ديكون
أشرقت الشمس لنحو أسبوع على الحديقة السرية، وهو الاسم الذي أطلقته ماري عليها حين تفكر فيها. أحبت هذا الاسم كثيرًا، وأحبت أكثر شعورها بألا أحد يعلم بمكانها مطلقًا حين تغلق عليها جدران سورها القديم. كانت كأنها تنعزل عن العالم وتذهب إلى مكان خيالي ينتمي إلى عالم الجنِّيَّات. فقد كانت الكتب القليلة التي قرأتها وأحبتها عبارة عن قصص عن الجنِّيَّات، وقد قرأت عن حدائق سرية في بعض منها. فأحيانًا يذهب الناس وينامون فيها مائة عام، وهو ما رأته ضربًا من الحمق بالتأكيد. فلم يكن لديها أي نية للنوم، والواقع أنها كانت تزداد نشاطًا ويقظة مع كل يوم يمر عليها في ميسلثويت. فقد بدأت تحب قضاء الوقت خارج المنزل، ولم تعد تكره الرياح، بل تستمتع بها. وصارت قادرة على الركض بخطًى أسرع ولمسافات أطول، وتمكَّنت من الوصول إلى مائة قفزة بالحبل. ولا بدَّ أن البصيلات في الحديقة السرية قد أصابها الذهول؛ فهذه المواضع النظيفة الرائعة التي أصبحت حولها أتاحت لها مساحة أكبر للتنفس كما تشاء، وليت الآنسة ماري تعرف أن هذه البصيلات بدأت بالفعل تَنتعش تحت الأرض الداكنة وتنشط على نحو هائل. فقد تمكَّنت الشمس من الوصول إليها وتدفئتها، وحين هطلت الأمطار، تمكنت من الوصول إليها على الفور، فبدأت تشعر بأن الحياة تدبُّ فيها بقوة.
كانت ماري شخصية غريبة وقوية العزيمة، والآن أصبح لديها شيء مثير للاهتمام يُوقد عزيمتها، وكانت غارقة فيه حتى أذنيها بالفعل. فقد داومت على العمل والحفر وإزالة الأعشاب الضارة، وكانت سعادتها تزداد بالعمل مع كل ساعة تمرُّ بدلًا من الضجر منه.
بدا لها الأمر كنوع شائق من اللعب. وعثرت على المزيد من النتوءات النامية الخضراء الباهتة تجاوزت أمانيها. لقد بدت كما لو كانت تظهر في كل مكان، وكانت تعثر بالتأكيد على نتوءات صغيرة جديدة كل يوم، وبعضها كان صغيرًا للغاية يكاد يظهر فوق سطح الأرض. كانت هذه البُصيلات كثيرة للغاية حتى إنها تذكرت ما قالته مارثا عن زهور اللبن الشتوية المنتشِرة بالآلاف، وعن أن البصيلات تنتشر وتُنتج أخرى جديدة. لقد تُركت هذه البصيلات دون اعتناء طوال عشر سنوات، وربما تكون قد انتشرت، مثل زهور اللبن الشتوية، بالآلاف. تساءلت عن الوقت الذي تستغرقه هذه البصيلات لتظهر أنها كانت أزهارًا. في بعض الأحيان كانت تتوقف عن الحفر وتنظر إلى الحديقة، محاولة تخيُّل شكلها حين كانت مغطاة بآلاف من الأشياء الجميلة المزهرة. وخلال ذلك الأسبوع المشمس، وطَّدت علاقتها ببِن ويذرستاف. فقد فاجأته عدة مرات بظهورها دون إنذار بجواره كما لو كانت قد خرجت من تحت الأرض. والحقيقة أنها كانت تخشى أن يجمع أدواته وينصرف إن رآها قادمة؛ ولهذا كانت تسير دومًا نحوه بأقصى هدوء ممكن. لكنه في الواقع لم يعد معترضًا على وجودها بالقدر نفسه كما كان في البداية. لعله كان في قرارة نفسه يشعر بالإطراء من رغبتها الواضحة في صحبتِه على كِبَر سنه. ثم إنها قد أصبحت أيضًا أكثر تحضُّرًا مما كانت عليه. فلم يكن يعلم أنها حين رأته لأول مرة، تحدثت إليه كما لو أنها تتحدث لأحد السكان المحليين، ولم تكن تعلم أن عجوزًا نزقًا عبوسًا من يوركشاير لم يكن معتادًا على الانحناء عند تحية سادته، وأنه مجرد يُؤتمَر ويُلبِّي أوامرهم فحسب.
قال لها ذات صباح حين رفع رأسه ورآها واقفة بجواره: «أنتِ مثل أبي الحنَّاء؛ لا أعرف أبدًا متى أراه أو من أي مكان سيأتي.»
قالت ماري: «إنه صديقي الآن.»
قال بِن ويذرستاف سريعًا: «هذا طبعه؛ فهو يحبُّ التعرُّف على النساء لمجرد التباهي والزهو. إنه لا يتوانى عن فعل شيء من أجل الاستعراض والتباهي بجمال ريش ذيله. فالغرور يملؤه مثلما يمتلئ البيض بالمُح.»
كان نادرًا جدًّا ما يكثر من الحديث، وأحيانًا لم يكن يجيب عن أسئلة ماري سوى بزمجرة غاضبة، لكنه في هذا الصباح تحدَّث إليها أكثر من عادته. فقد وقف واضعًا إحدى قدميه التي انتعل فيها حذاءً طويلًا ذي نعل مثبَّت بمسامير على طرف مجرفته، ونظر إليها.
سألها في اندفاع وغضب: «منذ متى وأنتِ هنا؟»
أجابته: «منذ شهر تقريبًا.»
فقال لها: «لقد بدأتِ تستفيدين من إقامتك في ميسلثويت. فقد زاد وزنك قليلًا عمَّا كنتِ عليه، ولم يعدْ لونك أصفر كما كان. فقد كنتِ أشبه بغراب صغير منتوف الريش حين دخلتِ إلى هذه الحديقة لأول مرة؛ وحدَّثت نفسي حينها بأنني لم أرَ قط طفلة صغيرة لها وجه أقبح أو أكثر عبوسًا منكِ.»
لم تكن ماري مُختالة بشكلها، وبما أنها لم تكن يومًا مُعتدَّة بشكلها، فلم تنزعج كثيرًا من حديثه.
قالت له: «أعلم أن وزني قد زاد؛ فقد ضاقت عليَّ جواربي، بعد أن كانت تنزلق من على ساقي وتتغضَّن. ها هو أبي الحنَّاء يا بِن ويذرستاف.»
وبالفعل جاء أبو الحنَّاء، ورأت أنه بدا أجمل من أي وقت. فكان صدره الأحمر لامعًا مثل الحرير، وكان يُرفرف بجناحيه ويهز ذيله ويَميل برأسه ويقفز في كل مكان برشاقة ممتزجة بالحيوية. بدا عازمًا على الظفر بإعجاب بِن ويذرستاف، لكن بِن كان يتهكَّم عليه.
قال: «ها أنت ذا قد أتيت! أحيانًا تستطيع أن تتحمَّلني بعض الوقت حين لا تجد أحدًا أفضل مني. لقد ازداد صدرك حمرة وأصبح ريشُك أكثر لمعانًا في الأسبوعين الماضيين. أعلم السبب في هذا؛ إنك تتودَّد إلى شابة صغيرة جريئة في مكان ما وتُخبرها أكاذيب حول كونك أجمل ذكر في فصيلتك في مستنقع ميسل بأكمله، ولديك استعداد لقتال الجميع من أجلها.»
صاحت ماري في دهشة: «ياه! انظر إليه!»
بدا واضحًا أن أبا الحنَّاء كان في مزاج رائع تَغلب عليه الجرأة؛ فقد أخذ يقفز أقرب فأقرب، وأطال النظر إلى بِن ويذرستاف بتركيز شديد، ثم طار إلى أقرب شجيرة مشمش وأمال رأسه وبدأ يغني له أغنية صغيرة.
قال بِن مُغضنًا وجهه بطريقة جعلت ماري تتيقَّن من أنه يحاول عدم إظهار سعادته: «أنت تعتقد أنك ستَكسب رضاي بهذه الطريقة، وتعتقد أن أحدًا لا يستطيع أن يقف أمامك … أنت تعتقد هذا.»
فرَدَ أبو الحنَّاء جناحيه، ولم تَستطِع ماري تصديق عينيها. فقد طار مباشرةً نحو مقبض مجرفة بن ويذرستاف وحطَّ على طرفها، حينئذٍ تغضَّن وجه العجوز ببطء مُتَّخذًا تعبيرًا جديدًا. فقد وقف ساكنًا كما لو كان يخشى أن يتنفَّس، وكأنه لن يتحرك مهما حدث، خشية أن يطير أبو الحنَّاء بعيدًا، وراح يتحدَّث في همس شديد.
قال بهدوء شديد تنافى مع ما قاله تمامًا: «حسنًا، تبًّا لي! فأنت تعرف كيف تُؤثِّر في المرء، حقًّا تعرف! يا له من أمر خارق للطبيعة؛ فأنت تعرف الكثير.»
ووقف دون حِراك، ودون حتى أن يتنفس، حتى رفرف أبو الحنَّاء مرةً أخرى بجناحيه وطار بعيدًا. بعدها وقف ينظر إلى مقبض المجرفة كما لو أنه قد يجد سحرًا عليه، ثم بدأ في الحفر مرةً أخرى ولم يَنطِق بكلمة لعدة دقائق.
ولكنه ظل يُلقي ابتسامة بطيئة من آن لآخر، ما جعل ماري لا تخشَ الحديث معه.
سألته: «هل لديك حديقة خاصة بك؟»
«لا؛ فأنا أعتني بالحدائق فقط وأعيش مع مارتن عند البوابة.»
قالت ماري: «لو كان لديكَ واحدة، ماذا كنت ستزرع فيها؟»
«ملفوف وبطاطس وبصل.»
واصلت ماري أسئلتها وقالت: «لكن لو أردت الحصول على حديقة زهور، ماذا كنت ستزرع؟»
«بصيلات لأشياء طيبة الرائحة، لكن ستكون في أغلبها بصيلات ورد.»
تهلَّل وجه ماري، وقالت: «هل تحب الورود؟»
اقتلع بِن ويذرستاف عشبًا ضارًّا وألقاه جانبًا قبل أن يُجيبها.
«أجل، أحبه. لقد تعلمت حبها على يد سيدة شابة كنت أعمل لديها بستانيًّا. فقد كان لديها الكثير منها في مكان كانت تحبه كثيرًا، وكانت تحبُّ هذه الورود مثل أطفالها، أو طيور أبي الحنَّاء. لقد رأيتها تنحني عليها وتقبلها.» واقتلع عُشبًا ضارًّا آخر ونظر إليه بغضب، ثم قال: «كان هذا منذ نحو عشر سنوات.»
سألته ماري وقد زاد اهتمامها كثيرًا: «أين هي الآن؟»
أجابها وهو يَضرب بمجرفته في عمق التربة: «في الجنة، على حد قول الكاهن.»
سألته ماري باهتمام أكبر من ذي قبل: «وماذا حدث للورد؟»
«تُرك وحيدًا تمامًا.»
اشتدَّ حماس ماري وغامرت بسؤاله: «هل ماتت بالفعل؟ هل يموت الورد حقًّا حين يُترك دون عناية؟»
اعترف لها بِن ويذرستاف متردِّدًا وقل: «حسنًا، لقد أحببتُ الورود وأحببتُ السيدة، وهي كانت تحب الورود كثيرًا. لذا أذهب مرة أو مرتين في السنة وأعتني بها قليلًا؛ فأُقلِّمها وأثبت الجذور. إنها تنمو بجموح، لكنها أيضًا مزروعة في تربة خصبة، لذلك ظل بعضها على قيد الحياة.»
سألته ماري: «وكيف يُمكن تحديد ما إذا كانت قد ماتت أم ما زالت على قيد الحياة حين لا يكون بها أوراق، وتبدو جافة وتتَّخذ اللون الرمادي والبني؟»
«انتظري حتى يهلَّ عليها الربيع؛ انتظري حتى تشرق الشمس بعد المطر ويَهطل المطر بعد الشمس، وستعرفين.»
صاحت ماري، وقد نسيَت حذرها: «كيف، كيف؟»
«انظري إلى الفروع والأغصان وإذا رأيتِ كُتلًا بُنية هنا وهناك، راقبيها بعد هطول المطر الدافئ، وانظري ماذا سيحدث.» ثم توقَّف فجأة ونظر إلى وجهها المتلهف بفضول وسألها: «لمَ كل هذا الاهتمام المفاجئ بالورد وهذه الأشياء؟»
شعرت الآنسة ماري بحُمرة تكسو وجهها، وخشيت أن تُجيب.
قالت متلعثمة: «أنا … أنا أريد أن ألعب … ألعب وكأنَّ لديَّ حديقة خاصة بي. فأنا … لا يوجد لديَّ ما أفعله، لا يوجد عندي أي شيء، ولا أي أحد.»
قال بِن ويذرستاف ببطء وهو يراقبها: «حسنًا، هذا صحيح. أنتِ ليس لديكِ أي شيء.»
قالها بطريقة غربية جعلت ماري تتساءل عما إذا كان يشعر بالفعل بقليل من الأسف لها. لم يحدث من قبل أن شعرت بالأسف لنفسها؛ لم تكن تشعر إلا بالملل والغضب، لأنها كانت تكره الناس والأشياء كثيرًا. أما الآن فيبدو أن العالم يتغيَّر، ويُصبح أكثر لطفًا. وإن لم يعرف أحد بشأن الحديقة السرية، ستستمر متعتها.
بقيت معه لعشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة أخرى وطرحت عليه العديد من الأسئلة قدر ما تجرَّأت، وأجاب عن كل سؤال من هذه الأسئلة بأسلوبه ونخره الغريب دون أن يبدُو عليه الغضب مطلقًا، ودون أن يلتقط مجرفته ويتركها ويرحل. وبينما كانت تهمُّ بالانصراف قال شيئًا عن الورد، ذكرها بالورد الذي قال إنه يعشقه.
فسألته: «هل تذهب لرؤية ذلك الورد حاليًّا؟»
«لم أذهب إليه هذه السنة؛ فقد أدى الروماتيزم إلى تيبُّس شديد بمفاصلي.»
قالها بصوته المتذمِّر، وفجأة بدا أنه غضب منها، ولكنها لم تستطع إدراك السبب في ذلك.
قال لها بحدَّة: «والآن اسمعي! عليكِ ألا تطرحي كل هذا الكم من الأسئلة. فأنتِ تُصبحين أسوأ فتاة قابلتها في حياتي حين تطرحين أسئلة. هيا اذهبي للعب؛ فقد أنهيت حديثي معكِ اليوم.»
قالها بغضب شديد جعلها تعلم أنه لا فائدة على الإطلاق من البقاء دقيقة واحدة أخرى. أخذت تقفز ببطء عبر الممشى الخارجي، وهي تفكر فيه وتُحدِّث نفسها، بأنه على الرغم من غرابة الأمر، فها هي لديها شخص آخر تحبُّه على الرغم من عبوسه. لقد أحبت بِن ويذرستاف؛ أجل، أحبته بالفعل. لطالما كانت تحاول دومًا أن تدفعه للتحدث إليها. كما بدأت ترى أنه يعرف كل شيء في العالم عن الأزهار.
كان ثمَّة ممشًى مُحاط بسياج من نبات إكليل الغار يُطوِّق الحديقة السرية وينتهي عند بوابة تؤدي إلى غابة في المتنزَّه. فكَّرت في التسلل حول هذا الممشى وتفحص هذه الغابة لترى إن كان بها أي أرانب تقفز فيها. كانت مُستمتعةً بالقفز بالحبل كثيرًا، وحين وصلت إلى البوابة الصغيرة فتحتْها ومرت عبرها؛ إذ سمعت حينها صوت صفير منخفضًا وغريبًا، وأرادت أن تعرف ماهية هذا الصوت.
كان هذا شيئًا غريبًا للغاية حقًّا؛ فقد حبست أنفاسها حين توقفت لتنظر إليه. فقد رأت فتًى يجلس تحت إحدى الأشجار، مُتَّكئًا عليها، ويعزف على مزمار خشبي بدائي. كان فتًى ذا مظهر مُضحِك في الثانية عشرة تقريبًا. بدا نظيفًا للغاية، وله أنف صغير ووجنتان حمراوان تمامًا كالجِراء، وعينان مُستديرتان زرقاوان لم ترَ الآنسة ماري مثلهما قط في وجه صبي من قبل. وعلى جذع الشجرة التي كان متَّكئًا عليها وقف سنجاب بُني اللون متشبِّثًا بالجذع ويراقب الفتى، ومن خلف إحدى الشجيرات القريبة وقف ديك بري يمد عنقه برفق ليختلس النظر إليه، وعلى مقربة كبيرة منه، كان ثمَّة أرنبان جالسان يتنشَّقان بأنفيهما المرتجفتين؛ وفي الواقع بدا الأمر كما لو أن الجميع كانوا يقتربون لمشاهدة الفتى وسماع الصوت المنخفض الغريب الذي بدا يصدر من مزماره.
حين رأى ماري رفع يده وتحدَّث إليها بصوت منخفض كالصوت مزماره.
قال لها: «لا تتحركي، فهذا سيجعلها تهرب»، فظلَّت ماري بلا حِراك. توقَّف عن العزف على مزماره وبدأ ينهض من على الأرض. تحرك ببطء شديد حتى إنه لم يبدُ أنه يتحرَّك على الإطلاق، لكنه وقف أخيرًا على قدميه، فعاد السنجاب مسرعًا إلى فروع الشجرة، وسحب الديك البري رأسه، ووقف الأرنبان على أطرافها الأربعة وبدآ في القفز مبتعدَين، وإن لم يبدُ عليهما الخوف مطلقًا.
قال الفتى: «أنا ديكون، وأعرف أنكِ الآنسة ماري.»
حينها أدركت ماري أنها، قد عرفت، بشكل أو بآخر، من البداية أنه ديكون. فمَن غيره بإمكانه ترويض الأرانب والديوك البرية هكذا مثلما يُروِّض السكان المحليون الثعابين في الهند؟ كان له فم عريض أحمر ومقوس، وملأت الابتسامة وجهه.
شرح لها ما حدث قائلًا: «لقد نهضتُ ببطء، لأن المرء إذا تحرك سريعًا فإن هذا يخيفها كثيرًا. فعليكِ أن تتحرَّكي برفق، وتتحدثين بصوت خفيض حين يكون حولك حيوانات برية.»
لم يكن يتحدث إليها كما لو أنهما لم يلتقيا من قبل، بل كما لو كان يعرفها حق المعرفة. لم تكن ماري تعرف أي شيء عن الأولاد، وتحدثت إليه ببعض الجدية؛ لشعورها ببعض الخجل.
سألته: «هل وصلك خطاب مارثا؟»
أومأ برأسه ذي الشعر المجعَّد الذي تلَّون بلون بني مائل إلى الأحمر كلون الصدأ: «هذا ما أتيت من أجله.»
انحنى ليلتقط شيئًا كان مُلقًى بجواره على الأرض وهو يعزف على المزمار.
«لقد أحضرتُ أدوات العناية بالحديقة. هذه مجرفة صغيرة ومِدمَّة، وشوكة صغيرة وفأس صغير. يا إلهي! إنها حقًّا أشياء جيدة. ويوجد أيضًا مقلاع لاقتلاع الحشائش. وقد أضافت بائعة المتجر عبوة صغيرة من بذور الخشخاش الأبيض وأخرى من بذور نبات العائق الأزرق حين اشتريتُ البذور الأخرى.»
قالت ماري: «أيمكنني رؤية البذور؟»
كانت تتمنى لو تحدثت مثله؛ فقد كان حديثه سريعًا وسلسًا للغاية. بدا الأمر كما لو كان يحبها ولم يكن يخشى على الإطلاق ألا تكون هي تحبه، على الرغم من كونه مجرد فتى مستنقع متواضِع، يرتدي ملابس مُرقَّعة وله وجه مضحك وشعر أشعث بلون الصدأ. حين اقتربت منه أكثر، لاحظت رائحة جميلة منعشة لنبات الخلنج والأعشاب وأوراق الأشجار تفوح منه، كما لو كان مخلوقًا منها. وأعجبها هذا كثيرًا، وحين نظرت إلى وجهه المضحك بوجنتَيه الحمراوين وعينيه الزرقاوين المستديرتين، نسيت خجلها.
قالت له: «لنجلس على جذع الشجرة هذا ونفحصها.»
جلسا وأخرج لفافة ورقية بُنية صغيرة غير مرتبة من جيب معطفه. فتح الخيط الذي يحوطها فظهر بداخلها لفافات أصغر حجمًا وأكثر ترتيبًا وعلى كل واحدة منها صورة زهرة من الأزهار.
قال لها: «يوجد كثير من بذور الخزامى والخشخاش. والخزامى هي أطيب النباتات رائحةً، وتنمو في أي مكان تضعينها فيه، تمامًا مثل الخشخاش. إنها تنمو وتزهر بمجرد أن تُصفِّري لها، إنها أجمل الزهور على الإطلاق.» ثم توقَّف وأدار رأسه سريعًا وتهلَّل وجهه بوجنتيَه الحمراوين.
قال: «أين أبو الحنَّاء ذاك الذي ينادينا؟»
جاء صوت الزقزقة من شجيرة كثيفة شائكة الأطراف، مزدهرة بثمار التوت القرمزية، وظنت ماري أنها تعرف صاحب هذا الصوت.
سألته: «أهو حقًّا ينادينا؟»
قال ديكون، كما لو كان أمرًا طبيعيًّا للغاية: «أجل، إنه يُنادي شخصًا صديقًا له. كأنه يقول: «أنا هنا، انظر إليَّ، أنا أريد التحدث إليك.» إنه هناك في هذه الشجيرة، مَن صديقه هذا؟»
أجابته ماري: «إنه بِن ويذرستاف، لكني أعتقد أنه يعرفني قليلًا.»
قال ديكون بصوته المنخفِض مرةً أخرى: «آه، إنه يعرفكِ إذن، ويحبكِ أيضًا. لقد قبِلَ صداقتكِ، وسيُخبرني بكل شيء عنكِ في الحال.»
اقترب كثيرًا من الشجيرة بحركته البطيئة نفسها التي لاحظتها ماري من قبل، ثم أصدر صوتًا أشبه بتغريد أبي الحنَّاء. استمع أبو الحنَّاء لبضع ثوانٍ بإنصات تام، ثم أجاب كما لو كان يردُّ على سؤال.
ضحك ديكون وقال: «حسنًا، إنه صديقكِ بالفعل.»
صاحت ماري في لهفة: «هل تعتقد هذا؟» كانت تريد بالفعل التأكد من الأمر. «هل تعتقد أنه يحبني حقًّا؟»
أجابها ديكون: «لم يكن ليَقترب منكِ لو لم يكن يحبك. فالطيور نادرًا ما تألف البشر، ويمكن لأبي الحنَّاء أن يهزأ بالمرء أكثر مما يفعل البشر. انظري، إنه يتودَّد إليكِ الآن. إنه يقول: «ألا يُمكنكِ رؤيتي؟»»
وبدا الأمر حقًّا كما لو أن كلامه صحيح بلا أدنى شك. فقد مشي مشية جانبية وغرَّد وأمال رأسه وهو يقفز على شجيرته الصغيرة.
قالت ماري: «هل تفهم كل شيء تقوله الطيور؟»
اتَّسعت ابتسامة ديكون حتى بدا فمه المُتَّسع الأحمر المقوَّس يملأ كل وجهه، وحكَّ رأسه الأشعث.
قال لها: «أعتقد هذا، وهي أيضًا تعتقد هذا. لقد عِشتُ معها في المستنقع لفترة طويلة. شاهدتها وهي تَفقِس ويكسو الريش أجسامها وتتعلم الطيران وتبدأ في الغناء، حتى صرت أعتقد أني واحد منها. أحيانًا أعتقد أني طائر أو ثعلب أو أرنب أو سنجاب أو حتى خنفساء، وأنا لا أعرف هذا.»
ضحك وعاد إلى جذع الشجرة وبدأ يتحدث عن بذور الأزهار مرةً أخرى. أخبرها عن شكلها حين تُزهر، وأخبرها عن طريقة زراعتها، ومراقبتها، وتغذيتها وريِّها.
قال فجأة وهو يلتفت لينظر إليها: «اسمعي، سأزرعها لكِ بنفسي. أين حديقتك؟»
شبَّكت ماري يديها النحيلتَين معًا وهي تضعهما على ساقيها. لم تكن تدري ماذا تقول، فظلَّت صامتة دون أن تقول أي شيء طوال دقيقة كاملة. فلم تُفكِّر في هذا قط. شعرت بالبؤس، وشعرت كما أن وجهها قد تحوَّل إلى اللون الأحمر ثم شحَب.
قال ديكون: «أنتِ لديك حديقة صغيرة، أليس كذلك؟»
لقد احمرَّ وجهها بالفعل ثم شحَب. وقد رأى ديكون ذلك، ولما لم تقُل أي شيء حتى الآن، بدأ يشعر بالحيرة.
سألها: «ألم يُعطوكِ قطعة من الحديقة؟ ألم تحصلي عليها بعد؟»
اعتصرت يديها معًا أكثر وحولَّت عينيها نحوه.
ثم قالت ببطء: «أنا لا أعلم أي شيء عن الأولاد. هل تستطيع كتمان سرٍّ إذا أخبرتك به؟ إنه سرٌّ كبير. أنا لا أعرف ماذا يجب أن أفعل إن علم أحد به. أعتقد أني سأموت!» وقالت هذه الجملة الأخيرة بعنف شديد.
بدت الحيرة على ديكون أكثر من ذي قبل حتى إنه حكَّ يده في رأسه الأشعث مرةً أخرى، لكنه ردَّ عليها بأسلوب مرح: «أنا أكتم الأسرار طوال الوقت. فلو لم يكن بإمكاني أن أكتم الأسرار وأخفيها عن الصبية الآخرين؛ أسرار عن جِراء الثعالب، وأعشاش الطيور، وجحور الكائنات البرِّية، فلن يعمَّ السلام والأمان في المستنقع. أجل، بإمكاني كتمان الأسرار.»
لم تقصد الآنسة ماري أن تمدَّ يدها وتمسك بكمه، لكنها فعلت.
قالت بسرعة بالغة: «لقد سرقتُ حديقة؛ إنها ليست ملكي، وليست ملكًا لأحد. فلا أحد يريدها، ولا أحد يَعتني بها، ولا أحد يدخلها. ولعل كل شيء فيها قد مات بالفعل، لا أعرف.»
بدأت تشعر بالانفعال والعِناد كما لم تشعر من قبل طوال حياتها.
أنهت حديثها بانفعال وقالت: «أنا لا أهتم، لا أهتم! لا يحقُّ لأحد أن يأخذها مني، وأنا أعتني بها ولا أحد غيري يفعل هذا. إنهم يتركونها تموت، ويغلقون عليها ويتركونها وحدها.» ثم وضعت ذراعيها على وجهها وانفجرت الآنسة ماري الصغيرة المسكينة في البكاء.
اتَّسعت عينا ديكون الزرقاوان اللَّتان ملأهما الفضول أكثر وأكثر، وقال: «هكذا إذن!» وقال هذا التعجب ببطء شديد كما لو كان يعني به التعجب والتعاطف في الوقت نفسه.
قالت ماري: «ليس لديَّ أي شيء أفعله؛ فلا شيء يخصُّني. لقد وجدتُها وحدي ودخلتُها وحدي. أنا أشبه تمامًا أبا الحنَّاء، وهم لا يُمكنهم حرمان أبا الحنَّاء منها.»
سألها ديكون بصوت منخفض: «أين هي؟»
نهضت الآنسة ماري من على جذع الشجرة على الفور، فهي تعلم أن مشاعر المشاكسة والعناد قد عاوداها مرةً أخرى، ولم تكن تعبأ بهذا على الإطلاق. فقد كانت متغطرسة وهندية، وفي الوقت نفسه تشعر بالغضب والأسى.
قالت له: «تعالَ معي وسأُريك.»
قادته عبر ممر إكليل الغار وصولًا إلى الممشى حيث ينمو نبات اللبلاب بكثافة شديدة، وتبعها ديكون وقد ارتسم على وجهه تعبير غريب يُقارب الشعور بالشفقة. لقد شعر وكأن شخصًا يقوده إلى فحص عُش طائر غريب ولا بدَّ أن يتحرَّك بهدوء. وحين توجَّهت إلى السور ورفعت نبات اللبلاب المتدلِّي تفاجأ بشدة. فقد رأى تحته بابًا ودفعته ماري ببطء ففتحتْه، ودخلا منه معًا، ثم وقفت ماري وأشارت بيدها في تحدٍّ.
قالت: «ها هي. إنها حديقة سرية، وأنا الوحيدة في العالم التي تريد أن تعود الحياة إليها.»
تفقَّد ديكون جميع أرجاء الحديقة مِرارًا، وقال بصوت أقرب إلى الهمس: «يا إلهي! يا له من مكان غريب وجميل! أشعر كما لو أني في حلم.»