يتعرَّض «فوكنر» للعلاقة بين مجتمعه الجنوبي الخيالي وبقية الولايات المتحدة، يتيسَّر لنا أن نرى وجه الشَّبَه بينه وبين مُعاصِريه. الجنوب في روايات «فوكنر» ينهزم دائمًا ولكن روحه لا تُقهر، شأنه في ذلك تمامًا شأن أبطال «همنجواي» و«فتزجرالد»، ولكنه عندما يتعرَّض للأفراد داخل المجتمع الجنوبي، يكون نوعًا آخر من الروائي، لأن هؤلاء الأبطال — وربما كان بخاصة «آيك ماك كاسلر» في قصة «اهبط يا موسى» — يُعالجون في حياتهم الخاصة معضلة مُجتمعهم، ويكادون حقًّا أن يُطلِقوا أسماءهم على مجتمعهم.
هؤلاء الروائيون إذن الذين نُسمِّيهم «الجيل الحائر» ربما تألَّفت منهم أول مجموعة مُتماسكة من الروائيين في تاريخ الأدب الأمريكي. ولم يكونوا مدرسة، لأن كل فردٍ منهم لم يؤثِّر في غيره مباشرةً إلا عرَضًا، وإن كانت علاقاتهم الشخصية وثيقةً بالنسبة إلى الكُتَّاب الأمريكان. وكان لكلٍّ منهم صوت يُميزه وموضوع خاص به، ولكنهم يشتركون في الاعتقاد في خصوبة التجربة الأمريكية للأدب المستجد في أمريكا، وهذه العقيدة المشتركة تُبهرنا خاصةً لأنهم وصلوا إليها تلقائيًّا وكلٌّ بمفرده. لقد كان الأمريكيون — بطبيعة الحال — يكتشفون الثقافة الأوروبية والغربية بطريقةٍ ما منذ «بنيامين فرانكلين» و«توماس جفرسن»، ولكن «الجيل الحائر» بتغرُّبه عن الوطن الذي عرف عنه، كان يثبت أن التجربة الأمريكية هي صورة تختلف كل الاختلاف عن تجربة الغرب عامةً. وقد لا تلمس التشابُهَ بينهما بتاتًا. إنها شيء يمكن أن يُقبَل بغير دفاعٍ أو بغير إحساسٍ ذاتيٍّ على أنه مادة لعملٍ عظيمٍ من أعمال الخيال، ولم تبلغ موهبة أحد من روائيي «الجيل الحائر» ما بلغته موهبة العمالقة العظماء الأفذاذ في القصص الأمريكي في القرن التاسع عشر، ولكنا إذا نظرنا إليهم جملةً واحدةً — كما يقتضي ذلك الدافع الذي سرى في جيلهم — وجَدْنا أنهم يؤلِّفون أطيب مجموعة من الروائيين أخرجتهم أمريكا.