«أنا كولن»
عادت ماري بالصورة إلى المنزل حين حان موعد العشاء، وأرتْها لمارثا.
قالت مارثا بفخر شديد: «هكذا إذن! لم أكن أعرف قطُّ أن أخي ديكون بهذا القدر من المهارة. هذه صورة لأنثى طائر السمنة رابضة في عُشها، وبالحجم الطبيعي أيضًا.»
عندئذٍ علمت ماري أن ديكون أراد أن يُوصِّل لها رسالة من خلال هذه الصورة. فقد أراد إخبارها بأن تطمئنَّ بأنه سيكتم سرها. فالحديقة هي عُشها وهي مثل أنثى طائر السمنة. يا إلهي! كم تحب هذا الفتى الريفي الغريب الأطوار!
كانت تأمل أن يعود في اليوم التالي مباشرةً، وخلدت إلى النوم وهي تتطلَّع إلى الصباح.
إلا أن أحدًا لا يُمكنه أبدًا توقُّع حالة الطقس في يوركشاير، خاصةً في فصل الربيع. فقد استيقظت ليلًا على صوت المطر الغزير وارتطام قطراته الثقيلة بنافذتها. كان المطر ينهمر سيولًا والرياح «تهدر» في جميع أركان هذا المنزل الضخم القديم وداخل مداخنه. جلست ماري في السرير وشعرت بالبؤس والغضب.
قالت: «إن هذه الرياح مشاكسة وعنيدة مثلما كنتُ أنا؛ لقد جاءت لأنها تعرف أني لا أريدها.»
ارتمت على وسادتها ودفنت وجهها فيها. لم تبكِ، لكنها ظلت مستلقيةً وهي تشعر بالكراهية الشديدة لصوت المطر الذي كان يهطل بقوة، وكرهت الرياح وصوتها «الهادر». لم تستطع العودة إلى النوم مرةً أخرى؛ فقد جعلها هذا الصوت البائس مستيقظةً لشعورها هي نفسها بالبؤس والأسى. فلو كانت تشعر بالسعادة، لربما هدأت وعادت إلى النوم مرةً أخرى.
كم كانت الرياح «تعوي» وقطرات المطر الكبيرة تَنهمر وتضرب زجاج نافذتها!
قالت لنفسها: «يبدو هذا الصوت كما لو أن أحدًا قد ضلَّ طريقه في المستنقع ويتجوَّل هنا وهناك باكيًا.»
ظلَّت مُستلقية في السرير تتقلَّب على الجانبين لِمَا يقرب من ساعة، وفجأة حدث شيء دفعها إلى النهوض والجلوس في السرير وتحويل رأسها نحو الباب والإنصات جيدًا. وظلت تُنصت وتُنصت.
قالت بهمس عالٍ: «هذا ليس صوت الرياح الآن. تلك ليست الرياح، بل صوت مختلف! إنه صوت البكاء الذي سمعته من قبل.»
كان باب الغرفة مفتوحًا جزئيًّا وكان الصوت قادمًا من آخر الممر، وكان صوتًا بعيدًا وخافتًا من بكاء متقطع. ظلَّت تُنصت إلى الصوت لبضع دقائق، ومع كل دقيقة تمر، كان يقينها يزداد أكثر وأكثر. شعرت بأنها لا بدَّ أن تعرف مصدر هذا الصوت. فقد بدا الأمر أغرب حتى من الحديقة السرية والمفتاح المدفون. وربما استمدَّت جرأتها من حقيقة أنها كانت في حالة مزاجية ثورية. أنزلت قدميها من على السرير ووقفت على الأرض.
قالت: «سأعرف ما هذا الصوت بالضبط؛ فالجميع الآن يغطُّ في النوم وأنا لا أبالي بالسيدة ميدلوك … لا أبالي!»
كانت ثمَّة شمعة بجوار سريرها فأخذتها وخرجت بهدوء من غرفتها. بدا الرواق طويلًا ومظلمًا للغاية، لكن حماسها أكبر من أن تكترث لهذا. اعتقدت أنها تتذكر الزوايا التي عليها أن تنعطف عندها لتعثر على الرواق القصير الذي به الباب المغطَّى بالبساط الجداري المطرز، ذلك الذي خرجت منه السيدة ميدلوك في اليوم الذي ضلَّت فيه طريقها. كان الصوت قادمًا من هذا الرواق. لذلك واصلت السير بما لديها من ضوء خافت، وهي شبه تتحسَّس طريقها، وكان قلبها يخفق بصوت مرتفع للغاية حتى ظنت أنها تسمع دقاته. استمر صوت البكاء الخافت القادم من بعيد وكان دليلها في الطريق. كان يتوقف أحيانًا للحظة أو نحو ذلك، ثم يبدأ مرةً أخرى. أهذا هو المنعطف الصحيح الذي عليها أن تسلكه؟ توقَّفت وفكَّرت في الأمر؛ أجل إنه هو. عليها أن تسير في هذا الممر ثم تنعطف يسارًا، ثم عليها أن تخطو خطوتين واسعتين، ثم تنعطف يمينًا مرةً أخرى. أجل هذا هو الباب المغطى بالبساط المطرز.
دفعته بهدوء شديد لتفتحه، وأغلقته خلفها ووقفت في الرواق وتمكَّنت من سماع صوت البكاء بوضوح شديد، على الرغم من أنه لم يكن عاليًا. كان قادمًا من الجانب الآخر من الجدار الموجود على يسارها، وعلى بُعد بضع ياردات وجدت بابًا، واستطاعت أن ترى بصيص نور قادمًا من أسفله. كان الشخص الذي يبكي هذا البكاء موجودًا في تلك الغرفة، وكان واضحًا أنه صغير السن.
لذا اتَّجهت نحو هذا الباب ودفعته لتفتحَه، فوجدت نفسها تقف داخل الغرفة!
كانت غرفة كبيرة بها أثاث قديم وجميل. وكان بها نار خافتة تتوهَّج في المدفأة ومصباح ليلي مشتعل بجانب سرير منحوت من الخشب ذي أربعة أعمدة يحيط به قماش مطرَّز، وعلى السرير يوجد صبي مُستلقٍ يبكي بكاءً متقطعًا.
تساءلت ماري عما إذا كانت في مكان حقيقي، أم ربما يكون قد غلبها النوم مرةً أخرى وهي الآن تحلم دون أن تدرك ذلك.
كان للصبي وجه صغير حاد الملامح بلون العاج، وبدت عيناه كبيرتين للغاية بالنسبة إليه. كان شعره كثيفًا أيضًا متناثرًا على جبهته في خُصَل سميكة ما جعل وجهه النحيل يبدو أصغر حجمًا. بدا من شكله أنه مريض، لكنه كان يبكي من شعوره بالتعب والغضب أكثر من شعوره بالألم.
وقفت ماري بالقرب من الباب وهي تحمل شمعتها في يدها وتكتم أنفاسها، ثم تحركت ببطء عبر الغرفة ومع اقترابها أكثر وأكثر، انتبه الصبي إلى الضوء فاستدار برأسه على الوسادة وحدَّق فيها، وانفتح عيناه الرماديتان عن آخرهما فظهرتا مُتَّسعتين.
قال لها أخيرًا بهمس يشوبه الخوف: «مَن أنتِ؟ هل أنتِ شبح؟»
ردت ماري وفي صوتها الهامس بعض الخوف: «لا، لستُ كذلك. هل أنتَ شبح؟»
ظل يُحدِّق فيها طويلًا، ما جعل ماري تلاحظ إلى أيِّ مدًى كانت عيناه غريبتين. كان لونهما بلون العقيق الرمادي، وكانتا كبيرتين للغاية بالنسبة إلى وجهه الصغير؛ إذ كانت تُحيط بهما أهداب سوداء بالكامل.
أجابها بعدما انتظر للحظة أو نحو ذلك: «لا، أنا كولن.»
قالت وهي تتلعثم في الكلام: «مَن كولن؟»
«أنا كولن كرافن. ومَن أنتِ؟»
«أنا ماري لينوكس، والسيد كرافن هو زوج عمتي.»
قال الفتى: «إنه والدي.»
قالت ماري بدهشة: «والدك! لم يُخبرْني أحد قط أن لديه ولدًا! لماذا لم يخبروني؟»
قال وهو ما زال يثبت عينيه الغريبتين عليها وعلى وجهه تعبير ينمُّ عن القلق: «تعالي إلى هنا.»
اقتربت من السرير ومدَّ هو يده ولمسها.
قال: «أنتِ حقيقية، أليس كذلك؟ كثيرًا ما أرى أحلامًا حقيقيةً من هذا النوع. لعلكِ واحد من هذه الأحلام.»
كانت ماري قد ارتدت دِثارًا صوفيًّا قبل أن تغادر غرفتها ووضعت قطعة منه بين أصابعه.
قالت له: «افرك هذا لترى مدى دفئه وسمكه، وسوف أقرصك بخفة إن أردتَ ذلك، لأريك أنني حقيقية. أنا أيضًا ظننتُك حلمًا لوهلة.»
سألها قائلًا: «من أين أتيتِ؟»
«من غرفتي. كانت الرياح تعوي ولم أتمكَّن من الخلود إلى النوم وسمعتُ أحدًا يبكي وأردتُ معرفة لمن هذا الصوت. لماذا كنتَ تبكي؟»
«لأني لم أستطع الخلود للنوم أيضًا وكان رأسي يؤلمني. أخبريني باسمك مرةً أخرى.»
«ماري لينوكس. ألم يُخبرْك أحد قط أني قد أتيت للعيش هنا؟»
كان لا يزال ممسكًا بطيَّة دِثارها بين أصابعه، لكن بدأ يبدو عليه أنه يصدق أنها حقيقية.
رد عليها قائلًا: «كلا، فهم لا يجرءون على ذلك.»
سألته ماري: «لماذا؟»
«لأني حينها كنتُ سأخاف من أن تريني؛ وأنا لا أدع الناس يروني ويتحدثون إليَّ.»
سألته ماري مرةً أخرى، وهي تشعر بمزيد من الغموض والحيرة مع مرور كل لحظة: «لماذا؟»
«لأني طوال الوقت على هذا الحال؛ مريض ويجب أن أبقى مستلقيًا. كذلك لا يسمح والدي للناس بالحديث معي. فليس مسموحًا للخدم بأن يتحدثوا معي، ولو كُتب لي البقاء على قيد الحياة، فقد أُصبِح أحدب، لكني لن أعيش. ووالدي يكره التفكير في أنني ربما أصبح مثله.»
قالت ماري: «يا له من منزل غريب! إنه منزل غريب بالفعل! كل شيء فيه سرٌّ بشكل أو بآخر. فالغرف مؤصدة والحدائق مؤصدة أيضًا، وأنت! هل أنتَ أيضًا محبوس هنا؟»
«لا، إنني أمكث في هذه الغرفة لأني لا أريد الخروج منها؛ فهذا يرهقني كثيرًا.»
تجرأت ماري وسألته: «هل يأتي والدك لرؤيتك؟»
«أحيانًا، عادةً ما يأتي وأنا نائم؛ فهو لا يرغب في رؤيتي.»
لم تستطع ماري أن تمنع نفسها من تكرار السؤال: «لماذا؟»
خيَّمت ملامح الغضب على وجه الفتى إلى حدٍّ ما.
«لقد ماتت أمي حينما وُلدتُ وهذا يجعله يبتئس عندما ينظر إليَّ. إنه يعتقد أني لا أعلم هذا، لكني سمعته يتحدث إلى بعض الأشخاص. إنه يكرهني تقريبًا.»
قالت ماري وهي شبه تتحدث إلى نفسها: «إنه يكره الحديقة لأنها ماتت فيها.»
سألها الفتى: «أي حديقة؟»
تلعثمت ماري وقالت له: «إنها مجرد … مجرد حديقة كانت تحبها. هل تبقى هنا طوال الوقت؟» «تقريبًا. أحيانًا يأخذوني إلى أماكن على شاطئ البحر، لكني لا أريد البقاء فيها لأن الناس يُحدِّقون بي. لقد اعتدتُ ارتداء قطعة من الحديد لتبقي ظهري مفرودًا، لكن طبيبًا كبيرًا من لندن جاء ليراني وقال إن هذه حماقة. وأخبرهم أن يَنزعوها عني ويتركوني أخرج في الهواء الطلق. أنا أكره الهواء الطلق ولا أريد الخروج أبدًا.»
قالت له ماري: «لم أكن أحبه أيضًا في البداية حين جئتُ إلى هنا. لماذا تطيل النظر إليَّ هكذا؟»
أجابها بصوت متقطع نوعًا ما: «بسبب الأحلام التي تبدو حقيقيةً للغاية. أحيانًا حين أفتح عيني لا أصدق أني مستيقظ.»
قالت له ماري: «نحن الاثنان مستيقظان»، وأخذت تنظر عبر أرجاء الغرفة ذات السقف المرتفع والأركان المظلمة وضوء النار الخافت، ثم قالت: «يبدو هذا أشبه بحلم. فنحن في منتصف الليل، وجميع مَن في المنزل يغطُّون في النوم، عَدانا. فنحن الاثنان مستيقظان.»
قال الفتى متململًا: «لا أريده أن يكون حلمًا.»
وعلى الفور خطر لماري شيء.
بدأت حديثها قائلة: «إذا كنتَ لا تريد أن يراك الناس، فهل تريدني أن أذهب؟»
كان ما زال ممسكًا بطية دثارها في يده فجذبها قليلًا وقال: «كلا، فإذا ذهبتِ سأتأكد من أنه حلم. إذا كنتِ حقيقية، فلتجلِسي على مسند القدمين الكبير هذا وتتحدثي إليَّ؛ فأنا أريد معرفة كل شيء عنكِ.»
وضعت ماري شمعتها على الطاولة بالقرب من السرير وجلست على المسند الوثير. لم تكن تريد الذهاب على الإطلاق. لقد أرادت أن تبقى في هذه الغرفة السرية الخفية وتتحدث إلى هذا الفتى الغامض.
قالت له: «ما الذي تريد أن أخبرك به؟»
أراد أن يعرف كم مضى على مجيئها إلى ميسلثويت؛ وأراد معرفة الممر الذي توجد فيه غرفتها؛ وأراد معرفة ما كانت تفعله طوال هذا الوقت؛ وما إذا كانت تكره المستنقع مثلما يكرهه؛ وأين كانت تعيش قبل قدومها إلى يوركشاير. أجابت على جميع هذه الأسئلة وغيرها الكثير، واستلقى هو على وسادته وظل يستمع إليها. جعلها تخبره الكثير عن الهند وعن رحلتها عبر المحيط. أما هي، فعرفت أنه بسبب مرضه وعجزه، لم يتعلَّم الأشياء التي يتعلمها غيره من الأطفال. وقد علمته إحدى ممرضاته القراءة حين كان صغيرًا للغاية، وكان دائمًا يقرأ كتبًا رائعة وينظر إلى الصور الموجودة فيها.
على الرغم من أن والده كان نادرًا ما يراه وهو مستيقظ، فقد توافرت له كل أنواع الأشياء الرائعة ليُسلي نفسه بها. ومع ذلك لم يبدُ عليه قط أنه مستمتع على الإطلاق. كان بإمكانه الحصول على أي شيء يطلبه، ولم يكن عليه فعل أي شيء لا يريد فعله. قال بلا مبالاة: «إن الجميع ملزم بفعل كل ما يُرضيني. لقد أعياني الغضب؛ فلا أحد يعتقد أني سأعيش حتى أكبر.»
قال هذا كما لو كان معتادًا على هذه الفكرة حتى إنها لم تعد تُهمه على الإطلاق. بدا أنه يحب سماع صوت ماري؛ فبينما كانت ماضيةً في الحديث، أصغى إليها باهتمام شابه بعض النعاس. تساءلت لمرة أو مرتين إذا ما كان يغلبه النعاس، إلا أنه في النهاية طرح سؤالًا فتح موضوعًا جديدًا للحديث.
سألها: «كم عمرك؟»
أجابت ماري وقد نسيت نفسها وتخلت عن حذرها للحظة: «أنا في العاشرة، وأنتَ أيضًا.»
سألها بصوت غلب عليه الدهشة: «كيف عرفتِ ذلك؟»
«لأنك حين ولدتَ، أُغلق باب الحديقة ودُفن المفتاح، وقد مضى على إغلاق الحديقة عشر سنوات.»
نهض كولن من استلقائه وجلس نصف جلسة والتفت إليها متكئًا على مرفقيه.
صاح في دهشة وقد صار فجأةً في غاية الاهتمام بالأمر: «أي باب حديقة هذا الذي أُغلق؟ ومَن أغلقه؟ وأين دُفن المفتاح؟»
قالت ماري بتوتر: «إنها … إنها الحديقة التي يَكرهها السيد كرافن. لقد أغلق بابها، ولا أحد … لا أحد يعلم أين دفن المفتاح.» استمر كولن في سؤالها بلهفة: «ما نوع هذه الحديقة؟»
أجابته ماري بحرص: «لم يُسمح لأحد بدخولها منذ عشر سنوات.»
لكن الحرص لم يعد يجدي نفعًا الآن؛ فقد كان كولن مثلها تمامًا، ليس لديه ما يفكر فيه وجذبته فكرة وجود حديقة خفية تمامًا مثلما جذبتها. وأخذ يطرح عليها سؤالًا تلو الآخر؛ أين هي؟ ألم تبحث عن الباب من قبل؟ ألم تسأل البستانيِّين عنها أبدًا؟
قالت ماري: «إنهم لا يتحدثون عنها، وأعتقد أن لديهم تعليمات بعدم الإجابة عن الأسئلة.»
قال كولن: «سأجبرهم أنا على هذا.»
قالت ماري متلعثمةً وقد بدأت تشعر بالخوف: «أيمكنكَ هذا؟» فإن استطاع إجبار الناس على الإجابة عن الأسئلة، مَن يدري ماذا يمكن أن يحدث.
قال لها: «إن الجميع مجبر على إرضائي، كما أخبرتكِ. وإن كُتبت لي الحياة، سيصير هذا المكان ملكًا لي في وقت من الأوقات، وهم جميعًا يعرفون هذا، ولهذا يمكنني جعلهم يخبروني بما أريد.»
لم تكن ماري تعلم أنها كانت فتاةً مدَّللةً، لكنها استطاعت أن ترى بوضوح أن هذا الفتى الغامض كان مدلَّلًا للغاية. فقد كان يظن أن العالم كله ملكًا له. كم كان فتًى غريبًا، وكم كان يتحدث عن الموت ببرود!
سألته: «أتظن أنك لن تعيش؟»؛ فقد كانت من ناحية تشعر بالفضول، ومن ناحية أخرى تأمل أن تجعله ينسى أمر الحديقة.
أجابها باللامبالاة نفسها التي كان يتحدث بها من قبل: «لا أعتقد هذا. فمنذ وعيت على الدنيا وأنا أسمع الناس يقولون إني لن أعيش. في البداية كانوا يعتقدون أني صغير ولن أفهم؛ أما الآن فهم يعتقدون أني لا أسمعهم. لكني أسمعهم. فطبيبي هو ابن عم والدي، وهو فقير للغاية وإن متُّ، ستئول إليه ملكية ميسلثويت بالكامل بعد وفاة والدي. أعتقد أنه لا يريدني أن أعيش.»
سألته ماري: «وهل تريد أنت أن تعيش؟»
أجابها في غضب وإعياء: «كلا، لكني لا أريد أن أموت. حين أشعر بالتعب، أستلقي هنا وأفكر في هذا الأمر حتى أبكي وأبكي.»
قالت له ماري: «لقد سمعتكُ تبكي ثلاث مرات، لكني لم أكن أعرف ممن يَصدر هذا البكاء. هل كنتَ تبكي لهذا السبب؟»
لقد أرادت بالفعل أن ينسى أمر الحديقة.
أجابها قائلًا: «أعتقد هذا. لنتحدث عن شيء آخر؛ لنتحدث عن الحديقة. ألا تريدين رؤيتها؟»
ردت ماري بصوت خفيض: «بلى!»
واصل حديثه بإصرار: «أنا أريد رؤيتها، ولا أعتقد أني أردتُ رؤية أي شيء من قبل في حياتي، لكني أريد رؤية تلك الحديقة. وأريد العثور على المفتاح، وفتْح الباب. سأجعلهم يأخذوني إلى هناك على كرسي؛ فهكذا سأحصل على الهواء النقي، وسأجعلهم يفتحون الباب لي.»
كان قد أصبح متحمسًا للغاية وبدأت عيناه الغريبتان تلمعان مثل النجوم، وبدتا أكثر اتِّساعًا من أي وقت مضى.
قال لها: «إن عليهم إرضائي؛ ولهذا سأجعلهم يأخذوني إلى هناك وسأجعلك تذهبين معي أيضًا.»
اعتصرت ماري يديها معًا من التوتُّر؛ فكلُّ شيء سيفسد … كل شيء! فلن يعود ديكون أبدًا، ولن تشعر بعد الآن بأنها طائر سمنة لديه عُش سري آمن.
صاحت فيه قائلة: «يا إلهيَ! لا تفعل، لا تفعل … لا تفعل … لا تفعل هذا!»
حدَّق فيها كمن يظن أنها قد جُنَّت!
قال لها مستفسرًا: «لماذا؟ لقد قلتِ إنكِ تريدين رؤيتها.»
أجابته وفي صوتها نحيب: «أنا أريد رؤيتها بالفعل، ولكن إن أجبرتهم على فتح هذا الباب وإدخالك إياها على هذا النحو، لن تصبح حديقة سرية بعد الآن.»
مال بجسده إلى الأمام أكثر، وقال: «سرية؟ ماذا تقصدين؟ أخبريني.»
خرجت كلمات ماري متلاطمة تسابق إحداها الأخرى.
قالت في اضطراب ولهاث: «أتعلم … أتعلم، إن لم يعرف أحدٌ بأمرها سوانا … في حالة وجود باب خفي في مكان ما تحت نبات اللبلاب … إن وجد … واستطعنا العثور عليه، وإن استطعنا التسلل عبره خلسة معًا وإغلاقه من خلفنا، دون أن يعلم أحد بوجود أي شخص بالداخل، وأطلقنا عليها حديقتنا، وتظاهرنا بأننا طيور سمنة تعيش وهذه الحديقة هي عُشنا، وإذا لعبنا هناك كل يوم تقريبًا وحفرنا الأرض وغرسنا البذور ونجعل الحديقة تعود إليها الحياة …»
قاطعها قائلًا: «هل ماتت الحديقة؟»
تابعت قائلة: «سيَحدث هذا قريبًا إن لم يهتم بها أحد. فالبصيلات ستعيش لكن الورد …»
أوقفها مرةً أخرى عن الكلام؛ إذ كانت هي نفسها في غاية الحماس.
وأضاف سريعًا: «ما هي البصيلات؟»
«توجد أزهار النرجس البري والزنبق وزهور اللبن الشتوية. كلها تنبت في الأرض الآن، وتخرج أطرافًا خضراء باهتة؛ لأن الربيع على وشك المجيء.»
قال لها: «هل الربيع على وشك أن يأتي؟ ما شكله؟ فالمرء لا يراه داخل الغرف إذا كان مريضًا.»
قالت ماري: «إنه ضوء الشمس حين يسقط على المطر، والمطر حين يسقط على ضوء الشمس، والنباتات وهي تشق طريقها إلى الأرض ونموُّها تحت الأرض. فلو كانت الحديقة سرية واستطعنا دخولها، يمكننا رؤية هذه الأشياء وهي تنمو وتكبر كل يوم، ونعرف عدد الورود التي ما زالت على قيد الحياة، أليس كذلك؟ أترى؟ أترى كم سيكون من الأفضل كثيرًا إن بقيت هذه الحديقة سرًّا؟»
استند كولن إلى وسادته واستلقى وعلى وجهه تعبير غريب.
قال لها: «لم يكن لديَّ سر قط من قبل، عدا السر الخاص بأني لن أعيش حتى سن متقدمة. فهم لا يعرفون أني أعرف هذا، لذلك يُعتبَر سرًّا. لكني أحب هذا النوع من الأسرار أكثر.»
قالت ماري متوسِّلةً: «إن لم تجعلهم يأخذونك إلى الحديقة، ربما … بل أنا واثقة أن بإمكاني أن أعرف طريقة نستطيع الدخول بها في وقت ما. ثم إن كان الطبيب يريد منك الخروج على كرسيك، وإن كان بوسعك دومًا أن تفعل ما يحلو لك، فربما … ربما نعثر على فتًى يمكنه أن يدفع كرسيك، ونذهب وحدنا وهكذا ستظلُّ دومًا حديقة سرية.»
قال ببطء شديد وعينين حالمتين: «سأحب هذا كثيرًا، سأحبه؛ فلا مانع لديَّ من استنشاق هواء نقي في حديقة سرية.»
بدأت ماري تلتقط أنفاسها وتشعر بالأمان لأن فكرتها عن كتمان السر بدت تروق له. وشعرت بالثقة بأنها إن استمرَّت تتحدث إليه واستطاعت أن تجعله يرى الحديقة بعين عقله مثلما رأتها، فسيحبها كثيرًا ولن يتحمَّل فكرة دخول أي شخص إليها متى أراد.
قالت له: «سأخبرك بالصورة التي أتخيَّلها عليها، إن أمكننا دخولها. لقد مرَّ وقت طويل منذ إغلاقها، وربما نمَتِ النباتات فيها حتى أصبحت متشابكة.»
استلقى في سكون تامٍّ وأصغى إليها وهي تواصل حديثها عن الورود التي ربما تكون قد تسلَّقت من شجرة إلى أخرى وتدلَّت منها؛ وعن الطيور الكثيرة التي ربما تكون قد بنت أعشاشها هناك لأنه مكان آمن للغاية. بعد ذلك أخبرته عن أبي الحنَّاء وبِن ويذرستاف، وكان لديها الكثير من القصص عن أبي الحنَّاء وتحدثت عنه بسهولة واطمئنان حتى لم تعد تشعر بالخوف. أسعده الحديث عن أبي الحنَّاء كثيرًا، حتى إنه ابتسم حتى بدت ملامح وجهه جميلة، وكانت ماري في البداية ترى أن ملامحه حتى أكثر قبحًا من ملامحها، بعينيه الكبيرتين وخُصلات شعره الكثيفة.
قال لها: «لم أكن أعلم أن الطيور قد تكون لطيفة هكذا. ولكنك حين تمكثين دومًا في غرفة، لا يمكنك رؤية أي شيء. إنكِ تعرفين الكثير من الأشياء، وأشعر كما لو كنتِ قد دخلتِ تلك الحديقة.»
لم تعرف ماذا تقول له، ولهذا لم تقل أي شيء. ومن الواضح أنه لم يكن ينتظر منها إجابة، وفي اللحظة التالية حمل إليها مفاجأة.
«سأجعلكِ ترين شيئًا ما. أترين هذه الستارة الحريرية الوردية المتدلِّية هناك على الجدار فوق رفِّ الموقد؟»
لم تكن ماري قد لاحظت وجودها من قبل، لكنها رفعت بصرها ورأتها. كانت ستارة من الحرير الناعم تدلَّت فوق شيء بدا أنه صورة.
أجابته قائلة: «أجل.»
قال كولن: «يوجد حبل متدلٍّ منها، اذهبي واجذبيه.»
نهضت ماري وقد تملكتها حَيرة شديدة، ووجدت الحبل. حين جذبته انحسرت الستارة الحريرية إلى الخلف على حلقات، كاشفة عن صورة. كانت صورة لفتاة ذات وجه ضاحك. كان شعرها لامعًا مربوطًا بشريط أزرق اللون، وعيناها الجميلتان الغريبتان تُشبهان تمامًا عيني كولن الحزينتين ذات اللون الرمادي اللامع اللتين تبدوان ضعف حجمهما الحقيقي، بسبب الرموش السوداء المحيطة بهما.
قال كولن في تبرم: «إنها والدتي. لا أعرف سبب موتها وأحيانًا أكرهها لذلك.»
قالت ماري: «يا له من أمر غريب!»
قال متذمِّرًا: «أعتقد أنها لو كانت قد عاشت، لما عانيتُ من المرض طوال الوقت هكذا، ولربما كنت سأعيش أيضًا. ولم يكن والدي سيكره النظر إليَّ. وأعتقد كذلك أنني كنتُ سأتمتع بظهرٍ قوي. فلتُسدلي الستارة مرةً أخرى.»
فعلت ماري ما قاله لها وعادت إلى كرسيها.
قالت له: «إنها أجمل منكَ بكثير، لكن عينَيها تُشبهان عينيك تمامًا … على الأقل في الشكل واللون. لماذا توجد تحت الستارة؟»
تحرَّك في تململ وضيق وقال: «أنا من طلبت منهم ذلك. أحيانًا لا أحب أن أرى نظرتها إليَّ؛ فهي تضحك طوال الوقت بينما أنا مريض وبائس. كما أنها تخصُّني وحدي ولا أريد أن يراها أحد.» ساد صمت لبضع لحظات قطعته ماري.
«ماذا ستفعل السيدة ميدلوك إن علمت بمجيئي إلى هنا؟»
أجابها قائلًا: «ستفعل كما أقول لها، وأنا سأُخبرها أنني أريدكِ أن تأتي إلى هنا وتتحدثي معي كل يوم؛ فأنا سعيد بمجيئكِ.»
قالت ماري: «وأنا أيضًا، سآتي إليك كلما استطعتُ، لكن …» ثم تردَّدت للحظة «سيكون عليَّ البحث كل يوم عن باب الحديقة.»
قال كولن: «أجل، لا بدَّ أن تفعلي هذا، ويُمكنك أن تخبريني عنها فيما بعد.»
استلقى يفكر لبضع دقائق، كما فعل من قبل، ثم تحدث مرةً أخرى.
«أعتقد أن عليكِ أن تظلِّي أنتِ أيضًا سرًّا. فلن أخبرهم بمجيئك حتى يكتشفوا هذا بأنفسهم. يُمكنني دومًا إرسال الممرضة إلى خارج الغرفة وإخبارها بأني أريد البقاء وحدي. أتعرفين مارثا؟»
قالت ماري: «أجل، أعرفها جيدًا؛ فهي من تعتني بي.»
أومأ برأسه نحو الرواق الخارجي وقال: «إنها تنام في الغرفة الأخرى. فقد غادرت الممرضة أمس لتقضي الليلة بأكملها مع أختها، وهي تجعل مارثا دائمًا تعتني بي حين ترغب في الخروج. يمكن لمارثا أن تُخبرك بالوقت المناسب الذي يمكنك المجيء فيه إلى هنا.»
حينئذٍ فهمت ماري النظرة المضطربة التي بدت على مارثا حين راحت تكيل لها الأسئلة عن صوت البكاء.
سألته: «هل كانت مارثا تعلم بوجودك طوال الوقت؟»
«أجل، فهي غالبًا ما تتولَّى العناية بي؛ فالممرضة تحب الابتعاد عني وعندها تأتي مارثا.»
قالت ماري: «لقد قضيتُ وقتًا طويلًا هنا، هل يمكنني الذهاب الآن؟ فالنعاس بادٍ في عينيكَ.»
قال لها ببعض الخجل: «كنتُ أتمنى أن أخلد للنوم قبل أن تذهبي.»
قال له ماري، وهي تقترب منه بكرسيها: «أغمض عينيك، وأنا سأفعل ما اعتادت أن تفعله لي خادمتي في الهند. سأُربِّت على يدك وأدلكها وأغني لكَ أغنية بصوت خفيض للغاية.»
قال لها وهو يغالب النعاس: «ربما يُريحني هذا.»
كانت تشعر بالأسى تجاهه بشكل ما ولم تكن تريده أن يظلَّ مستيقظًا؛ لذا مالت نحو سريره وبدأت تدلك يده وتربت عليها وتُغنِّي له بصوت منخفِض للغاية أغنية قصيرة باللغة الهندية.
قال لها بنعاس بالغ: «هذا لطيف!» فواصلت الغناء والتدليك، لكنها حين نظرت إليه مرةً أخرى كانت رموشه السوداء تمدد على وجنتيه؛ إذ أغلق عينيه وسرعان ما غطَّ في نوم عميق. نهضت بهدوء، وأخذت شمعتها وتسلَّلت دون أن تُصدر صوتًا.