السحر
كان الطبيب كرافن منتظرًا بعض الوقت في المنزل حين عادوا إليه. كان قد بدأ يتساءل بالفعل إن كان من الحكمة أن يُرسل أحدًا لتفقُّد ممرات الحديقة. وحين أُعيد كولن إلى غرفته، نظر إليه الرجل المسكين إليه نظرةً متفحِّصةً حادةً.
قال: «لم يكن يُفترض بكَ البقاء بالخارج كل هذا الوقت. يجب ألا ترهق نفسك أكثر من اللازم.»
قال كولن: «لست مرهقًا على الإطلاق. فقد تحسَّنت صحتي بسبب هذا. وسأخرج غدًا في الصباح وبعد الظهيرة أيضًا.»
قال الطبيب كرافن: «لستُ متأكدًا من أنني سأسمح لك بهذا. فأخشى أن هذا لن يكون تصرفًا حكيمًا.»
قال كولن بجدية تامة: «ولن تكون محاولة إيقافي تصرفًا حكيمًا أيضًا. سأذهب.»
حتى ماري وجدت أن إحدى سمات كولن الرئيسة الغريبة أنه لا يدري تمامًا كم أنه وغد صغير وقح بأسلوبه الآمر مع من حوله. فقد عاش طوال حياته في جزيرة منعزلة بشكل أو بآخر، وبما أنه كان الملك عليها، كان هو من شكَّل طرائقه وخُلُقه ولم يجد مَن يقارن نفسه به. وقد كانت ماري مثله بالفعل إلى حدٍّ ما، ومنذ أتت إلى ميسلثويت، اكتشفت بالتدريج أن أسلوبها في التصرف ليس الأسلوب المعتاد أو الشائع بين الناس. وبعد أن توصلَت إلى هذا الاكتشاف، رأت بطبيعة الحال أنه اكتشاف مهمٌّ كفاية كي توصله إلى كولن. لذا جلست ونظرت إليه في فضول لبضع دقائق بعدما غادر الطبيب كرافن. فقد أرادت أن تجعله يسألها عن سبب نظرها إليه هكذا، وهذا ما حدث بالطبع.
قال لها: «لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟»
«أفكر بأني أشعر ببعض الأسف للدكتور كرافن.»
قال كولن بهدوء، لكن بأسلوب لا يخلو من قدر من الشعور بالرضا: «وأنا أيضًا؛ فهو لن يحصل على ميسلثويت على الإطلاق الآن لأنني لن أموت.»
قالت ماري: «بالطبع أشعر بالأسف له بسبب هذا، لكني كنت أفكر للتوِّ أن الاضطرار لالتزام الأدب على مدى عشر سنوات مع فتًى يعامله بوقاحة دائمًا لهو أمر بغيض وبشع. لم أكن لأفعل هذا أبدًا لو كنتُ في مكانه.»
سألها كولن دون انزعاج: «هل أنا وقح؟»
قالت ماري: «لو كنتَ ابنه وكان من نوع الرجال الذين يصفعون أبناءهم، لصفعك على وجهك.»
قال كولن: «لكنه لا يجرؤ على هذا.»
أجابته الآنسة ماري وهي تفكر في الأمر بهدوء دون تحيُّز: «هو بالفعل لا يجرؤ. ولم يجرؤ أحد من قبل قطُّ على فعل أي شيء لا تريده أنت؛ لأنك كنت ستموت وأشياء من هذه القبيل. فقد كنت فتًى مسكينًا.»
رد كولن بعناد: «لكني لن أصبح مسكينًا بعد الآن، ولن أدع الناس يظنُّون أنني كذلك. لقد وقفت على قدميَّ مساء اليوم.»
واصلت ماري حديثها وهي تفكر بصوت عالٍ: «إن حصولك على كل ما تريد طوال الوقت هو ما جعلك غريب الأطوار هكذا.»
أدار كولن رأسه في عبوس.
ثم سألها: «هل أنا غريب الأطوار؟»
ردت ماري: «أجل، إلى أقصى الحدود، لكن لا داعيَ للغضب.» ثم أضافت دون تحيُّز: «لأنني أيضًا غريبة الأطوار، وكذلك بِن ويذرستاف. لكنني لم أعد كما كنتُ من قبل، وبدأتُ أحب الناس من قبل حتى عثوري على الحديقة.»
قال كولن: «أنا لا أريد أن أكون غريب الأطوار، ولن أكون كذلك.» ثم عبس مرةً أخرى وبدا عليه التصميم.
كان فتًى مغرورًا للغاية، واستلقى يفكر لبعض الوقت، ثم رأت ماري ابتسامته الجميلة قد بدأت في الظهور وتغيَّر شكل وجهه بأكمله بالتدريج.
قال: «لن أظل غريب الأطوار إذا ذهبتُ إلى الحديقة كل يوم. أتعلمين يا ماري، يوجد سحر هناك، سحر جيد. أنا متأكد من ذلك.»
قالت ماري: «وأنا أيضًا.»
قال كولن: «حتى إن لم يكن هذا سحرًا حقيقيًّا، يمكننا التظاهر بأنه كذلك. ثمَّة شيء ما في المكان، ثمة شيء ما!»
قالت ماري: «إنه السحر، لكنه ليس سحرًا أسود، إنما أبيض كبياض الثلج.»
كانوا دومًا ما يطلقون عليه سحرًا، وقد بدا كذلك بالفعل خلال الأشهر التالية، تلك الأشهر الرائعة … الأشهر المشرقة … الأشهر المذهلة. يا للأشياء التي حدثت في هذه الحديقة! لو لم تملك حديقة يومًا، لا يمكنك أن تفهم هذا، وإذا كان لديك واحدة، ستعلم أن وصف كل ما حدث فيها يحتاج كتابًا كاملًا. في البداية، بدا أن الزروع الخضراء لن تتوقف أبدًا عن شقِّ طريقها نحو سطح الأرض، في الحشائش، وفي أحواض الزرع، وحتى في شقوق الأسوار. ثم بدأت هذه الزروع الخضراء تتحول إلى براعم، وبدأت البراعم تتفتَّح وتظهر ألوانها؛ جميع درجات الأزرق، والأرجواني، وكذا كل تدرجات اللون القرمزي. وفي الأيام المشرقة انتشرت الأزهار في كل مكان وفتحة وزاوية. وقد أشرف بِن ويذرستاف على هذا، وعمل بنفسه على كشط المِلاط من بين قوالب الطوب في السور، وصنع جيوبًا ترابية لتنمو عليها النباتات المتسلقة الجميلة، فنمت أزهار السوسن والزنبق الأبيض وخرجت من الحشائش في مجموعات، وامتلأت المظلات الخضراء بحشود مذهلة من الأزهار الزرقاء والبيضاء سواء لنباتات العائق الطويلة، أو نباتات الحوضية، أو الجريس.
قال بِن ويذرستاف: «لقد كانت شديدة الولع بهذه الأزهار. كانت تقول دائمًا إنها تحب الأشياء التي تنظر طوال الوقت نحو السماء الزرقاء. ولم تكن هي تحب النظر إلى الأرض قط بل إلى السماء. كانت تحبُّ هذه الأزهار للغاية، لكنها كانت تقول دومًا إن السماء الزرقاء تبدو مبهجة للغاية دائمًا.»
نمت البذور التي زرعها ديكون وماري كما لو أن الجنيَّات قد تولت رعايتها. تراقصت أزهار الخشاش الحريرية بكل ألوانها وسط النسيم بالعشرات، متحديةً في بهجة تلك الأزهار القديمة التي عاشت في الحديقة لسنوات والتي قد يبدو أنها تتساءل كيف وصلت هذه الأزهار الجديدة إلى هنا. أما الأزهار، يا للأزهار! فقد نمت من بين الحشائش وتشابكَت حول الساعة الشمسية، والتفَّت حول جذوع الأشجار، وتدلَّت من أغصانها، وتسلَّقت الأسوار، وانتشرت عليها في هيئة أكاليل طويلة متساقطة كأنها شلالات، وتدبُّ فيها الحياة يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة. أما أوراق الأشجار الجديدة الجميلة والبراعم، فتبدأ صغيرة في البداية ثم يزيد حجمها ويصيبها السحر، حتى تتفتح وتصبح كأقداح من العطر تسيل بلطف لتتناثر على حوافها وتملأ الهواء في الحديقة.
رأى كولن كل هذا، وكان يراقب كل تغير وهو يحدث؛ فكان يخرج كل صباح ويقضي كل ساعة من كل يوم في الحديقة إن لم تكن السماء تمطر، وكان يفرح حتى بالأيام الغائمة؛ فكان يستلقي على الحشائش «مراقبًا الأشياء وهي تنمو»، على حد قوله. كان يقول إن المرء لو ظل يشاهد ويراقب وقتًا طويلًا، لتمكن من رؤية البراعم وهي تخرج نفسها من غلافها. كذلك يُمكنك التعرف على حشرات غريبة منشغلة تجري في كل مكان وهي تؤدِّي مهامًّا غير معروفة، لكن من الواضح أنها خطيرة، وتحمل أحيانًا قطعًا صغيرة من القش أو ريشة أو طعامًا، أو تتسلق أطراف الحشائش كما لو أنها أشجار يمكن للمرء النظر من فوق قممها لتفقُّد المكان من حوله. وانشغل طوال صباح أحد الأيام بخُلْد يبني حِصنه الصغير في نهاية جُحره ويخرج منه في النهاية بمخالبه ذات الأظافر الطويلة التي بدت كأيدي الجن. وفتحت له عادات النمل والخنافس والنحل والضفادع والطيور والنباتات عالَمًا جديدًا لاستكشافه، وحين عرَّفه ديكون عليها كلها وأضاف إليها عادات الثعالب وثعالب الماء وابن مقرض والسناجب وأسماك السلمون المرقط وجرذان الماء وحيوانات الغرير، لم يعد ثمَّة حدٌّ للأشياء التي يُمكن الحديث عنها والتفكير فيها.
ولم يكن هذا كله قد بلغ نصف السحر الموجود. فحقيقة أنه وقف بالفعل على قدميه مرة قد شغلت تفكيره كثيرًا، وحين أخبرته ماري بالسحر الذي أعملته شَعَر بإثارة بالغة وأيَّدها في ذلك كثيرًا، وكان دائم الحديث عنه.
في أحد الأيام قال بنبرة تنمُّ عن حَصافة وحكمة: «بالطبع لا بدَّ أن ثمَّة الكثير من السحر في العالم، لكن الناس لا يَعرفون كيف يبدو أو كيف يمارسونه. ربما تكون البداية أن نقول إن ثمة أشياء جيدة ستحدُث إلى أن نستطيع جعلها تحدث. سأحاول وأجرب هذا.»
في صباح اليوم التالي حين ذهبوا إلى الحديقة السرية، أرسل على الفور في طلب بِن ويذرستاف، الذي حضر بأسرع ما يُمكنه ووجد الأمير الصغير واقفًا على قدميه تحت إحدى الأشجار ويبدو مهيبًا للغاية، ولكنه أيضًا كان مبتسمًا ابتسامة جميلة.
قال له: «صباح الخير يا بِن ويذرستاف. أريد منك أنت وديكون والآنسة ماري أن تصطفوا جميعًا في صف واحد وتستمعوا لي؛ لأني سأخبركم شيئًا مهمًّا للغاية.»
رد بِن ويذرستاف وهو يلمس جبهته: «حاضر، حاضر يا سيدي!» (كانت إحدى محاسن بِن ويذرستاف المستترة منذ وقت طويل أنه هرب في إحدى المرات في صباه إلى البحر وقام بعدة رحلات بحرية؛ ولهذا كان يستطيع الرد مثل البحَّارة.)
فسَّر لهم الأمير الصغير فقال: «سأُحاول إجراء تجربة علمية. فحين أكبر سأُجري اكتشافات علمية عظيمة وسأبدأ الآن بهذه التجربة.»
بارده بِن ويذرستاف، على الرغم من أن هذه كانت المرة الأولى التي يسمع فيها عن اكتشافات علمية عظيمة: «أجل، أجل يا سيدي!»
كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع ماري عنها أيضًا، لكنها حتى في هذه المرحلة بدأت تدرك أنه على الرغم من غرابة أطوار كولن، فقد قرأ عن الكثير من الأشياء الفريدة وكان إلى حدٍّ ما فتًى يتمتَّع بقدرة كبيرة على الإقناع. فحين يرفع رأسه ويُثبت عينيه الغريبتين عليك، تشعر بأنك تُصدِّقه هذا رغمًا عنك، على الرغم من أنه في العاشرة من عمره وعلى مشارف الحادية عشرة. وفي هذه اللحظة بالذات كان مُقنِعًا للغاية؛ لأنه شَعَر فجأة بروعة إلقاء خطبة مثل الكبار.
واصل حديثه قائلًا: «ستكون الاكتشافات العلمية العظيمة التي سأجريها عن السحر. فالسحر شيء عظيم ونادرًا ما يعرف أي شخص أي شيء عنه فيما عدا بعض الأشخاص في الكتب القديمة، كما تعرف عنه ماري القليل؛ لأنها ولدت في الهند حيث يوجد الدراويش. أعتقد أيضًا أن ديكون يعرف القليل من السحر، لكنه على الأرجح لا يُدرك أنه يعرفه. فهو يسحر الحيوانات والبشر. ولم أكن لأسمح له بالحضور لرؤيتي لو لم يكن مُروِّضًا وساحرًا للحيوانات، وهذا يعني أنه ساحر للفتيان أيضًا، لأن الفتيان نوع من الحيوانات. أنا متأكد من وجود السحر في كل شيء، فقط لا نملك من الحس ما يكفي للتحكُّم فيه واستخدامه في فعل الأشياء لنا، تمامًا مثل الكهرباء والخيول والبخار.»
بدا حديثه مهيبًا وأثار حماس بِن ويذرستاف كثيرًا ولم يستطع البقاء ساكنًا، فقال: «أجل، أجل يا سيدي!» وبدأ يعتدل في وقفته.
واصل الخطيب حديثه قائلًا: «حين عثرت ماري على هذه الحديقة، كانت تبدو ميتة تمامًا، ثم بدأ شيء ما يجعل الأشياء تندفع إلى سطح التربة، وصنع أشياء من لا شيء. في يوم لم تكن الأشياء موجودة وفي اليوم التالي ظهرت. لم يسبق لي أن راقبت الأشياء من قبل، وهذا جعلني أشعر بفضول شديد. فالمحبُّون للعلم يشعرون بالفضول طوال الوقت، وأنا سأتخصَّص في العلوم. فدومًا ما أسأل نفسي: «ما هذا؟ ما هذا؟» إنه شيء ما له وجود، ولا يمكن أن يكون لا شيء! لا أعرف اسم هذا الشيء ولهذا سأطلق عليه السحر. أنا لم أشاهد شروق الشمس من قبل، لكن ماري وديكون قد شاهداه، ومما يُخبرانني به، أنا متأكد من أن هذا سحر أيضًا. شيء ما يدفعها هذ ويجذبها. ومنذ جئتُ إلى الحديقة كنتُ أنظر في بعض الأحيان عبر الأشجار إلى السماء وانتابني شعور غريب بالسعادة وكأن شيئًا يندفع وينجذب في صدري جاعلًا أنفاسي تتسارع. فالسحر دومًا يدفع الأشياء ويجذبها ويخلق شيئًا من لا شيء. فكل شيء من صنع السحر؛ الأوراق والأشجار والأزهار والطيور وحيوانات الغرير والثعالب والسناجب والبشر. إذن لا بدَّ أنه موجود حولنا في كل مكان. في هذه الحديقة، وفي كل مكان. والسحر الموجود في هذه الحديقة جعلني أقف على قدمي وأعلم أني سأعيش حتى أصبح رجلًا. سأُجري تجربة علمية بأن أحاول الحصول على بعض من هذا السحر ووضعه داخل نفسي وجعله يَدفعني ويسحبني ويزيدني قوة. لا أعلم كيف أفعل هذا، لكني أعتقد أنه ربما سيأتي إن ظللتُ أفكر فيه وأستدعيه. ربما تكون هذه هي أول طريقة بدائية للحصول عليه. فحين كنتُ أحاول الوقوف في تلك المرة الأولى، ظلَّت ماري تردد في نفسها بأسرع ما يمكن: «يمكنك أن تفعلها! يمكنك أن تفعلها!» وقد فعلتُها بالفعل. بالطبع كان لا بدَّ أن أحاول بنفسي في الوقت نفسه، لكن سحرها ساعَدَني، وكذلك سحر ديكون. وفي كل صباح ومساء وكلما تذكرتُ طوال اليوم سأقول لنفسي: «السحر بداخلي! السحر يجعلني أتحسن! سأصبح قويًّا مثل ديكون، قويًّا مثل ديكون!» وعليكم جميعًا القيام بهذا أيضًا. تلك هي تجربتي، هل ستُساعدني يا بِن ويذرستاف؟»
قال بِن ويذرستاف: «أجل، أجل يا سيدي. أجل، أجل!»
«فإن واظبت على هذا بانتظام كل يوم تمامًا كما يتدرَّب الجنود، سنرى عندها ما سيحدث وسنعرف إن كانت التجربة ناجحة أم لا. فالمرء يتعلم الأشياء بترديدها مرارًا وتكرارًا والتفكير فيها حتى تترسخ في ذهنه إلى الأبد، وأعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على السحر. فإن واظب المرء على استدعائه وطلب مساعدته، سيَتغلغل فيه حتى يصبح جزءًا منه ويبقى بداخله ويفعل أشياء كثيرة.» قالت ماري: «لقد سمعتُ ذات مرة ضابطًا في الهند يُخبر والدتي بأنه ثمة دراويش يرددون كلمات معينة آلاف المرات.»
قال بِن بجفاء: «أما أنا فقد سمعت زوجة جيم فيتلورث تقول الشيء نفسه وتُكرِّره آلاف المرات، حيث كانت تنادي جيم بالسكير أحمق. وبالتأكيد كان لا بد لهذا الكلام أن يُسفر عن شيء ما. فقد ضربها ضربًا مبرحًا وذهب إلى حانة بلو ليون وظل يشرب الخمر حتى الثمالة.»
قطَّب كولن حاجبيه وفكَّر لبضع دقائق، ثم تهلَّل وجهه.
قال: «حسنًا، كما ترون؛ لقد أسفر كلامها عن شيء. لكنها استخدمت السحر الخطأ حتى جعلته يضربها. لو كانت استخدمت السحر الصحيح وقالت شيئًا جيدًا، لربما لم يثمل كما حدث ولربما، ربما أحضر لها قلنسوة جديدة.»
ضحك بِن ويذرستاف وظهرت نظرة إعجاب ماكرة في عينيه الصغيرتين العجوزين.
قال: «إنك فتًى ذكي منتصب القامة يا سيد كولن. في المرة القادمة حين أرى بيس فيتلورث سأُخبرُها بنبذة عما يمكن للسحر أن يفعله لها. ستتحمَّس وتفرح كثيرًا حال نجحت تجربتك العلمية، وكذلك جيم.»
وقف ديكون يستمع إلى هذه الخطبة، ولمعت عيناه المستديرتان بسعادة غامرة. كان نَت وشِل يقفان على كتفيه، فيما كان يمسك بأرنب أبيض طويل الأذنين بين ذراعه وظل يمسد عليه برِقة بينما أرجع الأرنب أذنيه إلى الوراء وكان مستمتعًا بما يحدث.
قال كولن متسائلًا عما يفكر فيه: «هل تعتقد أن هذه التجربة ستنجح؟» كان طوال الوقت يتساءل عما يفكر فيه ديكون حين يراه ينظر إليه أو إلى أحد «مخلوقاته» وعلى وجهه ابتسامة عريضة ملؤها السعادة.
ابتسمَ الآن وكانت ابتسامته أوسع من ذي قبل.
أجابه قائلًا: «أجل، أعتقد ذلك. ستنجح تمامًا كما يحدث للبذور حين تقع أشعة الشمس عليها. بالتأكيد ستنجح. هل نبدأ فيها الآن؟»
ابتهج كولن كثيرًا وكذلك ماري. واقترح كولن، مدفوعًا بما لديه من ذكريات عن الدراويش والمتعبِّدين في الصور التي رآها، بأن يجلسوا جميعًا القرفصاء تحت الشجرة التي صنعت تحتها ظُلَّة.
قال كولن: «سيكون الأمر أشبه بالجلوس في معبد. وأنا متعب إلى حدٍّ ما وأريد الجلوس.»
قال ديكون: «حسنًا! عليك ألا تبدأ بقول إنك تشعر بالتعب؛ فهكذا ستُفسد عمل السحر.»
التفت كولن ونظر إليه في عينيه البريئتين المستديرتين.
قال ببطء: «هذا صحيح، عليَّ فقط ألا أفكر إلا في السحر.» بدا كل ما حولهم أكثر مهابة وغموضًا حين جلسوا في دائرتهم. شعر بِن ويذرستاف كما لو كان قد استدرج بشكل ما لحضور اجتماع للصلاة. فقد كان موقفه في المعتاد ثابتًا لا يتزحزَح بشأن ما أطلق عليه اسم «اجتماعات الصلاة الوسيطة»، لكن بما أن هذا التجمع كان لشأن يتعلق بالأمير الصغير، فلم ينفر منه بل كان شعوره يميل إلى السعادة والرضا باستدعائه للمساعدة. أما الآنسة ماري فقد شعرت بسعادة جمَّة ممتزجة بالمهابة. أما ديكون، فقد أمسك أرنبه بين ذراعيه، وربما يكون قد أرسل إشارة سحرية لم يسمعها أحد؛ فحين جلس القرفصاء مثل الآخرين، اقترب منه الغراب والثعلب والسناجب والحَمَل ببطء وأصبحوا جزءًا من الدائرة؛ إذ استقرَّ كل منهم في مكان للراحة والاستجمام كما لو أن هذا برغبتهم.
قال كولن بوقار وهيبة: «لقد جاءت المخلوقات. إنها تريد مساعدتنا.»
تبادر إلى ماري أن كولن يبدو جميلًا للغاية. فقد كان يرفع رأسه عاليًا كما لو كان يشعر بأنه كاهن وكانت عيناه الغريبتان تطلُّ منهما نظرة رائعة، ووقعت أشعة الضوء عليه عبر ظُلة الشجرة.
قال: «والآن سنبدأ؛ هل علينا التأرجح إلى الأمام والخلف، يا ماري، كما لو كنا دراويش؟»
قال بِن ويذرستاف: «أنا لا أستطيع التأرجح إلى الأمام والخلف؛ فأنا أعاني من آلام المفاصل.»
قال كولن بنبرة كهنوتية مرتفعة: «إن السحر سيَنزع عنك تلك الآلام، لكننا لن نتأرجح إلا حين تختفي آلامك تمامًا. سنَكتفي بالغناء فقط الآن.»
قال بِن ويذرستاف بشيء من الحِدة: «ولا أجيد الغناء أيضًا. لقد أخرجوني من جوقة الكنيسة في المرة الوحيدة التي جرَّبت فيها هذا الأمر.»
لم يبتسم أحد؛ فقد كانوا جميعًا يأخذون الأمر بجدية بالغة.
لم تبدُ علامات الغضب على وجه كولن ولو قليلًا؛ فلم يكن يفكر إلا في السحر فقط.
قال: «حسنًا سأُغني أنا.» وبدأ يغني بالفعل، وكأنه روح فتًى غريب: «الشمس ساطعة، الشمس ساطعة. إنه السحر. والأزهار تنمو، والجذور تتحرَّك. ذاك هو السحر. والبقاء على قيد الحياة من السحر أيضًا، والتمتُّع بالقوة من السحر. إن السحر بداخلي، إن السحر بداخلي. إنه بداخلي، إنه بداخلي. إنه بداخل كل واحدٍ منا. إنه في ظهر بِن ويذرستاف. أيها السحر! أيها السحر! تعال وساعدنا!»
وأخذ يردِّد ذلك عدة مرات، لم تصل إلى الألف، ولكن كان العدد كبيرًا للغاية. واستمعت إليه ماري في نشوة كالمسحورة. فقد شعرت كما لو أن الأمر غريبًا وجميلًا في الوقت نفسه، وأرادته أن يستمر فيما يقوله. بدأ بِن ويذرستاف يشعر بالهدوء ودخل فيما يشبه الحلم ما بعث عليه براحة جمَّة. فقد اختلط طنين النحل بين الأزهار بصوت الغناء وذابا معًا حتى صار صوتًا يبعث على النعاس. جلس ديكون القرفصاء وأرنبه نائم على ذراعه، متَّكئًا بيده الأخرى على ظهر الحمل. أما سوت فقد نحَّى أحد السنجابين جانبًا وجلس بالقرب منه على كتفه، وسقط الغشاء الرمادي على عينيه. وأخيرًا توقَّف كولن.
صرح قائلًا: «والآن سأتجوَّل في أرجاء الحديقة.»
كان رأس بِن ويذرستاف قد سقط لتوه إلى الأمام ورفعها بهزة.
قال كولن: «لقد كنتَ نائمًا.»
تمتم بِن قائلًا: «لا لم أكن كذلك. لقد كانت المراسم جيدة للغاية، لكن لا بدَّ أن أخرج قبل جمع التبرُّعات.»
لم يكن قد استفاق بعدُ تمامًا.
قال كولن: «أنت لست في الكنيسة.»
قال بِن وهو يعتدل في جلسته: «لا لستُ في الكنيسة، مَن قال هذا؟ لقد سمعتُ كل حرف قلته. فقد قلتَ إن ثمة سحرًا في ظهري. والطبيب يُطلِق على هذا آلام المفاصل.»
لوَّح الأمير الصغير بيده، وقال: «لقد كان هذا السحر الخطأ. سوف تتحسَّن، والآن آذن لك بالذهاب إلى عملك. لكن عُد في الغد.»
أصدر بِن صوت نَخِر وقال: «أريد رؤيتك وأنت تتجوَّل في الحديقة.»
لم يكن صوت نخِر غير ودود، بل مجرد صوت أجش. في الواقع ولكونه شخصًا عجوزًا وعنيدًا ولم يكن لديه إيمان تام بالسحر، فقد عقد العزم على أنه إن أُرسل بعيدًا، فإنه سيتسلق سُلمه وينظر من فوق السور حتى يكون مستعدًّا للعودة إليهم مرةً أخرى، حال حدوث أي تعثر.
لم يعترض الأمير الصغير على بقائه، وعليه تكوَّن الموكب. بدا الأمر تمامًا كالموكب. فقد كان كولن على رأس الموكب وعلى أحد جانبيه ديكون، وماري على الجانب الآخر. أما بِن ويذرستاف فقد سار خلفهم، ومن ورائهم جميع «الكائنات»، وسار الحَمَل وجرو الثعلب بالقرب من ديكون، وظل الأرنب الأبيض يقفز طوال الطريق أو يتوقَّف لقضم الأشياء، وظل سوت يتبعهم بوقار شخص يرى نفسه في موقع مسئولية.
تحرك الموكب ببطء لكن بوقار وهيبة؛ فكان يتوقف كل بضع ياردات للراحة. اتكأ كولن على ذراع ديكون وظلَّ بِن ويذرستاف يُراقب الوضع سرًّا، لكن كولن كان يسحب يده من وقت لآخر ويسير بضع خطوات وحده. كان رأسه مرفوعًا طوال الوقت وبدا مهيبًا للغاية.
ظل يقول: «السحر بداخلي! السحر يجعلني قويًّا! أستطيع الشعور به! أستطيع الشعور به!»
بدا من المؤكد تمامًا أن شيئًا ما يدعمه ويرفعه. فقد جلس على المقاعد الموجودة في المظلات، وجلس مرة أو مرتين على الحشائش وتوقف في الطريق العديد من المرات واتكأ على ديكون، لكنه لم يستسلم حتى طاف بالحديقة كلها تقريبًا. وحين عاد إلى ظُلة الشجرة، كانت وجنتاه متوردتَين وبدا كقائد مُظفَّر.
صاح قائلًا: «لقد فعلتُها! لقد نفع السحر! هذا أول اكتشاف علمي لي!»
قالت ماري فجأة وبحدة: «ماذا سيقول الطبيب كرافن؟»
أجابها كولن: «لن يقول أي شيء، لأننا لن نُخبره. سيكون هذا هو السر الأكبر بيننا جميعًا على الإطلاق. فلن يعرف به أي شخص حتى أصبح أكثر قوة وأستطيع المشي والركض مثل أي فتًى آخر. سآتي إلى هنا كل يوم في مقعدي المتحرِّك وسأعود عليه أيضًا. لن أترك فرصة للناس للتهامس التساؤل، ولن أدع والدي يسمع بالأمر حتى تنجح التجربة بالكامل. ثم في وقتٍ ما حين يعود إلى ميسلثويت سأدخل إلى مكتبه على قدميَّ وأقول له: «ها أنا ذا؛ أنا مثل أي ولد آخر. إنني على ما يرام وسأعيش حتى أصبح رجلًا. وقد حدث هذا بفعل تجربة علمية».»
صاحت ماري: «سيظنُّ حينها أنه يَحلم. لن يصدق عينيه.»
احمرَّ وجه كولن بنشوة الانتصار، فقد جعل نفسه يصدق بأن صحته ستتحسَّن، وهو ما كان يمثل حقًّا أكثر من نصف المعركة، إن كان مدركًا لهذا. ورأى أن أكثر ما يحفزه هو تخيُّل منظر والده حين يرى أن لديه طفلًا منتصب القامة وقويًّا تمامًا مثل أبناء الآخرين. فقد كان من أحلك المآسي التي عاشها في أيامه السابقة التي عانى فيها من المرض كراهيته لكونه فتًى مريضًا ضعيفَ الظهر يخشى والده النظر إليه.
قال: «سيُضطر لتصديقهما.»
«أحد الأشياء التي سأفعلها بعدما ينجح السحر وقبل البدء في إجراء الاكتشافات العلمية، هو أن أصبح رياضيًّا.»
قال بِن ويذرستاف: «سنأخذك لممارسة رياضة الملاكمة في خلال أسبوع أو نحو ذلك. وسينتهي بك الأمر بالفوز بحزام الملاكمة وستُصبح بطلًا مصارعًا يحصد الجوائز في جميع أنحاء إنجلترا.»
ثبَّت كولن عينيه عليه بتجهُّم.
قال: «ويذرستاف، هذا عدم احترام. لا بد ألا تأخذ حريتك في الكلام هكذا لمجرد أنك جزء من السر. فمهما نجح السحر في عمله، لن أصبح أبدًا مصارعًا يحصد الجوائز. سأصبح مكتشفًا علميًّا.»
رد بِن وهو يلمس جبهته فيما يشبه التحية: «عفوًا، عفوًا يا سيدي. فلم يكن عليَّ التعامل مع الأمر أنه مدعاة للسخرية.» لكن عينيه كانتا تلمعان وبدت عليه السعادة الغامرة. فلم يكن يكترث بأن يتعرَّض للتوبيخ طالما أن هذا التوبيخ يعني أن هذا الفتى يكتسب قوة وحياةً.