بِن ويذرستاف
من الأشياء الغريبة المتعلِّقة بالحياة في هذا العالم أن المرء لا يتأكد إلا بين الحين والآخر أنه سيَعيش إلى الأبد. فالمرء يدرك هذا في بعض الأحيان حين يستيقظ من نومه في وقت الفجر المهيب الغضِّ ويخرج ويقف وحده ويُلقي برأسه إلى الوراء وينظر إلى أعلى ويُشاهد السماء الشاحبة وهي تتحوَّل ببطء وتتوهَّج وتَحدث لها أشياء مُذهلة مجهولة حتى يكاد الشروق يجعله ينفجر في البكاء ويكاد قلبه يتوقَّف من مشهد شروق الشمس ذي المهابة الغريبة التي لا تتغير أبدًا، والذي يَحدث كل صباح منذ آلاف وآلاف السنين. حينها يُدرك المرء ذلك للحظة أو نحو ذلك. ويدركه أحيانًا أيضًا حين يقف بمفرده في إحدى الغابات عند غروب الشمس حين يبدو أن السكون الذهبي العميق الغامض المنحدر عبر الأغصان وتحتها، يقول ببطء مِرارًا وتكرارًا شيئًا لا يُمكن لأحد سماعه بوضوح، مهما حاول. وفي بعض الأحيان يتأتى اليقين بذلك من السكون العميق للسماء الحالكة ليلًا وسط ملايين النجوم التي تنتظر وتُشاهد. وأحيانًا يتأتى اليقين عند سماع صوت موسيقى قادم من بعيد، وأحيانًا أخرى من نظرة في عيني شخص ما.
وكان هذا ما حدث مع كولن حين رأى الربيع وسمعه وشعر به لأول مرة داخل جدران السور الأربعة الشاهقة للحديقة الخفية. ففي عصر ذلك اليوم، بدا أن العالم بأكمله يُكرِّس نفسه ليصبح مثاليًّا ويشعَّ جمالًا وحنانًا لفتًى واحد فقط. فربما جاء الربيع كمِنحة سماوية خالصة وزين كل شيء يمكنه تزيينه في هذا المكان تحديدًا. فكان ديكون يتوقف عمَّا يفعله ويقف ساكنًا وفي عينيه نظرة تعجب تتصاعد مع الوقت، ويهز رأسه بلطف.
قال: «يا إلهي! هذا رائع! إنني في الثانية عشرة وعلى مشارف الثالثة عشرة من عمري، ومرَّ بي وقت الظهيرة كل يوم طوال هذه السنوات الثلاث عشرة، لكن يبدو لي أني لم أرَه في مثل هذا البهاء والروعة من قبل.»
قالت ماري مُتنهِّدة من الفرحة: «إنه نهار بهيٌّ بالفعل. أنا متأكدة من أنه أبهى نهار في هذا العالم.»
قال كولن بحذر حالم وقد تحدَّث بلهجة يوركشاير: «هل تعتقدون أنه قد بدا على هذا النحو عن قصد من أجلي؟»
صاحت ماري في إعجاب: «يا إلهي! لقد صرتَ تُجيد لهجة يوركشاير بعض الشيء. إنك تصوغها بشكل ممتاز؛ يا لك من ماهر!»
وسادت السعادة الجميع. سحَبا المقعد إلى أسفل شجرة برقوق، كانت بيضاء كالثلج من الأزهار المتفتِّحة المتناثرة عليها، وتُحيط بها ألحان موسيقية صادرة من النحل. كان هذا أشبه بظُلة ملك من قصة خيالية. وبالقرب منها وُجِدت أشجار كرز مُزهرة، وأشجار تفاح ذات براعم وردية وبيضاء، يتفتَّح إحداها هنا وهناك. ومن بين الأغصان المزهرة لهذه الظُّلة ظهرت بعض أجزاء من السماء الزرقاء بدت كعيون جميلة تُطلُّ عليهم.
عملت ماري وديكون قليلًا هنا وهناك وجلس كولن يراقبهما. كانا يُحضران له أشياء لينظر إليها؛ مثل براعم تتفتَّح، وأخرى مغلقة بإحكام، وأجزاء من فرع اخضرَّت أوراقه للتوِّ، وريشة من نقَّار الخشب سقطت منه على الحشائش، وقشرة بيضة فارغة لطائر فُقست قبل أوانها. دفع ديكون المقعد ببطء في جميع أنحاء الحديقة، وكان يتوقَّف بين الحين والآخر ليدعه ينظر إلى العجائب النابتة من الأرض، أو المتدلية من الأشجار. كان الأمر أشبه بجولة رسمية لملك وملكة مسحورين عبر البلاد لمشاهدة كل الثروات الغامضة التي تحتوي عليها.
قال كولن: «تُرى سنرى أبا الحنَّاء؟»
أجاب ديكون: «ستراه كثيرًا بعد قليل؛ فحين يفقس البيض، سيُصبح هذا الفتى الصغير منشغلًا للغاية لدرجة ستجعل رأسه يدور. ستراه يطير ذهابًا وإيابًا حاملًا ديدانًا في نفس حجمه تقريبًا، وستَسمع ضوضاء كثيرة في العُش حين يصل إليه؛ إذ تهيج الفراخ وتُربكه فلا يدري أيها فمه أكبر ليضع فيه القطعة الأولى من الطعام. وسترى المناقير الفاغرة وأصوات الصياح الحادة في كل مكان. تقول أمي إنها حين ترى ما يفعله أبو الحنَّاء لإطعام هذه المناقير الفاغرة، تشعر أنها كامرأة لا تفعل أي شيء مقارنةً به؛ فهي تقول إنها رأت هذا الفتى الصغير وقد بدا كما لو أن العرَق يتصبَّب منه، رغم أن الناس لا يمكنهم رؤية هذا.»
جعلهم هذا يضحكون بسعادة بالغة حتى إنهم اضطروا إلى وضع أيديهم على أفواههم، حين تذكروا أنه لا بدَّ ألا يسمع أحد أصواتهم. فقد حصل كولن على تعليمات بشأن قانون الهمس والأصوات المنخفضة قبل عدة أيام. لقد أحب الغموض المحيط بالأمر وفعل كل ما في وسعه، لكن وسط المتعة والإثارة، كان من الصعب عليه الضحك دون الارتفاع عن مستوى الهمس.
كانت كل لحظة من مساء ذلك اليوم عامرة بأشياء جديدة، وفي كل ساعة يزداد اللون الذهبي لأشعة الشمس تألُّقًا. سُحب المقعد المتحرِّك إلى أسفل الظُّلة مرة أخرى وجلس ديكون على الحشائش، وكان قد أخرج مزماره للتوِّ حين رأى كولن شيئًا لم يتوفَّر له الوقت ليلاحظه من قبل.
قال: «هذه شجرة قديمة للغاية تلك التي هناك، أليس كذلك؟»
نظر ديكون عبر الحشائش إلى الشجرة ونظرت ماري وسادت لحظة صمت قصيرة.
وبعد هذا الصمت أجاب ديكون وفي صوته المنخفِض نبرة رقيقة للغاية، قائلًا: «أجل.»
حدَّقت ماري في الشجرة وظلَّت تفكر.
واصل كولن حديثه وقال: «إن الأفرع رمادية للغاية ولا توجد بها ولا ورقة واحدة في أي مكان. إنها ميتة، أليس كذلك؟»
قال ديكون موافقًا إياه: «أجل، لكن الورود التي تسلقت عليها بالكامل ستُخبئ كل جزء من الشجرة الميتة عما قريب حين تمتلئ بالأوراق والأزهار، وحينها لن تبدو ميتة على الإطلاق، بل ستُصبح الأكثر جمالًا بين الأشجار كافة.»
ظلت ماري مُحدِّقة في الشجرة وتفكر.
قال كولن: «يبدو أن فرعًا كبيرًا فيها قد انكسر، أتساءل كيف حدث هذا؟»
أجاب ديكون: «حدث هذا منذ عدة سنوات.» ثم قال بإجفال مفاجئ ممتزج بشعور ارتياح وهو يضع يده على كولن: «يا إلهي! انظر إلى أبي الحنَّاء هذا! ها هو هناك! لقد كان يبحث عن طعام من أجل رفيقته.»
تأخر كولن كثيرًا في النظر إليه، لكنه لمحه؛ فرأى الطائر ذا الصدر الأحمر يَندفع كالبرق حاملًا شيئًا في منقاره، وطار مسرعًا عبر المنطقة الخضراء دخولًا إلى الركن المتشابك الأشجار واختفى عن الأنظار. اتكأ كولن إلى الخلف على وسادته مرةً أخرى، وهو يضحك قليلًا. «إنه يحمل إليها الشاي. ربما تكون الساعة الآن الخامسة، وأعتقد أني أنا نفسي أرغب في بعض الشاي.»
وهكذا صار الطائران في أمان.
بعد ذلك أسرَّت ماري لديكون قائلة: «لقد جاء أبو الحنَّاء إلى هنا بفعل السِّحر. أنا أعلم أنه السحر.» فقد كانت تخشى هي وديكون أن يتساءل كولن عن الشجرة التي انكسر فرعها منذ عشر سنوات، وناقشا معًا هذا الأمر ووقف ديكون وحكَّ رأسه في اضطراب وقال: «يجب ألا يبدو علينا أنها شجرة مختلفة عن باقي الأشجار. فلا يمكن أبدًا أن نُخبر هذا الفتى المسكين عن الطريقة التي انكسر بها الفرع. إن قال أي شيء عنها، علينا أن نحاول أن نبدو مبتهجين.»
أجابته ماري: «أجل، لا بدَّ أن نفعل هذا.»
ولكنها لم تشعر أنها تبدو مبتهجة حين كانت تُحدِّق في هذه الشجرة. فقد ظلت تتساءل وتتساءل خلال تلك اللحظات القليلة عما إذا كان ثمَّة أي قدر من الحقيقة فيما قاله ديكون له. وظل هو يحكُّ شعره الأحمر الصدئ في ارتباك، لكن كانت قد بدأت تظهر في عينيه الزرقاوين نظرة ارتياح جميلة.
وأردف ببعض التردد: «كانت السيدة كرافن شابة في غاية الجمال، وتعتقد أمي أنها ربما جاءت إلى ميسلثويت عدة مرات لتعتني بالسيد كولن، مثلما تفعل جميع الأمهات حين يُغادرن عالَمَنا. فعليهن أن يَعُدن لأطفالهن كما ترين. ربما تكون قد زارت الحديقة، وربما تكون هي من دفعتنا إلى العمل فيها، وهي التي أخبرتنا بأن نُحضره إلى هنا.»
اعتقدت ماري أنه يقصد شيئًا يتعلَّق بالسِّحر؛ فقد كانت تؤمن بشدة بالسحر، وكان لديها اعتقاد قوي في قرارة نفسها بأن ديكون يُمارس السحر، السحر النافع بالطبع، على كل شيء بالقرب منه ولهذا يحبه الناس كثيرًا هكذا، وتعرف الكائنات البرية أنه صديقها. بل إنها تساءلت إن كان من المحتمل أن تكون موهبته تلك هي التي أحضرت أبا الحنَّاء إليهم في اللحظة المناسبة تمامًا حين بدأ كولن يطرح هذا السؤال الخطير. فقد كانت تشعر بأثر سحره طوال ذلك المساء، وأنه هو من جعل كولن يبدو فتًى مختلفًا تمامًا. فلم يكن يبدو عليه أنه ذلك المخلوق المجنون نفسه الذي كان يَصرخ ويضرب ويعضُّ وسادته؛ حتى بياضه العاجي بدا أنه قد تغيَّر؛ فلم يختفِ الوهج الوردي الخفيف الذي دبَّ في وجهه وعنقه ويديه حين دخل الحديقة لأول مرة، وبدا مخلوقًا من لحم ودم وليس تمثالًا من العاج أو الشمع.
رأوا أبا الحنَّاء وهو يحمل الطعام إلى رفيقته مرتين أو ثلاث مرات، وذكَّرهم هذا كثيرًا بشاي ما بعد الظهيرة الذي شعر كولن بضرورة تناوله.
قال: «اذهبي واجعلي أحد الخدم يُحضر بعضًا من الشاي في سلة إلى ممشى زهور الردندرة، ثم اذهبي أنتِ وديكون وأحضراه إلى هنا.»
كانت هذه فكرة مُستساغة وسهلة التنفيذ، وحين فُرش المفرش الأبيض على الحشائش ووُضع عليه الشاي الساخن وشرائح الخبز المدهونة بالزبد والفطائر الصغيرة، تناولوا جميعًا وجبة شهية بسعادة، وتوقَّف العديد من الطيور التي كانت في مهام منزلية لترى ماذا يحدث وراحت تتفقد الفتات بنشاط بالغ. أما نَت وشِل، فقد صعدا بسرعة على الأشجار ومعهما قطع من الكعك، في حين أخذ سوت نصفًا كاملًا من فطيرة صغيرة دُهنت بالزبد وانزوى بها في أحد الأركان وظل ينقرها ويتفحَّصها ويُقلِّبها يمينًا ويسارًا مُصدِرًا صيحات بصوته الأجش كأنما يُعلق عليها، حتى قرَّر أن يبتلعها بالكامل بسعادة جرعة واحدة.
كان الوقت يقترب من الأصيل؛ إذ كان اللون الذهبي لأشعة الشمس يزداد عمقًا ووهجًا، والنحل يذهب إلى منازله، وقلَّت الطيور من حولهم. كان ديكون وماري يجلسان على الحشائش، وقد أعادا الأشياء إلى سلة الشاي استعدادًا للعودة بها إلى المنزل، وكان كولن متكئًا على وسائده وقد عادت خصلات شعره الكثيفة المتدلية على جبهته إلى الوراء، وبدا لون وجهه طبيعيًّا.
قال: «لا أريد لهذا المساء أن ينتهي، ولكني سأعود غدًا، وبعد غد، واليوم الذي يليه، والذي يليه.»
قالت ماري: «هكذا ستحصل على الكثير من الهواء النقي، أليس كذلك؟»
أجابها: «لن أحصل إلا عليه. لقد رأيتُ الربيع الآن وسأرى الصيف. سأرى كل شيء هنا وهو ينمو ويكبر، وسأكبر هنا أنا أيضًا.»
قال ديكون: «أجل، وسنتجوَّل معك هنا سيرًا على الأقدام، وتحفر مثل الآخرين، ولن يكون هذا ببعيد.»
احمرَّ وجه كولن خجلًا للغاية.
قال: «سيرًا على الأقدام! أحفر! هل سيتسنَّى لي هذا؟»
نظر ديكون إليه نظرة خاطفة حذرة؛ فلم يتساءل هو أو ماري من قبل إن كان يعاني عِلَّة في قدميه.
قال بصرامة: «بالتأكيد؛ فلديك قدمان مثل أي شخص آخر!»
شعرت ماري بالخوف كثيرًا حتى سمعت إجابة كولن.
فقال: «في الواقع لا يوجد بهما أي عِلَّة، لكنهما نحيلتان للغاية وضعيفتان. فهما يرتعشان لدرجة أني أخشى مجرد المحاولة للوقوف عليهما.»
تنفَّس كلٌّ من ديكون وماري الصعداء وشعرا بالراحة.
قال ديكون وقد استعاد بهجته: «حين تتوقَّف عن الشعور بالخوف ستتمكَّن من الوقوف عليهما، ولا بدَّ لك أن تتوقف عن الشعور بالخوف في القريب العاجل.»
قال كولن: «هل سأتمكن من هذا حقًّا؟» واستلقى ساكنًا كما لو كان يتساءل بشأن هذه الأشياء.
ساد الصمت التام بين الثلاثة لوهلة قصيرة. كانت الشمس تنخفض. وكانت تلك هي الساعة التي يسود فيها السكون كل شيء تلقائيًّا، وكانوا قد قضوا بالفعل مساءً زاخرًا بالأحداث ومشوقًا للغاية. فبدا كولن كما لو أنه تلذَّذ بالراحة. حتى الكائنات توقفت عن الحركة وتجمعت معًا وراحت تنعم بقسط من الراحة بالقرب منهم. وربض سوت على فرع منخفِض ورفع إحدى قدميه وأرخى الغشاء الرمادي في نعاس على عينيه. تخيَّلت ماري في نفسها أنه يكاد يوشك على الغطِّ في نوم عميق في لحظة.
في وسط كل هذا السكون، كانت مفاجأة نوعًا ما حين رفع كولن رأسه قليلًا وصاح بصوت هامس ارتفع فجأة في انزعاج: «من هذا الرجل؟» فانتفض كل من ديكون وماري واقفين على أقدامهما.
صاح الاثنان معًا بأصوات منخفضة سريعة: «رجل!»
أشار كولن إلى السور المرتفع وهمس في حماس: «انظرا! فقط انظرا!»
تحرك الاثنان سريعًا ونظرا، ليجدا وجه بِن ويذرستاف الساخط يحدق فيهم في غضب من فوق السور من قمة سُلم! وكان يلوح بقبضتِه بالفعل في وجه ماري.
صاح قائلًا: «لو لم أكن رجلًا مسنًّا وأنتِ طفلة صغيرة، لأوسعتُكِ ضربًا عقابًا لكِ.»
وصعد درجة أخرى مهدِّدًا كما لو كان عازمًا على القفز إلى الأسفل والتعامل معها؛ لكنها حين تقدَّمت نحوه، من الواضح أنه عدل عن ذلك ووقف على أعلى درجة في سُلَّمه ملوِّحًا بقبضته تجاهها.
وبَّخها قائلًا: «يبدو أنني لم أعطكِ قدرك! لم أكن أطيقكِ حين رأيتكِ لأول مرة. فقد رأيتُ فتاةً هزيلة وجهها أبيض كمخيض اللبن تطرح الأسئلة طوال الوقت وتتدخَّل فيما ليس من شأنها. لا أعرف كيف استطعتِ التقرب مني، لولا أبو الحنَّاء هذا … عليه اللعنة …»
صاحت ماري، وقد استطاعت أن تلتقط أنفاسها: «بِن ويذرستاف!» ثم وقفت أسفل منه ونادت عليه وهي تلهث بعض الشيء: «بِن ويذرستاف، إن أبا الحنَّاء هو من أرشدني إلى الطريق!»
حينئذٍ بدا كما لو أن بِن سيندفع بالفعل إلى أسفل على الجانب الذي تقف فيه من السور، وكان مستشيطًا غضبًا.
صاح فيها من أعلى: «يا لكِ من فتاة سيئة، إذ تُلقين بذنبك على أبي الحنَّاء، لمجرد أنه أحمق لا يعلم شيئًا. هو الذي أرشدكِ إلى الطريق! هو؟ يا إلهي! إنكِ لستِ فتاة صغيرة!» استطاعت تصور الكلمات التالية وهي تندفع من فمه؛ إذ كان الفضول يتملَّكه: «كيف استطعتِ أن تدخلي هنا؟»
قالت معترضةً بعناد: «لقد أرشدني أبو الحنَّاء إلى الطريق؛ لم يكن يعرف أنه يفعل هذا، لكن هذا ما حدث. ولا يُمكنني أن أخبرك وأنت في مكانك هذا وتلوح بقبضتك تجاهي.»
في تلك اللحظة إذ به يتوقف فجأة عن التلويح بقبضته ويفغر فاهه وهو ينظر من فوق رأسها إلى شيء رآه قادمًا نحوه عبر الحشائش.
حين سمع كولن سيل كلماته فور أن نمَت إلى سمعه، أصابته الدهشة البالغة حتى إنه لم يسعه سوى أن اعتدل في جلسته وأنصت كما لو كان مسحورًا. لكن وسط هذا، استعاد تركيزه وأشار بشموخ لديكون.
أمره قائلًا: «ادفعني إلى هناك! ادفعني حتى أقرب مكان منه وأوقفني أمامه مباشرة!»
وهذا بالضبط ما رآه بِن ويذرستاف وأثار دهشته وجعله يَفغر فاهه. مقعد متحرك عليه وسائد فاخرة ورداء نوم فاخر قادم نحوه فيما بدا مثل عربة ملكية؛ لوجود أمير صغير مُستلقٍ بها يُصدر أوامر ملكية بعينيه الكبيرتين المحدَّدتين باللون الأسود ويده البيضاء النحيلة الممتدة بغطرسة نحوه. توقف المقعد أمام بِن ويذرستاف مباشرةً. لا عجب حقًّا فيما اعتراه من دهشه جعلته يفغر فمه.
سأله الأمير الصغير: «أتعرف مَن أنا؟»
يا لمنظر بِن ويذرستاف حين حدَّق فيه! فقد ثبَّت عينيه الحمراوين الهرمتين على هذا الشخص الماثل أمامه كما لو كان يرى شبحًا، وظل يُحدِّق ويُحدِّق وابتلع ريقه بصعوبة بالغة ولم ينطق بكلمة واحدة. سأله كولن مرةً أخرى بمزيد من الغطرسة: «أتعلم مَن أنا؟ أجب!»
رفع بِن ويذرستاف يده الكثيرة التجاعيد ومررها على عينيه وجبهته، ثم أجاب بصوت غريب مرتعش.
قال: «مَن أنت؟ أجل أعرفك … فعيناك اللتان تُحدِّق بهما في كعيني والدتكَ، والربُّ وحده يعلم كيف أتيتَ إلى هنا، لكني أعرف أنك الطفل القعيد المسكين.»
كان كولن قد نسيَ أن لديه ظهرًا على الإطلاق، فقد تورد وجهه وجلس منتصبًا في استقامة.
صاح في غضب: «أنا لستُ قعيدًا! لستُ قعيدًا!»
قالت ماري شبه صارخة من فوق السور بنبرتها الغاضبة العنيفة: «هو ليس قعيدًا! إنه حتى ليس لديه أي نتوء ولو في حجم رأس الدبوس! لقد نظرتُ ولم أجد شيئًا، ولا حتى واحدًا!»
مسح بِن ويذرستاف جبهته بيده مرارًا وتكرارًا وظل يُحدِّق كما لو كان لا يستطيع التحديق بما يكفي. كانت يده ترتجف وفمه يرتجف وصوته يرتجف. كان رجلًا عجوزًا جاهلًا تعوزه اللباقة، ولا يتذكر إلا الأشياء التي سمعها.
قال بصوت أجش: «أليس … أليس لديك ظهر مُحدَودب؟»
صاح كولن: «كلا!»
قال بصوت أكثر ارتجافًا ولكن ظل على غلظته: «ألا … ألا يوجد اعوجاج في ساقيك؟» كان هذا فوق طاقة كولن؛ ومن ثم تدفقت القوة التي اعتاد إخراجها في نوباته العصبية في جسده الآن بطريقة جديدة. فلم يسبق أن اتهمه أحد بأن ساقيه معوجتان، حتى في همسات الأفراد، وكان الاعتقاد الساذج بوجودهما الذي ظهر في صوت بن ويذرستاف، يفوق قدرة الأمير الصغير على التحمُّل، وجعله غضبه وكبرياؤه الجريحة ينسى كل شيء فيما عدا هذه اللحظة، التي شحنته بقوة لم يعلم بوجودها لديه من قبل؛ فقد كانت قوة غير طبيعية.
صاح مناديًا على ديكون: «تعال إلى هنا!» وبدأ فعليًّا في إزالة الأغطية من على أطرافه السفلى ويحرر نفسه من المقعد. «تعالَ إلى هنا! تعالَ إلى هنا! الآن!»
وصل ديكون ووقف بجواره في ثانية، والتقطت ماري نَفَسَها في شهقة قصيرة وشعرت بوجهها يستحيل إلى الشحوب.
حدثت نفسها بصوت خفيض للغاية وبأسرع ما يمكنها: «يمكنه أن يفعلها! يمكنه أن يفعله! يمكنه أن يفعلها! يمكنه!»
سادت لحظة من الاضطراب العنيف؛ إذ راحت الأغطية تُلقى على الأرض، وأمسك ديكون بذراع كولن، وأخرج كولن ساقيه النحيلتين، وصارت قدماه النحيلتان على العشب. وقف كولن منتصبًا — أجل منتصبًا — كالسهم وبدا طويلًا على نحو غريب، وعاد برأسه إلى الوراء ولمعت عيناه كالبرق، وانفجر في وجه بِن ويذرستاف قائلًا: «انظر إليَّ! فقط انظر إليَّ؛ أجل أنت! فقط انظر إليَّ!»
صاح ديكون: «إنه يقف منتصبًا مثلي! إنه يقف منتصبًا كأي فتى في يوركشاير!»
رأت ماري أن ما فعله بِن ويذرستاف كان غريبًا بما يفوق الوصف. فقد اختنق وشهق وفجأة انهمرت الدموع على وجنتيه الممتلئتين بالتجاعيد وهو يَضرب يديه الهرمتين معًا.
صاح قائلًا: «يا إلهي! يا لأكاذيب الناس! أنت نحيل كشريحة من الخشب وأبيض كالشبح، لكن ليس بك أي عِلَّة. ستَكبُر لتُصبحَ رجلًا، باركك الرب!»
أمسك ديكون بذراع كولن بقوة، لكن الفتى لم يكن قد بدأ يفقد توازنه بعد. فقد استقام أكثر وأكثر في وقفته ونظر إلى بِن ويذرستاف في وجهه مباشرةً.
قال: «أنا سيدك حين يكون والدي بعيدًا عن المنزل، وعليك أن تَمتثِل إلى أوامري، وهذه حديقتي، وإياك أن تجرؤ على التفوُّه بكلمة عن هذا الأمر! والآن ستنزل من على ذلك السُّلم وستخرج إلى الممشى الطويل وستقابلك الآنسة ماري وتُحضرك إلى هنا. فأنا أريد التحدث إليك. نحن لم نكن نريدك، ولكن الآن لا بدَّ أن تصبح داخل دائرة السرِّ، هيَّا أسرع!»
كان وجه بِن ويذرستاف العجوز المجعَّد ما زال مبلَّلًا بهذا التدفق الغريب للدموع الذي انهمر من عينيه. وبدا كما لو أنه لا يستطيع إبعاد عينيه عن كولن النحيل الواقف منتصبًا على قدميه ورأسه مائل إلى الوراء.
قال في نبرة شبه هامسة: «حسنًا يا فتى! حسنًا يا فتى!» ثم عاد إلى رشده فلمس قبعته فجأة على طريقة البستانيِّين وقال: «حاضر يا سيدي! حاضر يا سيدي!» واختفى بمجرد أن نزل من على السُّلم طاعةً لسيده.