الرواية في الجنوب
إن أكثر الروائيين الذين لم يُغادروا البلاد أقاموا في الجنوب، وهو إقليم يتسِم بمميزات خاصة أكثر مما يتميز أي جزءٍ آخر في الولايات المتحدة؛ ذلك أن حدود الخبرة والتقاليد التي أكسبته مَعالمه الخاصة في البلاد تفوق في أهميتها حدوده الجغرافية — خط «ميسون» و«دكسن» و«نهر المسيسبي». وهذه الخبرات علَّمَت الجنوب أفكارًا تختلف اختلافًا تامًّا عن بعض المعتقدات الأمريكية الشائعة. ومن هذه الاتجاهات الإحساس بالفشل، الذي يرجع إلى أنَّ أهل الجنوب هم الجماعة الأمريكية الوحيدة التي عرفت الهزيمة الحربية، والاحتلال العسكري، والفقر الذي لا يمكن فيما يظهر التغلُّب عليه، وكذلك الإحساس بالذنب الذي يرجع إلى أنهم جزءٌ من رمز الظلم القديم في أمريكا، والرق ثم فصل الزنوج، والإحساس بالخيبة الذي يرجع إلى العجز المطلَق في الوسائل الميسورة لمجابهة المشكلات التي تجب مواجهتها، سواء كانت مشكلات الفقر، أو التعصُّب العنصري، أو الاحتفاظ بماضٍ تاريخي غَني بتقاليده.
إذا كان ما يميز الأمريكي هو «المعرفة العملية» فإن الجنوب كان لا بد له من أن يستبدل بهذه الصفة صفة «الصناعة العملية». ومن لغو القول أن نذكُر أن كِلا هاتَين النظرتَين نتيجة لأوضاعٍ اتخذها الجنوب راضيًا، واحتفظ بها بتعصُّبٍ لا يلين. والحقيقة أن «الجنوب الأقصى» يمثل حالة عقلية مُعينة، وهي حالة ينتابها النقص، والذنب، ومأساة التجربة البشرية، بصورةٍ تختلف عن كل عقلٍ أمريكي آخر. ومن هذا اللون من ألوان التجربة صاغ الروائيون الجنوبيون في زماننا أدبًا جادًّا وحزينًا في أكثر الأحيان.
وفي السنوات التي تلَتِ الحرب الأهلية مباشرةً حاول الجنوبي أن يُنكر هذه الروح بطريقةٍ سهلةٍ — ولكنها عديمة الأثر في النهاية — هي طريقة التجاهُل. ووجه الكُتَّاب الجنوبيون ذوو الصبغة المحلية اهتمامَهم إلى الغريب، والشاذ، والقَصيِّ، ومَجَّد الماضي المبتكِرون المحافظون على «تقاليد الزراعة» وصوَّر كلٌّ منهم جنوبًا مركبًا لأغراض التصدير. ومن هذه الصور: عالم كأنه مصنوع من الورق المضغوط يُمثل الشعب العجيب المتقلِّب الأهواء الجذَّاب في كهوف الجبال والأحياء اللاتينية، في المستنقعات وفي المزارع.
ومن هذه الصور أيضًا عالم يعلوه ماضٍ مجيدٍ يموج بالزنوج السعداء الذين يعزفون على آلات الموسيقى، ويتجمَّعون حول مبنى فسيح يهجُره «آخر الفرسان» مُتسلِّلين من بين أعمدته المرتفعة البيضاء، وكلتا الصورتَين تميلان إلى تحويل تاريخ الجنوب المحزن في صميمه، والحرب الأهلية، إلى شيءٍ ناءٍ برَّاق.
وهكذا نرى أن هذا الإقليم الذي تشبَّع بالماضي، كما لم يتشبَّع أي إقليم آخَر في أمريكا، قد رسم هذا الماضي بصورةٍ عاطفيةٍ حتى أصبح مادة لخيالٍ فارغ، ونوعًا من الأرض الطاهرة الخيالية التي تموج بالأشخاص الخياليين. وقد تحقَّق هذا الخيال الأدبي اليوم في الرحلات المنظمة، والمدن التي أعيد تعميرها، والمهرجانات الخلوية التي تقام في الجنوب الذي يقصده السياح.
وفي هذا الوسط الذي يُثير العواطف كان الصوتان اللَّذان ارتفعا أولًا بشدَّة هما صوت «ألين جلاسجو» و«جيمس برانش كابل»، وكلاهما من «فرجينيا»، قام كل منهما — بطريقته الخاصة المختلفة — بتحديد النماذج التي حذا القَصص الجنوبي حذوَها في القرن العشرين، عندما بات هذا القصص جادًّا، وانتهى إلى أيدي مجموعةٍ من الكُتَّاب ذوي موهبةٍ ونبوغ مارسَتْه في هذا القرن. أما «مس جلاسجو» فقد أضفَتْ على الأساطير العاطفية — في الجزء الخاص بها — الواقعية والسخرية اللتَين كانتا من وسائلها الخاصة بها، ولم ترَ في تاريخ «فرجينيا» القريب إلَّا القليل مما يُعزِّي، ولم ترَ البتة شيئًا يدعو إلى التفاؤل. وصرَّحَت بأنها لا تذكر وقتًا «لم ترَ فيه نموذج المجتمع وسير الأمور عامةً زائفًا وخبيثًا»، وقالت إن المبدأ الذي بشَّرَت به في أفضل رواياتها «الأرض الجرداء» هو «أن المرء قد يتعلم العيش، بل وقد يتعلم كيف يعيش شهمًا، دون أن يجد في الحياة متعةً.»
وكان التاريخ عند «مس جلاسجو» خُرافة مُحزنة تروي نصيب الإنسان في عالمٍ معادٍ، الهزيمة فيه لا مفرَّ منها، ولكن «المأساة ليست في الهزيمة، إنما هي في الاستسلام.» وقد كرَّست جانبًا كبيرًا من حياتها العملية لسلسلة من الروايات تعرض في مجموعها صورًا شاملة ﻟ «فرجنيا» من الحرب الأهلية حتى الأربعينيات. وصورت في سخريةٍ وغضب التاريخ الاجتماعي لجيل من الأرستقراط انتهى عهده، وحالة ديمقراطية يمكن فيها للإحساس بالواجب — أو «عرق الحديد» على حدِّ تعبيرها المشهور — أن يُضفي الكرامة على الحياة التي جعلتها مُقتضيات المصير حياةً غير سعيدة، مُستخدِمةً في ذلك طريقة «هارلز» و«هنري جيمس» الواقعية. واستطاعت في أحسن هذه الروايات — «طحان الكنيسة القديمة» و«الأرض الجرداء» و«عرق الحديد» — أن تُصوِّر الإحساس المُحزن الكئيب الذي عرف به «توماس هاردي» — القصاص الذي أُعجِبَت به أيما إعجاب — وفي أربع رواياتٍ وُضِعت في مدينة «رتشمند» استخدَمَت طريقة السخرية من آداب السلوك لكي تُخضع الآراء السائدة في «فرجنيا» لتحليل الطريقة التهكُّمية. وبالرغم من أن الكاتبة لم تحقق الهدف الذي رسمته لنفسها من بعض الوجوه — مثل تماسُك الأسلوب وفن السرد — فإنها استطاعت أن ترى إقليمها في جوِّ تاريخه، وأن ترى التاريخ خرافةً مُحزنة، وحبست رؤياها في مجموعةٍ كبيرة من الكتُب وضعت خطَّتَها على أساسٍ من الطموح الشديد.
ولمَّا تعرَّضت مجموعة من شباب الكُتَّاب الموهوبين في العشرينيات والثلاثينيات لتصوير الدنيا عن طريقة صورة إقليمهم، كانت هذه المجموعة في الواقع تسير على الطريق التي أنارها «كابل» و«مس جلاسجو»، وإن تكن الشُّقة بين هؤلاء الكُتَّاب وبينهما قد تبعُد في بعض الأحيان، ولم يكن هؤلاء الكُتَّاب جنوبيين فحسْب، وإنما كانوا كذلك ثمرةً لنفس العوامل الاجتماعية والثقافية التي كانت تشكل مُؤلَّفات غيرهم من الكُتَّاب الأمريكان. ومن أوضح مميزات هذا العهد أنه كان عصر احتجاجٍ ضد بعض أوجه الحاضر الأمريكي الذي بدا للكثيرين خارقًا للمثل الأعلى الأمريكي، وقد تمخَّضت الحركة الواقعية عن حشد من النقَّاد الاجتماعِيِّين الذين احتجُّوا على عالمهم أشد احتجاج، وربما نشأ بعضهم — مثل «سنكلير لويس» — في المدن الصغيرة بالغرب الأوسط، وثار ثورةً عارمةً على «جرثومة القرية»، وربما نشأ بعضهم الآخر — مثل «جيمس فاريل» — فوق الأرصفة القذِرة بالمدن الأمريكية الكبرى، وهاجم فقر الروح الذي لمسوه هناك. وفي حركاتٍ أخرى غير الحركة الواقعية سارت الثورة ضد الحاضر والماضي شوطًا أبعد من ذلك، وبخاصة في تجربة «جرترود ستين» في استخدام اللغة، وفي تبني المهاجرين من أمريكا لأشكال اللغة الشائعة في أوروبا. وفي المجال السياسي، وبخاصة في أقسى سنوات الأزمة الاقتصادية، هاجم الكُتَّاب المتشيعون من أمثال «جون دوس باسوس» النظام الرأسمالي الذي نشئوا فيه، والذي ظهر لهم فجأةً أنه نظام لا يُسعف، وكان كل هؤلاء الكُتَّاب يقيسون الحاضر بالحلم الأمريكي فيجدونه ناقصًا، ويُشيرون لمواطنيهم إلى الأخطاء التي لمسوها بغير هوادة.
وقد استجاب الكاتب الجنوبي إلى مثل هذه المشاعر، وأعلن شباب الشعراء والنقَّاد الذين نشروا مجلة «الهارب» في «ناشفل» و«تنيسي» في الأعوام التي تقع بين ١٩٢٢م و١٩٢٥م أنهم يفرُّون من الكهان البراهمان في الجنوب القديم أسرع من فرارهم من أي شيء آخر. كما أعلن محرر المجلة الصغرى «المنافق» التي صدرت في «نيو أورليانز» أنه قد آن الأوان لإنهاء العاطفية المعسولة في أدب الجنوب. وقد صافحت كلتا المجلتَين عبر البحر «همنجواي» و«فتزجرالد»، كما صافحت «جرترور ستين» و«شروود أندرسن»، ولكن صيحة الثورة في الجنوب ضدَّ الحاضر الأمريكي كانت نداء للتمسُّك بالأرض والزراعة.
كان الكاتب من الغرب الأوسط مُخلصًا لتقاليده فنادى بالإصلاح الاجتماعي وطالب بحياةٍ فاضلةٍ للمُستقبل. أما ابن عمه في الجنوب فقد كان مُكبلًا بالماضي فتطلَّع إلى الخلف يلتمِس الخلاص، واتجه أبناء الغرب الأوسط شرقًا، ومن قرية «جرينتش» ومن «نيو هيفن» صبُّوا اللَّوم على الغرب الأوسط لتخلُّفه. أما أبناء الشرق فقد اتجهوا إلى باريس وروما، وهناك طهَّروا أشكالهم الفنية. أما أهل الجنوب فلبثوا بوجهٍ عامٍّ في موطنهم، وسعَوا إلى إصلاح القديم الموروث بدلًا من هدمه وتحطيمه.
سعى كُتَّاب الجنوب إلى أن يُعيدوا للعالَم الجديد نظرةً إلى الإنسان تمسَّك بها الجنوب منذ عهد «توماس جفرسن»، وهذه النظرة كانت ترى أن الإنسان يكون على أفضل حالاته في علاقته بالأرض، وبخاصة كما كانت تلك العلاقة تقوم في الجنوب قبل الحرب الأهلية. واستخدم الكُتَّاب الجنوبيون هذه الأسطورة — التي ترى في الماضي نظامًا طيِّعًا — سلاحًا للهجوم ضدَّ النظام السيئ في التصنيع الحديث.
وكانوا يميلون إلى أن يستمدُّوا من الماضي نمطًا، وأن يستخلصوا معنى من الحركات الكبرى في التاريخ، ويُحولوا نمط الحوادث إلى أسطورة، ويجمعوا بين معنى الكرامة التراجيدية وسخرية الكوميديا. وحاول بعضهم — من أمثال «ت. س. ستربلنج» و«هاملتون باسو» — أن يُنشئوا تاريخًا ضخمًا مُتصلًا عن التحوُّل الاجتماعي.
واتخذ آخرون — من أمثال «إيرسكين كولدول» في رواياته المبكرة — السخريةَ سلاحًا اجتماعيًّا، وهناك آخرون — من أمثال «كاترين آن بورتر» و«يودورا ولتي» — استخدموا أشكالًا فنية مختصرة بلغت حدًّا عظيمًا من الرقة وتكاد أن تكون شعرًا لكي يُسجلوا آراءهم فيما يمرُّ بهم من تجارب. ومن خِضَم الأعمال القصصية التي صدرت في الثلاثينيَّات، عندما بلغت نهضة الجنوب قِمَّتها، برزت أسماء «توماس ولف»، و«وليم فوكنر»، و«روبرت بن وارن»، وكان لها أبلغ الأثر في النفوس.
كان «توماس وولف» رجلًا شديد الحساسية، ذا شهرةٍ عارمة، تتملَّكه رغبةٌ جامحة في الإلمام بكل نشاطٍ بشري، وفي ممارسة كل لونٍ من ألوان الشعور، وفي التعبير عن طريق نفسه وعن طريق ما تركه العالم في هذه النفس من أثرٍ عن الحياة برمَّتِها، ولازمت هذه الرغبة في التعبير عن نفسه عقيدة مماثلة بأن النفس التي يستطيع أن يُعدد صفاتها لا تعبر عن «توماس ولف» وحدَه، وإنما تُعبر عن جنس من أجناس البشر، وأن العالم الذي يستطيع العلم به ويستطيع تحديده فوق القرطاس هو أمريكا. قال ذات مرةٍ: «لقد اكتشفتُ على الأقل أمريكا التي تخصُّني، وسوف أتعرض بالنقد للصورة التي كونتُها عن هذه الحياة، وهذا الأسلوب من أساليب العيش، وهذا العالم، وهذه القارة أمريكا، بكل ما أوتيت من فكرٍ، وكل ما عندي من قدرة، ولكن بإخلاص لا يحيد، ونزاهة في الغرض ونقاء في الغاية».
إن «الدافع الملحمي» الذي دفع «ولف» إلى تحديد الشخصية الأمريكية، ورسْم نموذج للخبرة الأمريكية، يجعله من بعض الوجوه شبيهًا ﺑ «والت هويتمان» مع فروقٍ واضحة بين الرجُلَين، فإذا كانت نفس «هويتمان» تُوجَد في خطٍّ لولبي من العمل يتَّجِه إلى أعلى إلى ما لا نهاية، أو كما يقول: «أنا قمَّة الأشياء التي تمَّ عملها، وأني مُحيط بالأشياء التي لها وجود.» فإن نفس «ولف» تقع في حبائل الزمان، وشعور «ولف» الذي يميزه ليس هو متعة الزمالة، وإنما هو ألم العزلة الكئيب. يقول: «إن الإنسان يبحث في كل مكانٍ عن اللغة الضائعة، وعن نهاية الطريق المفقودة في السماء.» وفي أثناء البحث عما أسماه «حجرًا وورقة من أوراق الشجر، وبابًا مجهولًا» يلعب الزمن والماضي دورًا غريبًا مُضلِّلًا، ويقومان بوظيفةٍ توجيهية مُتشعبة النواحي في حياة الإنسان، تمثيلها الصحيح أمسى عند «ولف» المشكلة العظمى القائمة في رواياته.
ونستطيع أن نقول إن الحاضر البسيط هو أول العناصر وأوضحها في الزمان عند «ولف»، وقد أطلق على هذا الحاضر البسيط «زمن الساعة»، وهذا الحاضر هو تتابُع دقَّات الساعة، وتتابُع الثواني، وتوالي الحوادث. أما العنصر الثاني فهو الزمن الماضي، أو ما يُسمِّيه «الآثار المتجمِّعة من خبرة الإنسان» التي تصنع الحاضر وتُحدِّد العمل في اللحظة الراهنة، وتشكل كل لحظةٍ من وجودنا، والتي تجعل — أحيانًا — عمل فردٍ تافهٍ لا يقوم على تفكيرٍ سابق، فردٍ عاش منذ مائتي عام، أكثر أهميةً بالنسبة لأعمالنا من المناظر والأصوات القريبة التي تُحيط بهذه الأعمال. أما العنصر الثالث فهو «الزمان الثابت»، زمن الأنهار، والجبال، والمحيطات، والأرض، نوع من عالَم الزمان الأبدي الذي لا يتغيَّر، زمان يُناقِضه زوال حياة الإنسان وقصر يومه قصرًا مرًّا. فالتاريخ إذن، والذاكرة التي يمكن بفعلها للتاريخ أن يكون حقيقيًّا عند الفرد، هذا التاريخ وهذه الذاكرة، لم يكونا عند «ولف» ثمارًا عارِضة من أثر الخبرة، كما ارتآهما كثير من الأمريكان وإنما كان من العناصر الأساسية في الحياة.
وفي سبيل عرض هذه الصورة اتجه «ولف» نحو كثيرٍ من النماذج الأدبية وبخاصة نحو «جيمس جويس»، و«دكنز»، و«دستوفسكي»، و«براوست»، و«سنكليرلويس» واستخدم الأساليب المعقَّدة التي مارَسُوها في مختلف فنونهم الأدبية، ولجأ إلى الرموز المادية، والمنولوجات الباطنية، وإلى موضوعات مُعينة، وعبارات مُعينة تتخلَّل العمل الفني من بدايته إلى نهايته، وإلى إثارة الاستجابات الحسِّية المتعدِّدة للعالَم المادي التي تعرض مباشرة للإنسان كما عرضت لأي كاتبٍ أمريكي. ولجأ أخيرًا إلى نوع من القصائد النثرية الحماسية يُعبر به عمَّا في نفسه تعبيرًا فصيحًا. ولعلَّه شكَّ في قيمة الرمز، وفي قيمة الموضوعات والعبارات التي تخلَّلت أعماله الفنية، وفي الإثارة الحسِّية، كوسائل تؤدي وحدَها الغرض منها.
إن «ولف» يُمثل بشكلٍ واضح كفاح الروائي في تسجيل خبراته الشخصية، وفي إيجاد معنًى شامل تنطوي عليه. وقد بين «ولف» في القصص القصيرة، وفي الروايات القصيرة مثل «صورة باسكوم هوك»، و«نسيج من التراب»، وكذلك في فصول أو أجزاء خاصة من رواياته الطويلة مثل «حفل جاكس» و«عندي ما أقوله لك» في رواية «لا تستطيع العودة إلى الوطن» أن لدَيه القُدرة على التحكُّم الفني والقُدرة على تحقيق الشخصيات والأفعال في مناظر خلابة. ولكن لم يستطع قطُّ أن يحلَّ لُغز الصيغة الفنية المطولة. وتتألَّف كتُبه الطويلة الأربعة: «اتجه نحو الوطن أيها الملاك»، و«الزمان والنهر» و«الصخرة والغشاء»، وكذلك «لا تستطيع العودة إلى الوطن»، من أجزاءٍ كان الكاتب فيها طموحًا، يُدلي فيها بإسهابٍ مُرسَل لا شكلَ له بسلسلة الأحداث التي تقصُّ خبرة الروائي في هذه الدنيا. إن لرواية «اتَّجِه نحو الوطن أيها الملاك» التي كان يتدرَّب فيها على كتابة القصة، شكلًا أملَتْهُ حكايتها لقصة النمو، وهي صورة قوية التأثير عن آلام الطفولة والشباب، وما فيهما من مسرَّات. ولكن مؤلَّفاته الأخيرة ينقُصُها ما هي في أمسِّ الحاجة إليه، حكاية مُتصلة تربط رموزها معًا، وتُكسبها واقعًا ومعنى موضوعيًّا.
هذه الحكاية المتَّصِلة، هي أوضح العناصر التي تبدو لأول وهلةٍ عند «وليام فوكنر»، فتاريخ الجنوب عنده — كما كان عند «أليس جلاسجو» — إطار أو قصة مُحزنة تروي مصير الإنسان.
وقد سجل «فوكنر» في عشرين جزءًا من القصص القصيرة والروايات القصيرة، والروايات الطويلة الكاملة، أحداث هذا التاريخ كما يرى وقعها على المقيمِين في مقاطعةٍ خيالية ﺑ «المسسبي»، أسماها «يوكنا باتاوفا». وتمثل هذه المقاطعة في تاريخها المعقد ومواطنيها المتنوعِين إحدى المبتكرات الخيالية الكبرى التي نبتت في العقل الأمريكي.
وللوقت في «دنيا فوكنر» — كما كان له عند «ولف» — كيان مُتماسِك. يعيش الماضي في الحاضر عند شخصياته عيشةً تبلُغ من البروز حدًّا يجعل الماضي في بعض الأحيان هو وحدَه الذي له وجود حقيقي، كما نرى في روايته «أبسلوم». فهناك «كونتين كومبسون»، الذي يحاول أن يفهم نفسَه ويفهم إقليمه، نراه يبحث عن حلٍّ للُغز الجنوب ولُغز النفس في الحوادث الماضية لحياة «توماس سوتين». إن الماضي والحاضر يعيشان جنبًا إلى جنب عيشة كاملة في هذه الرواية حتى إن الترتيب الذي تُروى به أجزاء الرواية يتحدَّى أي تتابُع معنوي عادي. ويحد «فوكنر» نفسه مُضطرًّا إلى أن يُقدِّم جدولًا زمنيًّا يُلحِقه بالرواية، حتى يستطيع القارئ أن يُرتِّب التتابُع الزمني في القصة. وكثيرًا ما يكشف «فوكنر» — كما يفعل ولف» — عن خبايا النفس، وبخاصةٍ في رواية «الصوت والغضب» وفي رواية «حيث استلقيتُ ميتًا»، وكلاهما يستخدم طريقة المناجاة، ولكن النفوس المستوحِشة لِشخصياته الروائية لا تجد حلًّا مُرضيًا. لكي نعثر على هذه الحلول يتحتم علينا أن نرى الشخصيات في وسطٍ أكبر، هو وسط تاريخ البلد الخيالي الذي تَصوَّره «فوكنر». ومن أجل هذا نجد أن كتابات «فوكنر» لم تظفر فورًا بالالتفات أو الإدراك الذي هي أهل له، لأن الوسط الأعم ينبغي إدراكُه قبل فَهم الأجزاء، أما عند «فوكنر» فإن الأجزاء تأتي أولًا.
إن هذا الوسط التاريخي مُعقَّد غاية التعقيد، وتبسيطه في عباراتٍ موجزة معناه تشويهه إلى حدٍّ كبيرٍ. ومع ذلك فهذا التاريخ يُشبِه أن يكون كما يلي:
عرف الجنوب مرة نظامًا وتقليدًا يقومان على الكرامة والنزاهة الشخصية، ولكنه أذنب في استغلال إخوانٍ في البشرية، هم الهنود والزنوج، وبسبب هذا الذنب الكبير جاءت الحرب الأهلية كالسيف القاطع، وأنهت نعيم الماضي المذنِب برغم نُبله. وبعد الحرب عرَّض نُبلاء الرجال أنفسهم — لأسبابٍ لا تمتُّ إلى النُّبل بصلةٍ — للنفاق الخُلقي والكفاية الآلية التي نجدها عند العالَم الجديد الذي لا عقل له، فهوَتِ البلاد في ظُلمة الفساد الخُلقي، فإن أرادت أن تتطهَّر مرةً أخرى، فسبيلُها هو يقظة الإيمان بالأخلاق عند الشباب، وقوة زنوجها السائدة. وإعادة تشكيل التاريخ على عقل هذه الصورة وتحويله إلى أسطورةٍ يؤدي عند «فوكنر» وظيفةَ الموجِّه لأشخاصِ الرواية الذين تسير أعمالهم الفردية أحيانًا في اتجاهٍ مُضاد للنمَط العام، وهذا الاتجاه شديد الشَّبَه جدًّا بالنظرة العالمية في التاريخ، وهي نظرة تبحث بقوةٍ وحماسةٍ عن معانٍ تتجاوز الوقائع والتفصيلات وتُفَسِّرها.
غير أن «فوكنر» لم يقنع بهذا الإطار العريض الذي يحوط الحوادث، فلجأ إلى حِيَلِ أخرى مُتنوعة لكي يُكْسِب الأجزاء الصغيرة في العمل العظيم قيمةً ومَغزًى. ومن هذه الحِيل التي كثيرًا ما أصرَّ عليها، إعادة رواية قصة المسيح بصورٍ مختلفةٍ، فهي قصة الإثم، والتضحية في سبيل الآخرين، والرغبة في التكفير. وفي بعض القصص الباكرة التي كتبَهَا في بداية تاريخه العملي، وجُمِعت تحت عنوان «صور من نيو أورليانز» استخدم «فوكنر» قصة المسيح وسيلةً لبث المعنى في الأعمال التي تسردها رواياته، فأصداء قصة المسيح تظهر في رواية «الصوت والغضب» في أعمال «كونتين كومبسون»، وفي رواية «الضوء في أغسطس» يعتقِد بطل الرواية «جو كرسماس» أن في عروقه دمًا زنجيًّا، وهو رمز للإثم، عليه أن يُكفِّر عنه. ويدعم «فوكنر» هذا الاقتراح بسلسلةٍ طويلةٍ من المتشابهات بين أعمال «جو» والأعمال التي تمَّت في «أسبوع الحماسة». وفي رواية «قصة خرافية» يسير «فوكنر» الشوط كله في استعارةٍ واحدةٍ، ويَستخدِم قصة المسيح إطارًا لقصة خيالية لمحاولةٍ حديثة لإقرار السلام على الأرض.
ويستخدِم «فوكنر» أيضًا الصور الخيالية والرموز التي يستمدُّها من مختلف المصادر — وبخاصة من «فرويد» — يُعزِّز بها مَعانيه ويُغنيها إلى حدِّ أنه جعل في رواية «الصوت والغضب» — كما قيل — الشخصيات الذكور الرئيسية الثلاث مجسِّدات للدوافع الغريزية عند الإنسان، وللذَّات، والذات العُليا. وهو أيضًا لا ينصرف عن البيان يتَّخذِه وسيلةً لبحث معناه، شأنه في ذلك شأن «ولف»، بل إن سيطرة «فوكنر» على اللفظ هي في الواقع إحدى مميزاته الهامة. وفي السنوات الأخيرة نجد أن «فوكنر» يَستخدِم هذه السيطرة باطِّراد في عرضٍ ما يرمي إليه من معانٍ، وربما كان ذلك راجعًا إلى أن قُدرته على الابتكار أخذت في التناقُص، لأن الكاتب في الجنوب لا يعدِم الثقة في البيان كغيرِه من الكُتَّاب الأمريكان.
ويتَّفق «فوكنر» أيضًا مع «ولف» في صفة العمق، كل شيءٍ في دنيا «ولف» واسع شامل، وكل عاطفة عالمية، وكل عمل ضخم. وهذا العمق نفسه نلمسه في عالم «فوكنر»؛ فالأشخاص الذين يُمثلون دورهم فيما يُلاقون من عذاب في شوارع مقاطعة يوكنا باتاوفا وطرقاتها من خلْق خيالٍ غير واقعي، إنهم يظهرون في القصة بصورة أضخم من الصورة الحية؛ مشاعرهم غزيرة وحركاتهم قوية، وتهبُّ عليهم ريح عاصفة من الماضي. ولأعمالهم — حتى البسيط المتواضِع منها — دلالة عالمية. تسطع عليهم أضواء كالِحة، ويُلقون ظلالًا طويلةً. وبالرغم من أنهم قوم سُذَّج دُنْيَويون طبيعيون، إلا أنهم ينقلبون آلهة أو أنصاف آلهة عندما تتملَّكهم آلهة الغضب — كما تفعل الآلهة دائمًا في مقاطعة يوكتا باتاوفا — وهم شديدو الشَّبه بالمخلوقات المتجهمة المسرفة عند «وبستر»، و«فورد»، و«مارستن»، لأنهم ينتمون إلى المأساة المظلمة في العهد اليعقوبي الإنجليزي. وكثيرًا ما تُخفِّف الفكاهة الساذجة، والحديث الكوميدي، ورجحان الصِّدق المبسط، من وقع هؤلاء الأشخاص وأعمالهم، إلا أن ذلك ينبغي ألا يُعمينا عن طبيعتهم الأساسية غير الأرضية. إنهم يعيشون كأشباحٍ في حلم التاريخ العالمي، وهو حلم يُصور مجد الإنسان ومأساته.
إن البطل الذي يدفعه الغضب، والذي يبحث عن الروح، كثيرًا ما كان يتَّصِف بالكلام الأجوف وهو يحاول أن يبث معناه، أما عند «فوكنر» فإن هذا البحث الذي يدفع إليه الغضب يكتسب — بالرمز وبالكناية — وجودًا موضوعيًّا دراميًّا. إن كلًّا من الكاتبَين لا يبحث عن تصوير الدنيا، وإنما يسعى إلى الكشف عن الحقيقة الكونية والإعراب عنها.
وهذه الاتجاهات والاهتمامات في روايات «روبرت بن وارن» يستخدمها كاتب ذو موهبةٍ عظمى، وثقافة كبرى، وعقل نافذ. وأهمُّ صفة بارزة في كتابات «وارن» اهتمامه الجدِّي بالآراء الدينية والفلسفية. إنه يحاول أن يكتب رواية الرأي التي يُمسرح فيها النظرة إلى الإنسان التي يتميز بها أهل الجنوب، عن طريق الحركة في الرواية التي تمتلئ بالأشجان والتي يقوم بها أشخاص من الجنوب.
إن مشكلات الإنسان عند «وارن»، صِنوٌ لمشكلات إثبات الشخصية والتكفير عن الذنب؛ فالإنسان في سبيل السعي نحو إثبات شخصيته يسير — كما يعتقد — من اللازمن إلى الزمن، ومن البراءة إلى الإثم لأن الإثم خصيصة من خصائص إثبات الشخصية لا محيص عنها. و«وارن» لا يفتأ يكرر قصة هذا الإثم وذلك السعي في الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، في قالب الماضي التاريخي في أكثر الأحيان، أو مُرتبطًا بأشخاص شعبية أسطورية.
إن روايات «وارن» هي من الأعمال الفنية التي تنطوي على مهارةٍ بارعةٍ، وهو في هذه الروايات يتخلَّى عن المقتضيات العارية لهذا اللون الظاهر من ألوان القصص؛ وذلك لكي يُحقق معنًى من المعاني عن طريق تناول الأفعال واستخدام لغة فيها فطنة ومعرفة وميتافيزيقا، استخدامًا خاصًّا يستطيع أن يُعبر بها عن المعنى بكلِّ ما فيه من تعقيد وغموض. فنرى «جاك بيردن» راوية قصة «جميع رجال الملك» صاحب الأسلوب والتأمُّل والتفكير يتحول إلى شارحٍ أساسي للمشكلات العالمية التي يجدها «وارن» كامنةً في التاريخ الغامض لزعيمٍ شعبي سياسي، اسمه «ولي ستارك». والرواية في نهاية الأمر تتعلق باكتشاف «بيرون» لنفسه عن طريق «ولي ستارك»، ولا تتعلق ﺑ «ولي ستارك» نفسه كشخصية سياسية.
وفي رواية «كفاية من الدنيا والزمان» يتخلَّى «وارن» عن الميزات الشكلية للقصة الخيالية التاريخية لكي يكتب رواية يتنازل فيها عن صفة المباشرة الفورية لكي يتفكر في قضية قتل «بوشام شارب»، وهي مأساة وقعت في كنتاكي في مُستهل القرن التاسع عشر، شغلت من قبل «بو»، و«هوفمان»، و«سمز»، وغيرهم. وهو يترك مادة القصة مجردة في أساسها، وأشخاصها رمزية، ويبقى «جرميا بومنت» الذي يكتب جانبًا كبيرًا من الكتاب كتأمُّل فلسفي، رمزًا لبحث الإنسان عن معنى العدالة، والموت، ونهاية الإنسان. وفي «زمرة الملائكة» يكتب «وارن» شيئًا يُشبه قصة عبيد تاريخية أخرى، مشحونة بالأشجان، عن فتاة مزعومة بيضاء ظهر أنها من الزنوج وبيعت رقيقًا، والقصة — برغم ذلك — بما فيها من إسراف في الحركة وغزارة في العواطف، هي في الواقع كشف عن طبيعة الحرية. وفي «الكهف» وعن طريق استخدام أصوات الجماهير استخدامًا طيبًا، بحيث يأخذ كل صوتٍ مكانه اللائق في الرواية، يستخدم «وارن» الحوادث التي تدور حول رجلٍ حبيس في كهف ومحاولات إنقاذه لكي يكشف عما يقوم به عدد كبير من الناس من البحث عن ذاتياتهم، وهو بحث يمكن تعريفه بأنه السعي إلى البراءة الأولى عن طريق الفرار من الزمان إلى اللازمان؛ كل رجل يسعى إلى معرفة نفسه، معرفةً يقول عنها «وارن» في قصة «أخو الأفعوان»:
وقال مرةً: «إن قصة كل روح هي قصة تعريف النفس، بخيرها وشرها، خلاصها أو عذابها.»
ولم يرضَ «وارن» عن قصص «ولف» كما رضي عنها «فوكنر»، الذي يَعُد «ولف» أحد كبار الكُتَّاب الأمريكان. وفي تعليق لاذع عن عجز «ولف» عن أن يجعل تصوُّره للخبرة أمرًا موضوعيًّا، ذكَّر «وارن» «ولف» ذات مرة أن «شكسبير» اكتفى بكتابة «هاملت» ولم ير لزامًا عليه أن يكون «هاملت».
ومع ذلك فإن موضوع «ولف» الرئيسي — وهو بحث الروح عن الثبات، والسعي الذي لا ينتهي للكشف عن المشاركة، وعن المعنى، «البحث عن الأب» — هذا الموضوع وثيق الصِّلة بموضوع «وارن»، لأن شخصيات «وارن» تسعى في غموض عالَم من الظلال، وفي غموض اختلاط الخير بالشر، إلى أن تعرف طبيعة نفسها، وإلى أن تفهم أي لونٍ من ألوان معرفة النفس هذا. وقد رجع الروائيون الجنوبيون — عند مسرحة هذه النظرة الحزينة — إلى الإنسان الذي وقع في حبائل طبيعته وفي مصيدة الزمن؛ إلى صورة عن الخبرة الإنسانية تختلف أشد الاختلاف عن الصورة السائدة في أكثر أنحاء أمريكا، إلى صورة خيالية مثالية في أساسها.
إن الروائي الجنوبي يرى الإنسان شخصًا تراجيديًّا أكثر منه ضحية آلية، ويربط بين معناه وبين بناء ضخم من الحوادث والتاريخ. لقد خلق كل من «ولف» و«فوكنر» و«وارن» نوعًا من القصة الخيالية استمدَّه من مادة إقليمه وتاريخه، نوعًا يستطيع أن يعادل — بل هو يعادل فعلًا — نظرة الإنسان اليائسة التي اتخذَها المذهب الطبيعي والواقعية في زماننا. وهم حينما يعبرون عن ثورتهم ضد العالم الحديث يتطلَّعون وراءهم إلى تقاليد ونظام يلتمِسون لدَيه المعنى فيجدونه؛ ذلك أن للإنسان كرامة، وليس التاريخ إلا سجلًّا لهدفٍ من الأهداف. ومن هذه المواد خلق هؤلاء الروائيون عالمًا خياليًّا له قدره وله قيمته يتصف بالعمق والجمال.