«دعيهما يضحكان»
لم تكن الحديقة السرية هي الوحيدة التي يعمل بها ديكون. فقد كان حول الكوخ على المستنقع قطعة أرض محاطة بسور منخفِض من حجارة خشنة غير مستوية. وفي الصباح الباكر ومع نهايات الغسق، وفي جميع الأيام التي لم يرَه فيها كولن وماري، كان ديكون يعمل هناك إما في زرع البطاطس والكرنب واللفت والجزر والأعشاب من أجل والدته أو الاعتناء بها. وكان يأتي بالعجائب هناك بصحبة مخلوقاته، ولم يكن يَكلُّ أبدًا من هذا العمل، على ما يبدو. فبينما كان يحفر أو يزيل الأعشاب الضارة كان يُصفِّر أو يغني بعضًا من أغاني مستنقع يوركشاير، أو يتحدَّث إلى سوت أو كابتن أو إخوته وأخواته الذين علمهم مساعدته.
قالت السيدة سويربي: «لم نكن لنحظى أبدًا بالراحة التي ننعم بها الآن لولا حديقة ديكون؛ فهو يجعل أي شيء ينمو. وحجم البطاطس والكرنب اللذين يَزرعهما يعادل ضعف ما يزرعهما أي شخص آخر، ومذاقها ليس له مثيل.»
حين كانت ماري تجد لديها وقت فراغ في أي لحظة، كانت تحب الخروج والتحدث معه. فبعد تناول وجبة العشاء، كانت فترة الغروب الصافي لا تزال ممتدة وقتًا طويلًا يُتيح لها العمل فيها، وكان هذا هو الوقت الذي تنعم فيه بالهدوء. فكان بإمكانها الجلوس على السور المنخفض ذي الحجارة الخشنة، ومراقبة المشهد من حولها، وسماع قصص ما حدث طوال اليوم. كانت تحبُّ هذا الوقت كثيرًا. فلم تكن تحتوي هذه الحديقة على الخضراوات فحسب؛ فقد كان ديكون يشتري عبوات من بذور الأزهار بين الحين والآخر تُباع مقابل بنس واحد، ويزرع أشياء زاهية الألوان وطيبة الرائحة بين شجيرات عنب الثعلب، وحتى بين الكرنب، وزرع رقعًا صغيرة بالخزامى وأزهار القرنفل والبنفسج، وأشياء أخرى كان بإمكانه الاحتفاظ ببذورها من عام لآخر، أو تزهر جذورها كل ربيع وتنتشر في الوقت المناسب في شكل أجمات جميلة. كان السور القصير أحد أجمل الأشياء في يوركشاير؛ إذ ملأ ديكون كل صدع فيه بنباتات قفاز الثعلب والسرخس والعربية التي تنمو في المستنقع، وكذلك بأزهار سياج الشجيرات، حتى لم يكن بالإمكان رؤية الأحجار إلا بشكل خاطف هنا أو هناك.
كان يقول: «كل ما على المرء أن يفعله ليجعلها تنمو يا أمي، أن يُصبح صديقًا حقيقيًّا لها؛ فهي كالمخلوقات الأخرى، إن شعرت بالعطش، لا بدَّ من إعطائها الماء، وإن شعرت بالجوع لا بدَّ من إعطائها بعض الطعام. إنها تريد أن تعيش مثلنا تمامًا. وإن حدث وماتت، سأَشعر بأنني فتًى سيئ وعاملتها بقسوة بشكل أو بآخر.»
سمعت السيدة سويربي، في ساعات الغسق هذه، عن كل ما حدث في ضيعة ميسلثويت. في البداية لم تعلم إلا أن «السيد كولن» شغوف بالخروج إلى الحدائق مع الآنسة ماري، وأن هذا الأمر قد أفاده كثيرًا. لكن لم يمضِ وقت طويل حتى اتَّفق الطفلان على إدخال والدة ديكون إلى «دائرة السر». فلم يكن ثمَّة شك في كونها شخصًا «موثوقًا به بالتأكيد».
لذا أخبرها ديكون بالقصة كاملة ذات مساء هادئ جميل، بكل ما فيها من تفاصيل مثيرة عن المفتاح المدفون وأبي الحنَّاء والغشاء الرمادي الذي بدا كالموت، وعن السر الذي خطَّطت الآنسة ماري للاحتفاظ به وعدم الإفصاح عنه أبدًا. أما قصة مجيء ديكون وكيف علم بالأمر، والشك الذي انتاب السيد كولن، والدراما الأخيرة في تعريفه بهذا العالم الخفي، إلى جانب واقعة وجه بِن ويذرستاف الغاضب الذي ظهر من فوق السور، وقوة السخط المفاجئة التي اعترت السيد كولن، كل ذلك جعل وجه السيدة سويربي الجميل يتغير لونه عدة مرات.
قالت: «يا إلهي! لقد كان قدوم هذه الفتاة الصغيرة إلى الضيعة أمرًا طيبًا. فكل هذا من صنيعها. لقد أنقذت حياته. وقف بالفعل على قدميه! وكنا جميعًا نظن أنه فتًى مسكين قليل الذكاء ليس في جسده عظمة واحدة مستقيمة.»
طرحت الكثير من الأسئلة وامتلأت عيناها الزرقاوان بتفكير عميق.
سألته: «كيف يُفسِّر أهل الضيعة تحسُّن حالته الصحية وابتهاجه وعدم شكواه على الإطلاق؟» أجابها ديكون بابتسامة تنمُّ عن استمتاع جمٍّ: «لا يعرفون له تفسيرًا. فكل يوم يمرُّ عليه يتغيَّر شكل وجهه، فيصير أكثر امتلاءً، ولا يبدو حادًّا مع زوال اللون الشمعي منه. لكن لِزامًا عليه الشكوى والتذمر بعض الشيء.»
سألته السيدة سويربي: «ولماذا هذا بحق الرب؟»
ضحك ديكون، وقال: «إنه يفعل هذا حتى يَمنعهم من تخمين ما حدث. فلو علم الطبيب أنه يستطيع الوقوف على قدميه، فعلى الأرجح سيكتب إلى السيد كرافن ليُخبره. فالسيد كولن يحتفظ بالسر حتى يُخبر والده بنفسه. وسيظل يمارس سحره على ساقيه كل يوم حتى يعود والده، ثم سيدخل عليه غرفته وهو يمشي حتى يريه أنه طفل مستقيم البنية كأي طفل آخر. لكنه والآنسة ماري يعتقدان أن أفضل خطة يمكن القيام بها أن يتأوَّه وينتحب من وقت لآخر حتى يُضلِّلهم.»
كانت السيدة سويربي تضحك ضحكة منخفضة تنمُّ عن الارتياح قبل وقت طويل من انتهائه من جملته الأخيرة.
قالت: «حسنًا! هذان الاثنان يَستمتعان بوقتهما، أنا واثقة من هذا. سوف يمارسان قدرًا لا بأس به من التمثيل جرَّاء هذا، وما من شيء يحبه الأطفال أكثر من التمثيل. دعنا نسمع عما يفعلان يا عزيزي ديكون.» وتوقَّف ديكون عن اقتلاع الأعشاب الضارة وجلس على عقبيه حتى يُخبرها، وكانت عيناه تلمعان من المرح.
وصف لها الأمر فقال: «يُحمل السيد كولن إلى مقعده المتحرِّك في كل مرة يخرج فيها من المنزل، ثم يَنفعل على جون، الخادم بسبب عدم حمله له بالعناية الكافية. فيظهر نفسه عاجزًا قدر المُستطاع لدرجة أنه لا يستطيع رفع رأسه، حتى نغيب عن أنظار مَن في المنزل، ثم يأخذ في التذمُّر والسخط قليلًا حين يستقر في مقعده المتحرك. يستمتع هو والآنسة ماري بهذا الأمر وحين يتأوَّه ويشتكي تقول: «مسكين يا كولن! هل يؤلمك هذا كثيرًا؟ أأنت بهذا الضعف، مسكين يا كولن!» لكن المشكلة أنه أحيانًا يكون من الصعب عليهما منع أنفسهما من الانفجار في الضحك. وحين نُصبح في أمان داخل الحديقة، يظل الاثنان يضحكان حتى لا يتبقى لديهما أنفاس للضحك، ويضطران لوضع وجهيهما داخل وسائد السيد كولن حتى لا يسمع البستانيون أصواتهما، إن كان أحدهم يمرُّ في الجوار.»
قالت السيدة سويربي وهي لا تزال هي نفسها تضحك: «كلما ضَحِكا، كان ذلك أفضل لهما! فالضحك للأطفال الأصحاء أفضل بكثير من تناول الدواء في أي يوم في السنة. هذان الطفلان سيصيران مُمتلئين بالتأكيد.»
قال ديكون: «لقد زاد وزنهما بالفعل؛ فهما دائمًا جوعى للغاية لدرجة أنهما لا يعرفان كيف يحصلان على كفايتهما من الطعام دون طلب. يقول السيد كولن إنه لو ظلَّ يُرسل في طلب المزيد من الطعام، لن يصدقوا أنه مريض تمامًا. وتقول الآنسة ماري إنها ستدعه يأكل حصَّتها من الطعام، لكنه يقول إنها إن جاعت، ستَصير نحيفة ولا بدَّ لهما أن يَسمنان معًا في الوقت نفسه.»
ضحكت السيدة سويربي من كل قلبها حين علمت بهذه المعضلة لدرجة أنها أخذت تتمايَل إلى الأمام والخلف في عباءتها الزرقاء وشاركها ديكون الضحك.
قالت السيدة سويربي حين استطاعت التحدث: «سأُخبرك شيئًا يا فتًى، لقد فكَّرت في طريقة لمساعدتهما. حين تذهب إليهما في الصباح كل يوم ستأخذ معك دلوًا من الحليب الطازج اللذيذ، وسأَخبز لهما رغيفًا ريفيًّا يابسًا أو بعض الكعكات التي تحتوي على الكشمش، كتلك التي تحبونها؛ فلا شيء أفضل من الحليب والخبز الطازجين. وهكذا يتمكنان من سد جوعهما وهما في الحديقة، وما يحصلان عليه من طعام فاخر في المنزل سيُساعدهما على الشعور بالشبع تمامًا.»
قال ديكون بإعجاب: «صحيح يا أمي! يا لك من امرأة رائعة! دائمًا تجدين مخرجًا لكل مشكلة؛ لقد كانا في حال يُرثى لها أمس. لم يكن لديهما وسيلة لتدبير هذا الأمر دون طلب المزيد من الطعام، فقد شعرا بأن معدتهما خاوية.»
قالت السيدة سويربي: «إنهما طفلان يَكبران سريعًا، كما أنهما يستعيدان صحتهما. والأطفال مثلهم يكونون عادةً مثل الذئاب الصغيرة والطعام هو كل حياتهم.» ثم ابتسمت ابتسامة تشبه ابتسامة ديكون المقوَّسة، وقالت: «حسنًا! إنهما يستمتعان بوقتهما بالتأكيد.»
وكانت محقَّة في هذا تمامًا، تلك الأم الرائعة والمريحة، وكانت على حق تمامًا أيضًا حين قالت إن «ممارسة التمثيل» سيكون مصدر بهجتهما؛ فقد وجده كلٌّ من ماري وكولن واحدًا من أكثر مصادر المتعة إثارة لهما. وقد استوحيا فكرة ضرورة حماية أنفسهما من الشك في البداية من الممرِّضة الحائرة ثم الطبيب كرافن نفسه دون وعي منهما.
فقد قالت الممرضة في أحد الأيام: «إن شهيتكَ تتحسَّن كثيرًا يا سيد كولن؛ فقد اعتدتَ على عدم تناول أي شيء على الإطلاق ولم تكن تحبُّ الكثير من الأشياء.»
رد كولن: «لم أعد أكره شيئًا الآن.» وحين رأى الممرِّضة تنظر إليه بفضول، تذكر فجأة أنه ربما لا يجب أن يبدو معافًى أكثر من اللازم بعد، فقال: «على الأقل لم أعد أكره الأشياء طوال الوقت. كل هذا بفضل الهواء النقي.»
قالت الممرضة، وهي ما زالت تنظر إليه وعلى وجهها تعبير حائر: «ربما يكون هذا صحيحًا، لكن لا بدَّ لي من التحدث مع الدكتور كرافن بشأن ذلك.»
قالت ماري حين انصرفت الممرضة: «أرأيت كيف حدَّقت فيك! كما لو أنها تعتقد أن ثمة شيء لا بد من اكتشافه.»
قال كولن: «لن أدعها تكتشف أي شيء. فلا بد ألا يشرع أحد في اكتشاف أي شيء الآن.» وحين أتى الطبيب كرافن في صباح ذلك اليوم بدت عليه الحيرة أيضًا. فطرح عددًا من الأسئلة، ما أثار حنق كولن كثيرًا.
قال له: «أنت تقضي وقتًا طويلًا في الحديقة، أين تذهب؟»
ارتدى كولن قناع اللامبالاة المهيبة لأيِّ رأيٍ المفضلَ لديه.
رد قائلًا: «لن أسمح لأحد بأن يعرف إلى أين أذهب. فأنا أذهب أينما شئتُ. لقد أعطيتُ أوامري للجميع بالبقاء بعيدًا عن طريقي. لن أدع أحدًا يُراقبني ويُحدِّق فيَّ. وأنت تعلم هذا!»
«يبدو أنك تقضي اليوم بأكمله بالخارج، لكني لا أعتقد أن هذا قد أضرَّ بصحتك، لا أعتقد هذا. فالممرضة تقول إنك صرتَ تأكل أكثر بكثير من ذي قبل.»
رد كولن مدفوعًا بإلهام مفاجئ هبط عليه: «لعلها … لعلها شهيَّة غير طبيعية.»
قال الطبيب كرافن: «لا أعتقد هذا؛ إذ يبدو أن الطعام صار يروق لك. إنك تكتسب وزنًا بسرعة ولون وجهك صار أفضل.»
قال كولن مُتصنِّعًا كآبة مُحبطة: «ربما … ربما أكون منتفخًا ومحمومًا. فالأشخاص الذين لن يعيشوا طويلًا عادةً ما يكونون … مختلفين.» هزَّ الطبيب كرافن رأسه، وكان ممسكًا بمعصم كولن ويرفع كمه لأعلى ليتحسَّس ذراعه.
قال بتفكير عميق: «أنت لست محمومًا، وهذا الوزن الذي اكتسبته دلالة صحة. وإن استطعت يا بُني المواظبة على هذا، لن نحتاج إلى الحديث عن الموت بعد الآن. سيَسعد والدك للغاية حين يسمع بهذا التحسن الملحوظ.»
انفجر كولن في غضب وقال: «لن أسمح بإخباره! فلن يجنيَ سوى الإحباط وخيبة الأمل إذا ساءت حالتي مرةً أخرى، وربما ستسوء هذه الليلة؛ فربما أصاب بحمى شديدة. وأشعر بأنني على شفا الإصابة بواحدة الآن. لن أسمح بإرسال خطابات لوالدي، لن أسمح، لن أسمح! أنت تُصيبني بالغضب، وتعلم أن هذا خطر على صحتي. إنني أشعر بالسخونة بالفعل. أنا أكره كتابة خطابات عني والتحدث عني تمامًا مثلما أكره تحديق الناس فيَّ!»
هدأ الدكتور كرافن من روعه وقال: «صه يا ولدي! لن يُكتَب عنك شيءٌ دون إذن منك. أنت شديد الحساسية تجاه الأشياء. عليك ألا تبطل مفعول الأشياء الجيدة التي حدثت.»
لم يقل شيئًا آخر عن الكتابة إلى السيد كرافن وحين رأى الممرِّضة حذَّرها سرًّا من ذكر احتمال حدوث هذا أمام المريض.
قال لها: «لقد تحسَّن الفتى على نحو استثنائي؛ فما طرأ من تقدم على حالته غير طبيعي. لكنه بالطبع يفعل الآن بإرادته الحرة ما لم نستطع إجباره على فعله من قبل. ولكنه ما زال ينفعل بسهولة شديدة ولا بدَّ من الامتناع عن قول أي شيء يثير غضبه.» انزعج كل من ماري وكولن وتحدَّثا معًا في الأمر بقلق بالغ. ومن ذلك الحين بدأت خطتهم «للتمثيل».
قال كولن في أسف: «قد أضطر إلى الدخول في نوبة غضب، وأنا لا أريد الإصابة بها، ولستُ بائسًا بما يكفي الآن حتى أُدخل نفسي في نوبة كبيرة. وربما حتى لا أستطيع ذلك. فتلك الغُصة لم تعد تأتي إلى حلقي الآن وأصبحت مواظبًا على التفكير في أشياء جيدة بدلًا من الأشياء البشعة. لكن إذا تحدثوا عن الكتابة إلى والدي، فعليَّ أن أفعل شيئًا.»
عقد العزم على الإقلال من تناول الطعام، لكن مع الأسف لم يكن من الممكن تنفيذ هذه الفكرة الذكية حين كان يستيقظ في كل يوم بشهية رهيبة والطاولة بجوار أريكته معدة بوجبة إفطار من خبز منزلي الصنع، وزبد طازج، وبيض أبيض كبياض الثلج، ومربى توت وكريمة متخثرة. كانت ماري تتناول الإفطار معه دائمًا، وحين كانا يجلسان على الطاولة، لا سيما حال وجود شرائح رفيعة من اللحم المقدد تُصدر أزيزًا وتنبعث منها روائح مغرية من تحت غطاء فضي ساخن، كان كل منهما ينظر في عيني الآخر في يأس.
كان كولن دومًا ينهي الأمر بقول: «ماري، أعتقد أن علينا إنهاء هذا الطعام كله هذا الصباح. بإمكاننا إعادة بعضٍ من طعام الغداء وقدر كبير من طعام العشاء.»
إلا أنهما لم يجدا قطُّ ما يمكنهما إعادته، وأثارت الصحون التي تعود لامعة وفارغة تمامًا إلى حجرة إعداد الطعام أثارت الكثير من التعليقات.
كان كولن يقول أيضًا: «أتمنى لو كانت شرائح لحم الخنزير أكثر سمكًا كما أن كعكة واحدة لكل فرد لا تكفي أي شخص.»
ردَّت ماري حين سمعت هذا لأول مرة: «إنها كافية لشخص على شفا الموت، لكنها لا تكفي لشخص سيعيش. فأنا أشعر في بعض الأحيان كما لو أن باستطاعتي تناول ثلاث حين تتدفَّق تلك الروائح الجميلة المنعشة لنبات الخلنج والحولق من المستنقع عبر النافذة المفتوحة.»
في صباح ذلك اليوم الذي ذهب فيه ديكون، بعدما استمتعوا بوقتهم في الحديقة قرابة الساعتين، إلى خلف شجيرة ورد كبيرة وأحضر معه دلوين من القصدير وأوضح أن أحدهما مليء باللبن الغني الطازج تعلوه طبقة من القشدة، والآخر يحتوي على كعكات ريفية الصنع تحتوي على الكشمش ملفوفة في منديل أبيض في أزرق نظيف، ملفوفة بعناية لدرجة أنها ما زالت ساخنة، وعمت عاصفة عارمة من الفرحة من المفاجأة. يا لها من فكرة رائعة من السيدة سويربي! يا لها من سيدة طيبة وذكية! يا لجمال هذه الكعكات الصغيرة! وما ألذ هذا اللبن الطازج!
قال كولن: «إن السحر بداخلها تمامًا مثل ديكون؛ فهو الذي يجعلها تفكر في طرق لفعل الأشياء … الأشياء الجميلة. إنها امرأة ساحرة. أخبرْها بأننا ممتنُّون لها، يا ديكون، ممتنُّون للغاية!» كان معتادًا على استخدام عبارات الكبار في بعض الأوقات. وكان يستمتع بها، ويحب استخدامها كثيرًا لدرجة جعلته يُحسنها.
«أخبرْها بأنها كانت في غاية الكرم والجود معنا، وأننا ممتنون لها أشد الامتنان.»
وبعدها نسي كبرياءه تمامًا وانقض على الكعكات وتناولها بشراهة وشرب الحليب من الدلو مباشرةً بنهم شديد مثل أي فتى صغير جائع ظلَّ يمارس نشاطًا غير معتاد ويتنفس هواء المستنقع وتناول إفطاره منذ أكثر من ساعتين.
كانت هذه بداية لكثير من الوقائع الرائعة من هذا النوع. فقد تنبها لحقيقة أنه بما أن السيدة سويربي لديها أربعة عشر شخصًا عليها أن توفِّر لهم الطعام، فربما لا يوجد لديها ما يكفي لإطعام فردَين إضافيين كل يوم. ولهذا طلبا منها السماح لهما بإرسال بعض شلنتاهما إليها من أجل شراء الأشياء.
اكتشف ديكون اكتشافًا مثيرًا وهو أنه في حديقة المتنزَّه أمام الحديقة التي عثرت فيها عليه ماري لأول مرة وهو يعزف على مزماره للحيوانات البرية، يوجد تجويف صغير عميق يُمكنك أن تبني به فرنًا صغيرًا بالحجارة، وشيَّ البطاطس والبيض بداخله. كان البيض المشوي رفاهية لم تردْ إلى علمه من قبل، كما كانت البطاطس الساخنة مع الملح والزبد الطازج بداخلها طعامًا ملائمًا لملك الغابة، بالإضافة إلى كونه لذيذًا ومشبعًا. وكان بإمكان المرء شراء كلٍّ من البطاطس والبيض وتناولهما بالقدر الذي يشاء دون أن يشعر بأنه يأخذ الطعام من أفواه أربعة عشر فردًا.
في كل صباح جميل كانت الدائرة السرية تمارس السحر أسفل شجرة الخوخ، التي أصبحت توفر لهم ظُلة بأوراقها الخضراء الكثيفة بعدما انتهت فترة إزهارها القصيرة. وبعد انتهاء المراسم كان كولن دومًا يمارس المشي، وعلى مدار اليوم كان يُعمِل هذه الطاقة الجديدة التي اكتشفها في نفسه على فترات متباعدة. وكان يزداد قوة يومًا بعد يوم، واستطاع المشي بثبات أكثر وقطع مسافات أكبر. كما كان إيمانه بالسحر يزداد قوة مع مرور الأيام، كما هو متوقع. حاول إجراء تجربة تلو الأخرى؛ إذ شعر بأنه يكتسب قوة وكان ديكون هو من أراه أفضل الأشياء على الإطلاق.
قال في أحد الأيام بعد غيابه عنهما لفترة: «ذهبتُ أمس إلى ثوايت من أجل أمي ورأيتُ بوب هاورث بالقرب من نُزل بلو كاو. إنه أقوى فتًى في المستنقع. إنه بطل مصارعة ويمكنه القفز لمسافات أعلى من أي فتًى آخر، ويُمكنه قذف المطرقة إلى أبعد مسافة. لقد ذهب إلى إسكتلندا من أجل ممارسة الرياضة لبضع سنوات، وهو يعرفني منذ كنتُ صغيرًا وهو ودود للغاية فطرحتُ عليه بعض الأسئلة. يُطلق عليه علية القوم بطلًا رياضيًّا وفكرتُ فيك يا سيد كولن، وقلتُ له: «كيف تجعل عضلاتك بارزة هكذا يا بوب؟ هل تفعل أي شيء إضافي لتجعل نفسك قويًّا هكذا؟» فقال لي: «حسنًا، أجل يا فتى أفعل. فقد أراني رجل قوي في أحد العروض التي أتتْ إلى ثوايت ذات مرة كيف أُدرب ذراعيَّ وساقيَّ وكل عضلة في جسمي.» فقلت له: «وهل يُمكن لفتًى ضعيف أن يزيد قوته بواسطتها يا بوب؟» فضحك وقال لي: «هل أنت هذا الفتى الضعيف؟» فقلت له: «كلا، لكني أعرف سيدًا شابًّا يتعافى من مرض طويل وأتمنى لو أعرف بعض الحيل لأخبره بها.» دون أن أذكر أي أسماء، وهو لم يسألني عنها؛ فهو شخص ودود كما أخبرتك. فوقف وأراني التدريبات عن طيب خاطر، وأخذت أقلده فيما يفعله حتى حفظتها عن ظهر قلب.»
كان كولن ينصت بحماس شديد.
ثم صاح قائلًا: «هل يُمكنك أن تريني إياها؟ هل هذا ممكن؟»
رد ديكون وقد همَّ بالوقوف: «أجل، بالتأكيد. لكنه قال إنك يجب أن تمارسها برفق في البداية وأن تحرص على ألا تُرهق نفسك. عليك أن تستريح من وقت لآخر، وأن تأخذ أنفاسًا عميقة وألا تُفرط في ممارستها.»
قال كولن: «سألتزم الحرص الشديد، هيا أرني! أرني يا ديكون! إنك أكثر فتًى ساحر في العالم!»
وقف ديكون على العشب، وبدأ ببطء في ممارسة سلسلة من التدريبات العضلية العملية والبسيطة بحرص. شاهد كولن هذه التمرينات بعينين مُتَّسعتين، واستطاع ممارسة بعض منها وهو جالس. ومارس بعضًا منها برفق وهو واقف على قدميه الراسختين بالفعل. وبدأت ماري أيضًا في ممارستها. أما سوت، الذي كان يُشاهد هذا العرض، فقد أصيب باضطراب شديد وترك الفرع الذي كان يقف عليه وظل يقفز في أنحاء المكان بتململ؛ لأنه لا يستطيع ممارسة هذه التمرينات هو الآخر.
ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه التمرينات جزءًا من الواجبات اليومية تمامًا مثل السحر. واستطاع كلٌّ من كولن وماري ممارسة المزيد منها في كل مرة يحاولان فيها، وأدَّى هذا إلى زيادة شهيتهما، ولولا السلة التي يضعها ديكون خلف الشجيرة في كل صباح حين يأتي، لصارا في خبر كان. غير أن طعام الفرن الصغير في التجويف وهِبات السيدة سويربي السخية كانت كافية للغاية، حتى إن السيدة ميدلوك والممرضة والطبيب كرافن عادوا إلى حيرتهم مرةً أخرى. فيمكن للمرء أن يتناول قدرًا ضئيلًا من طعام الإفطار ويزدري طعام العشاء بالكامل إذا كان يشعر بالامتلاء الشديد بسبب البيض والبطاطس المشويين والحليب الطازج الغني بالقشدة وكعكات الشوفان والكعكات الصغيرة المحلاة وعسل الخلنج والقشدة المتخثرة.
قالت الممرضة: «إنهما لا يَتناولان شيئًا. سيموتان من الجوع إن لم نستطع إقناعهما بالحصول على قدر من التغذية. ومع ذلك انظري إلى شكلهما.»
ردَّت السيدة ميدلوك في سخط: «أنظر! يا إلهي! أكاد أموت بسببهما، إنهما شيطانان صغيران. تكاد معاطفهما تنفجر عليهما في أحد الأيام، ومع ذلك ينفران من أفضل الأطعمة التي يمكن للطاهية أن تغريهما بها. فلم يتذوَّقا ولو قدر من تلك الدجاجة الصغيرة اللذيذة ولم يقربا صلصة الخبز يوم أمس، حتى العصيدة التي اخترعتها الطاهية المسكينة خصِّيصًا من أجلهما، عادت إليها دون أن يمسَّاها، وكادت تبكي؛ فقد خشيت أن يُلقى عليها اللوم إن تضوَّرا جوعًا حتى الموت.»
جاء الطبيب كرافن وفحص كولن طويلًا وبعناية، وبدا عليه قلق شديد حين تحدثت إليه الممرضة وأرته صينية الإفطار التي لم تُمسَّ تقريبًا، والتي احتفظت له بها حتى يراها، ولكن قلقه تزايد حين جلس بجوار كولن على الأريكة وفحصه. لقد استُدعي إلى عمل في لندن ولم يرَ الفتى لقرابة أسبوعين. حين يبدأ الأطفال الصغار في استعادة صحتهم يحدث هذا سريعًا. فقد غادر اللون الشمعي بشرة كولن وظهر عليها لون وردي دافئ؛ أما عيناه الجميلتان فقد أصبحتا صافيتين وامتلأت التجاويف أسفلهما وفي وجنتيه وصدغيه، وبدأت خُصلات شعره التي كانت داكنة وكثيفة في وقت من الأوقات تبدو كما لو أنها تتدلى بصحة من على جبهته وصارت ناعمة ومفعَمة بالحياة. وصارت شفتاه أكثر امتلاءً ولونهما طبيعي. في الحقيقة، كان مظهره فاضحًا كصورة زائفة لطفل ثبت عجزه. أمسك الطبيب كرافن بذقنه في يده وأخذ يفكر في أمره مليًّا.
قال: «يؤسفني ما سمعته عن أنك لا تأكل أي شيء. هذا لا يصح. هكذا ستفقد كل استعدته من صحتك، وقد استعدتَ منها الكثير على نحو مدهش. لقد كنت تتناول الطعام على نحو جيد للغاية منذ فترة وجيزة.»
رد كولن: «لقد أخبرتُكَ أنها كانت شهية غير طبيعية.»
كانت ماري تجلس على مسند القدمين الذي تجلس عليه بالقرب منهما وأصدرت فجأة صوتًا غريبًا للغاية حاولت كبحه بشدة حتى كادت تختنق في النهاية.
قال الطبيب كرافن وهو يلتفت لينظر إليها: «ما الأمر؟»
صار أسلوب ماري حادًّا للغاية.
أجابته بتعالٍ مؤنِّب: «كان هذا شيئًا بين العطس والسعال، ووقف في حلقي.»
قالت فيما بعد لكولن: «لكني لم أستطع منع نفسي. فقد انفجرت رغمًا عني إذ تذكرت فجأة آخر حبة بطاطس كبيرة تناولتَها والطريقة التي مددتَ بها فمك حين قضمت تلك القشرة السميكة الرائعة بما عليها من مربى وقشدة متخثرة.»
سأل الطبيب كرافن السيدة ميدلوك: «هل ثمَّة طريقة أخرى يستطيع بها هذان الطفلان الحصول على الطعام سرًّا؟»
أجابت السيدة ميدلوك: «لا يوجد إلا إذا حفرا الأرض وأخرَجا منها الطعام أو قطفاه من على الأشجار. إنهما يقضيان اليوم بأكمله بالخارج ولا يريان أحدًا إلا بعضهما. وإن أرادا تناول شيء مختلف عما يُرسل إليهما، ليس عليهما إلا طلبه.»
قال الطبيب كرافن: «حسنًا، طالما أن عدم تناول الطعام يوافقهما ويشعرهما بالراحة، فلا داعي لإزعاجهما. فالفتى قد صار مخلوقًا جديدًا.»
قالت السيدة ميدلوك: «وكذلك الفتاة؛ فقد بدأت تبدو جميلة بمعنى الكلمة منذ زاد وزنها وتخلَّصت من مظهرها الحاد الضئيل القبيح. كذلك صار شعرها كثيفًا وذو مظهر صحي وأصبح لونها زاهيًا. لقد كانت فتاة عابسة سيئة الطبع، أما الآن فهي والسيد كولن يضحكان معًا مثل طفلين صغيرين مهووسين. وربما كانت زيادة وزنهما من أثر هذا.»
قال الطبيب كرافن: «ربما يكون هذا صحيحًا. دعيهما يضحكان.»