بناء العُش
بعد أسبوع آخر من الأمطار، ظهرت السماء الزرقاء الساطعة مرةً أخرى وألقت الشمس بأشعتها الساخنة على الأرض. وعلى الرغم من عدم سنوح أي فرصة للآنسة ماري لرؤية الحديقة السرية ولا ديكون، فقد استمتعت بوقتها كثيرًا، ولم يبدُ هذا الأسبوع طويلًا للغاية. فقد كانت تقضي ساعات طويلة كل يوم مع كولن في غرفته، يتحدثان عن الأمراء الهنود الصغار، أو الحدائق، أو ديكون وكوخه الموجود في المستنقع. وتصفَّحا كذلك الكتب الرائعة والصور، وأحيانًا كانت ماري تقرأ بعض الأشياء لكولن، وأحيانًا كان يقرأ لها قليلًا. وحين كان يشعر بالسعادة والاهتمام، كانت ماري تشعر بأنه لا يبدو مريضًا على الإطلاق، باستثناء وجهه الذي كان باهتًا تمامًا ورقوده الدائم على الأريكة.
قالت لها السيدة ميدلوك لها ذات مرة: «يا لكِ من طفلة ماكرة خبيثة حتى تستمعين للأشياء وتنهضي من سريرك للذهاب والبحث عن مصدرها كما حدث في تلك الليلة. لكن لا جدال في أن هذا كان نعمة لكثير منا. فلم يصب بنوبة غضب أو نحيب منذ أن أصبحتِ صديقته. لقد كانت الممرضة على وشك التخلِّي عنه؛ لأنها سَئمَت منه تمامًا، لكنها تقول إنها لا تمانع أن تبقى معه الآن بعدما أصبحتِ تتناوبين معها عليه» وضحكت قليلًا.
حاولت ماري في حديثها مع كولن أن تلتزم الحذر الشديد بشأن الحديقة السرية. كانت ثمة أشياء محددة أرادت معرفتها منه، لكنها شعرت بأنها لا بد أن تعرفها دون توجيه أسئلة مباشرة له. أولًا حين بدأت تحبُّ قضاء الوقت معه، أرادت معرفة إذا كان من النوع الذي يمكن للمرء أن يأتمنه على سر. لقد كان مختلفًا تمامًا عن ديكون، لكن من الواضح أنه كان سعيدًا للغاية بفكرة وجود حديقة سرية لا يعرف أحد عنها أي شيء، وظنت أنها ربما تستطيع الوثوق فيه. غير أنها لم تكن تعرفه منذ وقت طويل يكفي لكي يجعلها تتأكد من هذا. الأمر الثاني الذي أرادت معرفته أنه إذا كان من الممكن حقًّا ائتمانه على السر، ألن يكون من الممكن أن تصطحبه معها إلى الحديقة دون علم أحد؟ لقد قال الطبيب الكبير إنه لا بد له من الحصول على هواء نقي، وكولن نفسه قال إنه لا مانع لديه من الحصول على هواء نقي في حديقة سرية. فربما إن حصل على قدر كبير من الهواء النقي، وتعرف على ديكون وأبي الحنَّاء ورأى الأشياء وهي تنمو، قد لا يفكر كثيرًا في الموت. كانت ماري مؤخرًا تنظر إلى نفسها في المرآة في بعض الأحيان حين أدركت أنها بدت مخلوقًا مختلفًا تمامًا عن الطفلة التي كانت تراها حين وصلت من الهند. فهذه الطفلة بدت ألطف، وحتى مارثا لاحظت تغييرًا فيها.
قالت لها: «إن هواء المستنقع قد نفعكِ كثيرًا، فلم يعد لونك أصفر ولا هزيلة كما كنتِ. حتى شعركِ لم يعد مرتخيًا وهامدًا على رأسك كما كان، بل أصبح به قدر من الحيوية بعض الشيء وصار يتطاير قليلًا.»
قالت ماري: «إنه مثلي. إنه يزداد قوة وكثافة. وأنا واثقة أنه قد صار أثقل.»
قالت مارثا وهي تصففه إلى أعلى قليلًا حول وجهها: «يبدو كذلك بالتأكيد. فلم تعودي قبيحة الشكل مثلما كان حالك حين أتيتِ إلى هنا، ودبت بعض الحمرة في وجنتيكِ.»
إن كان ارتياد الحدائق واستنشاق الهواء النقي مفيدَين لها، فربما سيفيدان كولن أيضًا. لكن إذا كان يكره أن ينظر الناس إليه، فربما لن يحب رؤية ديكون.
سألته ذات يوم: «لماذا تغضب حين ينظر إليك الناس؟»
أجابها قائلًا: «لطالما كرهتُ هذا، حتى حين كنتُ صغيرًا للغاية. فحين كانوا يأخذونني إلى شاطئ البحر، اعتدتُ أن أستلقي في عربتي وكان الجميع يُحدِّق فيَّ والسيدات يتوقفن ويتحدثن مع ممرضتي ثم يبدأن في الهمس، وكنت أعلم وقتها أنهم يقولون إني لن أعيش إلى سن متقدمة. وقتها كانت السيدات أحيانًا ما يُمسدن على وجنتي ويقلن «يا له من طفل مسكين!» وفي إحدى المرات حين فعلت إحدى السيدات هذا، صرختُ بصوت عالٍ وعضضتُ يدها، فتملَّكها خوف شديد وهربت.»
قالت ماري، وهي يبدو عليها الضيق: «لقد ظنَّت أنك صرت ككلب مسعور.»
قال كولن عابسًا: «لا أهتم بما ظنته بي.»
قالت ماري: «أتساءل لماذا لم تصرخ وتعضَّني حين جئتُ إلى غرفتك؟» ثم بدأت تبتسم ببطء.
قال لها: «لقد ظننتُكِ شبحًا أو حلمًا، وبالطبع لا يمكنني عض شبح أو حلم، وإذا صرخت، فلن يهتموا بصراخي.»
سألته ماري بتردد: «هل ستتضايق إذا … إذا نظر إليك فتًى صغير؟»
اضطجع على وسادته وتوقف عن الكلام مفكرًا.
قال لها ببطء شديد كما لو أنه يفكر في كل كلمة يقولها: «يوجد فتًى واحد فقط، فتى واحد فقط أعتقد أني لن أمانع إذا نظر إليَّ. إنه ذلك الفتى الذي يعرف أين تعيش الثعالب … ديكون.»
قالت ماري: «أنا متأكدة من أنك لن تتضايق منه.»
قال وهو ما زال يفكر في الأمر: «إن الطيور والحيوانات الأخرى لا تتضايق منه، ولذلك ربما لن يضايقني وجوده. إنه مثل مروض للحيوانات وأنا حيوان بشري.»
عندها ضحك وضحكت هي أيضًا، بل إن هذا الحوار انتهى بأن ظل كلاهما يضحك كثيرًا، ووجدا فكرة وجود حيوان بشري يختبئ في جحره مضحكة للغاية فعلًا.
شعرت ماري بعد ذلك بأن ليس هناك ما يدعو للخوف على ديكون.
في ذلك الصباح الذي عادت فيه السماء زرقاء مرةً أخرى، استيقظت ماري مبكرًا للغاية. كانت الشمس تخترق الستائر بأشعاتها المائلة، وكانت في رؤيتها شيئًا يبعث على البهجة، ما جعلها تقفز من سريرها وتركض نحو النافذة. رفعت الستائر وفتحت النافذة نفسها فهبَّت عليها نفحة هائلة من الهواء النقي العطر. كان المستنقع أزرق اللون، وبدا العالم بأكمله كما لو أن سحرًا قد مسه. وجاءت أصوات عذبة رقيقة كصوت الفلوت من هنا وهناك ومن كل مكان، كما لو أن أسرابًا من الطيور تبدأ في الاستعداد لحفل موسيقي. أخرجت ماري يدها من النافذة ومدتها تحت أشعة الشمس.
قالت: «إنها دافئة … دافئة! ستجعل النتوءات الخضراء تشق طريقها أكثر وأكثر نحو الأرض، وستجعل البصيلات والجذور تنمو وتجاهد بكل قوتها تحت سطح الأرض.»
جثت على ركبتيها وخرجت بجسدها من النافذة إلى أبعد ما يمكنها، وأخذت عدة أنفاس عميقة وطويلة، وظلت تستنشق الهواء حتى ضحكت؛ لأنها تذكرت ما قالته والدة ديكون بشأن طرف أنفه الذي يرتعش مثل أنف الأرنب. قالت: «لا بد أن الوقت مبكرًا للغاية؛ فالسحب الصغيرة جميعها وردية اللون، وأنا لم أرَ السماء هكذا من قبل أبدًا. لم يستيقظ أحد بعد. لا أسمع حتى أصوات الفتيان العاملين في الإسطبل.»
خطرت لها فكرة مفاجئة جعلتها تنهض سريعًا.
«لا يمكنني الانتظار! سأذهب لرؤية الحديقة!»
كانت في ذلك الوقت قد تعلمت أن ترتدي ملابسها وحدها، فارتدت ملابسها في خمس دقائق. وكانت تعرف بابًا صغيرًا جانبيًّا استطاعت فتح قفله بنفسها، وركضت إلى أسفل بجواربها وارتدت حذائها في البهو. فتحت سلسلة قفل الباب ثم القفل وحين فُتح الباب، قفزت فوق درجة السلم قفزة واحدة فوجدت نفسها تقف على الحشائش، التي بدا لونها وقد تحول إلى الأخضر، والشمس تغمرها بأشعتها والنسمات العليلة الدافئة تهب عليها، وأصوات التغريد والغناء تصدر من كل شجيرة وشجرة. شبكت يديها معًا من شدة السعادة، ونظرت نحو السماء فرأت ألوانها تتباين ما بين الأزرق والوردي والأبيض وتفيض بنور الربيع المشرق، حتى إنها شعرت أنها لا بد أن تغرد وتغني بصوت عالٍ وكانت تعلم أن طيور السمنة وأبا الحنَّاء والقبرة ربما لا تستطيع تمالك أنفسها أمام هذا المشهد. وأخذت تركض حول الشجيرات والممرات متَّجهة نحو الحديقة السرية.
قالت: «لقد اختلف كل شيء بالفعل؛ فالحشائش صارت أكثر اخضرارًا، والأشياء تنبت من كل مكان، والتشابكات بين النباتات تزول، وبراعم الأوراق الخضراء تظهر. أنا متأكدة من أن ديكون سيأتي بعد الظهيرة.»
كان للأمطار الدافئة الطويلة تأثيرًا غريبًا على الأحواض العشبية التي كانت تحيط بالممشى الكائن بجوار السور المنخفِض. فقد بدأت البراعم تنبت وتخرج من جذور أجمات النباتات، وكان هناك بالفعل لمحات من لون بنفسجي وأصفر زاهٍ بين سيقان نبات الزعفران بادية للعيان هنا وهناك. قبل ستة أشهر، لم تكن الآنسة ماري ترى العالم وهو يَستيقظ من سباته، لكن الآن لا يفوتها شيء من هذا.
حين وصلت إلى مخبأ الباب تحت أفرع اللبلاب، أفزعها صوت غريب مُرتفِع. كان نعيق غراب وكان قادمًا من أعلى السور، وحين نظرت إلى أعلى رأت طائرًا كبيرًا لونه أسود ضارب إلى الأزرق وله ريش لامع جالس وينظر نحوها بنظرة كلها حكمة وتروٍّ. لم تكن قد رأت غرابًا من قبل من هذه المسافة القريبة، ما جعلها تتوتَّر قليلًا، لكنه في اللحظة التالية فرد جناحيه وطار بعيدًا عبر الحديقة. كانت تأمل ألا يبقى بالداخل، ودفعت الباب وهي تتساءل ما إذا كان سيبقي أم لا. حين أصبحت داخل الحديقة إلى حدٍّ كبير، رأت أنه ربما ينوي البقاء؛ إذ حطَّ على شجرة تفاح متقزِّمة، يستلقي أسفلها حيوان أحمر اللون ذو ذيل كثيف، وكان كلاهما يراقب جسد ديكون المنحني برأسه الأحمر الصدئ، وهو جاثم على ركبتيه على الحشائش ويعمل بجدٍّ شديد.
طارت ماري عبر الحشائش نحوه.
صاحت بصوت عالٍ: «أوه! ديكون! ديكون! كيف استطعت الاستيقاظ مبكرًا هكذا؟! كيف استطعت هذا؟! لقد أشرقت الشمس للتوِّ!»
نهض من مكانه وهو يضحك ووجهه متورِّد وشعره أشعث، وعيناه بلون السماء.
قال: «حسنًا! لقد نهضت قبل شروق الشمس بوقت طويل. فكيف أستطيع البقاء في السرير وقد استيقظ العالم كله من سُباته في هذا الصباح، ويعجُّ بالعمل والطنين وأصوات الصرير وأنغام المزمار وبناء الأعشاش، وتنبعث منه الروائح العطرة، ما يجبرك على الخروج إلى العالم بدلًا من الاستلقاء في الفراش. فحين أطلَّت الشمس، أشرق المستنقع بالبهجة، وكنتُ وسط نبات الخلنج فأخذت أركض كالمجنون وأنا أصيح وأغني، وأتيتُ مباشرةً إلى هنا. لم أستطع الابتعاد عن الحديقة؛ فقد كانت في انتظاري!»
وضعت ماري يدها على صدرها وهي تلهث كما لو أنها كانت تجري هي الأخرى.
قالت: «أوه، ديكون! ديكون! أنا سعيدة للغاية، حتى إنني بالكاد أستطيع التنفس.»
حين رآه الحيوان الصغير ذو الذيل الكثيف يتحدث إلى شخص غريب، نهض من موضعه تحت الشجرة وأقبل نحوه، والغراب، الذي نعق مرة واحدة، طار إلى الأسفل من على فرعه واستقر بهدوء على كتف الفتى.
قال ديكون وهو يحكُّ رأس الحيوان الصغير الأحمر: «هذا هو جرو الثعلب الصغير، واسمه كابتن، وهذا سوت. إن سوت يطير معي عبر المستنقَع، أما كابتن فيركض كما لو أن كلاب الصيد تطارده. وكلاهما انتابه الشعور نفسه الذي انتابني اليوم.»
لم يبدُ على أيٍّ من الكائنين الخوف من ماري على الإطلاق، وحين بدأ ديكون في التجوُّل عبر المكان، ظلَّ سوت واقفًا على كتفه، بينما هرول كابتن بهدوء ليقف بالقرب من جانبه.
قال ديكون: «انظري هنا! انظري كيف خرجت هذه من الأرض، وهذه أيضًا وهذه! يا إلهي، انظري إلى هذه هنا!»
ألقى بنفسه على ركبتيه وجثت ماري أيضًا بجواره. فقد عثرا على أجمة كاملة من أزهار الزعفران التي تفتحت باللون الأرجواني والبرتقالي والذهبي. مالت ماري بوجهها مقتربة منها وأخذت تُقبِّلها.
قالت حين رفعت رأسها: «لا يُقبِّل المرء أي شخص على هذا النحو أبدًا، لكن الأزهار مختلفة تمامًا.»
بدت عليه الحيرة لكنه ابتسم.
قال: «حسنًا! أما أنا فقد قبَّلت أمي العديد من المرات بهذه الطريقة حين أعود إلى المنزل من المستنقع بعد يوم طويل من التجوُّل، وأجدها تقف عند الباب في الشمس وتبدو عليها السعادة والارتياح لرؤيتي.» أخذا يركضان من جزء لآخر في الحديقة، وعثرا على الكثير من الأشياء المذهلة لدرجة أنهما كان لا بدَّ عليهما تذكير أنفسهما طوال الوقت بضرورة التزام الهمس أو التحدث بصوت منخفض. أراها براعم أوراق منتفخة على فروع أشجار الورد التي بدت ميتة من قبل. وأراها أيضًا عشرات الآلاف من النتوءات الخضراء الجديدة تشق طريقها نحو السطح. اقتربا بأنفيهما الصغيرين المتلهِّفين من الأرض، وأخذا يشمان رائحة الربيع الدافئ المنبعثة منها، وفي الأثناء واصَلا الحفر وانتزاع الأعشاب الضارة والضحك ببهجة بصوت منخفض حتى صار شعر الآنسة ماري أشعث مثل شعر ديكون، وصارت وجنتاها بنفس حمرة وجنتيه الوردية تقريبًا.
كانت البهجة منتشرة في كل مكان على أرض الحديقة السرية في صباح ذلك اليوم، وفي وسط هذه البهجة جاء شيء أكثر بهجة من كل ذلك؛ لأنه كان أكثر روعة. فقد طار شيء ما بسرعة عبر السور واخترق الأشجار سريعًا متجهًا نحو ركن قريب نما حديثًا، مُصدرًا وهجًا صغيرًا لطائر أحمر الصدر يتدلَّى من منقاره شيء ما. وقف ديكون دون أن يُحرِّك ساكنًا ووضع يده على ماري كما لو كانا وجدا نفسيهما فجأة يضحكان داخل كنيسة.
همس لها بلهجة يوركشاير الصريحة: «علينا ألا نتحرَّك. علينا ألا نتنفس. كنتُ أعلم أنه يبحث عن رفيقة حين رأيته آخر مرة. إنه أبو الحنَّاء الخاص رفيق بِن ويذرستاف. إنه يبني عُشه، وسيبقى هنا إن لم نعارض وجوده.» واستقرا في هدوء على الحشائش وجلسا هناك دون حركة.
قال ديكون: «لا بدَّ ألا يبدو علينا أننا نراقبه عن كثب. فربما يغادرنا بلا رجعة إذا اعتقد أننا نتدخل في شئونه الآن. فهو يكون مختلفًا بعض الشيء حتى انتهاء هذا الأمر. إنه يؤسِّس بيته. كذلك سيكون أكثر خجلًا وأكثر استعدادًا لأخذ الأشياء على محمل خاطئ. ولم يعد لديه وقت للزيارات والثرثرة. فعلينا التزام السكون لبعض الوقت ومحاولة التظاهر بأننا أعشاب وأشجار وشجيرات. ثم بعد أن يعتاد رؤيتنا سأغرِّد له قليلًا وسيعلم حينها أننا لن نعترض طريقه.»
لم تكن الآنسة ماري واثقة تمامًا من أنها تعرف، مثلما بدا ديكون يعرف، كيف تحاول أن تبدو مثل الأعشاب والأشجار والشجيرات. غير أنه عبَّر عن هذا الشيء الغريب كما لو أنه أبسط شيء وأكثر شيء طبيعي في العالم؛ ومن ثمَّ شعرت أنه لا بد أن يكون من السهل عليه فعله، وجلست تراقبه لبضع دقائق بعناية، وهي تتساءل إن كان من الممكن حقًّا أن يتحول لونه إلى الأخضر ويضع على نفسه أغصانًا وأوراقًا. لكن ما كان منه سوى أن جلس فقط في هدوء مدهش، وحين كان يتحدَّث، يخفض صوته إلى درجة كان غريبًا أن تستطيع سماعها، لكنها استطاعت.
قال لها: «إن بناء الأعشاش جزء من فصل الربيع، وأعتقد أنه يحدث كل عام بالطريقة نفسها منذ بداية الخليقة. فهذه الكائنات لها طريقتها الخاصة في التفكير وفعل الأشياء ومن الأفضل للمرء ألا يتدخل فيها. قد تخسرين صديقًا في فصل الربيع بسهولة أكثر من أي فصل آخر إن سيطر الفضول عليكِ.»
قالت ماري بصوت منخفض قدر المستطاع: «حين نتحدث عنه لا أستطيع أن أمنع نفسي من النظر إليه. لا بدَّ أن نتحدث عن شيء آخر. يوجد شيء أريد أن أخبرك به.»
قال ديكون: «سيكون من الأفضل له أن نتحدث عن شيء آخر. ما الذي تريدين أن تخبريني به؟»
همست قائلة: «حسنًا، هل تعرف شيئًا عن كولن؟»
أدار رأسه لينظر إليها، وسألها: «ماذا تعرفين عنه؟»
ردت ماري: «لقد رأيته، وكنت أتحدَّث معه كل يوم طوال هذا الأسبوع. إنه يريدني أن أذهب إليه؛ فهو يقول إنني أجعله ينسى كل شيء عن المرض والموت.»
بدا على ديكون الارتياح فعليًّا بمجرد اختفاء تعبير المفاجأة من على وجهه المستدير.
صاح قائلًا: «يسعدني هذا كثيرًا؛ أنا سعيد به حقًّا. فهذا يجعلني أكثر ارتياحًا. كنتُ أعلم أن عليَّ ألا أقول أي شيء عنه، وأنا لا أحب أن أكون مضطرًّا لإخفاء الأشياء.»
قالت ماري: «ألا يعجبك إخفاء أمر الحديقة؟»
أجابها: «أنا لن أقول أي شيء عنها أبدًا، لكني أقول لأمي: «أمي، إن لدي سرًّا عليَّ أن أخفيه. إنه ليس شيئًا سيئًا؛ وأنتِ تعرفين هذا. ليس أسوأ من إخفاء مكان أعشاش الطيور. أنتِ لا تمانعين بهذا، أليس كذلك؟»»
كانت ماري تريد أن تسمع عن والدته طوال الوقت.
فسألته وهي لا تخشى تمامًا سماع الإجابة: «ماذا قالت؟»
ابتسم ديكون ابتسامة عذبة، وقال: «قالت ما تقوله في المعتاد. فركت رأسي قليلًا وضحكت وهي تقول: «آه يا فتى، يمكنك الاحتفاظ بأي قدر تريد من الأسرار؛ فأنا أعرفك جيدًا منذ اثني عشر عامًا».»
سألته ماري: «كيف عرفتَ بأمر كولن؟»
«جميع مَن يعرفون السيد كرافن يعرفون أن لديه طفلًا صغيرًا معاقًا، ويعرفون أن السيد كرافن لم يكن يحب أن يتحدث أحد عنه. إن الناس يشعرون بالأسف للسيد كرافن؛ لأن السيدة كرافن كانت امرأة شابة جميلة للغاية وكانا يعشق كلٌّ منهما الآخر كثيرًا. إن السيدة ميدلوك تمرُّ بكوخنا كلما ذهبت إلى قرية ثوايت ولا تجد بأسًا من الحديث إلى أمي أمامنا نحن الأطفال؛ لأنها تعرف أننا قد تربينا على أن نُصبح أهلًا للثقة. كيف عرفتِ أنتِ بشأنه؟ كانت مارثا مضطربة للغاية في آخر مرة أتت فيها إلى المنزل. لقد قالت إنك تسمعين صوت هياجِه وأنكِ تطرحين أسئلة ولم تعرف ماذا تقول لكِ.»
أخبرته ماري بقصتها عن الرياح التي كانت تعوي في منتصف الليل وأيقظتها، وعن الأصوات الخافتة البعيدة التي سمعتها كما لو أن أحدًا يشكو من خطب ما، والتي قادتها عبر الأروقة المظلمة وهي تحمل شمعتها، وانتهى بها الحال بفتح باب الغرفة ذات الضوء الخافت التي وجدت بها سريرًا خشبيًّا منحوتًا له أربعة أعمدة في أحد أركانها. وحين وصفت الوجه الصغير الأبيض العاجي والعينين الغريبتين ذات الحواف السوداء، هز ديكون رأسه.
قال لها: «إنها تشبه عينا أمه، الاختلاف الوحيد أن عينيها كانتا تضحكان دائمًا، كما يقولون. إنهم يقولون إن السيد كرافن لا يتحمَّل رؤية كولن وهو مستيقظ؛ لأن عينيه تشبهان عيني والدته كثيرًا، ولكنه يبدو مختلفًا عنها تمامًا بسبب وجهه البائس.»
همست ماري قائلة: «أتعتقد أنه يريد أن يموت؟»
«كلا، لكنه يتمنى لو أنه لم يولد أبدًا. تقول أمي إن هذا أسوأ شيء على وجه الأرض يمكن أن يحدث لطفل. فالأطفال غير المرغوبين من آبائهم نادرًا ما يعيشون. إن السيد كرافن بإمكانه شراء أي شيء يُمكن للمال أن يشتريه لهذا الطفل المسكين، لكنه يريد نسيان وجوده على وجه الأرض. وأحد أسباب هذا هو خوفه من أن ينظر إليه يومًا ما ويراه قد أصبح أحدب الظهر.»
قالت ماري: «كولن نفسه يخشى هذا لدرجة أنه لا يجلس حتى. فهو يقول إنه طوال الوقت يفكر أنه إن أحس بظهور حدبة في ظهره، سيجن جنونه وسيظل يصرخ حتى الموت.»
قال ديكون: «عليه ألا يظل مستلقيًا هناك ويفكر في أشياء مثل هذه. لا يُمكن لأي فتًى أن يتحسن وهو يفكر في مثل هذه الأشياء.»
كان الثعلب مستلقيًا على الحشائش بالقرب منه ينظر لأعلى ليطلب من ديكون أن يُداعبه بين الحين والآخر، فانحنى ديكون وداعب عنقه برقة، وفكر لبضع دقائق في صمت، ثم رفع رأسه وجال بنظر عبر أرجاء الحديقة.
قال: «حين جئنا إلى هنا لأول مرة، بدا كل شيء رماديًّا كئيبًا. والآن انظري من حولك وأخبريني إن كنتِ ترَين فرقًا.»
نظرت ماري حولها والتقطت نَفَسَها قليلًا وصاحت: «يا إلهي! إن السور الرمادي يتغير لونه. يبدو كما لو أن ضبابًا رقيقًا أخضر اللون يزحَف عليه، كأنه ستار من الشاش الأخضر.»
قال ديكون: «أجل، وسيظلُّ يزداد اخضرارًا حتى يختفي اللون الرمادي بالكامل. هل يُمكنكِ تخمين ما كنتُ أفكر فيه؟»
قالت ماري بلهفة: «أعلم أنه شيء جميل، وأعتقد أنه شيء بخصوص كولن.»
قال موضحًا: «كنتُ أفكر أنه إذا خرج وجاء إلى هنا، فلن يهتمَّ بمراقبة نمو الحدبات في ظهره، بل سينصبُّ اهتمامه على مراقبة البراعم وظهورها على شجيرات الورد، وستتحسَّن صحته على الأرجح. وكنتُ أتساءل إذا كنا نستطيع أن نُدخل عليه السعادة ونجعله يأتي معنا إلى هنا ويَستلقي تحت الأشجار في عربته.»
قالت ماري: «كنتُ أتساءل أنا أيضًا عن ذلك. كنت أفكر فيه في كل مرة كنت أتحدث معه. كنت أتساءل إن كان بإمكانه كتمان سر، وإن كان بإمكاننا إحضاره معنا إلى هنا دون أن يرانا أحد. فكرتُ في أنك ربما يُمكنك أن تدفع عربته، فقد قال الطبيب إنه لا بدَّ أن يحصل على هواء نقي، وإن أراد منَّا أن نصطحبه معنا، فلن يجرؤ أحد على معارضته. إنه لن يسعى للاختلاط بالآخرين، وربما سيَسعدون إن خرج معنا. يُمكنه أن يأمر البستانيين بالبقاء بعيدًا حتى لا يعرفون بالأمر.»
كان ديكون يُفكر بعمق وهو يحكُّ ظهر كابتن.
قال: «سيكون هذا مفيدًا له، أنا متأكد من هذا. فنحن لا نفكر أبدًا في أنه كان من الأفضل لو لم يُولد أبدًا. فنحن مجرد طفلين يُراقبان حديقة وهي تنمو، وهو سيكون ثالثنا. سنكون مجرد صبيَّين وفتاة صغيرة يُشاهدون الطبيعة في الربيع. وأنا متأكد من أن هذا سيكون أفضل من كلام الأطباء.»
قالت ماري: «لقد ظلَّ وقتًا طويلًا مستلقيًا على ظهره في غرفته، وكان خائفًا طوال الوقت من ظهره لدرجة جعلته غريب الأطوار. إنه يعرف الكثير من الأشياء من الكتب، لكنه لا يعرف أي شيء آخر؛ فهو يقول إن مرضه الشديد منعه من ملاحظة الأشياء، وإنه يكره الخروج من المنزل ويكره الحدائق والبستانيين. لكنه يحبُّ سماع القصص عن هذه الحديقة لأنها سرِّية. لم أجرؤ على إخباره بالكثير عنها، لكنه قال إنه يريد رؤيتها.»
قال ديكون: «سنَجعله يخرج ويأتي إلى هنا في وقتٍ ما بالتأكيد. يُمكنني أن أدفع عربته جيدًا. هل لاحظتِ كيف واصل أبو الحنَّاء ورفيقته العمل ونحن جالسين هنا؟ انظري إليه وهو جاثم على هذا الفرع ويفكر في أفضل مكان لوضع هذا الغصن الصغير الذي يحمله في منقاره.»
وأصدر واحدةً من صفارات النداء الخفيضة التي يُصدرها، فأدار أبو الحنَّاء رأسه ونظر إليه متسائلًا، وهو لا يزال يحمل غصنه الصغير. تحدَّث ديكون إليه مثلما يفعل بِن ويذرستاف، ولكن نبرة ديكون كانت نبرة نُصحٍ ودي.
قال: «سيكون مكانه مناسبًا تمامًا أينما تضعه؛ فأنت تعرف طريقة بناء العُشِّ قبل خروجك من البيضة. هيا يا صديقي، واصلِ العمل؛ فلا يوجد وقت لتُضيِّعه.»
قالت ماري وهي تضحك بسعادة: «يا إلهي! كم أحب أن أسمعك وأنت تتحدَّث إليه! إن بِن ويذرستاف يُعنِّفه ويسخر منه، فيأخذ في القفز هنا وهناك ويبدو كما لو كان يفهم كل كلمة، وأنا أعرف أنه يحبُّ هذا. يقول بِن ويذرستاف إنه مغرور لدرجة أن قذْف الناس له بالحجارة خير له من عدم ملاحظتهم لوجوده.»
ضحك ديكون أيضًا وواصَل الحديث.
قال لأبي الحنَّاء: «أنت تعرف أننا لن نزعجك؛ فنحن مثل الحيوانات البرية تمامًا؛ نحن أيضًا نبني عُشًّا، باركك الله. احترس من الوشاية بنا.»
وعلى الرغم من أن أبا الحنَّاء لم يُجب؛ لأن منقاره كان مشغولًا، كانت ماري تعلم أنه حين طار بعيدًا بفرعه الصغير إلى ركنه في الحديقة، كانت النظرة الغامضة في عينيه اللامعتين التي تشبه قطرات الندى تعني أنه لن يُخبر أحدًا بسرِّهما مهما حدث.