«لقد حلَّ!»
بالطبع أرسلوا في طلب الطبيب كرافن في صباح اليوم التالي لنوبة كولن العصبية؛ فقد كانوا دومًا يرسلون في طلبه فور حدوث أشياء مثل هذه، ودائمًا حين يصل يجد فتًى شاحب اللون يرتعش، مستلقيًا في سريره في عبوس ولا يزال في حالة هستيرية حادة، لدرجة أن لديه استعدادًا للانفجار في نحيب جديد على أقل كلمة. في الواقع كان الطبيب كرافن يفزع من الصعوبات التي تواجهه في هذه الزيارات ويكرهها كثيرًا. أما هذه المرة، فلم يأتِ إلى ضيعة ميسلثويت حتى حلول العصر.
سأل السيدة ميدلوك في غضب حين وصل: «كيف حاله؟ سوف يتسبَّب في انفجار أحد شرايينه في يوم من الأيام في مثل هذه النوبات. إنه يُشارف على الجنون من الهستيريا والتدليل المفرط.»
أجابته السيدة ميدلوك: «حسنًا يا سيدي، لن تصدِّق عينيك حين تراه. إن تلك الطفلة ذات الوجه العابس التي لا تقلُّ عنه سوءًا قد سحرته. ولا يدري أحد كيف فعلت هذا. فالرب وحده يعلم أن ليس بها ما يسرُّ الأعين، ونادرًا ما تتحدث، لكنها فعلت ما لم يجرؤ أحد منا على فعله. فقد انقضت عليه مثل قطة صغيرة في الليلة الماضية، وضربت الأرض بقدمَيها وأمرته بأن يتوقف عن الصراخ، وروعته إلى حدٍّ ما لدرجة أنه توقَّف بالفعل، وفي عصر اليوم … حسنًا يمكنك أن تأتي وتنظر بنفسك يا سيدي. إن الأمر يفوق حد التصديق.»
كان المشهد الذي رآه الطبيب كرافن حين دخل غرفة مريضه بالفعل مذهلًا بالنسبة إليه؛ فحين فتحت السيدة ميدلوك الباب سمع صوت ضحك وثرثرة. كان كولن على أريكته مرتديًا رداء نومه، ويجلس منتصبًا معتدل الظهر إلى حدٍّ ما ينظر إلى إحدى الصور في واحد من كتب العناية بالحدائق، ويتحدَّث إلى الطفلة العادية الملامح التي كان من الصعب في هذه اللحظة وصفها بأنها عادية الملامح على الإطلاق؛ إذ كان وجهها متوهجًا من الاستمتاع.
كان كولن يقول: «إن تلك الأعمدة الطويلة الزرقاء … سيكون لدينا الكثير منها. إنها تُدعى دل-فين-يوم.»
صاحت الآنسة ماري: «يقول ديكون إنها عوائق نمَت لتُصبح كبيرة وطويلة، وتوجد مجموعات منها بالفعل.»
حينها رأى الاثنان الدكتور كرافن وتوقَّفا عن الحديث، والتزمت ماري الصمت التام فيما بدا كولن مضطربًا.
قال الدكتور كرافن بقليل من العصبية: «يؤسفني ما سمعته عن إصابتك بالإعياء الليلة الماضية يا بني.» وكان رجلًا عصبيًّا بطبعه.
رد كولن كما لو كان أميرًا هنديًّا صغيرًا: «أنا أحسن حالًا الآن … أحسن بكثير. سأخرج من المنزل على مقعدي المتحرك في غضون يوم أو يومين إن كان الجو صحوًا. فأنا أريد استنشاق بعض الهواء النقي.»
جلس الدكتور كرافن بجواره وتحسَّس نبضه ونظر إليه بفضول شديد.
قال: «لا بدَّ أن يكون هذا في يوم صحو للغاية، ولا بد أن تنتبه جيدًا حتى لا تجهد نفسك.»
قال الأمير الهندي الصغير: «إن الهواء النقي لن يتعبني.»
لم يكن ثمَّة ما يثير العجب فيما شعر به الطبيب من دهشة؛ فهذا الفتى الصغير نفسه كان في بعض الأحيان يملأ الأجواء صراخًا من الغضب وكان يصرُّ على أن الهواء النقي سيصيبه بالبرد ويقتله.
قال له: «لقد اعتقدتُ أنك لا تحب الهواء النقي.»
أجاب الأمير الصغير: «لا أحبه حين أكون وحدي، لكن ابنة خالي ستخرج معي.»
قال الدكتور كرافن مقترحًا: «والممرِّضة بالطبع، أليس كذلك؟»
قال كولن: «كلا، لن آخذ الممرضة معي.» قالها بعظمة حتى إن ماري لم يسعها إلا أن تتذكر شكل الأمير الهندي الصغير بالجواهر والزمرد واللآلئ التي تُغطيه وأحجار الياقوت الضخمة على يده الداكنة الصغيرة التي كان يلوح بها آمرًا خدمه بالاقتراب منه والانحناء وتقديم التحية له وتلقي أوامره.
«إن ابنة خالي تعرف كيف تعتني بي، وأنا دومًا ما أكون أفضل حالًا حين تكون معي. لقد جعلتْني أشعر بتحسن الليلة الماضية، وهناك فتًى قوي للغاية أعرفه سيدفع مقعدي.»
شعر الطبيب كرافن بالانزعاج بعض الشيء؛ فإن حصل هذا الفتى الانفعالي المتعَب على فرصة لتحسُّن حالته، سيفقد هذا الطبيب نفسه كل فرصة له في أن يرث ميسلثويت، لكنه لم يكن رجلًا عديم الضمير، على الرغم من كونه ضعيف الشخصية، ولم يكن يَنوي تعريض الفتى لأي خطر حقيقي.
قال: «لا بدَّ أن يكون فتًى قويًّا ورزينًا، ولا بد أن أعرف بعض المعلومات عنه. من هو؟ وما اسمه؟»
تحدثت ماري فجأة: «إنه ديكون»؛ فقد شعرت إلى حدٍّ ما أن أي شخص يعرف المستنقَع لا بدَّ أن يعرف ديكون. وكانت على حق في هذا أيضًا؛ فقد رأت وجه الدكتور كرافن الجاد المتوتر وقد ارتخى وظهرت عليه ابتسامة ارتياح.
قال: «آه، ديكون. إن كان ديكون، فستكون في أمانٍ بما يكفي؛ فهو فتًى قوي مثل مُهر المستنقع؛ إنه ديكون!»
قالت ماري: «ومؤتمَن أيضًا. إنه أكثر فتًى جدارةً بالثقة في يوركشاير كلها.» كانت تتحدث بلهجة يوركشاير، كما كانت تتحدث إلى كولن، ونسيت نفسها.
سألها الطبيب كرافن وهو يضحك بلا تحفظ: «هل علَّمكِ ديكون ذلك؟»
قالت ماري ببعض البرود: «إني أتعلم هذه اللهجة كما لو أني أتعلم الفرنسية. إنها تشبه إحدى اللهجات المحلية في الهند، والأشخاص شديدو الذكاء فقط هم من يُحاولون تعلمها. أنا أحبها كثيرًا وكولن أيضًا.» قال الطبيب: «حسنًا، حسنًا، إن كنتِ تستمعين بها، فإنها لن تضرَّك. هل تناولتَ دواءك المهدئ ليلة أمس يا كولن؟»
رد كولن: «كلا، لم أتناوله في البداية، وبعدما هدأتني ماري، أخذت تتحدث إليَّ بصوت خفيض وتُخبرني عن زحف الربيع على إحدى الحدائق حتى خلدتُ إلى النوم.»
قال الطبيب كرافن، وهو أكثر ارتباكًا من ذي قبل، وينظر جانبًا نحو الآنسة ماري التي كانت جالسة على مسند القدمين وتنظر في صمت نحو السجادة: «يبدو هذا مهدئًا بالفعل. من الواضح أنك أفضل حالًا، لكن عليك أن تتذكر …»
قاطعه كولن، وقد تحوَّل إلى أمير هندي صغير مرةً أخرى: «لا أريد تذكر أي شيء؛ فحين أستلقي وحدي وأتذكر، أبدأ في الشعور بالآلام تداهم كل مكان في جسدي، وأفكر في أشياء تجعلني أبدأ في الصراخ، لأني أكرهها كثيرًا. لو كان يوجد طبيب في أي مكان يستطيع أن يجعل المرء ينسى المرض بدلًا من تذكره، لأحضرته إلى هنا.» وأشار بيد نحيلة كان من المفترض أن تكون مغطاة بخواتم ملكية من الياقوت وأردف قائلًا: «إن حالتي تتحسَّن لأن ابنة خالي تجعلني أنسى.»
لم يقم الطبيب كرافن بزيارة قصيرة كهذه بعد «نوبة غضب» من قبل؛ فعادةً ما كان يضطر إلى البقاء لفترة طويلة للغاية وفعل الكثير من الأشياء. ففي عصر ذلك اليوم لم يكتب أي أدوية، ولم يترك أي أوامر جديدة، ولم يتعرَّض لأي مناظر بغيضة. حين نزل إلى الطابق السفلي، بدا منهمكًا في التفكير، وحين تحدث إلى السيدة ميدلوك في المكتبة، شعرت بحيرته البالغة.
بادرته قائلة: «حسنًا يا سيدي، أيُمكنك أن تصدق هذا؟»
قال الطبيب: «هذا وضع جديد بالتأكيد، ولا يُمكن إنكار أنه أفضل من الوضع القديم.»
قالت السيدة ميدلوك: «أعتقد أن سوزان سويربي محقَّة؛ فقد مررتُ على كوخها في طريقي إلى ثوايت أمس وتحدثتُ معها قليلًا. وقد قالت لي: «حسنًا يا سارة آن، ربما لا تكون طفلة جيدة، وربما لا تكون طفلة جميلة، لكنها طفلة في النهاية، والأطفال بحاجة إلى أطفال آخرين.» لقد كنا نرتاد المدرسة نفسها أنا وسوزان سويربي.»
قال الطبيب كرافن: «إنها أفضل ممرِّضة للمرضى عرفتها على الإطلاق؛ فحين أراها في كوخٍ ما، أعرف أن فرَصي في إنقاذ مريضي كبيرة.»
ابتسمت السيدة ميدلوك؛ فقد كانت تحبُّ سوزان سويربي حبًّا جمًّا.
واصلت حديثها بطلاقة: «إن لسوزان طريقة خاصة في التعامل معها. لقد ظللتُ أفكر طوال الصباح في شيء قالته لي يوم أمس؛ إنها تقول: «ذات مرة حين كنتُ أعظ الأطفال بعد عراكهم معًا قلتُ لهم: حين كنتُ في المدرسة، تعلمتُ في الجغرافيا أن العالم يُشبه ثمرة البرتقال في شكلها، وأدركتُ قبل أن أبلغ العاشرة أن البرتقالة كلها لا تخص شخصًا بعينه. ولا أحد يعرف أكثر من الربع الخاص به، وثمة أوقات يبدو فيها أن عدد الأرباع لا يكفي لاكتمال البرتقالة. لكن لا يظن أحدكم أبدًا أنه يمتلك البرتقالة بأكملها وإلا سيكتشف أنه مخطئ في ذلك، ولن تأتي هذه المعرفة دون خسائر.» وتقول أيضًا: «إن ما يتعلمه الأطفال من بعضهم أنه لا طائل من التمسك بالبرتقالة بأكملها، بكل ما فيها حتى القشور. وإن حدث هذا، فعلى الأرجح أنك لن تحصل حتى على البذور وهي شديدة المرارة».»
قال الطبيب كرافن وهو يرتدي معطفه: «إنها امرأة فَطِنة.»
أنهت السيدة ميدلوك الحوار وهي سعيدة للغاية: «حسنًا، إن لديها طريقة للتعبير عن الأشياء. أحيانًا كنت أقول لها: «سوزان، لو كنتِ امرأةً مختلفةً ولا تتحدَّثين بلهجة يوركشاير هكذا، لقلتُ عنك في كثير من الأوقات إنك امرأة ذكية».»
في تلك الليلة نام كولن دون أن يستيقظ ولو مرة واحدة، وحين فتح عينيه في الصباح استلقى ساكنًا وابتسم دون أن يشعر … ابتسم لأنه شعر براحة غريبة. لقد كان سعيدًا حقًّا بأنه قد استيقظ من النوم، وأخذ يتقلَّب ويمدد أطرافه ويتمطى بتلذذ. فقد شعر كما لو أن خيوطًا مشدودة كانت تقيد حركته قد ارتخت وحرَّرته من قبضتها. لم يكن يعرف أن الطبيب كرافن كان سيقول إن أعصابه قد استرخت وهدأت. وبدلًا من أن يبقى مستلقيًا يُحدِّق في الحائط ويتمنَّى لو أنه لم يستيقظ، كان ذهنه منشغلًا بالخطط التي وضعها هو وماري يوم أمس، وبصور الحديقة وديكون وكائناته البرية. كان من الرائع أن يكون لديه ما يفكر فيه. ولم يمضِ على استيقاظه عشر دقائق حتى سمع وقْع أقدام تركض عبر الرواق وكانت ماري تقف عند الباب. وفي اللحظة التالية دخلت إلى الغرفة وركضت نحو السرير وقد أحضرت معها نسمة من الهواء النقي العابق برائحة الصباح.
صاح قائلًا: «لقد خرجتِ! لقد خرجتِ! تفوح منك تلك الرائحة الجميلة للأوراق!»
لقد كانت تركض وكان شعرها مفكوكًا ومتطايرًا من الهواء، وكان وجهها يتألَّق من نقاء الهواء ووجنتاها تَشعَّان حُمرةً، لكنه لم يستطع رؤية كل هذا.
قالت وهي تلهث من السرعة: «إنه شديد الجمال! إنك لم ترَ شيئًا في مثل هذا الجمال! لقد حلَّ! كنتُ قد ظننتُ أنه قد جاء في صباح ذلك اليوم، لكنه كان على وشك المجيء فقط. أما الآن فقد حلَّ! لقد حلَّ الربيع! إن ديكون يقول هذا!»
صاح كولن: «حقًّا؟» وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف أي شيء عنه، فقد شعر بقلبه يخفق بقوة، وجلس منتصبًا في سريره.
أضاف قائلًا، وهو يضحك ضحكة نصفها مما به من إثارة وسعادة، ونصفها الآخر سخرية من خياله: «افتحي النافذة! ربما يُمكننا سماع الأبواق الذهبية!»
وعلى الرغم من أنه كان يضحك، كانت ماري عند النافذة في لحظة، وفي لحظة أخرى فتحتها على مصراعيها، فتدفق إلى الغرفة كل ما في الجو من نقاء وعذوبة وروائح وأغاريد الطيور.
قالت له: «هذا هو الهواء النقي. استلقِ على ظهرك وخذ أنفاسًا عميقة منه. هذا ما يفعله ديكون حين يكون مستلقيًا على المستنقع. إنه يقول إنه يشعر بالهواء يتغلغل في عروقه ويمنحه قوةً، ويشعر أن بإمكانه أن يعيش إلى الأبد. هيَّا استنشقه، هيَّا.»
كانت فقط تُكرِّر ما أخبرها به ديكون، لكنها جذبت انتباه كولن.
قال: «إلى الأبد! أهذا يجعله يشعر بهذا الشعور؟» وفعل كما أخبرته، وأخذ نفسًا عميقًا مرة تلو الأخرى حتى شعر بأن شيئًا جديدًا تمامًا ورائعًا يحدث له.
وذهبت ماري بجوار سريره مرةً أخرى.
ركضت مسرعةً وقالت: «إن الأشياء تتسارع للخروج من الأرض، وثمَّة أزهار تتفتَّح، وبراعم في كل مكان، والستار الأخضر غطَّى كل اللون الرمادي تقريبًا والطيور تسارع ببناء أعشاشها خوفًا من أن تكون قد تأخَّرت، حتى إن بعضها يتشاجر على أماكن في الحديقة السرية. وتبدو شجيرات الورد مثل الفتيل، وأزهار الربيع منتشرة في كل الممرات والغابات، وشقَّت البذور التي زرعناه طريقها إلى سطح الأرض، وأحضر ديكون الثعلب والغراب والسنجابين وحَمَلًا حديث الولادة.»
ثم توقفت برهة لتلتقط أنفاسها. كان ديكون قد عثر على الحَمَل حديث الولادة منذ ثلاثة أيام راقدًا بجوار أمه المتوفاة بين شجيرات الجولق في المستنقع. لم يكن هذا أول حَمَل يتيم يعثر عليه، وكان يعرف كيف يتصرَّف معه. فقد أخذه إلى الكوخ ملفوفًا في سترته وجعله يستلقي بجوار المدفأة وأطعمه حليبًا دافئًا. كان مخلوقًا رقيقًا ذا وجه طفولي جميل وكانت أرجله طويلة نوعًا ما بالنسبة إلى جسده. حمله ديكون بين ذراعيه إلى المستنقع ووضع زجاجة الحليب في جيبه مع سنجاب، وحين جلست ماري تحت إحدى الأشجار وربض في حجرها بدفئه الضعيف شعرت كما لو أن ثمَّة سعادة غريبة تغمرها وتمنعها من الكلام. إنه حَمَل، … حَمَل! حَمَل حي يرقد في حِجرها مثل طفل رضيع!
كانت تصفه بسعادة كبيرة وكولن يُنصت إليها ويأخذ أنفاسًا عميقة من الهواء حين دخلت الممرضة إلى الغرفة. جفلت قليلًا حين رأت النافذة مفتوحةً، وهي من كانت تجلس مختنقةً في هذه الغرفة في كثير من الأيام الدافئة لمجرَّد أن مريضها كان متأكدًا من أن النوافذ المفتوحة تصيب الناس بنزلات البرد.
سألته قائلةً: «أمتأكد من أنك لا تشعر بالبرد، يا سيد كولن؟»
أجابها: «كلا، فأنا أستنشق أنفاسًا عميقة من الهواء النقي. إن هذا يَجعلني قويًّا، وسأنهض إلى الأريكة لتناول الإفطار. إن ابنة خالي ستتناول الإفطار معي.»
خرجت الممرضة وهي تبتسم خفيةً، لتُعطي الأوامر بتحضير وجبتي إفطار. طالما كانت تجد بهو الخدم مكانًا مسليًا أكثر من غرفة مريضها، والآن يريد الجميع سماع الأخبار عن الدور العلوي. وجدت الكثير من المزاح حول الشاب المنعزل الصغير غير المحبوب، الذي كما قال الطاهي: «وجد سيده، وهذا أفضل له.» فقد ضجر بهو الخدم من النوبات العصبية، وكبير الخدم، الذي كان لديه أسرة، عبَّر عن رأيه أكثر من مرة بأنه سيكون من الأفضل للمريض أن يجد له «مخبأ جيدًا.»
حين جلس كولن على الأريكة ووُضِعت وجبتا الإفطار على الطاولة وجَّه إخطارًا إلى الممرضة بأسلوب الأمير الصغير.
«سيأتي فتًى ومعه ثعلب وغراب وسنجابين وحَمَل حديث الولادة لزيارتي هذا الصباح. أريد إحضارهم جميعًا إليَّ في الطابق العلوي بمجرد وصولهم. عليكِ ألا تبدئي في اللعب مع الحيوانات وتبقيها في بهو الخدم؛ فأنا أريدها عندي هنا.» شهقت الممرضة قليلًا وحاولت إخفاء الأمر بسعال بسيط.
أجابت: «حاضر يا سيدي.»
أضاف كولن وهو يُلوِّح بيده: «سأخبركِ بما يمكنك أن تفعلي؛ يمكنك أن تخبري مارثا بأن تُحضرها جميعًا إلى هنا. فالفتى هو شقيق مارثا، واسمه ديكون وهو مروِّض حيوانات.»
قالت الممرضة: «أرجو ألا تكون هذه الحيوانات تعض يا سيد كولن.»
قال لها كولن عابسًا: «قلتُ لكِ إنه مروض، وحيوانات المروض لا تعضُّ أبدًا.»
قالت ماري: «يوجد في الهند مُروِّضو ثعابين، ويمكنهم وضع رءوس ثعابينهم داخل أفواههم.»
ارتعشت الممرضة وقالت: «يا إلهي!»
تناول الاثنان إفطارهما وهواء الصباح المنعش يغمرهما. كان إفطار كولن إفطارًا رائعًا وراقبته ماري وهو يتناوله باهتمام بالغ.
قالت له: «سيزداد وزنك تمامًا كما حدث معي، فلم يكن لديَّ شهية قط للإفطار حين كنتُ في الهند، أما الآن فأنا أريد تناوله كل يوم.»
قال كولن: «لقد أردتُ تناول إفطاري هذا الصباح، ربما كان هذا بسبب الهواء المنعش، متى سيأتي ديكون في ظنك؟»
لم يستغرق الأمر طويلًا، فبعد عشر دقائق تقريبًا رفعت ماري يدها وقالت: «أنصت! هل تسمع صوت نعيق؟»
أنصت كولن وسمعه بالفعل، وكان أغرب صوت في العالم يُمكن سماعه داخل منزل؛ فقد كان نعيقًا غليظًا.
أجابها قائلًا: «أجل.»
قالت ماري: «إنه سوت، أنصت مرةً أخرى، هل تسمع صوت ثغاء … ثغاءً خافتًا؟»
صاح كولن وقد تورَّدت وجنتاه: «آه، أجل!»
قالت ماري: «إنه صوت الحَمَل الحديث الولادة، إنه قادم.»
كان حذاء ديكون الطويل الذي يرتديه في أرض المستنقع سميكًا وثقيلًا، وعلى الرغم من محاولته السير بهدوء، كان يُصدر صوتًا ثقيلًا وهو يسير عبر الأروقة الطويلة. سمعه ماري وكولن وهو يسير ويسير، حتى عبر الباب المغطَّى بالبساط المطرَّز ووطأ بقدميه على السجادة الناعمة التي تفترش الممر المؤدِّي لغرفة كولن.
قالت مارثا وهي تفتح الباب: «فليسمح سيدي، هذا ديكون وكائناته.»
دخل ديكون مبتسمًا ابتسامته العريضة الجميلة، وهو يحمل الحمل الحديث الولادة بين ذراعيه والثعلب الصغير الأحمر يركض بجواره. أما نَت، فقد جلس على كتفه اليسرى وسوت على كتفه اليمنى، فيما برز رأس شِل وكفوفه من جيب معطفه.
اعتدل كولن ببطء في جلسته وظل يُحدِّق ويُحدِّق، تمامًا مثلما كان يُحدِّق حين رأى ماري لأول مرة، لكن هذه المرة كانت نظراته مليئة بالتعجُّب والسعادة. فالحقيقة أنه بالرغم من كل ما سمعه، لم يكن يتصوَّر على الإطلاق شكل هذا الفتى ومدى قرب ثعلبه وغرابه وسنجابيه وحَمَله منه هكذا، ومدى لُطفه معهم حتى تبدو هذه الكائنات جزءًا منه على هذا النحو. لم يتحدث كولن لفتًى في حياته من قبل، وكان شديد الارتباك من فرط سعادته وفضوله حتى إنه لم يفكر حتى في الكلام.
أما ديكون، فلم يشعر بذرة خجل أو ارتباك. لم يكن يشعر بالحرج لأن الغراب لم يكن يفهم لغته، وظل يُحدِّق فيه فحسب، ولم يتحدث إليه قط في أول لقاء بينهما. فهذا هو حال المخلوقات كلها حتى تبدأ في التعرف عليك. اتَّجه نحو أريكة كولن ووضع الحمل الحديث الولادة بهدوء في حِجره، وعلى الفور استدار المخلوق الصغير نحو رداء نومه المخملي، وشرع يمرغ أنفه في طياته، ويُقحم رأسه الأشعث بنفاد صبر لطيف في جانبه، وبالطبع لم يكن لأي فتًى أن يصمت وسط كل هذا.
صاح كولن قائلًا: «ماذا يفعل؟ ماذا يريد؟»
قال ديكون وقد اتَّسعت ابتسامته أكثر وأكثر: «إنه يريد أمه؛ فقد أحضرتُه لك جائعًا بعض الشيء لأنني كنتُ أعلم أنك تريد رؤيته وهو يأكل.»
وجثا على ركبتيه بجوار الأريكة وأخرج زجاجة الحليب من جيبه.
قال وهو يُدير الرأس الأبيض الصغير المكسو بالصوف بيده الرقيقة البنية: «هيا أيها الصغير، هذا ما تريده. ستستفيد من هذا أكثر مما ستستفيد من المعاطف الحريرية المخملية. هيا الآن.» ثم دفع الطرف المطاطي للزجاجة داخل فمه فبدأ الحمل في مصِّه بنشوة شرهة.
بعد ذلك لم يعد ثمَّة تساؤل عما يمكن أن يُقال؛ فحين خلد الحمل الصغير إلى النوم انهالت الأسئلة على ديكون كالسيل وأجاب عنها جميعًا. أخبرهما كيف عثر على الحمل عند شروق الشمس منذ ثلاثة أيام. كان واقفًا في المستنقع يستمع إلى طائر القُبَّرة ويراقبه وهو يطير ويرتفع أكثر وأكثر في السماء حتى صار مجرد نقطة في أعالي السماء الزرقاء.
«لم أعد أراه تقريبًا لكني استطعت سماع تغريده، وتساءلتُ كيف يمكن للمرء سماعه وقد بدا كما لو أنه خرج من هذا العالم في لحظة، وعندها سمعتُ شيئًا آخر من على بُعد بين شجيرات الجولق. كان صوت ثُغاء ضعيف وعلمت على الفور أنه حَمَل حديث الولادة وجائع وعلمتُ أنه لم يكن ليشعر بالجوع إلا إن كان فقد والدته بشكل أو بآخر، وانطلقتُ بحثًا عنه. بحثتُ عنه كثيرًا. فقد دخلتُ بين شجيرات الجولق وخرجتُ منها ودرتُ حولها مرارًا وبدا لي دومًا أني أسلك المنعطف الخطأ. وأخيرًا رأيتُ لمحة من لون أبيض عند صخرة في أعلى المستنقع فتسلقتُ وعثرتُ على هذا الصغير شبه ميت من البرد والهزال.» في أثناء حديثه ظل سوت يطير دخولًا وخروجًا عبر النافذة المفتوحة وينعق بإشارات إلى المشهد، بينما ذهب نَت وشِل في رحلات قصيرة داخل الأشجار الكبيرة بالخارج وظلا يركضان على الجذوع صعودًا وهبوطًا الجذوع ويتفقدان الفروع. أما كابتن فقد جلس متقوقعًا على نفسه بالقرب من ديكون، الذي جلس على سجادة المدفأة بحكم العادة.
تفقدوا الصور في كتب العناية بالحدائق وكان ديكون يعرف جميع الأزهار بأسماء بلادها ويعرف بالضبط أيها ينمو في الحديقة السرية.
قال وهو يشير إلى إحدى الأزهار التي كُتب تحتها اسم «أنقولية»: «لا أدري إن كان هذا اسمها، لكننا نطلق عليها اسم الحوضية، وتنمو هي وأزهار أنف العجل طبيعيًّا في الأسيجة، لكن هذه تنمو في الحدائق وهي أكبر وأضخم بكثير. وتوجد تجمُّعات كبيرة من أزهار الحوضية في الحديقة، وستبدو جميعها مثل حوض من فراشات زرقاء وبيضاء ترفرف عند ظهورها.»
صاح كولن قائلًا: «سأذهب لرؤيتها، سأذهب لرؤيتها!»
قالت ماري بجدية: «أجل، لا بدَّ من هذا، وعلينا ألا نُضيع أي وقت.»